أثناء الحرب، يصحو الأطفال في جوف الليل فزعين، مرعوبين، لا يعرفون من يقصفهم، ولا يفهمون السبب، ويكون الآباء والأمهات أكثر رعبا، فهم يعرفون كل شيء، ولكنهم لا يعرفون إذا كان الصبح سيطلع عليهم، أم لا؟ البيت كله يرتج، الأبواب تكاد تنخلع، وبعض الشبابيك تكسرت، وتطاير زجاجها في الأرجاء، دوي القصف يصم الآذان، والقلوب تخفق بأقصى سرعة يمكنها بلوغها، بعض القلوب تخذل أصحابها، وتتوقف.. الأسرة مكومة فوق بعضها، الكبار يحاولون حماية الصغار، أو طمأنتهم، وصوت البكاء يختلط مع صوت القذائف.. والدقائق تمر ببطء شديد.. والبرد يتدفق من النافذة المكسورة، أو التي فُتحت حتى لا تتشظى..
العتمة تغطي كل شيء، فقد أطفأ الأب الأنوار لتمويه الطائرات المغيرة، أو لأن الكهرباء قُطعت.. تتسلل الأم بحذر إلى المطبخ لإحضار كوب ماء، أو قنينة الحليب لرضعيها.. يحاول الأخ الأكبر الاتصال بأقاربه للإطمئنان عليهم، فيما تحاول الأخت الوسطى فتح هاتفها النقال، ونقل أي خبر.. ومع اشتداد القصف، يقترح كل فرد من الأسرة مكانا يظن أنه أكثر أمنا للهروب إليه، ثم يحسم الأب الجدال بأنه لا مكان آمن.. إما أن نعيش كلنا، أو نموت معاً، فلا يحزن أحدنا على الآخر..
تعلن الشمس بطلعتها المتأخرة بدء نهار جديد، لا الكبار ولا الصغار ذاقوا طعم النوم، وقد أرهقم التعب، فاصفرت وجوههم، وتيبست أطرافهم، يحاولون استغلال بعض الهدوء المريب للنوم ساعة على الأقل، يتناوبون بين النوم، وإجراء بعض الاتصالات الضرورية، وسماع الأخبار، وتفقد خزان المياه، وإعادة ترتيب الفوضى التي خلفتها ليلة الأمس الرهيبة..
يمضي النهار ثقيلا، متعبا، وما أن يهبط الظلام حتى يستبد الخوف والقلق بالجميع، لأن الليل صار عدوهم الأول، والأكثر وحشة، حيث في الليل يشتد القصف، وتغدو كل ثانية تعني حرفيا الفرق بين الحياة والموت، ويصير كل شيء مخيفا.. وهكذا تمضي الأيام والليالي، تأن تحت وطأة حمولتها المنهِكة، مصحوبة بالتوتر، والأحزان، والغضب.. وانتظار أي خبر يتعلق بوقف إطلاق النار..
بعد أيام عصيبة، وبمجرد توقف القصف، يخرج الأهالي من بيوتهم، يتفقدون أحبتهم، وأقاربهم، وجيرانهم، سيُفجعون بأخبار من فقدوهم دون وداع، يتجولون بين أكوام الردم، ويُصعقون بمشاهد الخراب، ينبشون الأنقاض علهم يعثرون على ناجٍ قضى أياما موحشة وحيدا تحت حائط مهدم، أو جثمانٍ مزقته القذائف، أو أحرقته النيران.. طفلٌ فقد جل عائلته، ولا يدري أين يروح، وآخر يبحث عن حقيبته المدرسية، وأخرى تفتش عن لعبتها، فيما يفرح طفلان بإنقاذ سمكتهما من الموت..
آلاف العائلات فقدت منازلها، وصارت مُجبرة على المبيت عند أقارب لهم بالكاد تتسع بيوتهم لسكانها، وآخرون اضطروا للجوء إلى مدارس الأونروا، فتتخذ كل أسرة من غرفة الصف مسكنا لها، وحيث يشترك المئات في حمام واحد، ولك أن تتخيل المنظر..
مرضى السكري والضغط نفدت أدويتهم، من يغسلون كليتهم كل يومين، ومن يتلقون علاجا كيماويا من مرضى السرطان يواجهون خطر الموت، من كان يعاني من مرض عضال، ومن أصيب بجراح أو كسور، ومن يعاني من صداع نصفي، أو من مغص، أو ضيق تنفس، حتى من تذكرت أسنانه وجعها في تلك اللحظات.. كل أولئك لن يجدوا من يداويهم.. فضلا عمن أصيب بصدمة نفسية، أو نوبة هلع، أو من فيروس كورونا، إضافة لمن يعانون من إعاقة ما، أو من التوحد، هؤلاء تتفاقم معاناتهم..
في كل حي بيت عزاء على الأقل، بعض العائلات أبيدت كاملة، ولم يبقَ من يأخذ عزاءهم.. ألبومات الصور، والتحف، ونباتات الزينة، والعصافير، وأسطوانات الأغاني المفضلة، والذكريات، وصدى الضحكات، ومواعيد العشاق، والمرايا، وما كان قبالتها من أدوات زينة، ودفاتر التلاميذ، وأقلامهم.. كلها دفنت تحت الأنقاض، وصارت أثرا بعد عين..
نفد الطعام من الثلاجات، ولم يبق من المؤونة شيء، مياه الشرب التي كانت في الأساس بالكاد تصلح للشرب، صارت ملوثة، وهي فوق ذلك غير متوفرة.. الكثير من المحلات تدمرت، ومع إغلاق الحدود شُحت المواد، وارتفعت أسعارها بجنون، والمستشفيات التي كانت تغص بمرضى الكورونا، امتلأت بالجرحى، عيادات الأطباء، الصيدليات، والمكاتب، والمصالح التجارية كلها تعطلت.. العام الدراسي أُوقف وانتهى قبل أوانه..
انتهت الحرب بإعلان التوقف عن إطلاق النار، ولكن، هل انتهت فعلا؟! ذكرياتها الأليمة ستدوم طويلاً، وسيحتاج الناس سنوات مريرة لمداواة جراحهم، والتعايش مع واقعهم الجديد، بعضهم سيكملون حياتهم بلا أطراف، أو بوجوه محروقة، نساء وأطفال كثيرون فقدوا ذويهم، سيعيشون بلا أب، أو بلا زوج، وبلا بيت.. سيحتاج آخرون للإسمنت الذي سيغدو سلعة محتكرة، وسيحتاج غيرهم لمراكز تأهيل، ودورا للأيتام، وعيادات لعلاج الإضطرابات النفسية.. بعد الحرب لا يعود المجتمع كما كان.. بعد زمن ما، ستصير الحرب مجرد قصص بائسة تنز ألما، قد ننجح بإقناع طفل بأن أباه استشهد فداء للوطن، ولكن ستفشل كل الروايات والحجج في إقناعه بجدوى تلك الحرب.. لكل حربٍ أوجه عديدة، لكن وجهها الأهم هو الذي نتغاضى عنه، ونتجاهل رؤيته، بمنتهى القسوة.. الوجه الذي لا تحبه الكاميرات..
بعد أن توقف العدوان الأخير على غزة، خرجت العائلات بملابس العيد، تبادلوا التهاني بالسلامة، وترحموا على من غادروهم مبكرين، وبدؤوا مراسيم عيدهم متأخرين أسبوعا كاملا، فيما توجه آخرون إلى البحر، كاتمين أحزانهم، مخبئين أوجاعهم، مؤجلين غضبهم وعتبهم على من خذلهم.. أرادوا اسئناف الحياة من جديد، وأن يعلنوا للعالم أنهم عصيون على الانكسار، وأنَّ دواخلهم لم تُهزم.. وأنهم متمسكون بالحياة وبالأمل رغما عن كل شيء..
هذه هي غزة.. وهذا حال فلسطين..
عبد الغني سلامة
نشر في الايام
العتمة تغطي كل شيء، فقد أطفأ الأب الأنوار لتمويه الطائرات المغيرة، أو لأن الكهرباء قُطعت.. تتسلل الأم بحذر إلى المطبخ لإحضار كوب ماء، أو قنينة الحليب لرضعيها.. يحاول الأخ الأكبر الاتصال بأقاربه للإطمئنان عليهم، فيما تحاول الأخت الوسطى فتح هاتفها النقال، ونقل أي خبر.. ومع اشتداد القصف، يقترح كل فرد من الأسرة مكانا يظن أنه أكثر أمنا للهروب إليه، ثم يحسم الأب الجدال بأنه لا مكان آمن.. إما أن نعيش كلنا، أو نموت معاً، فلا يحزن أحدنا على الآخر..
تعلن الشمس بطلعتها المتأخرة بدء نهار جديد، لا الكبار ولا الصغار ذاقوا طعم النوم، وقد أرهقم التعب، فاصفرت وجوههم، وتيبست أطرافهم، يحاولون استغلال بعض الهدوء المريب للنوم ساعة على الأقل، يتناوبون بين النوم، وإجراء بعض الاتصالات الضرورية، وسماع الأخبار، وتفقد خزان المياه، وإعادة ترتيب الفوضى التي خلفتها ليلة الأمس الرهيبة..
يمضي النهار ثقيلا، متعبا، وما أن يهبط الظلام حتى يستبد الخوف والقلق بالجميع، لأن الليل صار عدوهم الأول، والأكثر وحشة، حيث في الليل يشتد القصف، وتغدو كل ثانية تعني حرفيا الفرق بين الحياة والموت، ويصير كل شيء مخيفا.. وهكذا تمضي الأيام والليالي، تأن تحت وطأة حمولتها المنهِكة، مصحوبة بالتوتر، والأحزان، والغضب.. وانتظار أي خبر يتعلق بوقف إطلاق النار..
بعد أيام عصيبة، وبمجرد توقف القصف، يخرج الأهالي من بيوتهم، يتفقدون أحبتهم، وأقاربهم، وجيرانهم، سيُفجعون بأخبار من فقدوهم دون وداع، يتجولون بين أكوام الردم، ويُصعقون بمشاهد الخراب، ينبشون الأنقاض علهم يعثرون على ناجٍ قضى أياما موحشة وحيدا تحت حائط مهدم، أو جثمانٍ مزقته القذائف، أو أحرقته النيران.. طفلٌ فقد جل عائلته، ولا يدري أين يروح، وآخر يبحث عن حقيبته المدرسية، وأخرى تفتش عن لعبتها، فيما يفرح طفلان بإنقاذ سمكتهما من الموت..
آلاف العائلات فقدت منازلها، وصارت مُجبرة على المبيت عند أقارب لهم بالكاد تتسع بيوتهم لسكانها، وآخرون اضطروا للجوء إلى مدارس الأونروا، فتتخذ كل أسرة من غرفة الصف مسكنا لها، وحيث يشترك المئات في حمام واحد، ولك أن تتخيل المنظر..
مرضى السكري والضغط نفدت أدويتهم، من يغسلون كليتهم كل يومين، ومن يتلقون علاجا كيماويا من مرضى السرطان يواجهون خطر الموت، من كان يعاني من مرض عضال، ومن أصيب بجراح أو كسور، ومن يعاني من صداع نصفي، أو من مغص، أو ضيق تنفس، حتى من تذكرت أسنانه وجعها في تلك اللحظات.. كل أولئك لن يجدوا من يداويهم.. فضلا عمن أصيب بصدمة نفسية، أو نوبة هلع، أو من فيروس كورونا، إضافة لمن يعانون من إعاقة ما، أو من التوحد، هؤلاء تتفاقم معاناتهم..
في كل حي بيت عزاء على الأقل، بعض العائلات أبيدت كاملة، ولم يبقَ من يأخذ عزاءهم.. ألبومات الصور، والتحف، ونباتات الزينة، والعصافير، وأسطوانات الأغاني المفضلة، والذكريات، وصدى الضحكات، ومواعيد العشاق، والمرايا، وما كان قبالتها من أدوات زينة، ودفاتر التلاميذ، وأقلامهم.. كلها دفنت تحت الأنقاض، وصارت أثرا بعد عين..
نفد الطعام من الثلاجات، ولم يبق من المؤونة شيء، مياه الشرب التي كانت في الأساس بالكاد تصلح للشرب، صارت ملوثة، وهي فوق ذلك غير متوفرة.. الكثير من المحلات تدمرت، ومع إغلاق الحدود شُحت المواد، وارتفعت أسعارها بجنون، والمستشفيات التي كانت تغص بمرضى الكورونا، امتلأت بالجرحى، عيادات الأطباء، الصيدليات، والمكاتب، والمصالح التجارية كلها تعطلت.. العام الدراسي أُوقف وانتهى قبل أوانه..
انتهت الحرب بإعلان التوقف عن إطلاق النار، ولكن، هل انتهت فعلا؟! ذكرياتها الأليمة ستدوم طويلاً، وسيحتاج الناس سنوات مريرة لمداواة جراحهم، والتعايش مع واقعهم الجديد، بعضهم سيكملون حياتهم بلا أطراف، أو بوجوه محروقة، نساء وأطفال كثيرون فقدوا ذويهم، سيعيشون بلا أب، أو بلا زوج، وبلا بيت.. سيحتاج آخرون للإسمنت الذي سيغدو سلعة محتكرة، وسيحتاج غيرهم لمراكز تأهيل، ودورا للأيتام، وعيادات لعلاج الإضطرابات النفسية.. بعد الحرب لا يعود المجتمع كما كان.. بعد زمن ما، ستصير الحرب مجرد قصص بائسة تنز ألما، قد ننجح بإقناع طفل بأن أباه استشهد فداء للوطن، ولكن ستفشل كل الروايات والحجج في إقناعه بجدوى تلك الحرب.. لكل حربٍ أوجه عديدة، لكن وجهها الأهم هو الذي نتغاضى عنه، ونتجاهل رؤيته، بمنتهى القسوة.. الوجه الذي لا تحبه الكاميرات..
بعد أن توقف العدوان الأخير على غزة، خرجت العائلات بملابس العيد، تبادلوا التهاني بالسلامة، وترحموا على من غادروهم مبكرين، وبدؤوا مراسيم عيدهم متأخرين أسبوعا كاملا، فيما توجه آخرون إلى البحر، كاتمين أحزانهم، مخبئين أوجاعهم، مؤجلين غضبهم وعتبهم على من خذلهم.. أرادوا اسئناف الحياة من جديد، وأن يعلنوا للعالم أنهم عصيون على الانكسار، وأنَّ دواخلهم لم تُهزم.. وأنهم متمسكون بالحياة وبالأمل رغما عن كل شيء..
هذه هي غزة.. وهذا حال فلسطين..
عبد الغني سلامة
نشر في الايام
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com