أ. د. أحمد محمد سالم - تاريخية الفكر الديني

إن نشأة العلوم الإسلامية هي حاصل العلاقة الجدلية بين الدين وحركة الاجتماع ، حيث ظهرت العلوم الدينية نتيجة تطور حركة الاجتماع بما استدعى وضع قواعد لأصول العلوم الدينية من أجل قراءة متجددة لمسار حركة الوحي في التاريخ، ففي الحاجة لمعرفة معاني القرآن فكان علم التفسير، والحاجة لمعرفة أصول الاعتقاد فدشن علم العقائد (الكلام) ، والحاجة إلى ترسيخ كيفية وضع أصول إنتاج الأحكام فأسس علم أصول الفقه، والحاجة إلى معرفة الأحكام الفقهية فكانت مدونات علم الفقه الإسلامي.
وفي ظل تطور علاقة الدين بالاجتماع، وتطور حركة المجتمع كانت العلوم الإسلامية بها جانب ثابت هو الشكل أو قوالب العلم المستقرة، وجانب متغير وهو تطور مضمون تلك العلوم نتيجة تطور حركة الاجتماع بما يعني تجدد النظر في هذه العلوم وفقاً للاحتياج الإنساني المتجدد، فإن كان القدماء قد دشنوا لأصول العلوم الإسلامية من ناحية القوالب المستقرة ، فإن مضمون هذه العلوم كان متجدداً بتجدد أحوال البشر واختلاف مشاربهم وبيئاتهم وزمانهم ، وقد تجد العالم الواحد يغير اجتهاده إذا انتقل من بيئة إلى بيئة أخرى مختلفة.
ومن ثم لابد من النظر إلى الي الفكر الديني الذى نتج عن هذه العلوم إلا من خلال السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذى تشكلت فيه هذه المنتجات الفكرية ، لأن هذ السياق الذى أنتجها متغير ومتطور باستمرار ، ولذا لابد من ضرورة النظر إلى هذا السياق التاريخي إذا أردنا أن ندرس أو ننقل هذا الفكر أو نروجه، وذلك لأن التوجهات السلفية تسقط السياق التاريخي لتخلق هذه الأفكار، وتنظر إلي هذه الأفكار على أنها مجاوزة لسياقها التاريخي ،وأنها قابلة للتطبيق في المرحلة الراهن في ظل عجزهم البين عن الاجتهاد وفقا لتطور حركة الاجتماع، وبالمقابل فإن النخب العلمانية والليبرالية تدعو إلى تجاوز الفكر الديني القديم كلية لأنه فكر تاريخي مقيد بزمانه ومكانه وبيئته التي نشأ فيها، وعبر عن احتياجاتها .
ولا يمكن بحال من الأحوال أن نقف عند حدود اجتهادات القدماء في هذه العلوم لأن حركة الاجتماع متغيرة ، وحركة الإنسان متطورة ، وحركة المعارف والعلوم في سيال دائم ، ولا يمكن أن نجمد حركة الواقع والاجتماع لكي نلبسه قوالب القدماء الجامدة ، فلهم زمانهم ولنا زماننا ، ولهم واقعهم ولنا واقعنا المغاير ،ولا يمكن سجن حركة الاجتماع بأحكام تقليدية قديمة، واجتهادات قديمة كانت مشروطة بشروطها التاريخية، والتي تغيرت الآن عما كانت عليه.
ولاشك أن الحاجة إلى تجديد العلوم الإسلامية نابعة من تجدد الحاجة لاستمرار حضور الوحي في حركة التاريخ والاجتماع ، ولما كان الوحي ثابت والاجتماع متغير فلا يمكن للوحي أن يستمر في الحضور في التأثير في حركة الاجتماع إلا بتجديد النظر إليه في مختلف مجالات العلوم الدينية، وما العلوم الإسلامية إلا تلك العلوم التي تصل الوحي بالواقع، وتصل الدين بحركة الاجتماع، وتصل الروحي بالزمني في مجتمعات يمثل الدين فيها مكانة مركزية كبيرة ومؤثرة في مسار الاجتماع سلباً وإيجاباً.
ومن هنا كانت جهود حركة الإصلاح والتجديد تسعى إلى تطوير النظر والتجديد في مجال العلوم الإسلامية بما فرضه تجدد وتطور واقعهم الاجتماعي، ولم يكن هذا بالأمر الميسور ولا سهل في بيئة راكدة جامدة لا تقبل التغيير، وترفض الاجتهاد في الدين من خلال العقل والتفكير، ولذا كان طريق المجددين كأشبه بمن ينحت في الصخر الصلب المستقر من أجل ترسيخ بناء جديد، ورؤية جديدة تساير حياة الناس واختلاف واقعهم وتغير واقع اجتماعهم، وكانت البيئات التقليدية المحافظة مقاومة لجهد المصلحين .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى