رأيت أن أنهي هذه السلسلة "الوجه الآخر للمقريزي" بحكايتين: واحدةٌ واقعيةٌ جداً، والأخرى "أسطورية" تماماً، لكنني اعتبرتهما قصة مصرية واحدة، تعكس تعدد الروافد الثقافية لهذا الشعب، وتعدد الأسباب التي تجعله شعباً محباً للفرح والغناء والاحتفال ومؤمناً بذلك كل الإيمان.
الحكاية الأولى عما يُمكن أن أسميه اليوم "اخصاص الحب" في "جزيرة بولاق" والجزيرة الوسطانية، التي بناها المصريون وزينوها بالرخام الفاخر، ومارسوا فيها كثيراً من الفحش وكشفوا فيها "ستر الحياء" كما يقول المقريزي في كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك"، منتصف القرن الثامن الهجري، أما الحكاية الثانية فهي تحكي قصة تلك "الآنية السحرية" التي يتحول الماء فيها إلى خمر لوناً ورائحةً وتأثيراً، والتي طلبها أحد حكام الدولة الطولونية "هارون بن جارويه بن أحمد بن طولون"، معلناً أنه مُستعد أن يدفع فيها "بعض مُلكه"، والتي وردت في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" والمعروف باسم "الخطط المقريزية"..
هكذا تعلمنا من "الوجه الآخر للمقريزي"، خلال الأسابيع السابقة، أن المصريين كثيراً ما قاوموا الأوبئة والكوارث العامة بالفرح والغناء، وأنهم كانوا دائماً شعباً "ابن حظ"، مُحباً للمرح والفكاهة والنكتة، يبحث عن السعادة لأن "ساعة الحظ متتعوضش"، وأن المصري كان يُسارع دوماً إلى اقتناص حريته كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، خصوصاً خلال العصور التي حكمت فيها حكومات لا تعرف شيئا عن "الحريات السياسية"، والتي كانت مضطرة دائماً لترك هامش ـ ولو ضئيل ـ من "الحريات الشخصية"، لكي لا ينفجر الناس، وسرعان ما كان الهامش يتسع شيئا فشيئا تحت ضغط الناس إلى أن يصير ظاهرة خطيرةً تجبر السلطات على التدخل لوقفها، وهو ما كان عليه الحال في كثير من العصور، ومنها عصر حكام "الدولة الأيوبية"، على سبيل المثال.
لقد توقفنا في كتابات تقي الدين المقريزي (764 ـ 845 هجرية) ـ سواء في كتابه المختصر "السلوك لمعرفة دول الملوك" أو في كتابه الشهير "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، والمعروف بـ "خطط المقريزي" ـ مراراً أمام وقائع دامغة موصوفة بدقة ومدعمة بالأسانيد العقلية والتاريخية، تؤيد جميعها صحة وجهة نظرنا، في أن أهلنا وذوينا عبروا كثيراً عن لحظات سعادتهم في الماضي على أفضل نحو، ولأنهم أبناء "نهر النيل" الخالد فلم يكن بإمكانهم أن يكونوا شعباً محافظاً أو "كئيباً"، لقد كانت هناك دائماً أسباب كثيرة للفرح والاحتفال في وجدان هؤلاء الناس، وكانوا دائماً في حالة من البهجة التي تجعلهم يجرون وراء أول فرصة ممكنة للهو والغناء، ويمكن استطلاع جزء من ذلك المأثور في "أغنيات الفلاحين"، وهي نصوص تمتليء بالبهجة والجمال والفحش أحياناً، بسبب استعمالها بعض الألفاظ المكشوفة كما في أغنيات الأفراح، لدرجة أن بعض تلك الأغنيات الجميلة باتت مما يطلق عليه الآن: "خادشة للحياء".
لقد توقفنا أمام هذا الوجه غير المألوف لهذا المؤرخ القدير، صاحب الحوليات الأهم عن هذه الفترة، باحثين عن الأفراح والليالي الملاح في كتاباته، على أمل مواجهة هذا الظرف العصيب الذي يمر به العالم اليوم ويلوح فيه الموت من كل جانب، لنتأكد من أن المصريين عبر تاريخهم لم يغلقوا أبوابهم أمام متع الحياة أبداً، لأن مزاجهم النيلي يُربي داخلهم بشكل تلقائي وجيلاً بعد جيل، ما سبق أن نطقت به الأسطورة المصرية القديمة، حول أن نهر النيل كله تحول ذات يومٍ إلى نهرٍ من الخمر، وسط إشاراتٍ صريحة إلى طقوس وطرائق متعددة لاحتفالات المصريين وسهرات أفراحهم وغنائهم وشربهم ولهوهم، فدخلنا معه ذلك الملهى الليلي في القرن الثامن الهجري، الذي كان يحمل اسم "خزانة البنود"، مثلما توقفنا معه أمام قراراتٍ إدارية "مملوكية" بفرض الضرائب والمكوس على تلك الأنشطة المرتبطة بفرحة المصريين، وعرفنا كيف جنى المماليك من وراء هذه الضرائب الباهظة ثروات طائلة، خلال قرون الحكم الأيوبي والمملوكي، الأمر الذي استمر بأشكال مختلفة في قرون لاحقة، وامتد ظهوره في أجزاء من "دولة محمد علي باشا وأولاده"، التي انتهت فعلياً منتصف القرن العشرين.
اخصاص بولاق
أما الحكاية الأولى "الواقعية" التي يرويها "المقريزي" فهي قصة "ملك الحريات" ـ التي توقفنا دون أن نكملها في حلقة الأسبوع الماضي ـ وهو السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون، الذي تولى حكم مصر لسنوات وكان رجلاً مُتسامِحاً إلى أقصى حد مع الرعية، وسرعان ما انتهز المصريون الفرصة المتاحة، من أجل ممارسة حرياتهم، والانطلاق إلى بيوت الغناء وأماكن السهر، بل إنهم كانوا يصلون ـ في بعض الأحيان ـ إلى درجة من "الفحش" في بعض هذه الأحداث، وهو ما نعرفه من كتاب مختصر "السلوك لمعرفة دول الملوك"، خلال أحداث سنة 747 هجرية، حين أعلن عن تسامح السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان، واصفاً الفُحش الذي ساد خلال هذه الفترة، لدرجة أن الناس نصبوا "أخصاص ـ جمع خُص" في جزيرة بولاق والجزيرة الوسطانية التي سموها "حليمة"، كشفوا فيها " ستر الحياء"، حيث بلغ مصروف كل خص منها نحو "ثلاثة آلاف درهم"،لأنها كانت مُعدة بالرخام والدهان البديع، وزرعت حولها الرياحين، وكانت مخصصة لكل أنواع اللهو والغناء، إلى أن جاء الأمير "أراغون العلائي" وأحرقها يقول "المقريزي عن هذه "الاخصاص":
"وأقام بها معظم الناس، من الباعة والتجار وغيرهم، وكشفوا ستر الحياء، وبالغوا في التهتك. مما تهوى أنفسهم في "حليمة" وفي "الطمية"، وتنافسوا في أرضها حتى كانت كل قصبة قياس تؤجر بعشرين درهماً، فيبلغ الفدان الواحد منها ثمانية آلاف درهم، ويعمل فيها ضامن يستأجر منها الأخصاص. فأقاموا على ذلك ستة أشهر حتى زاد الماء، وغرقت الجزيرة فاجتمعت فيها من البغايا وأنواع المسكرات ما لا يمكن حكايته، وأنفق الناس بها أموالاً تخرج عن الحد في الكثرة، وكانت الأمراء والأعيان تسير إليها ليلاً، إلى أن قام الأمير أراغون العلائي في أمرها قياماً عظيماً، وأحرق الأخصاص على حين غفلة، وضرب جماعة وشهرهم، فتلف بها مال عظيم جداً".
لقد استمر تقي الدين المقريزي في الاهتمام بقرارات الولاة بإبطال الخمور وتعفية بيوت المسكرات، وهو يورد من ذلك الكثير من الحكايات في العصرين الأيوبي والمملوكي، لافتاً إلى ذلك الحجم الهائل من الخسائر الاقتصادية التي مُنيت بها الإدارة المصرية ـ على سبيل المثال ـ في عهد الظاهر بيبرس، وبالتحديد سنة 662 هجرية ـ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ـ حينما أبطل الخمر فقد كان "ضمانها" نحو ألف دينار في اليوم، كما يشير إلى اعتراض فئة من الأدباء على مثل هذه القرارات، مورداً بيتين من الشعر العربي الفصيح، يتحسر فيهما الشاعر على منع الخمور وحرمان الناس من متع الحياة، يقول المقريزي في "الخطط":
"وفي خامس عشري شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة قريء بجامع مصر مكتوب بإبطال ما قرر على رسوم ولاية مصر من الرسوم وهي مائة ألف درهم مصرية، فبطل ذلك، وأبطل ضمان الحشيش من ديار مصر كلها سنة خمس وستين وستمائة "هجرية"، وأمر بإراقة الخمور وإبطال المنكرات وتعفية بيوت المسكرات ومنع الخانات والخواطي بجميع أقطار مملكة مصر والشام فطهرت من ذلك البقاع، ولما وردت المراسيم..، قال الأديب الفاضل أبوالحسين الجزار:
قد عطل الكوب من حبابه وأخلى الثغر من رضابه
وأصبح الشيخ وهو يبكي على الذي فات من شبابه"
الآنية السحرية
قبل أن أنتقل إلى الحكاية الثانية "الأسطورية"، التي تمثل طبقة من طبقات الوعي عند المصريين، أريد أن أشير إلى كتاب آخر يحمل بعض الحكايات القديمة والتي تعتبر بقايا حكايات سقطت كثير من عناصرها وبقي جزء منها يحتفظ ببريق الحكاية القديمة، وبعضها أيضاً يشير إلى أن إيمان المصريين القدماء بالخمر بلغ حداً يفوق الخيال، وفي إحدى هذه الحكايات المصرية القديمة تحول ماء "نهر النيل" كله إلى خمر، ففي كتاب "الجبتانا ـ أسفار التكوين المصرية"، لمؤلفه الراهب مانتون السمنودي فإن إرادة "رع" ـ رب الأرباب ـ شاءت أن يُشَق نهرٌ عظيمٌ في الأرضين، وأمر "رع" ذلك النهر أن يتحول ماؤه إلى خمر.. وشربت التوائم المتلاصقة من خمر النهر فسكرت، فأمر "رع" ملائكته ومعاونيه من الأرباب والآلهة، أن يأخذ كل واحد منهم شعرة من رأس "رع"، وأن تُستخدم الشعرة المُقدسة لفصل تلك التوائم المتلاصقة.. فُصلت "جبتانا" عن "جبتو"، وكذلك فصلت الذكور عن الإناث، من كل تلك التوائم، ونشأ شعبٌ عظيمٌ هم الجبتوس أو النيلوس، ومن النيلوس كانت تسمية ذلك النهر المقدس بالنيل".
أما الحكاية الثانية وهي الحكاية "الأسطورية"، التي تربط بين الماضي البعيد وحاضر المؤرخ الذي غادر عالمنا منتصف القرن التاسع الهجري وربما لا تزال تمد آثارها في ثقافتنا إلى اليوم، فقد وردت في "الخطط المقريزية"، وهي الحكاية المتعلقة بتلك "الآنية النحاسية" التي يتحول الماء فيها خمراً، والتي تنسبها الحكاية إلى ملكة مصر "كيلوباترا"، آخر ملوك الأسرة المقدونية، والتي تُحكى الأساطير عن علاقتها بالخمور، لدرجة أن حكاية "استحمامها في حوض من النبيذ" لاضفاء جمال خاص على البشرة، ظلت دارجة في كتابات تاريخية كثيرة.
الحق أن المقريزي يدهشنا بدرجة تفتحه وذكائه وسعة اطلاعه على أنواع الخمور والفروق الدقيقة بينها، ولم يكتفِ بذلك، بل شاء أيضاً أن يضاعف دهشتنا بحكاية وردت على ما يبدو في الأنتيكات التاريخية ـ الأركيولوجية ـ المندثرة، بتعبير المفكر الراحل شوقي عبدالحكيم، والتي تكشف عن شره أحد حكام مصر في عهد "الدولة الطولونية" لا إلى الخمور فقط، بلا إلى كل متع الحياة، وهي حكاية التي لم نصادف مثيلاً لها حتى في "ألف ليلة وليلة"، حيث عرض الحاكم "هارون بن جارويه بن أحمد بن طولون ـ رابع حكام الدولة الطولونية ـ بعض ملكه لشراء "آنية" سحرية، يتحول الماء فيها إلى خمر، في لونه ورائحته وتأثيره، بعدما اكتُشفت في منطقة "أطفيح" ـ الجيزة ـ في عهده، ويروي "المقريزي" قصة كسرها وضياعها:
"وكان الذي وجدها (يقصد الآنية النحاسية) أبوالحسن الصائغ الخراساني، هو ونفر معه، فأكلوا على شاطيء النيل وشربوا بها الماء فوجدوه خمراً سكروا منه، وقاموا ليرقصوا فوقعت الشربة فانكسرت عدة قطع فاغتم الرجل، وجاء بها إلى هارون فأسف عليها وقال لو كانت صحيحة لاشتريتها ببعض ملكي، وأما الآنية النحاسية التي تجعل الماء خمراً فإنها منسوبة إلى قلوبطرة بنت بطليموس، ملكة الإسكندرية".
الوجه الآخر للمقريزي ـ الحلقة الرابعة والأخيرة ـ مجلة الإذاعة والتليفزيون
الحكاية الأولى عما يُمكن أن أسميه اليوم "اخصاص الحب" في "جزيرة بولاق" والجزيرة الوسطانية، التي بناها المصريون وزينوها بالرخام الفاخر، ومارسوا فيها كثيراً من الفحش وكشفوا فيها "ستر الحياء" كما يقول المقريزي في كتاب "السلوك لمعرفة دول الملوك"، منتصف القرن الثامن الهجري، أما الحكاية الثانية فهي تحكي قصة تلك "الآنية السحرية" التي يتحول الماء فيها إلى خمر لوناً ورائحةً وتأثيراً، والتي طلبها أحد حكام الدولة الطولونية "هارون بن جارويه بن أحمد بن طولون"، معلناً أنه مُستعد أن يدفع فيها "بعض مُلكه"، والتي وردت في كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" والمعروف باسم "الخطط المقريزية"..
هكذا تعلمنا من "الوجه الآخر للمقريزي"، خلال الأسابيع السابقة، أن المصريين كثيراً ما قاوموا الأوبئة والكوارث العامة بالفرح والغناء، وأنهم كانوا دائماً شعباً "ابن حظ"، مُحباً للمرح والفكاهة والنكتة، يبحث عن السعادة لأن "ساعة الحظ متتعوضش"، وأن المصري كان يُسارع دوماً إلى اقتناص حريته كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، خصوصاً خلال العصور التي حكمت فيها حكومات لا تعرف شيئا عن "الحريات السياسية"، والتي كانت مضطرة دائماً لترك هامش ـ ولو ضئيل ـ من "الحريات الشخصية"، لكي لا ينفجر الناس، وسرعان ما كان الهامش يتسع شيئا فشيئا تحت ضغط الناس إلى أن يصير ظاهرة خطيرةً تجبر السلطات على التدخل لوقفها، وهو ما كان عليه الحال في كثير من العصور، ومنها عصر حكام "الدولة الأيوبية"، على سبيل المثال.
لقد توقفنا في كتابات تقي الدين المقريزي (764 ـ 845 هجرية) ـ سواء في كتابه المختصر "السلوك لمعرفة دول الملوك" أو في كتابه الشهير "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، والمعروف بـ "خطط المقريزي" ـ مراراً أمام وقائع دامغة موصوفة بدقة ومدعمة بالأسانيد العقلية والتاريخية، تؤيد جميعها صحة وجهة نظرنا، في أن أهلنا وذوينا عبروا كثيراً عن لحظات سعادتهم في الماضي على أفضل نحو، ولأنهم أبناء "نهر النيل" الخالد فلم يكن بإمكانهم أن يكونوا شعباً محافظاً أو "كئيباً"، لقد كانت هناك دائماً أسباب كثيرة للفرح والاحتفال في وجدان هؤلاء الناس، وكانوا دائماً في حالة من البهجة التي تجعلهم يجرون وراء أول فرصة ممكنة للهو والغناء، ويمكن استطلاع جزء من ذلك المأثور في "أغنيات الفلاحين"، وهي نصوص تمتليء بالبهجة والجمال والفحش أحياناً، بسبب استعمالها بعض الألفاظ المكشوفة كما في أغنيات الأفراح، لدرجة أن بعض تلك الأغنيات الجميلة باتت مما يطلق عليه الآن: "خادشة للحياء".
لقد توقفنا أمام هذا الوجه غير المألوف لهذا المؤرخ القدير، صاحب الحوليات الأهم عن هذه الفترة، باحثين عن الأفراح والليالي الملاح في كتاباته، على أمل مواجهة هذا الظرف العصيب الذي يمر به العالم اليوم ويلوح فيه الموت من كل جانب، لنتأكد من أن المصريين عبر تاريخهم لم يغلقوا أبوابهم أمام متع الحياة أبداً، لأن مزاجهم النيلي يُربي داخلهم بشكل تلقائي وجيلاً بعد جيل، ما سبق أن نطقت به الأسطورة المصرية القديمة، حول أن نهر النيل كله تحول ذات يومٍ إلى نهرٍ من الخمر، وسط إشاراتٍ صريحة إلى طقوس وطرائق متعددة لاحتفالات المصريين وسهرات أفراحهم وغنائهم وشربهم ولهوهم، فدخلنا معه ذلك الملهى الليلي في القرن الثامن الهجري، الذي كان يحمل اسم "خزانة البنود"، مثلما توقفنا معه أمام قراراتٍ إدارية "مملوكية" بفرض الضرائب والمكوس على تلك الأنشطة المرتبطة بفرحة المصريين، وعرفنا كيف جنى المماليك من وراء هذه الضرائب الباهظة ثروات طائلة، خلال قرون الحكم الأيوبي والمملوكي، الأمر الذي استمر بأشكال مختلفة في قرون لاحقة، وامتد ظهوره في أجزاء من "دولة محمد علي باشا وأولاده"، التي انتهت فعلياً منتصف القرن العشرين.
اخصاص بولاق
أما الحكاية الأولى "الواقعية" التي يرويها "المقريزي" فهي قصة "ملك الحريات" ـ التي توقفنا دون أن نكملها في حلقة الأسبوع الماضي ـ وهو السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون، الذي تولى حكم مصر لسنوات وكان رجلاً مُتسامِحاً إلى أقصى حد مع الرعية، وسرعان ما انتهز المصريون الفرصة المتاحة، من أجل ممارسة حرياتهم، والانطلاق إلى بيوت الغناء وأماكن السهر، بل إنهم كانوا يصلون ـ في بعض الأحيان ـ إلى درجة من "الفحش" في بعض هذه الأحداث، وهو ما نعرفه من كتاب مختصر "السلوك لمعرفة دول الملوك"، خلال أحداث سنة 747 هجرية، حين أعلن عن تسامح السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان، واصفاً الفُحش الذي ساد خلال هذه الفترة، لدرجة أن الناس نصبوا "أخصاص ـ جمع خُص" في جزيرة بولاق والجزيرة الوسطانية التي سموها "حليمة"، كشفوا فيها " ستر الحياء"، حيث بلغ مصروف كل خص منها نحو "ثلاثة آلاف درهم"،لأنها كانت مُعدة بالرخام والدهان البديع، وزرعت حولها الرياحين، وكانت مخصصة لكل أنواع اللهو والغناء، إلى أن جاء الأمير "أراغون العلائي" وأحرقها يقول "المقريزي عن هذه "الاخصاص":
"وأقام بها معظم الناس، من الباعة والتجار وغيرهم، وكشفوا ستر الحياء، وبالغوا في التهتك. مما تهوى أنفسهم في "حليمة" وفي "الطمية"، وتنافسوا في أرضها حتى كانت كل قصبة قياس تؤجر بعشرين درهماً، فيبلغ الفدان الواحد منها ثمانية آلاف درهم، ويعمل فيها ضامن يستأجر منها الأخصاص. فأقاموا على ذلك ستة أشهر حتى زاد الماء، وغرقت الجزيرة فاجتمعت فيها من البغايا وأنواع المسكرات ما لا يمكن حكايته، وأنفق الناس بها أموالاً تخرج عن الحد في الكثرة، وكانت الأمراء والأعيان تسير إليها ليلاً، إلى أن قام الأمير أراغون العلائي في أمرها قياماً عظيماً، وأحرق الأخصاص على حين غفلة، وضرب جماعة وشهرهم، فتلف بها مال عظيم جداً".
لقد استمر تقي الدين المقريزي في الاهتمام بقرارات الولاة بإبطال الخمور وتعفية بيوت المسكرات، وهو يورد من ذلك الكثير من الحكايات في العصرين الأيوبي والمملوكي، لافتاً إلى ذلك الحجم الهائل من الخسائر الاقتصادية التي مُنيت بها الإدارة المصرية ـ على سبيل المثال ـ في عهد الظاهر بيبرس، وبالتحديد سنة 662 هجرية ـ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي ـ حينما أبطل الخمر فقد كان "ضمانها" نحو ألف دينار في اليوم، كما يشير إلى اعتراض فئة من الأدباء على مثل هذه القرارات، مورداً بيتين من الشعر العربي الفصيح، يتحسر فيهما الشاعر على منع الخمور وحرمان الناس من متع الحياة، يقول المقريزي في "الخطط":
"وفي خامس عشري شهر رمضان سنة اثنتين وستين وستمائة قريء بجامع مصر مكتوب بإبطال ما قرر على رسوم ولاية مصر من الرسوم وهي مائة ألف درهم مصرية، فبطل ذلك، وأبطل ضمان الحشيش من ديار مصر كلها سنة خمس وستين وستمائة "هجرية"، وأمر بإراقة الخمور وإبطال المنكرات وتعفية بيوت المسكرات ومنع الخانات والخواطي بجميع أقطار مملكة مصر والشام فطهرت من ذلك البقاع، ولما وردت المراسيم..، قال الأديب الفاضل أبوالحسين الجزار:
قد عطل الكوب من حبابه وأخلى الثغر من رضابه
وأصبح الشيخ وهو يبكي على الذي فات من شبابه"
الآنية السحرية
قبل أن أنتقل إلى الحكاية الثانية "الأسطورية"، التي تمثل طبقة من طبقات الوعي عند المصريين، أريد أن أشير إلى كتاب آخر يحمل بعض الحكايات القديمة والتي تعتبر بقايا حكايات سقطت كثير من عناصرها وبقي جزء منها يحتفظ ببريق الحكاية القديمة، وبعضها أيضاً يشير إلى أن إيمان المصريين القدماء بالخمر بلغ حداً يفوق الخيال، وفي إحدى هذه الحكايات المصرية القديمة تحول ماء "نهر النيل" كله إلى خمر، ففي كتاب "الجبتانا ـ أسفار التكوين المصرية"، لمؤلفه الراهب مانتون السمنودي فإن إرادة "رع" ـ رب الأرباب ـ شاءت أن يُشَق نهرٌ عظيمٌ في الأرضين، وأمر "رع" ذلك النهر أن يتحول ماؤه إلى خمر.. وشربت التوائم المتلاصقة من خمر النهر فسكرت، فأمر "رع" ملائكته ومعاونيه من الأرباب والآلهة، أن يأخذ كل واحد منهم شعرة من رأس "رع"، وأن تُستخدم الشعرة المُقدسة لفصل تلك التوائم المتلاصقة.. فُصلت "جبتانا" عن "جبتو"، وكذلك فصلت الذكور عن الإناث، من كل تلك التوائم، ونشأ شعبٌ عظيمٌ هم الجبتوس أو النيلوس، ومن النيلوس كانت تسمية ذلك النهر المقدس بالنيل".
أما الحكاية الثانية وهي الحكاية "الأسطورية"، التي تربط بين الماضي البعيد وحاضر المؤرخ الذي غادر عالمنا منتصف القرن التاسع الهجري وربما لا تزال تمد آثارها في ثقافتنا إلى اليوم، فقد وردت في "الخطط المقريزية"، وهي الحكاية المتعلقة بتلك "الآنية النحاسية" التي يتحول الماء فيها خمراً، والتي تنسبها الحكاية إلى ملكة مصر "كيلوباترا"، آخر ملوك الأسرة المقدونية، والتي تُحكى الأساطير عن علاقتها بالخمور، لدرجة أن حكاية "استحمامها في حوض من النبيذ" لاضفاء جمال خاص على البشرة، ظلت دارجة في كتابات تاريخية كثيرة.
الحق أن المقريزي يدهشنا بدرجة تفتحه وذكائه وسعة اطلاعه على أنواع الخمور والفروق الدقيقة بينها، ولم يكتفِ بذلك، بل شاء أيضاً أن يضاعف دهشتنا بحكاية وردت على ما يبدو في الأنتيكات التاريخية ـ الأركيولوجية ـ المندثرة، بتعبير المفكر الراحل شوقي عبدالحكيم، والتي تكشف عن شره أحد حكام مصر في عهد "الدولة الطولونية" لا إلى الخمور فقط، بلا إلى كل متع الحياة، وهي حكاية التي لم نصادف مثيلاً لها حتى في "ألف ليلة وليلة"، حيث عرض الحاكم "هارون بن جارويه بن أحمد بن طولون ـ رابع حكام الدولة الطولونية ـ بعض ملكه لشراء "آنية" سحرية، يتحول الماء فيها إلى خمر، في لونه ورائحته وتأثيره، بعدما اكتُشفت في منطقة "أطفيح" ـ الجيزة ـ في عهده، ويروي "المقريزي" قصة كسرها وضياعها:
"وكان الذي وجدها (يقصد الآنية النحاسية) أبوالحسن الصائغ الخراساني، هو ونفر معه، فأكلوا على شاطيء النيل وشربوا بها الماء فوجدوه خمراً سكروا منه، وقاموا ليرقصوا فوقعت الشربة فانكسرت عدة قطع فاغتم الرجل، وجاء بها إلى هارون فأسف عليها وقال لو كانت صحيحة لاشتريتها ببعض ملكي، وأما الآنية النحاسية التي تجعل الماء خمراً فإنها منسوبة إلى قلوبطرة بنت بطليموس، ملكة الإسكندرية".
الوجه الآخر للمقريزي ـ الحلقة الرابعة والأخيرة ـ مجلة الإذاعة والتليفزيون
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com