عقيل هاشم - رواية "جاسم وجوليا" للقاص والروائي زيد الشهيد التطويع التاريخي في خدمة الرؤية الفنية

"الرواية لا تحدثنا فقط عن الآخرين، بل عن الآخر فينا"

(خيل اليه اللحظة ان حمورابي يرتعش امامه يتضرع للالهه مردوخ ان ينجي بلده من الاعداء فالعدو متجبر وقاس ورهيب ويشاهد نرام سين يتقهقر هبوطا الى وادي الهزيمة بجيشه الذي اعتلى صهوات الجبال ويتبعثر مقاتلوه كديدان مرتعبة ويلمح سرجون عائدا الى اكد يجر اذيال خيبة لم يحسبها ....س227)
قليلة هي الروايات التي أسرتني معانيها واعدت قرأتها مرات عديدة واكتشفت مع كل قراءة عمق المعاني وقوة العاطفة التي تحركها أو تنطلق من صاحب قلم أعياه حب الوطن/الام ..وشوقه الى ملاعب صباه وعشقه للأرض التي رأى النور فيها وقضى سنوات عمره الفتية يجول فيها -"السماوة" -مدينة الحلم ، يطل من شبابيكها الكاتب /البطل العائد من المهجر متجولا بذكريات لا تمحي، مستعيدا جمال ملاعب الطفولة التي اختلطت مع نبضات قلبه فانطلق يسرد لنا هذا الحب المؤلم ليرى ماتبقى من العائلة . هي سيرته الاولى.
في الرواية نشعر بعمق الحزن، وعمق الشوق، وعمق الحب الذي يفتقده الكاتب/البطل في غربته، كأنه يقول: أنا لم أختر الغربة ابدا . وها هو في بلاد ليس له فيها عنوان. ولا يستجيب لندائه إنسان. يتألم بصمت، ويحن الى امه . وهنا نلمس الحس التراجيدي و الثوري الواضح المنحاز والمنتصر لذاته وللجماهير المسحوقة الكادحة، المتعطشة للحياة والحرية والعدالة، نكتشف ذلك من خلال الشعور الوطني العارم الطاغي على مايؤمن به ، فضلًا عن الايحاءات العميقة لهذه التصورات ..
وما ذهب إليه السرد حيث نجد الحوارات تنبع من الأعماق النفسية للشخصيات .هي التي تتكلم كفعل مقاوم ،.و صحيح أن لغة النص ضاجّةٌ ومتمردة، لكنها لا تستطيع الحكي إلا من اما المرآة . وإن تحقق هذه اللغة المقنّعة ليحمل في طياته دواعي انهيار البطل "جاسم"، بسبب من طبيعة انعكاس المرآة عليه.
اقتباس
(وقوفه منتصبا امام المرآة اطلعه على شخص قرين .القرين يحدق فيه بإمعان فيتقطب الحاجبان اندهاشا يريد ان يساله من انت ايها النحيف؟ الضامر ماالذي حدث ولماذا تقف محدودب الظهر وانت شاب ؟ لماذا اراك كانني لم اعرفك ولم التق بك من قبل ؟لماذا عيناك طافحتان ببؤس قاهر كانها تخفي احداثا مهولة هشمت لديك مرايا الجمال ...ص58)
الرواية جاءت بعنوان معبر “جاسم وجوليا” والذي يحمل الكثير من معاني التقارب والاختلاف معا من تقارب المشاعر كانسان والاختلاف في سبر أغوار أرواحنا المنهزمة،المنعزلة والمتشظية والخائفة أمام هول ما يضمره لنا الاخر . ومن نافلة القول، أن الكاتب استطاع بفضل موهبته الفنية الإبداعية وثقافته السياسية والفكرية ومقدرته اللغوية، وبأسلوبه السهل الممتنع العذب والمتميز أن يسمو بنصه نحو الابداع والتجديد ليلائم مقتضيات التطور والحداثة..
"السماوة" المدينة التي يتحدث عنها الراوي لست مجرد بناء مادي يحتضن تجمعا سكانيا ،بل هي كيان حضاري حي يختزل تاريخ خضارة عريقة (بلاد الرافدين) التي تعاقبت على حكمها اقوام تنوعت وسجلت على رقمها تاريخ تلك الشعوب التي تعايشت بين أحضانها ،هي مرتع الآمان والأحلام ،هي الوطن هي الأم هي الطفولة .وللأسف اصبحت مدينته مدينة حرب وطنه الأكبر لم يمنحه سوى الجنسية والمنفى البارد . "جاسم" بطل تراجيدي يتحدى الواقع القهري، ويرفض الإقرار ببقاءه خارج الحدث بل مشاركا فيه.وناقدا على سلوكيات المجتمع وادانته ،
اقتباس
(كان على من جعل المحتلين يعبرون البحار ليحتلو بلدنا حساب هذا لاترك البلاد في ضياع ...اتدرين اني دخلت على زوجي في غرفتنا فوجدته يبكي .ادهشتني دموعه وظننته يتالم من وجع او مرض مفاجئ فاعلمني ان مرد دموعه لالم تهشم الوطن واستشرافه ان لاهدوء ولاسلام سينعم بهما العراقيون لسنين طويلة...ص114)
أن صورة الرجل في سرديات الصراع الحضاري بين الشرق والغرب تضعنا أمام طرف واحد يمارس القوة/ العنف/ المقاومة ،هذه السلوكيات يقرها المجتمع اقرارا مسكوتا عنه في سياق سلطة سياسية مستبدة. لكن الكاتب يطهر لنا شخصية البطل "جاسم" في صورة ايجابية ومستلبة هكذا تغدو الرواية كونها خطابا متضمنا لتصور أيديولوجي مستبطن،علاقة البطل "جاسم/جوليا" في الرواية جاء لردم فجوة الهوّة والقطيعة فكريا ، غير آبه لبعد المسافات العابرة للقلوب في هذا التيه والاغتراب الذي يعيشه الانسان ،
النص الروائي يحمل ذاكرة معاصرة وأخرى تبحر عبر الزمن "الاسترجاع" ليحاكي أسئلة موصدة قد ارقتنا حول مايحصل من نتائج احتلال البلد وماذا يعني ذلك. ويحاول الكاتب جاهدا أن يشاكس المتلقي للوصول الى إجابات مقنعة . لذلك نراه يحضر شخصيات اسطورية وتاريخية يستحضرها ليحدث تعالق نصي معها ويحاورها ، غايته تعزيز المعنى وتقويته وإيصاله للمتلقي المعنى التاريخي للاحداث وتسلسلها تؤشر عموما إلى مغازلة الوعي الثقافي ، “فمثل هذه السرديات تكون مشحونة بمعنى مُسبق.
اقتباس
(قال:يالعذابات السجناء ويالبؤسهم على مدى العصور وعلى مر الازمنة هم الام الارض من قسوة البشر وحقد الالهة صرخاتهم المتفجرة من صدورهم المهشمة نغمات تمتع الالهة وتشفي غليل الحكام العتاة .الالهة الحكام شياطين .والشيطان هو اله هذه الدنيا في لاهوت بولس الرسول .لهثو وراء المتعة فاوجدوا مومسات المعابد والقصور اجساد اختيرت للمضاجعة باسم اراحة الالهة وعدم اغضابها ....ص210)
هذا نجد الإسقاط التاريخي على الواقع ينم عن تمكِّن الكاتب من رسم الشخصيات في إطار درامي يتمسك بروح السرد حتى لا يخلط القارئ بين الشخص على الورق والشخصية التاريخية، ولا يختزل إشكالية الشخصية في مفهوم الرؤية فقط، بل يتعاطف معها بوصفها التي تحرك الأحداث وتوحي بالتفاعل. وهنا تبدو الشخصية فاعلاً أساسياً ومقوماً أصيلاً من مقومات السرد داخل المتن الروائي .
ومن آليات السرد الأخرى التي يتبناها النص الروائي هو اعتماد الكاتب للراوي الذي يعود إلى المتكلم ثم يتجاوزه ، ‏ هذا الخطاب الحجاجي الذي يقوم على فكره السرد والحوار والتاَلف والتخالف والاستطراد يضع القارئ أمام قصه حقيقيه يستثمر فيها الكاتب خياله الخصب ليقدم لنا ملحمة درامية عبْر صفحة من صفحات المشهد التهكمي لماحصل ويحصل من احدث حاول فيها كسر افق التوقع من خلال المتواليات المعنونة وتوزيع الكلام يقطعها عنوانات يبدا منها الحكي ولاينتهي .جعلها المؤلف على هيئة متواليات وطبعا هذا يحمل دلالة قصدية ، وكأن شكل التوزيع يحمل معناه،
و إذ أن كل عبارة أو مقطع يخفيان سيلا من الحكي الذي يأبى أن يكتمل لاحقا، قد يعود هذا الى سخرية الاحداث. وهي التي يعلن عنها ماجاء في مفتتح الرواية ولعلها تكشف دلالة المتن.. وهو ما سيعكس نوعا من الصراع الدرامي قوامه أساليب تخرج عن دلالتها الحقيقية إلى ما يقتضيه الحال من شرح جاء على هيئة هوامش،
اقتباس
(من لقاء مع فراس السواح عن كتابه "الرحمن والشيطان" في لاهوت بولس الرسول .الشيطان هو اله هذه الدنيا لبرسالة الثانية الى الكورنثيين..4-4 هو سيد هذا العالم واميره ويسوع المسيح في احد اقواله وصفه ب رئيس هذا العالم ...انجيل يوحنا 12-31)...ص212
هكذا تشكل الاحداث وكانها حربا في الذاكرة والذات معا ، بين جحيم السجن والمطاردة بعد ذلك .. وهذا سيمنح النص نفسا مقطعيا، وتسلسلا سرديا ، حيث يتنازع المؤلف حرارة وشوق لغة الوصف للامكنة والتي تمتد في رحلة العذاب. حيث تبدو المشاهد السردية وكأنها توقيعات ، تارةً يطول فيها المشهد، و تارةً يأتي مختزلاً. غير أن هذه المشاهد لا تتنافر، بل تتنوع وتختلف لتعكس لنا رؤية واحدة تمثل وحدة عضوية للنص الروائي العام. وهذا له مبرراته الفنية والأسلوبية، حيث ينفذ الكاتب من خلال هذه التوقيعات الصغيرة إلى مساحات أكثر رحابة،تجعلنا نحس بأن هذه التوقيعات مشاهد حياتية تتراص بأسلوب المونتاج السينمائي،
وهنا يُغلِّب على النص أسلوب السرد التهكمي وبصيغة الإخبار وجاء هذا على حساب الحوار المتسلسل حتى يسمح للفضاء السردي بالتشكل والتمدد، عبر سرديات اجتماعية تعبر عن تجارب حياتية عاصرها البطل "جاسم" وما زال يعايشها معنا بوصفه فردا حقيقي وليس شخصية ورقية يعيش هذا الخضم المتداخل من الهم اليومي. عبر عنها الراوي من خلال أساليب البوح والاسترسال والمكاشفة
"وقال الرب لموسى:اذهب انزل لان شعبك الذي اصعدته من ارض مصر قد فسد.."
ومن خلال هذا التقديم السياقي يمكن تتبع النص السردي عبر مستويات ثلاثة، يتعلق الأول بحداثة القول، والثاني بالحس الدرامي وفشل المجابهة مع ازلام السلطة ، أو التيه والضياع. ولعل هذا البحث الدائم سيكتسي قيمته في العودة الى ارض الوطن بالرغم من خطورة التحدي حين تتساوقُ لغة السرد مع الإيقاع الداخلي، حيرة ارقته بالمزيد من اسئلة مامعنى العودة للوطن "الام" لنجدها طبيعة وفطرة لاهل الجنوب ،فيقف السلام متحديا الحرب وثرثرة الرصاص، هكذا يبلغ الوجع منتهاه فيثور البطل يعدد من أشكال السقوط، ليعممها بل ويجمعها في سقوط الوطن. ويتعمق الحس الدرامي لديه، ويكبر الاغتراب في كل شيء عندما تسرق الاثار من المتاحف ،
اقتباس
(كتب احد الجنود المحتلين في مذكراته....انه نهار مصبوغ بالاحمر وهواء يحمل غبار يطير من بحيرات رمال خرافية اتية من اساطير يحكيها جن لجن فيرسمها نهارا مشحونا بالرعب وفضاء كله خشيه نحن لانخشى المحاربين العراقيين الطبيعة هي التي تحاربنا ...ص231)
وفي الختام ..اقول إن النص الروائي عبارة عن انساق جمالية وفنية دراميةٌ شيقة. تستمدُّ وقودها من الحكاية، والخرافة، والأسطورة. تلتقط اليومي البسيطَ ، فترتقي به الى ذرىً من التوتر والتصادم والإحساس بالفجيعة. فيغدو البسيطُ والفرديُّ، من هموم الكاتب واهتماماته،وكذلك نجد هناك تحولات عنيفة في السرد من قبل احدث واشياء ساكنة إلى آخرى متحركة، وايضا تغيير عن مستوى الزمن الضروري لتهيئة المرورالى التحول العاصف والمزلزل "سقوط بغداد"، حيث نجد الزمن نفسه فجأة تشظى، ويقف البطل وحيدا متمردا امام سلوكيات هذا التحول (الفرهود)، احداث عنيفة تقود إلى نهاية. والنهاية ليست مرغوبة الآن . لدينا ها هنا رغبة حادة في التحرر ولكن بوعي كامل، وهذا يحيل إلى دور الوعي والثقافة اليوم . وإن هذا التوق الى الحرية ، والذي لا يستطيع النص أن يصرح به، بسبب من إدراكه القوي بأن الثورة التي يطلبها البطل هي ثورة منضبطة في حدود المتاح , وليس الفوضى.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى