هذه صفحة جديدة تضاف ليس لتاريخ مدينة "السويس" فحسب وإنما لتاريخ جماعة أبوللو ومؤسسها الدكتور أحمد زكي أبو شادي، وأيضا لتاريخ الأدب العربي في نهضته البازغة مع رواد فكر المدارس الأدبية المؤثرة في مسار الشعر العربي كمقدمة ثم بقية الأجناس، كما أنها تلقي أضواءً كاشفة على رجل له من المواهب المتعددة، والأنشطة المختلفة التي ساهمت في تاريخ "أبو شادي" في حقبة العشرينيات من القرن العشرين، وهو المهندس التجاري، والصحفي، والناقد، والأديب، والناشر، والبرلماني، والمحامي الأستاذ حسن صالح الجداوي وهو من أبناء السويس الذي لا يكاد يعرفه غير قلة منهم، وإذا عرفوه ففي جانب من جوانبه الثرية.
والأستاذ الجداوي حاصل على ليسانسيه في القانون "باريز"، ودبلوميه تجارة عليا "ليون"، وسكرتير عميد كلية الحقوق بالجامعة المصرية، وقد ذكر عنه الفيكونتت "فيليب دي طرازي" في الجزء الرابع من كتابه "تاريخ الصحافة العربية" أنه أصدر جريدته الأسبوعية "السويس الناهضة" في الرابع من تموز عام 1924م، وكان يصدر معها جريدة "الثغر الشرقي" للشاعر محمد فضل إسماعيل من نفس العام، وقد جاء في العدد السابع عشر منها أن رسالتها تتمحور حول "الدفاع عن مصالح السويس، ومنطقة القنال، وسواحل البحر الأحمر"، ولذا كان الاشتراك بها داخل القطر المصري (30) صاغا في السنة و(50) صاغا خارجه، وأن عدد صفحاتها أربع صفحات وسعر العدد خمسة مليمات، على أن الاشتراكات والإعلانات تتم عن طريق الأستاذ الجداوي نفسه صاحب الجريدة ومحررها المسئول والكائن موقعه وموقع الجريدة في شارع الورشة رقم (3) بالسويس آنذاك.
لم يكن الأديب حسن صالح الجداوي مجرد مُصدِر لجريدة بل كان كاتبا مُجيدًا، وناقدًا واعيا، ولذا فقد صدرت له بعض الكتب الهامة، ومنها كتاب:"كيف تصير خطيبًا من غير معلم؟"، عن المطبعة السلفية بالقاهرة عام 1925م، وقد جاء في التقديم عنه: (اسم رسالة لطيفة كتبها الأستاذ حسن صالح الجداوي، أحد مشهوري رجال القانون في مدينة "السويس"، وموضوع الرسالة أعني الخطابة والتمرن عليها مما يتطلع إلى الإجادة فيها كل طالب وأديب، كذلك سيكون الإقبال على هذه الرسالة عظيما)، كما قيل أنه أول كتاب من نوعه ظهر في اللغة العربية على نسق علمي سهل المأخذ، حسن التبويب والتقسيم.
كما أصدرالجداوي عن ذات المطبعة كتابه: "الادب الجديد وكلمات في الشعر" عام 1926م، والذي جاء بناء على اقتراح من صديق له ليجمع فيه مقدمة الجداوي لديوان "الشفق الباكي" لأبي شادي، ومقال له عن "هدم الأدب وبناؤه"، ثم مقالة لأبي شادي عن "الشعر والشاعر"، وذلك لتعم فائدة الإطلاع عليها، وتكون مثارًا للنقد الأدبي الشريف، وللدراسة الأدبية المجدية.
مع منتصف ثلاثينيات القرن العشرين ونهايتها سيحدث التحول في مؤلفات الأستاذ الجداوي، وهي الفترة التي واكبها عددًا من المتغيرات استلزمت مني بذل المزيد من الجهد نحو التمحيص والتوثيق؛ فقد بدا في الأفق اسم "حسن الجداوي" ثنائيا بعد أن أسقط منه صاحبه "صالح" عمدًا ليساير المهنة التي أفرغ لها طاقته وهي ممارسة المحاماة بعد انتهى من دور "الناشر" لأعمال مؤسس أبوللو، ثم تحوله للنقد السياسي بديلا عن النقد الأدبي، وقد تعددت أدوار الأستاذ الجداوي؛ فهو: المترجم، والأديب، والبرلماني، والمحامي، كما سيتحول عن المطبعة السلفية إلى "مطبعة حجازي" بالقاهرة وغيرها، وهو ما يتطلب الاستيثاق عن نسبة كتب هذه المرحلة إليه.
من كتب هذه المرحلة والموثقة بدار الكتب والوثائق العراقية: "الإجرام السياسي" برقم تسجيل: 602164، ورقم التصنيف: 345.0231، ورقم المؤلِف: ج429، مكان النشر والناشر: مطبعة حجازي، وتاريخ النشر: 1937، وعدد الصفحات: (325) صفحة، وقد أعيد طبعه وإصداره عن دار نهوض للدراسات والنشر ـ سلسلة الدراسات القانونية، الكويت، في طبعته الثانية عام ٢٠١٨م، وهو من تأليف القاضي الفرنسي "لويس بروال" وترجمة حسن الجداوي، ودراسة تحليلية للدكتور علي فهد الزميع.
ومن الكتب القانونية المعتبرة للأستاذ الجداوي والتي تعد من المراجع القانونية الهامة، كتاب: "قضايا تاريخية مرافعات"، وهو موثق بدار الكتب والوثائق العراقية، برقم تسجيل: 221386، وصدرت طبعته الأولى عن مطبعة عطايا بباب الخلق بالقاهرة، عام 1939م، وصدرت الطبعة الثانية عام 1947م بالقاهرة أيضا عن مكتبة حسين الراعي. ويثبت مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بأن لنفس المحتوى عنوان آخر، هو: "أحكام القضاء وأحكام القدر: مرافعات"، وهو موثق بدار الكتب والوثائق العراقية، برقم تسجيل: 221386، وصدرت طبعته الأولى عن مطبعة حجازي بالقاهرة، عام 1936م، وهو ما أثبتته دار المقتبس في موسوعتها تحت عنوان: "أحكام القضاء وأحكام القدر قضايا تاريخية ومرافعات" ويضم العنوانين معا.
ومن أشهر كتب الجداوي كتاب: "من أخطاء القضاء" الذي نشره مكتب فؤاد دانيال للطباعة بالقاهرة، بدون تاريخ نشر، وأعيد نشره عن طريق دار المعارف بالقاهرة عام 1972م، ومسجل بدار الوثائق العراقية برقم: 315353، وتم نشر المقال الأول منه بالمجلة الجديدة التي يصدرها سلامة موسى بالعدد السادس من السنة الثامنة في يونية 1939م، ثم تم نشر كل موضوعاته تباعًا في أعداد مجلة العربي الكويتية لعدة سنوات بدأت من أواسط الستينيات ونهاياتها من القرن العشرين وأوائل السبعينيات، بالإضافة إلى نشر الجداوي لمقالات بنفس المجلة حملت عنوان: "من غرائب القضايا"، وكان يرأس المجلة ـ آنذاك ـ العلاَّمة الفذ ابن السويس دكتور أحمد زكي.
كما أن للأستاذ الجداوي كتاب من أهم كتب المرافعات، عنوانه: "المرافعة: بحث في أساليبها وحقوق المترافعين وواجباتهم" صدر عن دار الكتب المصرية سنة 1933م، وقد حاز تقريظ كبار رجال القانون في مصر ومنهم: كامل مرسي، وإبراهيم الهلباوي، ومحمد علي علوبة.
يُعَد كتاب: "خطرات من عيوب الحكم في مصر" للجداوي من أهم كتب النقد السياسي والتي أحدثت العديد من ردود الأفعال المتباينة في أوساط الأدباء والسياسيين عند صدوره، ومسجل بدار الوثائق العراقية برقم: 432010، وصدرت طبعته الأولى عن مطبعة حجازي بالقاهرة، عام 1936م، وكتب مقدمته حافظ عفيفي باشا آخر رئيس للديوان الملكي في تاريخ مصر، واستشهد به الإمام حسن البنا في مجموعة رسائله، حيث قال: (وهذا الكلام الذي انعقد إجماع الأمة عليه، أعلنه شيوخ ونواب وفقهاء ودستوريون في صراحة ووضوح، ومن قرأ ما كتبه علوبة باشا في كتابه "مبادئ وطنية"، أو الأستاذ حسن الجداوي في كتابه " عيوب الحكم في مصر" أو غيرهما من الكتَّاب، رأى صدق ما نقول). كما تناوله بالنقد والتحليل الباحث خليل حمد في رسالته للماجستير، وعنوانها: "المقال الأدبي عند العقّاد جمعاً ودراسةً"، كما تولى الرد الأديب عباس محمود العقاد على ما جاء في كتاب الجداوي بمقالة له بعنوان: "عيوب النقد في مصر".
لقد ذكرت الباحثة الألمانيِّة المتخصصة في الدراسات الشرقية المعاصرة "أنتيا زيغلر" الأستاذ الجداوي في كتابها "كتابات منسية" حين جمعت وحققت فيه مائة وسبعين عملا منسيا للأديبة "مي زيادة" من مختلف الدوريات والكتب، وكان من ضمنها المقال أو المحاضرة التي ألقتها مي عن السويس، وكان ممن لقيتهم مي وذكرتهم "الجداوي" الذي كان من ضمن برنامج الزيارة وأحد الخطباء أثناء الاحتفال المقام على الباخرة "أكسبريس" الذي دعا له الاقتصادي المصري طلعت باشا حرب عام 1928م، وكان موضوع خطبة الجداوي: "مدينة السويس والسمك".
بعد أن أنهي أحمد زكي أبو شادي تعليمه الأولي في القاهرة، التحق بمدرسة الطب، التي ما يلبث فيها سوى عام فقط ثم تعرض لأزمة عاطفية حادة، ففكر أبوه في ابتعاثه إلى "انجلترا" لإكمال تعليمه الطبي في إبريل سنة 1912؛ فحصل على إجازته من جامعة "لندن" عام 1915، ثم تخصص في "البكتريولوجيا" بمرتبة الشرف عام 1917م، ثم اهتم بدراسة عالم النحل، حتى صار عالماً متخصصاً فيه، وقد امتدت إقامته في "انجلترا" عشر سنوات، تزوج خلالها بفتاة انجليزية مثقفة، وعاد الدكتور أبو شادي للوطن عام 1922 فبدأ حياته العملية بالعمل في معامل وزارة الصحة، فمديراً للمعمل البكتريولوجي في مدينة "السويس".
يقول المؤرخ الشيخ كامل محمد محمد عويضة مُلخِصا أصول أبو شادي ومنبته الكريم وقدومه للسويس وتعارفه على الجداوي في كتابه: "الأعلام من الأدباء والشعراء: أحمد زكي الشاعر النموذجي" الصادر عن دار الكتب العلمية ببيروت: (كان العلاَّمة المرحوم الدكتور يعقوب صروف يضرب المثل بالدكتور أبو شادي على توارث العبقرية الأدبية غير منقوصة عن ناحيتي الأب والأم، ولا غرو فالدكتور أبو شادي سليل أسرتين أدبيتين تجلَّت فيهما الشاعرية أقوى التجلِّي.. وقد أشار إلى هذه الحقيقة الأديب الألمعي الأستاذ حسن الجداوي إشارة واضحة في تعليقاته القيمة على قصيدة "نكبة نافارين" وهي أول ما أخرجه الجداوي من آثار أبو شادي، وكان ذلك في سنة 1924 في مدينة السويس حيث توثقت بيننا نحن الثلاثة صداقة أخوية وأدبية متينة لم تشبها أدنى شائبة في مدى عشر سنوات كاملة).
وحسنًا فعل عويضة حين أكد أن بداية النشر بين الجداوي وأبو شادي كان قصيدة "نكبة نافارين" وهي قصيدة تاريخية قومية جامعة صادرة عن المطبعة السلفية، ذلك أن مقدمة الناشر حسن الجداوي للطبعة الأولى من ديوان: "زينب: نَفَحاتٌ مِن شِعْرِ الغِنَاء " من نفس العام 1924 توحي بأن هذا الديوان كان نقطة البداية، وفيها يقول: (تأملتُ نشأة أو مقر رجال النهضة الشعرية بمصر في القرن الحاضر، فرأيت لبعض المدن حظًّا كثيرًا وأكثرها عديم الحظ، وأظهر الأمثال حظ القاهرة بشوقي ومطران وحافظ والعقاد، وطنطا بالرافعي. فيحق لنا ـ معشر السويسيين ـ أن نهنئ أنفسنا والأدب بإقامة مثل الدكتور أبي شادي بيننا، عرفته منذ سنوات بآثاره: آثار طفولته الأدبية التي لم تخل مع ذلك من نفسية عالية، ثم ببدائعه في كبريات الصحف والمجلات، وبما تفضل به أخيرًا على جريدتي "السويس الناهضة"، فشاقتني قصائده الطلية على تنوع موضوعاتها، وإنما أسفتُ لأنه قليل العناية بآثاره الأدبية، ولا سيما شعره الغنائي الذي لا أشك في أنه نظمه وينظمه سلوى فؤاده وحده، فتبعثرت هذه النفحات الزكية تبعثر الرياحين، وتعرضت للنهب والضياع. فدفعني هذا الشعور والأسف إلى استئذانه في جمع وطبع شيء من هذه النخب الجميلة لشعر صباه، راجيًا أن أُوفق في الطبعة الثانية إلى الاستزادة منه خدمةً للأدب، فحرامٌ أن تضيع أمثال هذه اللآلئ السنية المتساقطة من فم قائلها الشجيِّ المترنِّم).
ثم يبين الجداوي أهمية ودور الناشر المعاصر في نشر الدرر من الأدب، فيقول:
(ولقد أصبحت مهمة الناشر العصري البحث عن كنوز الأدب المستورة، واقتناص الفرائد المنثورة، لا القنوع بالنقد والطبع وحدهما، فكم من أديب لا يحفل بالتقدم إلى الناشرين ببدائع إلهامه، قانعًا بما فيها من السلوى له وحده، فلا يلبث الزمن أن يودي بها، ويخسر الأدب والإنسانية جمالها. وإني لسعيدٌ بتوفقي إلى إذاعة هذه النغمات والمعاني الشائقة التي اخترت عنوانها الأول أحبَّ اسم للشاعر تردَّد فيها. وأملي أن تساعدني الظروف على اتباع هذه الحسنة بحسنات أخرى في أبواب جديدة لشاعر السويس الناهضة، فالعصر عصر عمل وزكاة لكل ذي علم وأدب، ومن أغفل هذا الواجب على قُدرةٍ منه أغفله الجمهور، وتبرأ من جموده العلم والأدب، فإلى أديبنا العالم الفنَّان أقدِّم شكر الأدب ورجاءه معًا).
ولقد صدر كتاب "نظرات نقدية في شعر أبى شادي" مع تعقيب بقلم الناشر حسن صالح الجداوي، عام 1925م، وفي نفس العام صدر كتاب: "أنين ورنين: صور من شعر الشباب رسمها أحمد زكى ابو شادي"، وكتاب "مصريات : نخب من شعر الوطنية", اعتني بجمعها ونشرها وتنسيقها الجداوي.
وفي عام 1926م صدر كتاب: "عبده بك : قصة مصرية إجتماعية من نظم أحمد زكي أبي شادي، ووقف على نشرها حسن صالح الجداوي، ثم جاء صدور ديوان "الشفق الباكي" من نفس العام وهو كبير في الحجم من حيث عدد صفحاته التي بلغت (1336) صفحة. وقد بدأ الديوان بمقدمة لناشره الأستاذ حسن صالح الجداوي التي أوضح فيها أنه قد حدث بينه وبين أبو شادي افتراق: (ما كنتُ أحسبُ أنَّ الظروف ستسمح لي مُسعِدَةً بنشر هذا الأثر الأدبي النفيس، ولكن وفاء صديقي الشاعر أبى إلا أن يتركَ نشره لي وإن تفرقنا، مُعرِضًا عن كل اقتراح يحرمني لذة الاشتراك في إذاعة هذا الشعر الكريم، وسواء أسمحت ظروف المستقبل أم لم تسمح بمتابعة هذه الخدمة الخالصة لوجه الأدب فأحسبُ أن ما سلف لي من دراسة وتحليل لشعر أبي شادي ـ في مصنفات ودواوين سابقة ـ فيه الغُنْيَةُ الوافية للأديب الذي يريد أن ينهج نهجي في دراسة الشعر).
وتوضح الفقرة أن الاقتراح بترك رسالة النشر لم يكن إلا انشغالا من الجداوي وليس من صنع الشاعر ولا من مراده، وقد بينت هذه المقدمة الضافية أصالة وعمق ثقافة الجداوي وسعة اطلاعه على الشعر العربي والغربي معا، كما بين أن هناك من الأدباء من أخذ عليه أنه كان مشجعًا لأبي شادي في نزعاته التجديدية الجريئة كالشعر المرسل، وتنويع البحور غير أنه اكتفى في رده بإحالتهم إلى كتاب الخصائص لابن جني وإلى أمهات كتب العروض والبيان، غير أنه لا ينفي عن نفسه ما قالوه، فيقول: (وأني لا أجهل أثر صحبتي ومعاشرتي في نفسية ونزعات صديقي الأستاذ أبي شادي، وأني في طليعة من حثوه على الاستمرارية في ميوله الحرة ... هذه هي تماما نفسية أبي شادي التي شجعتها من صميم نفسي، ولي الحظ والشرف باشتراكي في ذنبه إن كان لهذه النزعة الهادمة البانية جريرة وذنب!).
يقول الشاعر أبو شادي في ديوانه "وطن الفراعنة: مُثل من الشعر القومي" في الفصل الختامي منه وعنوانه: "أدبُ العصر بقلم الناظم" تأكيدا على التشارك في الآراء بينه وبين الجداوي:
(أمَا وقدِ اطَّلَع القارئ على شِعْر هذا الكتابِ، فمِن الأمانة أنْ أتحدَّث إليه بكلمةٍ نقْديةٍ في موضوعِه، وببحثٍ عامٍّ وجيزٍ في أدب العصر، وإنْ كان شيءٌ من هذا البحث قد ظهرَ في مجالٍ آخَر إمَّا بقلمي أو بقلم صديقي الأستاذ حسن صالح الجداوي معبِّرًا غالِبًا عن آرائنا المشتركة).
يقرر الجداوي في حزم حيدته النقدية الأمينة في تناوله لإبداع الشاعر "أبو شادي"، فيقول: (أنَّ عنايتي الأدبية بنشر هذا الديوان ـ الشفق الباكي ـ ليس معناها موافقتي على جميع آراء الشاعر فيما طرقه من موضوعات، فقد أخالفه في بعضها مخالفة صريحة، ولكن معناها تقريري لشاعريته فحسب).
ولكم وقف الجداوي بقلمه منافحا ومدافعا بإخلاص شديد، وبعلم، وفهم، ولغة راقية، وآراء مسددة في وجه الحملات الشنيعة التي كانت توجه للدكتور أبو شادي وضد الجداوي نفسه أو هما معًا أحيانا، فما تخلى عنه في واحدة منها، بل دبَّج المقالات ومنها الفصل النقدي الذي كتبه في ختام قصة "عبده بك" لأبي شادي ، بعنوان: "الشعر مرآة عصره"، ومقال "هدم الأدب وبناؤه" في كتابه "الأدب الجديد.
على أنه يجب الاتفاق مع من قالوا بأن ديوان "الشفق الباكي" كان بمثابة الموسوعة الشعرية التي تجمع بين دفتيها كافة المستويات الشعرية التي كان أبو شادي يمثلها، وتعكس صورا كثيرة من حياته، وآرائه ونظراته في الحياة، والأحياء، والشعر، والوطنية، والحب، والسلام، والإنسانية، والعروبة، والكفاح، وكثير من الأفكار والقيم ، غير أنه يجب الإشارة إلى أنه ـ أي الديوان ـ كان يحمل الجينات الأولى من بنات أفكار "أبو شادي" في تأسيس مدرسة أبوللو فيما بعد.
يقول الدكتور مسعد بن عيد العطوي، في مقاله المعنون : "أهداف مدرسة أبولو" بشبكة الألوكة: (وقد ظهر أول ديوان، لأحمد زكي "1927م"، بعنوان: الشفق الباكي، وهو يمثل هذه المدرسة .... ولا يدخل فيها ديوان "أنداء الفجر" 1911م، لأنه تقليدي محافظ).
على الرغم من صدور ديوان " أشعة وظلال" دون جمع أو نشر من الجداوي إلا أن اسمه كان مذكورًا في كثير من صفحات الديوان بصفته مترجما للعديد من قصائد الشاعر والمسرحي الفرنسي الشهير "إدموند روستان" Edmond Rostand، والتي نقلها نثرا ليصوغها أبو شادي نظما، وهي: "المستقبل"، و"الجمال"، و"الكرامة".
يبين الأستاذ الجداوي سر تعلقه بالشاعر الفرنسي "روستان" وترجمة بعض قصائده من خلال محاضرة ألقاها في دار نقابة موظفي الحكومة بالإسكندرية في ديسمبر 1929م، ونشرتها مجلة العصور بعددها الثامن عشر في فبراير من نفس العام، فيقول:
(عندي أن روستان هو الشاعر كما يجب أن يكون الشاعر، ليس الرجل الذي يحس فيترجم إحساسه أصدق ترجمة لا غير؛ وإنما الرجل الذي يحس ويريد غيره على أن يحس إحساسه. الرجل المؤدب الذي يبث في قومه أصدق العواطف والعزة والشهامة. الرجل الذي يأخذ بيد أبناء وطنه فيرفعهم إلى ذروة المجد، ويشيد بفضل قومه فيزيدهم إحساسا بعظمتهم وتقديرا لأنفسهم، وشعورا بشخصيتهم، ويلهمهم حب الإنسانية ومثلها الأعلى.. وإذا قلتُ لكم أنني لذلك كنت أجد لذةوفخرًا في أن أنشر أشعار صديقي زكي أبي شادي لم آتِ لكم بشئٍ جديد).
كما تضمَّن الديوان قصيدة "عرس الصديق": (إلى الصديق الأستاذ حسن صالح الجداوي في حفلة اقترانه بالآنسة المهذبة زينات إمام فهمي)، والقصيدة ليست تهنئة خالصة، بل هي وصف لعمق الصداقة والأخوة والمحبة بين الشاعر وصديقه، وتبيان لما أحدثته الأيام مع الشاعر، وسأختار بعض الأبيات منها بتصرف:
أي عرس وفى بأكرم أنس جعلته الأحلام أبهج عرس
لك يا صاحبي العزيز ويا خلـ ـلِي الذي يُفدى بنفسي
لك من مهجتي التهاني التي كا نت لنفسي عن شطر روحي الأمسِّ
وعزيز عليَّ أني بعيد عن مجالي السرور نضو التأسي
حرمتني الأيام قربك أعوا مًا فكنت المحروم روضي وشمسي
وعذيري على احتجابي هدى قلـ ـبك في علمه بشوقي وبأسي
وأراك المسامح المتفادي عن ملامي إن لمت دهري ونحسي
كن صديقي كما يشاء لك الحظ يكن لي العزاء هذا التَّحسِّي
فأراك الحري من نعم الدنيا (بزيناتها) لقلب ورأس
عرفتك الأخلاق والأدب الغا لي كمعبودها الكريم المؤسي
وارتضاك البيان فارسه المبـ ـدع مثل ارتضاء حر بحبس
ويوافيك جمعها بتهانيـ ـه، فأجمل بجمع دنيا بعرس
لك يا صاحبي العزيز ويا خلـ ـلِي الذي يُفدى بنفسي
لك من مهجتي التهاني التي كا نت لنفسي عن شطر روحي الأمسِّ
وعزيز عليَّ أني بعيد عن مجالي السرور نضو التأسي
حرمتني الأيام قربك أعوا مًا فكنت المحروم روضي وشمسي
وعذيري على احتجابي هدى قلـ ـبك في علمه بشوقي وبأسي
وأراك المسامح المتفادي عن ملامي إن لمت دهري ونحسي
كن صديقي كما يشاء لك الحظ يكن لي العزاء هذا التَّحسِّي
فأراك الحري من نعم الدنيا (بزيناتها) لقلب ورأس
عرفتك الأخلاق والأدب الغا لي كمعبودها الكريم المؤسي
وارتضاك البيان فارسه المبـ ـدع مثل ارتضاء حر بحبس
ويوافيك جمعها بتهانيـ ـه، فأجمل بجمع دنيا بعرس
وقد أهدى أبو شادي بعد عامين قصيدة "حارسة الفن" من ديوانه: "أطياف الربيع " إلى السيدة المُهذَّبة زينات إمام فهمي زوجة الصديق العزيز حسن الجداوي، نختار منها:
أَهْلًا بِجَنَّةِ دُنْيَا أَنْتِ «زِينَتُهَا» وَصَاحِبٍ هُوَ فِيهَا الْآنَ جَنَّانُ
مَحَضْتُهُ الْوُدَّ عُمْرًا وَهْوَ يُكْسِبُنِي بِوُدِّهِ مَا اشْتَهَى فَنٌّ وَفَنَّانُ
أَرْخَصْتُ كُلَّ عَزِيزٍ فِي مَحَبَّتِهِ فَمِثْلُهُ بِعَزِيزِ النَّفْسِ يَزْدَانُ
مَا خِفْتُ يَوْمًا عَلَى نَجْوَاهُ مِنْ زَمَنِي فَأَنْتِ دُنْيَا لَهُ بَلْ أَنْتِ أَكْوَانُ
لَمَّا رَأَيْتُكِ فِي الْآمَالِ حَاكِمَةً وَحَوْلَكِ الْحُبُّ أَلْحَانٌ وَأَلْوَانُ
وَأَنْتِ فِي حُسْنِكِ الْعُلْوِيِّ ظَافِرَةٌ بِكُلِّ مَا يَشْتَهِي فِي الْخُلْدِ إِنْسَانُ
زَوْجٌ وَفِيٌّ وَمُلْكٌ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَرْبَأٌ بِجَمَالِ الصَّفْوِ فَتَّانُ
وَطِفْلَةٌ كَرَبِيعِ الْحُبِّ فِي مَرَحٍ وَوَجْهُهَا بِمَعَانِي النُّورِ ضَحْيَانُ
عَرَفْتُ كَيْفَ تَصُونُ الْفَنَّ حَارِسَةٌ وَأَيْنَ يَرْوِي حَنِينَ الرُّوحِ ظَمْآنُ
مَحَضْتُهُ الْوُدَّ عُمْرًا وَهْوَ يُكْسِبُنِي بِوُدِّهِ مَا اشْتَهَى فَنٌّ وَفَنَّانُ
أَرْخَصْتُ كُلَّ عَزِيزٍ فِي مَحَبَّتِهِ فَمِثْلُهُ بِعَزِيزِ النَّفْسِ يَزْدَانُ
مَا خِفْتُ يَوْمًا عَلَى نَجْوَاهُ مِنْ زَمَنِي فَأَنْتِ دُنْيَا لَهُ بَلْ أَنْتِ أَكْوَانُ
لَمَّا رَأَيْتُكِ فِي الْآمَالِ حَاكِمَةً وَحَوْلَكِ الْحُبُّ أَلْحَانٌ وَأَلْوَانُ
وَأَنْتِ فِي حُسْنِكِ الْعُلْوِيِّ ظَافِرَةٌ بِكُلِّ مَا يَشْتَهِي فِي الْخُلْدِ إِنْسَانُ
زَوْجٌ وَفِيٌّ وَمُلْكٌ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَرْبَأٌ بِجَمَالِ الصَّفْوِ فَتَّانُ
وَطِفْلَةٌ كَرَبِيعِ الْحُبِّ فِي مَرَحٍ وَوَجْهُهَا بِمَعَانِي النُّورِ ضَحْيَانُ
عَرَفْتُ كَيْفَ تَصُونُ الْفَنَّ حَارِسَةٌ وَأَيْنَ يَرْوِي حَنِينَ الرُّوحِ ظَمْآنُ
على الرغم من أن الأستاذ الجداوي لم يكن من أعضاء مجلس إدارة جماعة أبوللو سنة 1932، إلا أنه ظل وسيظل اسمه مذكورا بالدراسات الأكاديمية والأدبية والتاريخية والنقدية التي تتناول أعمال الشاعر الدكتور أحمد زكي أبو شادي كواحد من نقاد مدرسة أبوللو المعدودين، بل وواحد ممن كانت له الريادة في جمع ونشر ونقد كثير من أعمال أبي شادي النثرية والشعرية، بل ومن الذين أثَّروا في آرائه التي تبلورت على أرض مدينة السويس قبل أن تخرج للنور في إطار ممنهج وتأسيسي لمدرسة من كبريات مدارس التجديد الرائدات في الشعر العربي المعاصر، وقد كانت غاية كاتب هذه الدراسة ومنهجه التأريخي الذي التزمه مع الأعلام والرواد الذين يذكرهم التاريخ في جانب وينحسر عنهم في جوانب هو التنقيب عن آثارهم، وإبراز أدوارهم، وذلك حتى تلتفت الدراسات الأدبية في المستقبل لهم عندما تبحث في إبداع مدرسة أبوللو ومؤسسها.