“عائد من المشرحة”… عنوان مذكرات تعبر عن التجربة المؤلمة لسنوات الاعتقال السياسي، التي عاشها معتقل الرأي السابق، أحمد حو، أحد الناجين من مشرحة الإعدام، بعد سنوات الجمر والرصاص، إنها سرد ماتع في الشكل، مؤلم في المضمون، لشاب يافع كان قد علق لافتات في شوارع مدينة المحمدية، عام 1983، في الذكرى الثانية لأحداث الدارالبيضاء، التي وقعت عام 1981، فوجد نفسه محكوما بالاعدام.. وفيما يلي حلقات من هذه المذكرات.
——————————————-
إحياء الذكرى الثانية لإنتفاضة البيضاء 1981
لقد سبق لي أن سمعت عن أحداث، وانتفاضات اجتماعية، وثورات مسلحة، وانقلابات في سنوات الستينيات والسبعينيات، إلا أنه لم يسبق لي أن عشت عن قرب أحداثا دامية، ومروعة كتلك الأحداث الاجتماعية، التي اندلعت في مدينة الدار البيضاء، في 20 و21 يونيو 1981، لقد كانت بمثابة النار في الهشيم لإشعال كل حس مناهض للطغيان، والقتل، والتّنكيل، خصوصا عندما يرى المرء بأم عينه كيف عبثت الدبابات، والبنادق بالأجساد، ولم تفرق بين صغير وكبير، فکان الاختيار يتناغم مع فورة الغضب، ففي 20 و21 يونيو 1965 اتفقت مع زملائي من قيادة التنظيم بالمحمدية، بمن فيهم زملاء لي في الدراسة على تخليد الذكرى الثانية لتلك الأحداث الاجتماعية، وبالتنسيق مع حركة الشبيبة اتفقنا بالقيام على الأقل – وهو أضعف الإيمان – علی التنديد بأعمال القتل وطغيان الدولة، عبر وضع لافتات، وكتابة شعارات في أزقة، وشوارع المملكة، خصوصا في المدن الكبرى، وكانت المحمدية، التي أنتمي إليها إحدى هذه المدن، كان الانتشاء بالقيام بهذا العمل لا يضاهيه انتشاء، وإحساس بأننا قدمنا شيئا رمزيا لأرواح الشهداء، وفي الآن نفس إحساس بالغدر، والإحباط بعد أن علمنا أن القيادة الميدانية للشبيبة وضعتنا أمام إحراج، وضغط كبيرين أمام الأجهزة الأمنية، إذ قيل لنا من قبل المكلفين بالتنسيق معنا أن المسألة ستعم كل أنحاء المعمور، لنستيقظ بعد هذا العمل على حقيقة مرة، وهي أن الأمر لم يتعد مدينة المحمدية، وحي في الدار البيضاء، هو حي البرنوصي، وكان هذا السبب كاف لنعلن أنا، ومجموعة أبناء المحمدية فك كل التنسيق، والارتباط مع حركة الشبيبة بصفة نهائية، بعد أن أضحت وضيعتنا حرجة أنا وزملائي، وبتنا في مرمی حجر الأجهزة.
وبعد شهرين، ستبدأ رحلة سنوات عجاف من الاعتقال المأساوي، ففي البداية كان الاستدعاء من طرف الشرطة السياسية في المحمدية اعتباطيا، عبر لائحة قدمت من طرف إدارة ثانوية الجولان، التي كنت أدرس فيها، وقد ضمت أسماء أزيد من ثمانين شخصا، أغلبهم من الذين كانوا يقودون إضرابات، أو يشاركون فيها بتلك الثانوية، أو يكتبون شعارات على جدرانها، ومن يخلدون المناسبات التلاميذية فيها، استجمعت قواي وذهبت عند الشرطة دون تأخير، وما أن قدمت لهم الاستدعاء، الذي توصلت به من طرفہم، وسألتهم عن سبب استدعائي، ما دفع بهم إلى أن يصبوا علي وابلا من الشتم، والسب، وسألوني إن كنت كتبت شعارات، أو علقت لافتات بين أعمدة الكهرباء، والأشجار، فأنكرت تلك التهم بالدفع بأني لم أعد أدرس في الثانوية المذكورة، وأني انتقلت إلى مركز التكوين المهني عين البرجة بالدارالبضاء، وأن يومي 20 و21 يونيو 1983، الذي تصادف مع تلك الأحداث، هي أیام اجتيازي لامتحان الباكالوريا العلمية، والتي قدمت لهم الدليل على أني حصلت عقبها على شهادتها، في شهر يونيو في تلك الدورة من تلك السنه، وأطلقوا سراحي، ولم يكلفوا أنفسهم حتى عناء كتابة محضر استماع لي، باعتبار أن الأدلة، التي أعطيتها لهم كانت دامغة، والحقيقة أني فعلا کنت أجتاز امتحانات الباكالوريا، صباح تلك الأيام، وفي المساء كنت أذهب إلى كتابة الشعارات، وتعليق لافتات، تضم شعارات تندد بالدولة، والقمع، والاستبداد.
دواعي الاعتقال ومسبباته:
في تاريخ 13 غشت 1983، قام كل من “ش.أ”، و”م.م” (هذا الأخير الذي هددني سابقا)، وهما يسكنان معا في الدارالبيضاء، فقد قام الأول بتوزيع، وإلصاق منشورات في مدينة المحمدية، وكان الثاني يراقب عن بعد، ولأن الأول لم يكن على دراية بدروب المدينة، وبحجم الحراسة المشددة عليها، فقد تم اعتقاله.
أما “م.م”، فقد فر بعد أن تأكد من اعتقال صاحبه، فزار بيت عائلته، ووفق خطة مرسومة سلفا، دُبَر لها في ليل، حيث ترك فوق مكتبه كل الوثائق والتقارير، التي تديننا، لتبدأ حملة الاعتقالات في أحياء مدينة الدار البيضاء، ومدينة المحمدية بعد أن أخضع “ش.م” لتعذيب وحشي، ليدلهم على منزل “م.م”، وآخرين، لتبدأ حملة الاعتقالات بأحياء مدينة الدار البيضاء، ومدينة المحمدية، أما “م.م “، فخرج نحو وجهة مجهولة، وقد علمنا فيما بعد منه، ومن والدته أن قيادة الشبيبة وعدته بأن توفر له جواز سفر مزور، ليستطيع مغادرة التراب الوطني، والانضمام إلى الذين استغلت عدم معرفتهم بألاعيبها، أو أولئك المرتزقة، الذين سعت هذه الحركة إلى أن تجعل منهم محرقة لأهدافها غير المعلنة، إذ بمجرد اقتحام بيت “م.م”، وفي لحظة فارقة وجدوا ضالتهم.
وتحكي والدة “م.م” أنّ المحققين كانوا يتعانقون بهستيريا، خصوصا أنهم وجدوا أجوبة عن كل أسئلتهم الحارقة مدونة في الوثائق، ولم يتبق لهم إلا كشف الأسماء المستعارة، ولسوء حظ “م.م”، ولأسباب مجهولة لم يستطع مغادرة التراب الوطني، وربما خمنوا أنه أصبح ورقة محروقة، خصوصا أنه شارك في توزيع المنشورات، ولن يفيدهم في شيء فتركوه هائما في المجهول، حتي اضطر هو نفسه إلى أن يقدم نفسه للشرطة ظنا منه أن ذلك سينجيه، خصوصا أنه أظهر التعاون، ولم يتلق بذلك صفعة واحدة، فقد أدخلوني عليه ذات يوم، وأنا المترنح المثخن بجروح السياط، وقد أجلسوه في أريكة مريحة، وبين يديه كأس قهوی معتقة، وبين الفينة والأخرى كان يتلذذ بمضغ العلك، وقد زعم ذات يوم أنه تعرض للتعذيب، والضرب عبر “الطيارة”، فقلت صفها لي؟ فبهث الذي كذب؟
يتبع…
——————————————-
إحياء الذكرى الثانية لإنتفاضة البيضاء 1981
لقد سبق لي أن سمعت عن أحداث، وانتفاضات اجتماعية، وثورات مسلحة، وانقلابات في سنوات الستينيات والسبعينيات، إلا أنه لم يسبق لي أن عشت عن قرب أحداثا دامية، ومروعة كتلك الأحداث الاجتماعية، التي اندلعت في مدينة الدار البيضاء، في 20 و21 يونيو 1981، لقد كانت بمثابة النار في الهشيم لإشعال كل حس مناهض للطغيان، والقتل، والتّنكيل، خصوصا عندما يرى المرء بأم عينه كيف عبثت الدبابات، والبنادق بالأجساد، ولم تفرق بين صغير وكبير، فکان الاختيار يتناغم مع فورة الغضب، ففي 20 و21 يونيو 1965 اتفقت مع زملائي من قيادة التنظيم بالمحمدية، بمن فيهم زملاء لي في الدراسة على تخليد الذكرى الثانية لتلك الأحداث الاجتماعية، وبالتنسيق مع حركة الشبيبة اتفقنا بالقيام على الأقل – وهو أضعف الإيمان – علی التنديد بأعمال القتل وطغيان الدولة، عبر وضع لافتات، وكتابة شعارات في أزقة، وشوارع المملكة، خصوصا في المدن الكبرى، وكانت المحمدية، التي أنتمي إليها إحدى هذه المدن، كان الانتشاء بالقيام بهذا العمل لا يضاهيه انتشاء، وإحساس بأننا قدمنا شيئا رمزيا لأرواح الشهداء، وفي الآن نفس إحساس بالغدر، والإحباط بعد أن علمنا أن القيادة الميدانية للشبيبة وضعتنا أمام إحراج، وضغط كبيرين أمام الأجهزة الأمنية، إذ قيل لنا من قبل المكلفين بالتنسيق معنا أن المسألة ستعم كل أنحاء المعمور، لنستيقظ بعد هذا العمل على حقيقة مرة، وهي أن الأمر لم يتعد مدينة المحمدية، وحي في الدار البيضاء، هو حي البرنوصي، وكان هذا السبب كاف لنعلن أنا، ومجموعة أبناء المحمدية فك كل التنسيق، والارتباط مع حركة الشبيبة بصفة نهائية، بعد أن أضحت وضيعتنا حرجة أنا وزملائي، وبتنا في مرمی حجر الأجهزة.
وبعد شهرين، ستبدأ رحلة سنوات عجاف من الاعتقال المأساوي، ففي البداية كان الاستدعاء من طرف الشرطة السياسية في المحمدية اعتباطيا، عبر لائحة قدمت من طرف إدارة ثانوية الجولان، التي كنت أدرس فيها، وقد ضمت أسماء أزيد من ثمانين شخصا، أغلبهم من الذين كانوا يقودون إضرابات، أو يشاركون فيها بتلك الثانوية، أو يكتبون شعارات على جدرانها، ومن يخلدون المناسبات التلاميذية فيها، استجمعت قواي وذهبت عند الشرطة دون تأخير، وما أن قدمت لهم الاستدعاء، الذي توصلت به من طرفہم، وسألتهم عن سبب استدعائي، ما دفع بهم إلى أن يصبوا علي وابلا من الشتم، والسب، وسألوني إن كنت كتبت شعارات، أو علقت لافتات بين أعمدة الكهرباء، والأشجار، فأنكرت تلك التهم بالدفع بأني لم أعد أدرس في الثانوية المذكورة، وأني انتقلت إلى مركز التكوين المهني عين البرجة بالدارالبضاء، وأن يومي 20 و21 يونيو 1983، الذي تصادف مع تلك الأحداث، هي أیام اجتيازي لامتحان الباكالوريا العلمية، والتي قدمت لهم الدليل على أني حصلت عقبها على شهادتها، في شهر يونيو في تلك الدورة من تلك السنه، وأطلقوا سراحي، ولم يكلفوا أنفسهم حتى عناء كتابة محضر استماع لي، باعتبار أن الأدلة، التي أعطيتها لهم كانت دامغة، والحقيقة أني فعلا کنت أجتاز امتحانات الباكالوريا، صباح تلك الأيام، وفي المساء كنت أذهب إلى كتابة الشعارات، وتعليق لافتات، تضم شعارات تندد بالدولة، والقمع، والاستبداد.
دواعي الاعتقال ومسبباته:
في تاريخ 13 غشت 1983، قام كل من “ش.أ”، و”م.م” (هذا الأخير الذي هددني سابقا)، وهما يسكنان معا في الدارالبيضاء، فقد قام الأول بتوزيع، وإلصاق منشورات في مدينة المحمدية، وكان الثاني يراقب عن بعد، ولأن الأول لم يكن على دراية بدروب المدينة، وبحجم الحراسة المشددة عليها، فقد تم اعتقاله.
أما “م.م”، فقد فر بعد أن تأكد من اعتقال صاحبه، فزار بيت عائلته، ووفق خطة مرسومة سلفا، دُبَر لها في ليل، حيث ترك فوق مكتبه كل الوثائق والتقارير، التي تديننا، لتبدأ حملة الاعتقالات في أحياء مدينة الدار البيضاء، ومدينة المحمدية بعد أن أخضع “ش.م” لتعذيب وحشي، ليدلهم على منزل “م.م”، وآخرين، لتبدأ حملة الاعتقالات بأحياء مدينة الدار البيضاء، ومدينة المحمدية، أما “م.م “، فخرج نحو وجهة مجهولة، وقد علمنا فيما بعد منه، ومن والدته أن قيادة الشبيبة وعدته بأن توفر له جواز سفر مزور، ليستطيع مغادرة التراب الوطني، والانضمام إلى الذين استغلت عدم معرفتهم بألاعيبها، أو أولئك المرتزقة، الذين سعت هذه الحركة إلى أن تجعل منهم محرقة لأهدافها غير المعلنة، إذ بمجرد اقتحام بيت “م.م”، وفي لحظة فارقة وجدوا ضالتهم.
وتحكي والدة “م.م” أنّ المحققين كانوا يتعانقون بهستيريا، خصوصا أنهم وجدوا أجوبة عن كل أسئلتهم الحارقة مدونة في الوثائق، ولم يتبق لهم إلا كشف الأسماء المستعارة، ولسوء حظ “م.م”، ولأسباب مجهولة لم يستطع مغادرة التراب الوطني، وربما خمنوا أنه أصبح ورقة محروقة، خصوصا أنه شارك في توزيع المنشورات، ولن يفيدهم في شيء فتركوه هائما في المجهول، حتي اضطر هو نفسه إلى أن يقدم نفسه للشرطة ظنا منه أن ذلك سينجيه، خصوصا أنه أظهر التعاون، ولم يتلق بذلك صفعة واحدة، فقد أدخلوني عليه ذات يوم، وأنا المترنح المثخن بجروح السياط، وقد أجلسوه في أريكة مريحة، وبين يديه كأس قهوی معتقة، وبين الفينة والأخرى كان يتلذذ بمضغ العلك، وقد زعم ذات يوم أنه تعرض للتعذيب، والضرب عبر “الطيارة”، فقلت صفها لي؟ فبهث الذي كذب؟
يتبع…