بدأ شيوعُ مفردة " الثقافة " في روسيا – أولا – في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، ثم انطلقت منها إلى ألمانيا والنمسا ، وغيرهما من الدول الأوروبية ، أمَّا في المجتمع العربي ، فقد أسندَ الأستاذ سامي خشبة إلى الدكتور طه حسين أمرَ استعمالها وتداولها ، وذلك بعد أن صاغها سلامة موسى في عشرينيات القرن العشرين 1)
وإنَّ تأمل دلالة الأصل اللغوي لهذه المفردة – التي طُرحت مرارًا في كثير من الدراسات - و ارتباط جذرها الّلغوي بتثقيف السيف والرمح - في القاموس العربي – و تعلقها بمعنى الزراعة وتربية النبت – في الأصل الإنجليزي - يدفعُنا إلى تأمل ما تختزن من دلالات الإنماء ، والعنفوان والقوة التي انتقلت من الأصل المادي إلى مجال الفكر والرؤى ، حتى ذهبَ إليوت إلى أنَّ " الثقافة يمكنُ أن توصفَ وصفا مختصرا بأنها ما يجعلُ الحياةَ تستحقُ أن تُحيا ، وهي التي تجعل الشعوبَ والأجيالَ على حقٍّ حين تقولُ وهي تتأمل آثار مدينة بائدة : إنّ هذه المدينة كانت تستحقُ أن تُوجدَ . "2 )
****و من المدهش أن نجدَ ما يشبه الاتِّساقَ بين دلالات مفردة الثقافة في طرح أكثر من بيئة علميّة ، فقد طرحها " تايلور " في كتاب الثقافة البدائية - من منظور أنثربولوجي - دالًّا بها على جملة المعارف والمعتقدات والأخلاقيات والأعراف والفنون التي يكتسبها الإنسان باعتباره فردا ضمن المجتمع 3) مُتفقًا في ذلك مع سيسيولوجيا المعرفة التي طرحتْ مفهومها للثقافة - في دليل علم الاجتماع Handbook of Sociology لمؤلفه نيلين جيه سميلسر باعتبارها عملية اجتماعية ، يُدركُ من خلالها الأفرادُ حقيقة عالمهم وأبعاد هويتهم و أُطرَهُم العقيدية والقيمية 4) وعلى الرغم من انبثاق مفهوم الثقافة عند ماثيو آرنولد من نقده للطبقات الاجتماعية ، إلَّا أنَّ التمعن في قراءة كتابه " الثقافة والفوضى " يؤدي بنا إلى ملاحظة انسجام رؤيته لها مع الرؤى السابقة ، حيثُ تضطلعُ الثقافةُ في رأيه بمساعدة الفرد على السمو فوق نقيصته الطبقية ، وتحقيق كماله الفردي 5)
لقد طُرحت مفردة الثقافة في السياقات السابقة – وغيرها - باعتبارية دلالية عملية ، أي بوصفها دالةً على القيم والأفكار والرؤى المُترجمة إلى سلوك عملي ، يدفع إلى التغيير والحِراك المجتمعي - والإنساني -الإيجابي .
*** ويُعدّ ت . س . إليوت من أوائل المؤسسين - و المناصرين للمفهوم ( العملي ) للثقافة - كما يؤكدُ كتابُه القيّم " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " - إلى الحد الذي دفعه إلى تأكيد تغلغل الثقافة في مناشط الحياة اليومية الصغيرة العابرة ، التي ضرب لها أمثلة متباينة ، منها : مباريات الكرة ، موسيقى الجاز ، الكرنب المُشرّح المسلوق ، كنائس القرن التاسع عشر القوطية ، مؤكدا أنَّ الشعوب لا تحتاجُ فقط إلى طعام يكفيها ، بل تحتاج أيضا إلى طريقة خاصة مناسبة لطهوه ، بما يعدُّ تمظهرا للثقافة 6 )
•**** المثقفون وعلاقاتهم بمجتمعاتِهم .
إنَّ علاقةَ المثقفين بمجتمعاتهم علاقةٌ تبادليةٌ تفاعلية ، فالمثقفُ يؤثرُ في مجتمعه بما يمنحُ من وعيه المُطّرد ، الذي يُسهم في تحديد مسارات هذا المجتمع ، ونقله نقلةً نوعيةً على صعيد الوعي المعرفي والثقافي إلى الدرجة التي تصلُ بهذا المجتمع إلى القدرة على تقدير مثقّفيه ، والاحتفاء بهم . إنَّ كلًّا من المثقف والمجتمع ذاتٌ فاعلةٌ مؤثرة ، متأثرة بالآخر مشتبكة معه – إيجابيا - من خلال الفعل الثقافي .
المثقفون أفرادٌ متميزون وذواتٌ فاعلة في مجتمعاتهم ، لا بما يحملون من المعرفة والعلم - فقط – بل بما استأثروا به من نواتج العلم و المعرفة ، وعلى رأسها : الوعي ، وهم في طرح جيل الرواد من نقادنا المعاصرين : طه حسين ومندور والعقاد وهيكل – وغيرهم – الفئةُ التي تميزت - من خلال العلم والمعرفة العميقة – والخبرات المجتمعية – بدرجة عالية من الوعي منحتها القدرة على تحديد مشكلات الواقع القائم ، و تقديم تصوراتٍ فكرية عن أصوله ومساراته ، وبدائله الأكثر إشراقا 7) . وهم في طرح " تورجنيف أولئك المتعلمون الذين يشكّون في كل القيم المستقرة السائدة باسم العقل ، ويرغبون في تغييرها باسم التقدم " 8 ) ،
أمّا علم الاجتماع الثقافي المعاصر فيصف المثقفين بأنهم فئةٌ لا تحمل النواتج المعرفية والفكرية لمراحل التاريخ السابقة عليها ، بل تتميزُ بقدرتها على إنتاج المعرفة وإبداع الفكر الخاص بها . وإنّ هذه الرؤى لتتسق مع قدرة المثقفين على الاضطلاع بـما أُطلقُ عليه : الفعل الثقافي ، وهو – في رؤيتي - فاتحة كل الأفعال التي تنحو بالمجتمع صوب التغيير للأفضل .
الثقافة لا تنحصر في جزئها المعرفي – أو العلمي – أو في المُكتسَب من الوعي والخبرة - بل إنها تتسعُ باشتمالها على عنصر روحاني يتمثلُ في السلوك ، ورهافة الحس ، وحساسية التلقي للفنون والإبداع ، وامتلاك نصيبٍ كاف من المهارات العقلية ، والتميز الفكري . وهذه المناشط الثقافية لا تتأتَّى مجتمعة في فردٍ واحدٍ ، فالفرد في رأي إليوت – الذي نتفقُ معه - لا يبلغ درجة الكمال الثقافي 9)
ويحفلُ التاريخُ الإنسانيُّ بأمثلةٍ تدل على أنّ تأثير الفعل الثقافي لا يتوقفُ تأثيره على كون فاعله فردًا أو جماعة ، بقدرِ ما يتوقف على مدى قوة الفكرة المؤثرة ، أو قوة المبدأ الثقافي الذي يحملُه هذا الفرد ، أو تلك الجماعةُ . ويحتفظُ التاريخ بدورات من الحِراكِ الثقافي تُنسبُ لهذا – أو لذاك - من أفراده المتميزين ، بما يؤكدُ ما أشار إليه إليوت من أنَّ التوترَ – الخلَّاق - داخل المجتمع - بأسره - قد يتمثلُ في التوتر داخل عقل الفرد الأكثر وعيا بذلك " 10) ، وتزدادُ أهمية هذا الفرد حين تضطلعُ الطبقةُ المجتمعية - التي ينتسبُ إليها – بهذا الحراك الثقافي ، بما يدعم رأي – كثيرٍ من - المهتمين بالمسألة الثقافية – ومنهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي – في تأكيد أنَّ الثقافة عمليةٌ مجتمعية ، ومسيرة إنسانية ، و سيرة الجماعة الإنسانية و صورتُها ."11 )
•#### دور الطبقات المجتمعية في الحِراك الثقافي .
ورغم اختلاف العلماء حول كثيرٍ من التفاصيل المتعلقة بهذه المسألة ، إلّا أنَّ اتّفاقًا تمَّ بينهم يؤكدُ دلالة الثقافة على الطبقة المجتمعية ، وانسجامها مع رتبة الطبقة واهتماماتها المختلفة . و تبرزُ " النُّخبة " Elit ، أو " الصفوة " ، باعتبارها مسئولة عن " الإمداد الثقافي " لمجتمعها ، بما يمنحها الحقَّ في أن تحظى بسلطاتٍ معنوية ومادية ملموسة ، تُمكنها من التأثير الإيجابي في المجتمع وترقيته ثقافيا .
ويؤدي هذا بدوره إلى القول بأن فراغ المجتمعات من فئةِ الممتازين - الذين يكفلون لها تميزها الثقافي والعقلي - يُحدثُ فراغًا هائلا لا تملؤه إلّا مشكلاتُ التخلف – كما في فترات الحرب والاضطرابات والتحولات السياسية العنيفة - فالصفوة فئة ٌ لها عدة أنماطٍ ، لكل منها دورُه البارز في خلاص المجتمعات التاريخي والحضاري ، من ذلك : النمط السياسي ، والمنظِّم ، والمفكِّر ، والفنان ، والأخلاقي ، والديني ، ويشيرُ إليوت إلى أنَّ وظيفةَ الصفوات المفكِّرة والفنانة والأخلاقية الدينية هي التّسامي بتلك الطاقات الروحية التي لا يستنفذها المجتمعُ في الصراع اليومي من أجل البقاء " 12) ، ولذلك يبدو من المهم – لكل مجتمع يتطلعُ إلى الترقي – تهيئة المناح للصفوة لتكون طبقةً مجتمعية كاملة ، وألّا تكون مجرد مجموعة من الممتازين . كما يبدو من المهم ألَّا يحدث انقطاعٌ في الحوار بين صفوات المجتمع ، حتى لا تتبددُ جهودها ، ويتشتتُ أثرُ فعلها الثقافي . ويمكنّا القول – من خلال هذه الملاحظات – أنَّ الثقافة نتاجٌ مجتمعي ، وأنها – في الوقت ذاته – صانعةُ المجتمعات .
•### الثقافة : هل هي ماهيات مجتمعية ثابتة !
ذهب صمويل هنتنجتون - و بعضُ المفكرين والفلاسفة المنادين بسيادة الثقافة الغربية ومركزيتها - إلى أنَّ الثقافة ماهيةٌ ثابتة تحددُ وضعيةَ حامليها - أفرادا ومجتمعاتٍ – مثلما تحددُ الجيناتُ الوراثية السماتِ الفارقة لصاحبها . وقد أثار هذا الرأيُ جدلا ومعارضةً كبيرين ، لأنَّه يقضي ببقاء المجتمعات المتقدمة – والمتخلفة – في وضعيتها الثقافية الحاصلة – دون تغيير – بما يعني أنه ليس أمام المجتمعات المتخلفة ثقافيا إلَّا الرضوخ للأقوى والأكثر تقدما . 13) . وقريبٌ من هذا المنحى ما ذهبَ إليه بعضُ الفلاسفة وعلماءِ النفس – والاجتماع – من إلحاق مسألة التطور الثقافي للمجتمعات بقانون تطور الأنواع لدارون ، فأعلن " سكينر " أنَّ السيادةَ – في ميدان الصراع الثقافي - للأقوى ، قاصدا – في ذلك - الثقافة الأنجلوساكسونية والأمريكية 14)
وقد تصدَّى لهذا الاتجاه – المؤدلج - فريقٌ مغاير تبنّى مبدأ إمكانية التطور الثقافي للمجتمعات بما يتلاءمُ و حضارة العصر ، ويعد" دييتر سنغاس " مثالا لهذا الفريق ، الذي عارض فكرة ثبات الماهية الثقافية للمجتمعات مؤكدا أنَّ مظاهر التخلف الثقافي ليست حكرا على مجتمعٍ دون آخر في التاريخ ، 15 ) وأنّ خلاص المجتمعات ماثلٌ في ما أسماه " فلسفة الحوار التفاعلي بين الثقافات " ، والتي تعني ضرورة قيام كل مجتمع بمراجعة موروثه الثقافي مراجعة نقدية بحثا عن عوائق تقدمه 16)
•#### النزعة الثقافية.
اتخذتْ الثقافةُ مؤشِّرا لقياس موضع المجتمعات من التقدم و النهضة بما أُطلق عليه " النزعة الثقافية " ، وهو مصطلحٌ يعود ظهوره إلى القرن الثامن عشر الميلادي 17) ، وتشتمل النزعةُ الثقافية في ذاتها على ما يُسمى – في طرح النقاد – العامل الإنساني ، وهو المثقَّف ، فضلا عن المحتوى الثقافي في أي صورة كان : نصوصا ، رموزا ، لوحاتٍ ، مضمونا ، إشاراتٍ تراثية .
وإنَّ هذه الوضعية كفيلة برفع قيمة العامل الثقافي ، إلى حدٍ يُصبحُ فيه هذا العاملُ طابعا شخصيًّا دالا على المجتمعات ، مميزا لبعضها عن البعض ، وهذا بدوره يدفعُ إلى تقدير قيمة الاحتكاك - والتأثر والتأثير – بين المجتمعات ، حيثُ يُقاس الدور الثقافي للشعوب بقدرتها على الإنماء ، وإمداد غيرها بمقومات الاستمرار ومواجهة الفناء والتلاشي .
•#### التحولات الثقافية للمجتمع .
تنتقلُ المجتمعات من طورٍ ثقافيٍ إلى آخر عبر عدة طرق ، أبرزها : التحول بتأثير ثقافة قوية مغايرة ، أو بتأثير ثورة ثقافية . و الاحتكاك بالمغاير الثقافي ، هو الدافع الأكثر تحريضا ، لأنّه تلاقح بين العقول المتباينة والمناهج المختلفة – أو المتعارضة – في النظر إلى الحياة .
وقد مثّلت الحداثةُ الغربية ضغوطا للمجتمعات المغايرة ، وتحديا لهوياتها ، حيث بدت خطرا ماثلا في تصور – بعض – هذه المجتمعات ، بينما بدتْ للبعض الآخر مشروعا ثقافيا جاهزا ، موثوقا في اكتماله وقدرته على نقلها إلى طور مدني – وحضاري – مكتمل ، بما يُمكنُها من اللحاق بدول العالم الأول ، بعيدا عن مغامرات التقدم مجهولة العواقب .
و في كل حال ، أصبح من الضروري أنْ تنظر مجتمعاتنا إلى مشروع الحداثة الغربي بصفته أحد الخيارات المطروحة أمامها - للتحول الثقافي - مقابل الخيارات الأخرى ، ومنها - ما يُطلق عليه - العودة إلى التراث ، ومنها : المزاوجة بين معطيات التراث و ثقافة الآخر ، وهناك الخيار الرابع الذي طرحه " دييتر سنغاس " – في كتابه الصدام بين الحضارات " - وهو : الابتكار ، ويعدُّ خيارا مرهونا بالظروف المحيطة 18 )
•#### الثورة الثقافية .
هي التحول داخلي ، الذي ينبثق من أرض المجتمع ، ومن مادته التي انطوت على الحاجة إلى التحول والتطور و عجز المناخ الثقافي السائد عن الاضطلاع بحاجات الراهن : مساءلة وإشباعا وتفجيرا للإبداع والتنوير الفكري . وقد يقفُ وراء هذه الثورة فئةٌ من ممتازي العقول الذين يتقدمون على بقية المجتمع بقدرتهم على قراءة الراهن واستغواره ، واستشراف القادم من خلاله ، ومثل هؤلاء جديرون بتجديد جسد مجتمعاتهم من خلال فعلهم الثقافي الذي لا يتمُّ إلا من خلال الارتكاز على عدة دعائم ، من بينها : التدرج في تحقيق الأهداف - وفي الانتقال من مرحلة إلى أخرى - تجنب الصدام مع السائد - ما أمكن - والاهتمام بطرح البديل قبل مساءلة السائد - والنزوع إلى تغييره - أمّا أهم هذه الدعائم ، فهي التمسك بالقيمٍ و والمرتكزات الجوهرية التي تكفلُ الحفاظ على السمت الخاص للمجتمع ، و على ما يميزُ جوهره عند انتقاله إلى طورٍ جديد .ا
وإنَّ تأمل دلالة الأصل اللغوي لهذه المفردة – التي طُرحت مرارًا في كثير من الدراسات - و ارتباط جذرها الّلغوي بتثقيف السيف والرمح - في القاموس العربي – و تعلقها بمعنى الزراعة وتربية النبت – في الأصل الإنجليزي - يدفعُنا إلى تأمل ما تختزن من دلالات الإنماء ، والعنفوان والقوة التي انتقلت من الأصل المادي إلى مجال الفكر والرؤى ، حتى ذهبَ إليوت إلى أنَّ " الثقافة يمكنُ أن توصفَ وصفا مختصرا بأنها ما يجعلُ الحياةَ تستحقُ أن تُحيا ، وهي التي تجعل الشعوبَ والأجيالَ على حقٍّ حين تقولُ وهي تتأمل آثار مدينة بائدة : إنّ هذه المدينة كانت تستحقُ أن تُوجدَ . "2 )
****و من المدهش أن نجدَ ما يشبه الاتِّساقَ بين دلالات مفردة الثقافة في طرح أكثر من بيئة علميّة ، فقد طرحها " تايلور " في كتاب الثقافة البدائية - من منظور أنثربولوجي - دالًّا بها على جملة المعارف والمعتقدات والأخلاقيات والأعراف والفنون التي يكتسبها الإنسان باعتباره فردا ضمن المجتمع 3) مُتفقًا في ذلك مع سيسيولوجيا المعرفة التي طرحتْ مفهومها للثقافة - في دليل علم الاجتماع Handbook of Sociology لمؤلفه نيلين جيه سميلسر باعتبارها عملية اجتماعية ، يُدركُ من خلالها الأفرادُ حقيقة عالمهم وأبعاد هويتهم و أُطرَهُم العقيدية والقيمية 4) وعلى الرغم من انبثاق مفهوم الثقافة عند ماثيو آرنولد من نقده للطبقات الاجتماعية ، إلَّا أنَّ التمعن في قراءة كتابه " الثقافة والفوضى " يؤدي بنا إلى ملاحظة انسجام رؤيته لها مع الرؤى السابقة ، حيثُ تضطلعُ الثقافةُ في رأيه بمساعدة الفرد على السمو فوق نقيصته الطبقية ، وتحقيق كماله الفردي 5)
لقد طُرحت مفردة الثقافة في السياقات السابقة – وغيرها - باعتبارية دلالية عملية ، أي بوصفها دالةً على القيم والأفكار والرؤى المُترجمة إلى سلوك عملي ، يدفع إلى التغيير والحِراك المجتمعي - والإنساني -الإيجابي .
*** ويُعدّ ت . س . إليوت من أوائل المؤسسين - و المناصرين للمفهوم ( العملي ) للثقافة - كما يؤكدُ كتابُه القيّم " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " - إلى الحد الذي دفعه إلى تأكيد تغلغل الثقافة في مناشط الحياة اليومية الصغيرة العابرة ، التي ضرب لها أمثلة متباينة ، منها : مباريات الكرة ، موسيقى الجاز ، الكرنب المُشرّح المسلوق ، كنائس القرن التاسع عشر القوطية ، مؤكدا أنَّ الشعوب لا تحتاجُ فقط إلى طعام يكفيها ، بل تحتاج أيضا إلى طريقة خاصة مناسبة لطهوه ، بما يعدُّ تمظهرا للثقافة 6 )
•**** المثقفون وعلاقاتهم بمجتمعاتِهم .
إنَّ علاقةَ المثقفين بمجتمعاتهم علاقةٌ تبادليةٌ تفاعلية ، فالمثقفُ يؤثرُ في مجتمعه بما يمنحُ من وعيه المُطّرد ، الذي يُسهم في تحديد مسارات هذا المجتمع ، ونقله نقلةً نوعيةً على صعيد الوعي المعرفي والثقافي إلى الدرجة التي تصلُ بهذا المجتمع إلى القدرة على تقدير مثقّفيه ، والاحتفاء بهم . إنَّ كلًّا من المثقف والمجتمع ذاتٌ فاعلةٌ مؤثرة ، متأثرة بالآخر مشتبكة معه – إيجابيا - من خلال الفعل الثقافي .
المثقفون أفرادٌ متميزون وذواتٌ فاعلة في مجتمعاتهم ، لا بما يحملون من المعرفة والعلم - فقط – بل بما استأثروا به من نواتج العلم و المعرفة ، وعلى رأسها : الوعي ، وهم في طرح جيل الرواد من نقادنا المعاصرين : طه حسين ومندور والعقاد وهيكل – وغيرهم – الفئةُ التي تميزت - من خلال العلم والمعرفة العميقة – والخبرات المجتمعية – بدرجة عالية من الوعي منحتها القدرة على تحديد مشكلات الواقع القائم ، و تقديم تصوراتٍ فكرية عن أصوله ومساراته ، وبدائله الأكثر إشراقا 7) . وهم في طرح " تورجنيف أولئك المتعلمون الذين يشكّون في كل القيم المستقرة السائدة باسم العقل ، ويرغبون في تغييرها باسم التقدم " 8 ) ،
أمّا علم الاجتماع الثقافي المعاصر فيصف المثقفين بأنهم فئةٌ لا تحمل النواتج المعرفية والفكرية لمراحل التاريخ السابقة عليها ، بل تتميزُ بقدرتها على إنتاج المعرفة وإبداع الفكر الخاص بها . وإنّ هذه الرؤى لتتسق مع قدرة المثقفين على الاضطلاع بـما أُطلقُ عليه : الفعل الثقافي ، وهو – في رؤيتي - فاتحة كل الأفعال التي تنحو بالمجتمع صوب التغيير للأفضل .
الثقافة لا تنحصر في جزئها المعرفي – أو العلمي – أو في المُكتسَب من الوعي والخبرة - بل إنها تتسعُ باشتمالها على عنصر روحاني يتمثلُ في السلوك ، ورهافة الحس ، وحساسية التلقي للفنون والإبداع ، وامتلاك نصيبٍ كاف من المهارات العقلية ، والتميز الفكري . وهذه المناشط الثقافية لا تتأتَّى مجتمعة في فردٍ واحدٍ ، فالفرد في رأي إليوت – الذي نتفقُ معه - لا يبلغ درجة الكمال الثقافي 9)
ويحفلُ التاريخُ الإنسانيُّ بأمثلةٍ تدل على أنّ تأثير الفعل الثقافي لا يتوقفُ تأثيره على كون فاعله فردًا أو جماعة ، بقدرِ ما يتوقف على مدى قوة الفكرة المؤثرة ، أو قوة المبدأ الثقافي الذي يحملُه هذا الفرد ، أو تلك الجماعةُ . ويحتفظُ التاريخ بدورات من الحِراكِ الثقافي تُنسبُ لهذا – أو لذاك - من أفراده المتميزين ، بما يؤكدُ ما أشار إليه إليوت من أنَّ التوترَ – الخلَّاق - داخل المجتمع - بأسره - قد يتمثلُ في التوتر داخل عقل الفرد الأكثر وعيا بذلك " 10) ، وتزدادُ أهمية هذا الفرد حين تضطلعُ الطبقةُ المجتمعية - التي ينتسبُ إليها – بهذا الحراك الثقافي ، بما يدعم رأي – كثيرٍ من - المهتمين بالمسألة الثقافية – ومنهم الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي – في تأكيد أنَّ الثقافة عمليةٌ مجتمعية ، ومسيرة إنسانية ، و سيرة الجماعة الإنسانية و صورتُها ."11 )
•#### دور الطبقات المجتمعية في الحِراك الثقافي .
ورغم اختلاف العلماء حول كثيرٍ من التفاصيل المتعلقة بهذه المسألة ، إلّا أنَّ اتّفاقًا تمَّ بينهم يؤكدُ دلالة الثقافة على الطبقة المجتمعية ، وانسجامها مع رتبة الطبقة واهتماماتها المختلفة . و تبرزُ " النُّخبة " Elit ، أو " الصفوة " ، باعتبارها مسئولة عن " الإمداد الثقافي " لمجتمعها ، بما يمنحها الحقَّ في أن تحظى بسلطاتٍ معنوية ومادية ملموسة ، تُمكنها من التأثير الإيجابي في المجتمع وترقيته ثقافيا .
ويؤدي هذا بدوره إلى القول بأن فراغ المجتمعات من فئةِ الممتازين - الذين يكفلون لها تميزها الثقافي والعقلي - يُحدثُ فراغًا هائلا لا تملؤه إلّا مشكلاتُ التخلف – كما في فترات الحرب والاضطرابات والتحولات السياسية العنيفة - فالصفوة فئة ٌ لها عدة أنماطٍ ، لكل منها دورُه البارز في خلاص المجتمعات التاريخي والحضاري ، من ذلك : النمط السياسي ، والمنظِّم ، والمفكِّر ، والفنان ، والأخلاقي ، والديني ، ويشيرُ إليوت إلى أنَّ وظيفةَ الصفوات المفكِّرة والفنانة والأخلاقية الدينية هي التّسامي بتلك الطاقات الروحية التي لا يستنفذها المجتمعُ في الصراع اليومي من أجل البقاء " 12) ، ولذلك يبدو من المهم – لكل مجتمع يتطلعُ إلى الترقي – تهيئة المناح للصفوة لتكون طبقةً مجتمعية كاملة ، وألّا تكون مجرد مجموعة من الممتازين . كما يبدو من المهم ألَّا يحدث انقطاعٌ في الحوار بين صفوات المجتمع ، حتى لا تتبددُ جهودها ، ويتشتتُ أثرُ فعلها الثقافي . ويمكنّا القول – من خلال هذه الملاحظات – أنَّ الثقافة نتاجٌ مجتمعي ، وأنها – في الوقت ذاته – صانعةُ المجتمعات .
•### الثقافة : هل هي ماهيات مجتمعية ثابتة !
ذهب صمويل هنتنجتون - و بعضُ المفكرين والفلاسفة المنادين بسيادة الثقافة الغربية ومركزيتها - إلى أنَّ الثقافة ماهيةٌ ثابتة تحددُ وضعيةَ حامليها - أفرادا ومجتمعاتٍ – مثلما تحددُ الجيناتُ الوراثية السماتِ الفارقة لصاحبها . وقد أثار هذا الرأيُ جدلا ومعارضةً كبيرين ، لأنَّه يقضي ببقاء المجتمعات المتقدمة – والمتخلفة – في وضعيتها الثقافية الحاصلة – دون تغيير – بما يعني أنه ليس أمام المجتمعات المتخلفة ثقافيا إلَّا الرضوخ للأقوى والأكثر تقدما . 13) . وقريبٌ من هذا المنحى ما ذهبَ إليه بعضُ الفلاسفة وعلماءِ النفس – والاجتماع – من إلحاق مسألة التطور الثقافي للمجتمعات بقانون تطور الأنواع لدارون ، فأعلن " سكينر " أنَّ السيادةَ – في ميدان الصراع الثقافي - للأقوى ، قاصدا – في ذلك - الثقافة الأنجلوساكسونية والأمريكية 14)
وقد تصدَّى لهذا الاتجاه – المؤدلج - فريقٌ مغاير تبنّى مبدأ إمكانية التطور الثقافي للمجتمعات بما يتلاءمُ و حضارة العصر ، ويعد" دييتر سنغاس " مثالا لهذا الفريق ، الذي عارض فكرة ثبات الماهية الثقافية للمجتمعات مؤكدا أنَّ مظاهر التخلف الثقافي ليست حكرا على مجتمعٍ دون آخر في التاريخ ، 15 ) وأنّ خلاص المجتمعات ماثلٌ في ما أسماه " فلسفة الحوار التفاعلي بين الثقافات " ، والتي تعني ضرورة قيام كل مجتمع بمراجعة موروثه الثقافي مراجعة نقدية بحثا عن عوائق تقدمه 16)
•#### النزعة الثقافية.
اتخذتْ الثقافةُ مؤشِّرا لقياس موضع المجتمعات من التقدم و النهضة بما أُطلق عليه " النزعة الثقافية " ، وهو مصطلحٌ يعود ظهوره إلى القرن الثامن عشر الميلادي 17) ، وتشتمل النزعةُ الثقافية في ذاتها على ما يُسمى – في طرح النقاد – العامل الإنساني ، وهو المثقَّف ، فضلا عن المحتوى الثقافي في أي صورة كان : نصوصا ، رموزا ، لوحاتٍ ، مضمونا ، إشاراتٍ تراثية .
وإنَّ هذه الوضعية كفيلة برفع قيمة العامل الثقافي ، إلى حدٍ يُصبحُ فيه هذا العاملُ طابعا شخصيًّا دالا على المجتمعات ، مميزا لبعضها عن البعض ، وهذا بدوره يدفعُ إلى تقدير قيمة الاحتكاك - والتأثر والتأثير – بين المجتمعات ، حيثُ يُقاس الدور الثقافي للشعوب بقدرتها على الإنماء ، وإمداد غيرها بمقومات الاستمرار ومواجهة الفناء والتلاشي .
•#### التحولات الثقافية للمجتمع .
تنتقلُ المجتمعات من طورٍ ثقافيٍ إلى آخر عبر عدة طرق ، أبرزها : التحول بتأثير ثقافة قوية مغايرة ، أو بتأثير ثورة ثقافية . و الاحتكاك بالمغاير الثقافي ، هو الدافع الأكثر تحريضا ، لأنّه تلاقح بين العقول المتباينة والمناهج المختلفة – أو المتعارضة – في النظر إلى الحياة .
وقد مثّلت الحداثةُ الغربية ضغوطا للمجتمعات المغايرة ، وتحديا لهوياتها ، حيث بدت خطرا ماثلا في تصور – بعض – هذه المجتمعات ، بينما بدتْ للبعض الآخر مشروعا ثقافيا جاهزا ، موثوقا في اكتماله وقدرته على نقلها إلى طور مدني – وحضاري – مكتمل ، بما يُمكنُها من اللحاق بدول العالم الأول ، بعيدا عن مغامرات التقدم مجهولة العواقب .
و في كل حال ، أصبح من الضروري أنْ تنظر مجتمعاتنا إلى مشروع الحداثة الغربي بصفته أحد الخيارات المطروحة أمامها - للتحول الثقافي - مقابل الخيارات الأخرى ، ومنها - ما يُطلق عليه - العودة إلى التراث ، ومنها : المزاوجة بين معطيات التراث و ثقافة الآخر ، وهناك الخيار الرابع الذي طرحه " دييتر سنغاس " – في كتابه الصدام بين الحضارات " - وهو : الابتكار ، ويعدُّ خيارا مرهونا بالظروف المحيطة 18 )
•#### الثورة الثقافية .
هي التحول داخلي ، الذي ينبثق من أرض المجتمع ، ومن مادته التي انطوت على الحاجة إلى التحول والتطور و عجز المناخ الثقافي السائد عن الاضطلاع بحاجات الراهن : مساءلة وإشباعا وتفجيرا للإبداع والتنوير الفكري . وقد يقفُ وراء هذه الثورة فئةٌ من ممتازي العقول الذين يتقدمون على بقية المجتمع بقدرتهم على قراءة الراهن واستغواره ، واستشراف القادم من خلاله ، ومثل هؤلاء جديرون بتجديد جسد مجتمعاتهم من خلال فعلهم الثقافي الذي لا يتمُّ إلا من خلال الارتكاز على عدة دعائم ، من بينها : التدرج في تحقيق الأهداف - وفي الانتقال من مرحلة إلى أخرى - تجنب الصدام مع السائد - ما أمكن - والاهتمام بطرح البديل قبل مساءلة السائد - والنزوع إلى تغييره - أمّا أهم هذه الدعائم ، فهي التمسك بالقيمٍ و والمرتكزات الجوهرية التي تكفلُ الحفاظ على السمت الخاص للمجتمع ، و على ما يميزُ جوهره عند انتقاله إلى طورٍ جديد .ا
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com