أيمن دراوشة - قصة مختزلة تقوم على اللغة البسيطة الراقية، والمتكئة على الموروث الواقعي، وصياغة توظيفية متعددة الأشكال.. قصة/ أسامة الحواتمة

حَضَارَة.. قصة - أسامة الحواتمة

حَجَبَتْ خُيُوطُ العناكِب شمسَهم والقمر، ثُمَّ نَجَا وَرَحَل... بَعدَ بُزُوغِهِ نَاحِيَةَ المَشرِق؛

إلى اليوم، بِلَا سِوَارَين تُفصِحُ أَلسِنَةُ قُلُوبِنَا أَنْ “طَلَعَ البَدرُ عَلَينَا...".

أسامة الحواتمة/الأردن



***


أولا: العنوان:

قبل أن ندخل في دهاليز القصة كان لزامًا التعريج إلى العنوان، كون العنوان مدخلًا أساسيًا، لكشف أسرار وخبايا ومغزى هذا النص القصصي القصير.

تعريف ومعنى حضارة في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي

حَضارة: اسم

الجمع: حضارات

الحَضارة: الإقامة في الحضر

مصدر حضَرَ

الحَضارة: التمدُّن، عكس البداوة، وهي مرحلة سابقة من مراحل التَّطوّر الإنسانيّ

حضارة: مصطلحات

الحضارة: الكل المركب الذي يجمع بداخله جميع المعتقدات، والقيم، والتقاليد، والقوانين، والمعلومات، والفنون، وأيّ عادات، أو سلوكيات، أو إمكانات، يمكن أن يحصل عليها فرد ما في مجتمع ما. (ادوارد تايلور)

الحَضَارَةُ الْمُعَاصِرَةُ حَضَارَةٌ إلِيكتِرُونِيَّةٌ:

التَّقَدُّمُ العِلْمِيُّ فِي الْمَجَالِ الإِلِكْتِرونِي.


وقد اختزل القاص العنوان "حضارة" باستخدامه التنكير، فلم يقم بتعريف العنوان المختصر، والمعروف أن التنكير يعني العموم دون التخصيص، وهي براعة فنية من قبل المؤلف وأكثر تشويقا واختزالًا من قوله " الحضارة "

ثانيًا: التحليل

يبدأ القاص نصه بفعل ماضٍ "حجبت" الذي هو عبارة عن تداعٍ وذاكرة لأحداث وقعت في الزمن الماضي "حجبت خيوط العناكب شمسهم والقمر" وهي رمز وإشارة لغار ثور حين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة برفقة صاحبه أبي بكر رضي الله عنه، ومكوثهما في الغار تواريًا عن أعين قريش، وكلنا يعرف قصة العنكبوت والحمامة على باب الغار، حيث من الاستحالة وجود أشخاص داخل الغار، لينجوَ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه من أذى قريش، ويرحلا باتجاه المدينة المنورة "بَعدَ بُزُوغِهِ نَاحِيَةَ المَشرِق"

كما أشار القاص إلى حوار النبي الرسول صلى الله عليه وسلم مع سراقة بن مالك الأعرابي ووعده لسراقة بسواري كسرى وانتشار الإسلام إلى ما هو أبعد من الروم، وقد نفذ الرسول صلى الله عليه وسلم وعده لسراقة.

وقصة الهجرة التي وظفها المؤلف، قصة تراثية دينية تم استخدامها إيجابيًا لخدمة النص، حيث انتشر الدين، وظهرت الحضارة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في الماضي البعيد، فقد حفظها التاريخ والقرآن الكريم إلى اليوم، والمقصود الحاضر لكن بلا سوارين؛ بسبب ابتعادنا عن الدين والجري نحو مغريات الدنيا، ومع ذلك ما زالت قلوبنا تردد وتحفظ "طلع البدر علينا"

ورغم الحروب العسكرية والنفسية والإعلامية التي يشنها أعداء الاسلام علينا إلا أننا نؤمن برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، ولم نر محمدًا، ولم نطلب معجزات، والاسلام باقٍ حتى تقوم الساعة بإذن الله تعالى.


وعلامة الحاضر دلل عليها ظرف الزمان اليوم، وكذلك الفعل المضارع "تفصح"

وليت القاص وضع نقطة بعد اليوم، وليس فاصلة فجملة "بلا سوارين تفصح ..." هي جملة جديدة، وليست مرتبطة بما سبقها.

ثالثًا: الأسلوب والسرد:

لو تتبعنا الظواهر اللغوية لوجدنا أن الفعل الماضي هو السائد، وللفعل عادة دورًا ثنائيًا، علاقة تحويلية، يحول الأشياء، ويتحول بها مركزًا على عنصر الحركة التي تعبر عن الانتقال من حالة إلى حالة، لا تعرف الاستقرار.

أمَّا الرمز فهو عند القاص ليس تعقيدًا، ولا لغزًا مبهمًا، كما انه ليس مباشرة ولا تقريرية، بل هو قنديل نستضيء به في عالمنا المظلم، أداة تساعد في الاجتهاد، والغوص في الحبكة، غشاء رقيق غطت عالمًا قصصيًا رائعًا.

فالعناكب والمشرق والرحيل ... كلها رموز ذات معانٍ ودلالات، التي سمحت بالامتداد التاريخي للقصة، ومحاولة الربط بين الماضي والحاضر داخل النص.

وكان استخدام الفعل الماضي أكثر من المضارع لإبراز حالة التداعي والتكثيف ليرسم القاص لنا مسار التحولات، كما أنها ترمز لوقائع وأحداث.

أمَّا استخدام المضارع فكان لضرورة فنية هو انطباق الفعل المضارع الدال على الحضور والاستمرار، مما ثبت الآثار الشعورية في النفس.

الصورة لدى القاص ليست سريالية، بل هي صور جميلة بسيطة، تعتمد على الرمز واللفظ الموحي وحركية الأفعال والصدمات السردية التي هي ذات بعد عميق تؤكد الحالة المزرية التي نعيشها.

لقد اعتمدت القصة على رصد سيولة الفكر، وملاحقة جريانه من خلال التداعي الحر للذاكرة، ومن ثم كان البتر السردي ضرورة فنية، لتجسيد ما يناش الفكر في دورانه الدائم، وكان لاستخدام الكناية والاستعارة في قول القاص "حَجَبَتْ خُيُوطُ العناكِب شمسَهم والقمر"، "بُزُوغِهِ نَاحِيَةَ المَشرِق" - "تُفصِحُ أَلسِنَةُ قُلُوبِنَا " والتي تلمح كبرق خاطف حين تتداخل المشاعر والعواطف وتتلاصق أمشاج من الماضي والحاضر، وتتمازج فلذات من الأسى والتأسي، حيث يطفو الماضي منسربًا ينتصب في دوران لاهث على محيط الذاكرة بكثافة لغوية ومهارة خاصة في القبض على تلك الموجات المتتالية.

هذه الصور من استعارة وكناية التي برع الكاتب في تماسكها مع سواها، مستمدة حيويتها من شرايين تضامها في جسد النص كله.

رابعًا: المفارقة اللفظية الخفية ومفارقة الاستدراك.

بسوارين " الماضي" وهو مختزل لأمور فنية.

بلا سوارين " الحاضر"

ومما لا شك فيه أن التضاد حصل بين بلا سوارين وبين غياب السوارين المخفية.

أمّا مفارقة الاستدراك فنلمحها في بداية القصة "حَجَبَتْ خُيُوطُ العناكِب شمسَهم والقمر، ثُمَّ نَجَا وَرَحَل..."

فالاستدراك الذي استخدمه القاص بقوله "ثم نجا ورحل" لهو دليل على النجاة والوصول إلى الجهة المقصودة.

ومن خلال هذه المفارقات الإضرابية واللفظية المستخدمة استطاع القاص أن يصل بنا إلى لذة القراءة والوصول إلى المبتغى أو الحقيقة.

ونلمح الصدمة والمفارقة بقول الكاتب بلا سوارين، وخفف منها بقوله يفصح، مما يدلل على طاقة إيحائية بارزة في اللفظ البليغ، والنهاية التي تشد الانتباه إلى جزئيات الصورة.

القصة القصيرة جدًّا بشكل عام مكتملة العناصر، جسدها الرؤيا والسرد المختزل في قالب جمالي عميق الوعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى