محمد عبد الله عنان - في تاريخ القضاء في مصر الإسلامية.. صور من استقلال القضاء وصور من خضوعه

لم تعرف نظرية فصل السلطات الحديثة كثيراً في العصور الوسطى، ولم تطبق بالأخص في ظل الأنظمة المطلقة التي سادت في تلك العصور، فالسلطات الثلاث، التشريعية والقضائية والتنفيذية التي تقوم الدولة الحديثة على مبدأ الفصل بينها، كانت تجتمع في ظل الأنظمة المطلقة في نفس اليد العليا التي تصرف في سائر الشئون العامة. ولم تشذ الدول الإسلامية عن هذه القاعدة، فقد كان الخليفة أو السلطان أو الأمير نجمع في شخصه كل السلطات ويزاولها مجتمعة أو منفردة على يد عماله. نعم كان هناك توزيع للسلطات، ولكن نظري محض، فقد كانت أصول التشريع قائمة تعدل وتفسر في ظل الدول المختلفة طبقاً لمختلف النزعات المذهبية والسياسية، وكان للقضاء جهة خاصة يعمل في دائرتها، وكان الوزراء ومن إليهم من الكتاب والعمال يمثلون الناحية التنفيذية: ولكن هذه الجهات الثلاث التي تقابل السلطات الثلاث في الدولة الحديثة كانت تمتزج دائماً من الوجهة العملية، وتخضع دائماً سواء منفردة أو مجتمعة لرأي الخليفة أو السلطان أو الأمير؛ وكان هذا الرأي دائما فوق كل قانون وقضاء ونظام، وان كان في معظم الأحيان يلتمس له ظاهر من القانون أو النظام.

وكان القضاء كالسلطة التنفيذية دائماً عرضة للتأثير والتدخل ولكن السلطة العليا كانت تؤثر، في معظم الأحيان، أن تبدو في الظاهر محترمة لرأي القضاء بعيدة عن التأثير في سير العدالة. ذلك أن القضاء كان يتشح دائما بثوب الدين، ويستمد سلطانه من كتاب الله وسنة رسوله، فكان التدخل المرغوب كثيرا ما يحمل طابع التفسير لنص من النصوص. وكان القضاة أعوان السلطان قبل أن يكونوا أعوانا للعدالة، وتقدير استقلال القضاء وحريته يرجع قبل كل شيء إلى السلطان: وقد كان ثمة خلفاء وسلاطين يقدرون استقلال القضاء، وينحنون أمام كلمته؛ وكان ثمة قضاة أقوياء النفس والجنان يتمسكون برأيهم وسلطتهم في الحكم، ويأنفون من التدخل والتأثير. وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ الإسلامي تؤيد هذه الحقيقة نورد بعضها في هذا الفصل، وهي مما يتعلق بتاريخ القضاء في مصر الإسلامية.

كان من قضاة مصر في أوائل القرن الثالث الهجري، الحارث بن مسكين، ولي قضاء مصر الأعلى من قبل الخليفة المتوكل سنة 237هـ. ويصف لنا الكندي مؤرخ قضاة مصر حتى منتصف القرن الرابع، شخصية الحارث بن مسكين وطريقته في الحكم، نقلا عن ابن قديد، وهو فقيه ومحدث مصري عاصر الحارث وعرفه. كان الحارث شخصية غريبة قوية، وكان شديد الحرص على حريته واستقلاله، وكان مقعداً، يركب حمارا مبرقعا، ويحمل في محفة إلى مجلس الحكم بالمسجد الجامع (جامع عمرو)، وكانارما شديد الوطأة جريئا في أحكامه يأبى تلقى الولاة والسلام عليهم. وطلب إليه أن يلبس السواد، وهن شعار بني العباس فأبى حتى انتهى بعض أصحابه بإقناعه بأنه إذا لم يرتد السواد اتهم بالانحراف عن بني العباس والميل إلى بني أمية، فارتدى عندئذ كساء اسود من الصوف. وكان كثير الاجتهاد والابتكار في إجراءاته وأحكامه. ويورد لنا الكندي طرفا من هذه الإجراءات والأحكام، ويذكر لنا كيف أن الحارث بن مسكين آثر الاستقالة على قبول التدخل في أحكامه. وذلك أنه رفع إليه نزاع على ملكية دار الفيل، وهي إحدى دور الفسطاط الشهيرة، وكانت لأبي عثمان مولى الصحابي مسلمة بني مخلد الأنصاري؛ وكان قد قضى في شإنها قبل الحارث عدة من قضاة مصر، فقضى فيها أولا هرون بن عبد الله بإخراج بني البنات من العقب باعتبار أن لا حق لهم في الميراث؛ ولكن خلفه محمد بن أبى الليث قضى بإلغاء هذا الحكم، وحكم لبني السائح المدقين بنصيبهم في الدار؛ فلما رفع النزاع مرة أخرى إلى الحارث بن مسكين، فسخ حكم بن أبى الليث، وقضى بإخراج بني السائح من الميراث، فسافر ابن السائح إلى بغداد، ورفع إلى الخليفة المتوكل تظلما من حكم الحارث والتماسا بإعادة النظر في قضيته، فأحال المتوكل القضية إلى الفقهاء، فحكموا فيها على مذهب الكوفيين، وقضوا بإلغاء الحكم، وكان حكم الحارث على مذهب المدنيين. فلما بلغ الحارث ما وقع، كتب في الحال إلى المتوكل يرفع إليه استقالته من منصبه؛ وقدر المتوكل دقة الموقف فقبل الاستقالة، وكتب وزيره إلى الحارث بقبولها فيما يأتي (إن كتابك وصل باستعفائك فيما تقلدت بأمر القضاء بمصر، وأمر (أمير المؤمنين) أيده الله بإجابتك إلى ذلك. . استعافا لك مما سالت، وتفضل لما أدى إلى موافقتك فيه، فرأيك أبقاك الله في معرفة ذلك والعمل بحسبه) وغادر الحارث بن مسكين منصبه سنة 245هـ، وضرب باستقالته مثلا قويا في الكرامة والاستقلال بالرأي والحرص على حرمة القضاء وقدسه.

ولما تولى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون قضاء المالكية بمصر سنة 786هـ، في عهد الظاهر برقوق، أبدى في تصرفاته وأحكامه تمسكا شديدا بالرأي، وإعراضا قويا عن كل مؤثر وشفاعة، خلافا لما كانت عليه أحوال القضاء يومئذ، وكان المؤرخ الفيلسوف يسبق عصره بمراحل في فهم استقلال القضاء ووجوبونه عن كل مؤثر؛ ولكنرامته في تطبيق هذا المبدأ أثارت عليه عاصفة من الحقد والسعاية؛ ويقول لنا ابن خلدون في هذا الموطن في (تعريفه) كلاما طويلا عما كان يسود القضاء المصري يومئذ من فساد واضطراب، وما يطبع الأحكام من غرض وهوى، وعما كان عليه معظم القضاة والكتاب والشهود من جهل وفساد في الذمة، وانه حاول إقامة العدل الصارم المنزه عن كل شائبة، وقمع الفساد بحزم وشدة، وسحق كل سعاية وغرض يقول (فقمت بما دفع إلى من ذلك المقام المحمود، ووفيت جهدي بما أمنني عليه من أحكام الله، لا تأخذني في الله لومة، ولا يرغبني عنه جاه ولا سطوة، مسويا بين الخصمين اخذ الحق الضعيف من الحكمين، معرضا عن الشفاعات والوسائل من الجانبين)

وهذا تصوير قوي لاستقلال القضاء لا يتفق كثيرا مع روحالعصر، ولكن يتفق مع شخصية الفيلسوف القوية، ومع ثقته بنفسه، وسموه برأيه. وفد انتهت العاصفة التي آثارها عليه خصومه باستقالته أو إقالته من منصب القضاء لعام فقط من توليته، وينسب خصوم الفيلسوف تخليه عن منصب القضاء، لأسباب غير استقلاله برأيه ونزاهته في أحكامه، ولكن مؤرخا مصريا كبيرا قريبا من عصره هو أبو المحاسن بن تغري بردي يفر الفيلسوف على عليله، ويقول لنا مشيرا إلى ولايته للقضاء (فباشره بحرمة وافية وعظمة زايدة، وحمدت سيرته، ودفع رسائل أكابر الدولة، وشفا عات الأعيان. . .)

على أن فهم استقلال القضاء على هذا النحو كان من الأمور النادرة في تلك العصور وكان مرجعه شخصية القضاة أنفسهم، وليس روح العصر أو نظمه. وفد كانت القاعدة العامة كما قدمنا انه لا استقلال للقضاء إلا في حدود رأي السلطة العليا وهواها؛ وكان خضوع القضاء لرأي هذه السلطة ووحيها يبدو بنوع خاص في بعض القضايا الجنائية الهامة التي تريد السلطة العليا أن تسبغ فيها لون القانون والعدالة على قصاص أو انتقام ترى إجراءه، أو القضايا المدنية الهامة التي يراد فيها اغتيال مال وثروات يطمع فيها باسم الشريعة وقضائها. وكثيرا ما كانت السلطة العليا تغفل في إجراءاتها وأعمالها هذه الصبغة الشرعية، ولكنها كانت في أحيان كثيرة ترى من حسن السياسة إلا تحمل مسئولية القصاص أو الانتقام أو مصادرة الأموال، وان ترد هذه المسئولية إلى القضاء، وهو في نظرها ورأيها أداة من أدوات التنفيذ التي تسيطر عليها وتسيرها طبقا لمصالحها وأهوائها.

وإذا كنا لا نستطيع أن نظفر في تاريخ القضاء في تلك العصور بأمثلة كثيرة لتطبيق مبدأ استقلال القضاء، فأنا نستطيع أن نظفر بالعكس بكثير من الأدلة والوقائع على خضوع القضاء للسلطة العليا ايا كانت وتبعيته لها وتوقفه على إرادتها وهواها. ونكتفي بان نورد لتأييد هذه بالحقيقة مثلا واحدا من تاريخ القضاء في أوائل الفرن التاسع الهجري، نقله إلينا المقريزي وهو من معاصريه وشهوده. وخلاصته انه في عهد الناصر فرج سلطان مصر، أنشأ الأمير جمال الدين الاستادار مدرسة عظيمة بالقاهرة، أوقف عليها أوقافا جليلة، وكان إنشاؤها على ارض عليها أبنية موقوفة على بعض الترب، فاستبدل بها الأمير أرضا من جملة الأراضي الخراجية بالجيزة، وحكم له قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم بصحة الاستبدال وهدم البناء أقام مكانه المدرسة. ثم نكب الأمير جمال الدين وقتله السلطان، وحسن له بعض وزرائه أن يستولي على المدرسة وان يضع اسمه عليها، فادعى السلطان عندئذ أن الأرض الخراجية المستبدل بها كانت ملكه واغتصبها الأمير جمال الدين دون إذنه، وحكم له قاضي قضاة المالكنة، بان بناء المدرسة الذي أقيم على ارض لم يملكها الواقف، لا يصح وقفه، وانه باق على ملكية بانيه إلى حين موته، وعندئذ انتدب الشهود لتقدير قيمة البناء، فقدر باثني عشر ألف دينار ودفع المبلغ إلى أولاد جمال الدين وباعوا المدرسة للسلطان، فصارت ملكه، ثم أوقف السلطان أرض المدرسة وبنائها بعد أن قضى له قاضي الحنفية بصحة الاستبدال، وحكم له القضاة الأربعة بصحة هذا الوقف؛ بعد أن قضوا من قبل بصحة وقف الأمير جمال الدين. فلما قتل الملك الناصر، وتولى مكانه الملك المؤيد، تولى الوزارة بعض أصدقاء جمال الدين، وسعوا لدى السلطان ليرد أملاك جمال الدين المغتصبة إلى أخيه وأولاده، فأجاب السلطان ملتمسهم، وأحيلت القضية مرة أخرى على القضاة الأربعة، وعقدت لذلك جلسة مشهودة (815هـ)، وقضى برد المدرسة وأوقافا إلى جمال الدين وما نص عليه في وقفيته؛ ورد النظر فيها لأخيه؛ ثم نزع منه النظر بحكم جديد وأعطى لكاتب السر، وهكذا يقول المقريزي (فكانت قصة هذه المدرسة من أعجب ما سمع به في تناقض القضاة وحكمهم بإبطال ماححوهم حكمهم بتصحيح ما أبطلوه، كل ذلك ميلا مع الجاه، وحرصا على بقاء رياستهم، ستكتب شهادتهم ويسألون)

وهذا مثل بارز يصور لنا مبلغ خضوع القضاء للسلطة التنفيذية وتأثره بأهوائنا في بلك العصور، فلم يكن القضاء يومئذ هو ذلك الملاذ النهائي للحق والحرية، ولم يك ثمة احترام لما نسميه اليوم بقوة الأحكام النهائية؛ فما يفتى به اليوم تحقيقا لرغبة سلطان أو أمير أو وزير، يفتي غدا بعكسه تحقيقا لرغبة السلطان الجديد أو وزيره، ويقضي بهذه الأحكام المتناقضة نفس القضاة في كل مرة. وما يقوله لنا المقريزي من أن بواعث هذه الحالة كلها ترجع إلى ميل القضاة مع الجاه وحرصهم على بقاء رياستهم، هو أصدق تعليل لهذا الصدع الخطير في بناء الدولة ونظمها. ونستطيع أن نضيف إلى قول المقريزي، أن هنالك عاملا آخر له قيمته في خضوع القضاء للسلطة التنفيذية على هذا النحو، هو أن القضاء الأعلى لم يكن يتمتع في بلك العصور بما أسبغ عليه في العصر الحديث من الضمانات الكفيلة باستقلاله وحمايته من تدخل السلطة التنفيذية وانتقامها، وأهم هذه الضمانات كما هو معروف هو عدم قابلية القضاة الأكابر للعزل أو النقل، وعدم مسئوليتهم أمام أية سلطة أخرى؛ ولكن القضاء في العصور الوسطى لم يكن يعرف مثل هذه الطمأنينة سواء في الشرق أوفي الغرب، وكان القاضي يخاطر دائما بمركزه وجاهه ورزقه وأحيانا بحياته إذا لم يذعن لرأي السلطة التنفيذية وهواها؛ ولم يكن يستطيع مغالبة هذا التيار الخطر أو تحديه سوى شخصيات قوية جريئة تستهين في سبيل كرامتها في تلك العصور منها سوى القليل.

محمد عبد الله عنان المحامي



مجلة الرسالة - العدد 52
بتاريخ: 02 - 07 - 1934





تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
570
آخر تحديث
أعلى