عبد الفتاح كيليطو - الــــمـــراهـــقـــة.. ترجمة إسماعيل أزيات

(ملحوظة هامة : هذا النص كان عبارة عن مداخلة قدّمها الأستاذ عبد الفتاح كيليطو يوم السبت 14 فبراير 1998 بالمعهد الفرنسي بالرباط ضمن حلقة Le temps des ados، ثمّ أعيد نشرها في كتاب يحمل العنوان ذاته لتلك الحلقة وصدر عن منشورات الفينيك عام 2002.
لكنّ الحكاية ليست هنا : هذا النص لم يدرجه كيليطو ضمن أيّ كتاب أصدره بعد ذلك التاريخ. هل نسيه؟ هل أهمله وأشاح النّظر عنه؟ هل مزّقه كما مزّق محاضراته في الجامعة ؟
لا ندري...!!)


*****


النص :

المراهقة هي المعادل العربي لـ adolescence، لكن من ذا الذي يستعمل هذه الكلمة؟ هل نحن نستعملها في خطاباتنا؟ أبدا. نقرؤها أحيانا في الكتب، في الجرائد، إلاّ أنّنا لا نوظّفها مطلقا في أحاديثنا باللهجة الدارجة. لكن ما هو الاسم الذي نستعمله في الدارجة لنشير سواء للمراهقة أو لـ adolescence؟ هل تعرفون اسما؟ نعم أم لا.
ها هو اسم ينقص كلامنا اليومي. هل مفهوم المراهقة عينه يغيب إذا غاب الاسم؟ لحسن الصّدف ثمّة هذه الكلمة "مراهقة" التي هي أيضا قليلة الاستعمال حتى في الخطاب المكتوب مقارنة مع كلمة "إرهاق" المنتمية إلى نفس الجذر والتي لها مداخل الآن في اللغة الطبية وتعني إنهاك، إجهاد. أيّة علاقة يمكن أن تكون بين مراهقة وإرهاق؟ ألا توجد عندنا مراهقة؟ أراني أميل إلى اعتقاد ذلك. بغتة، يجد الطفل عندنا، إلى غاية هذه الأزمنة المتأخّرة، وفقط في بعض الأوساط، يجد نفسه قد قُذف به في عالم الرّجال. البنت عند البلوغ تكون في سنّ الزواج، الولد كذلك، بيد أنّ هذه السنّ قد تكون لحظة خطرة لأنّ الطفل يصبح فجأة رجلا، يُعامل كرجل وخاصة الصبي. ماذا نقول للصبي؟ دَبا نْت رجلْ. هل نقول للبنت : دبا نتي مْرا؟ لا أظنّ ( يبتسم). هذا الوصف "الآن أنت رجل" يمكن أن يتلقّاه المراهق بكيفية مفزعة لأنّه يمكنه أن يعني : الآن عليك أن تعمل، أن تهتم بنفسك. هذه الأمور تغيّرت منذ عهد قريب، وفي بعض الأوساط فقط وقليلا إذ بعض الأطفال لهم حظّ المرور من الطفولة إلى المراهقة قبل الانتقال إلى سنّ البلوغ. المراهقة إذن ترف في بعض الأوساط وترف ليس في متناول الجميع.
لنأت الآن إلى كلمة "مراهقة". هل صادفتم في النصوص العربية الكلاسيكية التي قرأتموها هذه الكلمة؟ أبدا، أبدا. كلمة "مراهق" أو "مراهقة" توجد في المعاجم القديمة، لكن في النصوص الأدبية لم تستعمل قطّ، لم أصادفها إلاّ في صيغة فعل "رهق" ، بل الغريب أنّي عثرت عليها في السيرة الذاتية للغزالي (ق 11 م)"المنقذ من الضّلال" والذي يبدأ سيرته بالقول : "منذ رهاقة البلوغ". هذا أمر مثير للاهتمام لأنّ لنا هذا التّقارب بين رهق والبلوغ. ما عدا هذه السيرة، لم أقع على كلمة "رهق" أو "مراهق" أو "مراهقة". في معجم "لسان العرب"، كلمة مراهق التي تعادل اليوم adolescent ينحصر عمره بين 10 و11 سنة، فهو بمعنى آخر ما قبل مراهق ما دامت المراهقة اليوم تتحدّد ما بين 14 و18 سنة. إنّه في هذا العمر يتهيّأ التحوّل، الانتقال من الطفولة إلى البلوغ. من المناسب في هذا الصّدد ذكر معنى آخر "للمراهق" : هو الذي يتأخّر ويأتي في اللحظة الأخيرة، على سبيل المثال في الوقت الذي يجب أن تنتهي فيه الصّلاة، النّاس في المسجد هم على وشك إنهاء صلاتهم، وها هو أحدهم يأتي متأخّرا، في اللحظة الأخيرة، هو شخص يتقدّمه ويتجاوزه الآخرون، يأتي في البرهة التي يكونون فيها على وشك إنهاء عمل أونشاط ، قد يكون صلاة أو أية فاعلية أخرى، إذن المراهق يلتحق بالآخرين بينما هم لا ينتظرونه. لقد أخطأ موعده معهم مع كلّ ما يقتضيه من شعور بالإثم ملتبس إلى هذا الحدّ أوذاك، مؤكّد إلى هذا الحدّ أو ذاك، مع ما يرافق ذلك من إحساس بالإقصاء، من المساهمة في نشاط جماعي. ليس هناك ما هو أفظع من الوصول إلى المسجد في اللحظة التي يكون فيها النّاس على وشك إنهاء صلاتهم؛ أن يأتي المراهق إلى الصّلاة متاخّرا وهي، كما تعلمون، واجب يقرّ الدّين بجماعيته ــ يكون جزاؤه أوفى إذا صلاّها مع الجماعة ــ إذن أن يأتي إلى الصّلاة متأخّرا، يجد هذا المراهق نفسه قد طُرد إلى عزلته، عليه أن يبدأ من البداية ما سبق للآخرين إنجازه، عليه أن يكتفي ويرضى بصلاة منفردة (هو إلى حدّما شعور العرب اليوم تجاه الأوروبيين. العرب اليوم مراهقون بالنسبة للأوروبيين لأنّهم متأخّرون في الحداثة بينما هم متقدّمون فيها)
المراهق إذن هو شخص على أهبة الوصول إلى هدف، إلاّ أنّ هذا الهدف لا زال في غير متناوله. ما يميّزه هو"ليس بعد"، على وشك"، لم يصل تماما إلى هدفه لكنّه يقترب منه. فما هو هدف "المراهق"؟ هدفه هو الحلُم بمعنى الاحتلام، غير أنّه في الحلم ليس ثمّة فكرة الدّنس، فكرة العيب التي نصادفها في تعبير الاحتلام pollution nocturne. الحلم هو، من جهةأخرى، من نفس الجذر اللغوي كالحلْم. هكذا يمكن للحالم، حسب السياق، أن يدلّ على شيئين بعيدين وقريبين، إمّا الحالم وإمّا من يقذف المني بلا تعمّد أثناء النّوم. ترون إذن المراحل الثلاث : مراهق، حالم، البلوغ. الانتهاء إلى الحلم أوالاحتلام هوالبلوغ. في البلوغ، ثمّة فكرة الوصول. الذي كان متأخّرا ينجح في الوصول. لننظرْ أيضا، في هذا الصّدد، مقولة "البلاغة". ما هي البلاغة؟ على العموم، يتمّ ترجمةبلاغة بريطوريقا rhétorique، سيكون من الصّواب جدّا ترجمة هذه الكلمة بفصاحة éloquence. لماذا يقال في اللغة العربية للفصاحة بلاغة؟لأنّ الخطاب البليغ هوالخطاب الذي يؤثّر، يصل، يستهدف المخاطب، يبلغ المخاطب. ينتهي إلى المخاطب. من المتكلّم إلى المخاطب. وكذا الأمر في حالة البلوغ، يصل الولد أوالبنت إلى النضج الجسدي ومن ثمّ إلى سنّ الزواج والإذعان للواجب الديني وللأنظمةالقانونيةوالمسؤولية الجزائية.
ما هو سنّ البلوغ؟ خمس عشرة سنة حسب المذاهب الشافعية، الحنفيةوالحنبلية، ثمان عشرة سنة حسب المالكية. غير أنّ البلوغ هنا ليس بمعنى البلوغ ولكن بمعنى سنّ الرّشد.كيف لنا أن نترجم بلوغ بـ puberté أو majorité؟ هنا نقاش، تأمّل يجب القيام به. لنعدْ إلى "مراهق". المراهق له عشر أو إحدى عشرة سنة بمعنى ثلاث إلى أربع سنوات متأخّرا عن المراهق الأوروبي.
الآن أطرح سؤالا آخر عن تأخّر آخر، تأخّر المراهقة كتصوّر موظّف من قبل علماء النّفس العرب بالنسبة للتصوّر الأوروبي عن المراهقة. بتعبير آخر، في أيّة لحظةأصبحت كلمة مراهقة تصوّرا يشير إلى نفس مفهوم adolescent؟ هذا يقودنا إلى إثارة سؤال آخر: المراهقة، أهي اختراع أوروبي؟ هذه المسألة مرتبطة بمسألة أخرى هي الطفل. اظنّ أنّه في الإمكان القول، دون مجازفة الوقوع في الخطأ، إنّ الطفولةوالمراهقة اختراعان قريبا العهد ويمكن أن نموضعهما تقريبا في القرن الثامن عشر مع اعترافات جان جاك روسو. لماذا؟ لأنّ السيرة الذاتية بالمعنى الحديث غير منفصلةعن وصف الطفولة والمراهقة. اختراع السيرة الذاتية ملازم ومصاحب لاختراع الطفولة والمراهقة.
لكن في الأدب العربي الكلاسيكي، أي قبل القرن التاسع عشر، الطفل لم يكن موجودا. في الشعر، ويا للغرابة، لا يُقرّ بوجوده إلاّ إذا ضاع.الحالة الأولى متعلّقة بموت الطفل. عندئذ لمّا يكون والد الطفل شاعرا يحدث أن يبكيه هذا الشاعر في أبيات مؤثّرة . الطفل الميّت هو واحد من وجوه الرّثاء. الحالة الثانية ليست بالضرورة مختلفة عن الأولى. أحيانا يتذكّر الشاعر بشوق طفلا جعلته صروف الحياة يتخلّى عنه أويتركه خلفه. إذن ومرّة أخرى طفل ضائع. وكلّ هذا، إلى حدّ ما، قليل في الشعر. في المقابل، وفي شعر الغزل، غالبا ما يتمّ ذكر ووصف الفتى الجميل، الشاب وقد وصل إلى سنّ البلوغ ووجنتاه يغطّيهما أوّل الزّغب.
كيف الحال الآن في النثر، مثلا في ألف ليلةوليلة؟ الطفل المرتقب بلهفة يتأخّر في أن يُولد، يتمّ انتظاره. ها هنا أيضا فكرة الوصول متأخّرا . في ألف ليلةوليلة يولد الطفل في اللحظةالتي يستقرّ فيها اليأس من أن يتمّ الحبل به. في الواقع لا يودّ ان يولد . بمجرّد ولادته يصبح رهينة شبكة السّلالة، يُنظر إليه في الحقيقة كمواصل للأب، كقرين وصنو له، يتعجّل بالأخرى أن يكبر مع أنّه تأخّر في الخروج إلى العالم. لن يتأخّر في الطفولة، لا يتأخّر في هذه المرحلة التي هي، إجمالا، جوفاء وعديمة الجدوى. السّرد يقفزمن فوق الطفولة. الشخص الذي وُلد للتوّ لا يشرع في الوجود حقيقة ولا يصبح ذا شأن ولا يصير موضوعا لحكاية إلاّ حينما يسقط في الحبّ ، بمعنى في لحظة استيقاظ الجنس لديه. إذن حينما يصير بالقوة قادرا على الإنجاب والإنسال، قادرا على تشريف الدّيْن المندغم فيه منذ الولادة تجاه الأب. هذا الشخص هو، شاء أم أبى، صنو أبيه وقرينه وعليه أن ينتج صنوه الخاص؛ إنّ له في هذه اللحظة حولي خمس عشرة سنة.
بعد الشعر القديم وألف ليلةوليلة، لننظرْ الآن في الأشكال الأوطوبيوغرافية القديمة. سنبحث فيها عن المراهق أو الطفل لكن بدون جدوى. الغزالي في سيرته لا ينفث كلمة عن طفولته أومراهقته سوى كلمتين أو ثلاث :منذ رهاقة البلوغ. أمّا بالنسبة لابن خلدون والذي كتب هو الآخر شكلا سيريا، فإنّ الإحالة على الطفولة هي، في النهاية، إحالة على حفظ القرآن. الطفل هو شخص يحفظ القرآن. هذا هو التّفصيل الوحيد الذي يستحقّ أن يُذكر : حفظ القرآن من قبل الطفل. ولنا الانطباع أنّ الطفولة تنتهي حالما يُستظهر القرآن عن ظهر قلب. بعد ذلك، يدرس المراهق علوما متعدّ{ة تحت إشراف رجال علم متعدّدين.
نأتي الآن إلى الأدب العربي الحديث الذي عرف انطلاقته في القرن التاسع عشر . الطفولة والمراهقة أعلنتا عن حضورهما في الأدب العربي مع السيرة الذاتية. إذا كنتم تريدون عنوانا، أشير إلى مؤلّف للشدياق وعنوانه "الساق على الساق" المكتوب سنة 1855وإن كان ثمّة خطاب أكاديمي يطرح للمساءلة ما إذا كان هذا المؤلَّف يتعلّق برواية أم سيرة ذاتية بضمير الغائب، لا يهمّ. يمكن أن أشير إلى عنوان متأخّر هو كتاب الأيّام لطه حسين . هذان المؤلَّفان خضعا لتأثير الأدب الأوروبي . دون هذه العلاقةمع أوروبا ، لن يكونا قد كُتبا بتاتا. كتاب الأيّام لا يُتصوّر دون الأدب الفرنسي. يمكننا أن نقول الشيء نفسه عن كلّ الإنتاج الأدبي اللاّحق سواء في مجال السيرة أو في مجال الرواية.
السّؤال ليس أن نعرف حقّا إذا كان مفهوم المراهقة يشمل أم لا مفهوم adolescence اليوم. يمكننا إجمالا القول إنّ هناك تكافؤا بين المفهومين بقوّة الأشياء والمعاني القديمة لـ"مراهق" ليست لها إلاّ قيمة وثائقية لا يمكن إنكارها ومفيدة بالتأكيد. لكن الفتح الأكبر، إذا أمكنني التعبير على هذا النحو، في العالم العربي، هوأنّ الطفولة والمراهقة تحوّلتا إلى موضوع للسّرد، في حين أنّه في الماضي ، لم يكن يتمّ الحديث عنهما على الإطلاق سوى في مجال الفقه، وها هنا خطاب شامل حول الطفولةوالبلوغ. بعد ان لم يكن يتكلّم أحد عنهما بتاتا ــ هذه ملاحظتي الأخيرة ــ اليوم يتولاّهما الخطاب الأدبي كما علوم أخرى كعلم النفس وعلم الاجتماع وهذا ما دعوته بالفتح.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى