سبق وتحدثنا عن تعدد الشكل النصي لفن الخاطرة الوجدانية، وطبقنا سمات الشكل المتعامد على نص إبداعي متصل بشعر المهجر من حيث المعاني والصور البيانية، واليوم لدينا تطبيق جديد على الشكل النصي الشذري لفن الخاطرة، وحتى نضبط سمات هذا الشكل إليكم هذه الومضات المركزة..
أولا
الشكل الشذري للخاطرة هو شكل متعامد كذلك لكن الاختلاف يكمن في تقديم دفقات شديدة الاقتضاب سريعة التدفق.
ثانيا
إذا فصلنا كل شذرة من السياق ستستقل بمعنى تام لا يحتاج إلى سياق قبل أو بعد.
ثالثا
هذا الشكل يتطلب مهارة ونضج فائقين لأن كتابة الخاطرة مرحليا هكذا بحيث يفصل كل شذرة معنويا ثم يدمجها سياقيا فهذا أمر ينتمي إلى فن الرسم بالكلمات، اللوحة الفنية عبارة عن خطوط متعددة لكن بجمعها يكتمل المشهد.
رابعا
ستجد رابطا مشتركا متكررا في كل شذرة، إما رابط لفظي، أو تصويري مشهدي، أو رابط زمكاني، بحيث يشد الكاتب خيطا حريريا رفيعا يصل بين كل شذرات السياق دون أن تلحظه سطحيا لأنه متجذر في المعنى.
.....
التطبيق
بين أيدينا نص أنموذج للشكل الشذري، تتحقق فيه غالب هذه السمات بل زيد عليه روعة وإتقان، لدينا خاطرة الأستاذة المبدعة
إيمان السيد.. المدرسة السورية في الأدب
النص..
في سماءٍ ما
أعرف رجلاً جواداً
كلما أشار بيديه
للغمام
انهمر المطر ألواناً
فسقى الناس جميعاً
إلا قلبي!
في أرضٍ ما
أعرف شجرةً كبيرةً
كلما جلستَ تحت ظلها
ازدادَ عطشُها!
على جدارٍ ما
في صحوة الانتظار
أرقدُ كساعةٍ بلا عقرَبين
فيموت الوقت مشنوقاً
في سقف الشوق!
على طريقٍ ما
ترافقني امرأةٌ مربوطةٌ
قدمُها بظلِّ الرصيف
كلما مشيتُ نحوَك
أعادني إلى الوراء!
فوق طاولتي المستديرة
تموت كل الزوايا
التي راهنتَ
على أسري فيها!
إيمان السيد
....
أولا؛ إمكانية الفصل بين الشذرات
لو اقتطعنا أية شذرة من النص بمعزل عن بقية السياق لوجدناها متكاملة دون الحاجة إلي غيرها، هكذا
في سماء ما
أعرف رجلا جوادا
كلما أشار بيديه للغمام
انهمر المطر ألوانا
فسقى الناس جميعا
إلا قلبي!
...
دفقة تعدل نصا بتمامه بيانا واقتضابا، تتكون من مشهد ثم حيثية مشهد (أعرف رجلا جوادا) ثم حدث المشهد (أشار، انهمر) ثم المفارقة، سقى.. إلا قلبي.
كذلك..
فوق طاولتي المستديرة
تموت كل الزوايا
التي راهنت على
أسري فيها!
مشهد ثم حدث ثم مفارقة، استقلال تام للمعنى والبنية
ثانيا؛ الرابط المشترك بين شذرات النص
ليس لدينا هاهنا رابط واحد بل أكثر، أولها رابط مرئي وهو الصورة المشهدية التي تتصدر كل شذرة كما في
في سماء ما.. في أرض ما.. على جدار ما..على طريق ما.. فوق طاولتي المستديرة.
ثم رابط التنكير الذي تكرر في كل الشذرات إلا الأخيرة، وهو الحرف (ما)، الذي يبدو في ظاهره تنكيرا وفي باطنه تعريفا، السماء ال..ما والأرض ال..ما والجدار ال..ما كلهم معرفة لدى الكاتب وإلا لما علم كيف يحيط بما حدث فيهم، ونحن بدورنا عرفنا المجهول من الذي عرَّفه لنا.
رابط ٱخر
وهو الربط الوجداني غير الظاهر
فلو اختزلنا بؤرة كل شذرة لصح أن نقول..
الشذرة الأولى..جحود (صنع)
الثانية.. حرمانا (أدى إلى)
الثالثة.. فقدان الشعور بالوقت
الرابعة..قيود المشاعر
الخامسة.. لا لن تستطيع أسري، وتلك مفارقة صيغت بالخاتمة وكأن النص كله شذرة واحدة متدرجة فلزمها خاتمة صادمة وهنا يكمن الإبداع.
ثالثا؛ الذهنية والذاتية عند إيمان السيد
المتابع لنتاج الأستاذة إيمان سيلحظ ميل أسلوبها إلى مُذاهنة القارئ بالرغم من ظهور الطابع الذاتي، بمعنى أن تخلق الكاتبة بيئة مشتركة بين حروفها وذهن القارئ، حتى يحيط القارئ بالنص عليه أن يشحذ ذهنه تماما لمواكبة الدفق الأدبي، في هذا النص على سبيل المثال يتوجب على القارئ لمح الخيال الذي تصوره الكاتبة
في سماء ما أعرف رجلا.. هل يوجد رجل في سماء؟ وإن وجد كيف يشير إلى الغمام فيسقطه مطرا؟ ثم كيف يخصُّ بإنعامه أناسا دون غيرهم، أُسمّى هذا التصوير المتراكب (استبداد ذهني) فلن يستطيع القارئ الانسلاخ عن تصور المشاهد المتداخلة، وكأنه أصبح جزء منها.
كذلك في الخاتمة يظهر الاستبداد الذهني في تخيل مائدة دائرية، والشكل الدائري مظنة الاتصال والغلق، لا أول له ولا ٱخر، ثم ننصدم بأن هذه الدائرة ماتت زواياها التي لم توجد أساسا، وتلك المذاهنة والتذويت (التحدث عن الذات) يُلزمان القارئ بالغوص وسبر الأعماق.
رابعا؛ التجانس والمواءمة
بدأ التجانس من حيث بدأ الرابط التصويري، والحكاية عن المشهدية الظاهرة كما قدمنا ،(في سماء، في أرض، على طريق) تجانس مكاني متجدد في كل شذرة
ولمسنا التجانس كذلك معنويا كما وضحنا عند اختزال معنى كل شذرة فهذا جحود نتج عنه حرمان أدى إلى تيه في الزمان والمكان.
وأضيف إلى التجانس اللفظي تلك المسحة المؤلمة التي تبدت في شكوى الذات..
إلا قلبي..
ازداد عطشها..
يموت الوقت مشنوقا
أعادني إلى الوراء
تموت كل الزوايا
راهنت على أسري
.......
أخيرا
وتأكيدا على المذاهنة والذاتية لدى الكاتبة، أختم الورقة النقدية بأن هناك أقلام لها عين ترى، وأذن تسمع، وأنف يشتم، ووجه ملأته تجاعيد الزمن، ويد تجيد الرسم بالكلمات، وتلك أقلام تعرف طرق الإبداع والخلق، وفي لغتها لغة وفي غموضها بيان، وإلى المزيد من هذه الأقلام في المراحل التالية للبحث في الخاطرة بعد الحداثة.
..
سيد عفيفي
عضو اتحاد كتاب مصر
أولا
الشكل الشذري للخاطرة هو شكل متعامد كذلك لكن الاختلاف يكمن في تقديم دفقات شديدة الاقتضاب سريعة التدفق.
ثانيا
إذا فصلنا كل شذرة من السياق ستستقل بمعنى تام لا يحتاج إلى سياق قبل أو بعد.
ثالثا
هذا الشكل يتطلب مهارة ونضج فائقين لأن كتابة الخاطرة مرحليا هكذا بحيث يفصل كل شذرة معنويا ثم يدمجها سياقيا فهذا أمر ينتمي إلى فن الرسم بالكلمات، اللوحة الفنية عبارة عن خطوط متعددة لكن بجمعها يكتمل المشهد.
رابعا
ستجد رابطا مشتركا متكررا في كل شذرة، إما رابط لفظي، أو تصويري مشهدي، أو رابط زمكاني، بحيث يشد الكاتب خيطا حريريا رفيعا يصل بين كل شذرات السياق دون أن تلحظه سطحيا لأنه متجذر في المعنى.
.....
التطبيق
بين أيدينا نص أنموذج للشكل الشذري، تتحقق فيه غالب هذه السمات بل زيد عليه روعة وإتقان، لدينا خاطرة الأستاذة المبدعة
إيمان السيد.. المدرسة السورية في الأدب
النص..
في سماءٍ ما
أعرف رجلاً جواداً
كلما أشار بيديه
للغمام
انهمر المطر ألواناً
فسقى الناس جميعاً
إلا قلبي!
في أرضٍ ما
أعرف شجرةً كبيرةً
كلما جلستَ تحت ظلها
ازدادَ عطشُها!
على جدارٍ ما
في صحوة الانتظار
أرقدُ كساعةٍ بلا عقرَبين
فيموت الوقت مشنوقاً
في سقف الشوق!
على طريقٍ ما
ترافقني امرأةٌ مربوطةٌ
قدمُها بظلِّ الرصيف
كلما مشيتُ نحوَك
أعادني إلى الوراء!
فوق طاولتي المستديرة
تموت كل الزوايا
التي راهنتَ
على أسري فيها!
إيمان السيد
....
أولا؛ إمكانية الفصل بين الشذرات
لو اقتطعنا أية شذرة من النص بمعزل عن بقية السياق لوجدناها متكاملة دون الحاجة إلي غيرها، هكذا
في سماء ما
أعرف رجلا جوادا
كلما أشار بيديه للغمام
انهمر المطر ألوانا
فسقى الناس جميعا
إلا قلبي!
...
دفقة تعدل نصا بتمامه بيانا واقتضابا، تتكون من مشهد ثم حيثية مشهد (أعرف رجلا جوادا) ثم حدث المشهد (أشار، انهمر) ثم المفارقة، سقى.. إلا قلبي.
كذلك..
فوق طاولتي المستديرة
تموت كل الزوايا
التي راهنت على
أسري فيها!
مشهد ثم حدث ثم مفارقة، استقلال تام للمعنى والبنية
ثانيا؛ الرابط المشترك بين شذرات النص
ليس لدينا هاهنا رابط واحد بل أكثر، أولها رابط مرئي وهو الصورة المشهدية التي تتصدر كل شذرة كما في
في سماء ما.. في أرض ما.. على جدار ما..على طريق ما.. فوق طاولتي المستديرة.
ثم رابط التنكير الذي تكرر في كل الشذرات إلا الأخيرة، وهو الحرف (ما)، الذي يبدو في ظاهره تنكيرا وفي باطنه تعريفا، السماء ال..ما والأرض ال..ما والجدار ال..ما كلهم معرفة لدى الكاتب وإلا لما علم كيف يحيط بما حدث فيهم، ونحن بدورنا عرفنا المجهول من الذي عرَّفه لنا.
رابط ٱخر
وهو الربط الوجداني غير الظاهر
فلو اختزلنا بؤرة كل شذرة لصح أن نقول..
الشذرة الأولى..جحود (صنع)
الثانية.. حرمانا (أدى إلى)
الثالثة.. فقدان الشعور بالوقت
الرابعة..قيود المشاعر
الخامسة.. لا لن تستطيع أسري، وتلك مفارقة صيغت بالخاتمة وكأن النص كله شذرة واحدة متدرجة فلزمها خاتمة صادمة وهنا يكمن الإبداع.
ثالثا؛ الذهنية والذاتية عند إيمان السيد
المتابع لنتاج الأستاذة إيمان سيلحظ ميل أسلوبها إلى مُذاهنة القارئ بالرغم من ظهور الطابع الذاتي، بمعنى أن تخلق الكاتبة بيئة مشتركة بين حروفها وذهن القارئ، حتى يحيط القارئ بالنص عليه أن يشحذ ذهنه تماما لمواكبة الدفق الأدبي، في هذا النص على سبيل المثال يتوجب على القارئ لمح الخيال الذي تصوره الكاتبة
في سماء ما أعرف رجلا.. هل يوجد رجل في سماء؟ وإن وجد كيف يشير إلى الغمام فيسقطه مطرا؟ ثم كيف يخصُّ بإنعامه أناسا دون غيرهم، أُسمّى هذا التصوير المتراكب (استبداد ذهني) فلن يستطيع القارئ الانسلاخ عن تصور المشاهد المتداخلة، وكأنه أصبح جزء منها.
كذلك في الخاتمة يظهر الاستبداد الذهني في تخيل مائدة دائرية، والشكل الدائري مظنة الاتصال والغلق، لا أول له ولا ٱخر، ثم ننصدم بأن هذه الدائرة ماتت زواياها التي لم توجد أساسا، وتلك المذاهنة والتذويت (التحدث عن الذات) يُلزمان القارئ بالغوص وسبر الأعماق.
رابعا؛ التجانس والمواءمة
بدأ التجانس من حيث بدأ الرابط التصويري، والحكاية عن المشهدية الظاهرة كما قدمنا ،(في سماء، في أرض، على طريق) تجانس مكاني متجدد في كل شذرة
ولمسنا التجانس كذلك معنويا كما وضحنا عند اختزال معنى كل شذرة فهذا جحود نتج عنه حرمان أدى إلى تيه في الزمان والمكان.
وأضيف إلى التجانس اللفظي تلك المسحة المؤلمة التي تبدت في شكوى الذات..
إلا قلبي..
ازداد عطشها..
يموت الوقت مشنوقا
أعادني إلى الوراء
تموت كل الزوايا
راهنت على أسري
.......
أخيرا
وتأكيدا على المذاهنة والذاتية لدى الكاتبة، أختم الورقة النقدية بأن هناك أقلام لها عين ترى، وأذن تسمع، وأنف يشتم، ووجه ملأته تجاعيد الزمن، ويد تجيد الرسم بالكلمات، وتلك أقلام تعرف طرق الإبداع والخلق، وفي لغتها لغة وفي غموضها بيان، وإلى المزيد من هذه الأقلام في المراحل التالية للبحث في الخاطرة بعد الحداثة.
..
سيد عفيفي
عضو اتحاد كتاب مصر