كان يحاول فتح عينيه ليعود من حالة الغيبوبة علّه يبصر بعضاً مما جرى له .. لم يتركوا خلية من جسده إلا وأشبعوها ضرباً بالعصي والركل واللكم الذي يخترق الجلد واللحم وينخر العظم .. وكان أشدها إيلاماً الصفعات الكهربائية من عصيهم المكهربة التي كانت تنتشر في الجسم انتشار النار في الهشيم.. تغيرَّت معالم الوجه وصار مسرحاً لكل من لا يتقن الوقوف على خشبته ، تكسّرت الأسنان ، وفتحت الأخاديد في الخدين والجبين.. الناظر إليه يظن ان مجموعة من الذئاب تناوشته وشوهت كل معالمه..
كان أحد ستة من الأسرى استفردوا به ما بين قسمهم وغرفة الزيارة ، وكانت تنتظرهم أمهاتهم بعد أن قطعت مئات الكيلومترات لتصل عمق صحراء النقب حيث يرمي بشرره ولهيبه .. كانت الأمهات ينتظرن على بوابة جهنم النقب لرؤية فلذات أكبادهن وبريق العيون الذي يُبرّد لهيب القلوب .. عدن الأمهات على وقع أخبار قمع السجّان لأبنائهن .. بعد انتشار الجند .. لا بد وأنهن الآن يتقلبن على جمر العذاب وكل أشكال القهر والترقب لسماع أخبار مريعة تتهاوى أمامها أرواحهن كما تتقصف الأشجار أمام الأعاصير العاتية .. أما العصي التي عزفت على عظامي أنا فقد كانت هينة لينة أمام تلك العصا الكهربائية التي كانت تتركني أخرج كل ما في صدري من روح .. وكأن رئتي تُلفظ قطعة قطعة من بين أسناني .. أغيب وتدور الوجوه الغاشمة من حولي ثم ما ألبث وأن يستحضروا روحي من جديد .. ستة خرجوا معه من القسم .. كانوا بوجوه مستبشرة .. يلبس كل منهم أجمل ما لديه ، جباه لامعة تعلوها كسوة الرأس وقد مسَّ من الزيت والطيب ما جعلها تكاد تشرق وتضيء .. القلوب تترنم وتستعد لرؤية الأحبّة .. وأنت يا وسيم ... " وسيم الصدر " ابن أم الشهيد الصامدة المثابرة .. جاءته من مخيم عسكر .. من حيث قهر اللجوء وأسن عيش الكفاف جاءت لتقهر الصحراء وتمخر عبابها .. منعوها من الزيارة ثلاث سنوات حتى إذا ظفرت بها بعد صراع طويل على أعتاب الصليب الأحمر كان هذا الخبر العاجل ..
كان الفاصل الإعلامي بينها وبين ولدها مسافة أمتار وعدة دقائق .. وكانت الأمور تجري على قدم وساق ليتم هذا اللقاء بين روحين لكل روح قلب عاشق وعينين تستعدان للإرسال والاستقبال .. لماذا عاقبونا معه ؟! هو الذي طعن لرد اعتبار اهانة الشرطي له .. نحن وقفنا مذهولين .. جاءونا بعد أن أفرغوا كل أحقادهم في جسده .. كبلونا بالأيدي والأرجل ثم فعلوا بنا ما فعلوا به .. كان توقعي في غير محله .. نسيت أيها الغبي أنهم احتلال .. نعم لم يُغم عليّ في الوجبة الأولى ، أبقوا لدي رمق كمن لا يجيد ذبح ذبيحته فيبقيها تتأرجح بين العذاب والعذاب دون أن تلفظ أنفاسها .. جاء مدير السجن .. قلت له بعبرية واضحة : أن لا دخل لنا ولا علاقة لا من قريب ولا من بعيد .. لا يريد أن يسمع .
وهجم الزبانية يضربون بعصيهم ويركلون ببساطيرهم العسكريّة .. وعندما استحكمت العصي المكهربة في ظهورنا وانتشر ضجيج آلامها في أجسادنا.. خرج الزبد من أفواهنا ورأيت حال الجميع حيث صارت حالي .
هجم مديرهم وأخذ يضرب بنعله الحديدي أسفل ظهري .. بكل وضوح كان يريد ترك عاهة مستديمة .. ورأيت ضابطاً يطعن بقلمه أنحاء متعددة من الأجساد الملقاة تحت قدميه .. غبت عن وعيي عندما رأيت قلم هذا المجرم يخترق عين أحد الضحايا فتنطلق الدماء غزيرة منها لتصبغ الوجه وتخليه أحمر قانياً ..
وكانت تفصلني عنهم نوبات من الغيبوبة عندما كان يأتي فوج جديد من الزبانية فيمارسون أحقادهم فينا .. تلتقط عيناي صورة الشباب وهم يتجرعون الهوان والعذاب ثم ما ألبث وأن أتلقى وجبة جديدة فيغيب المشهد عني .. سحبونا جراً إلى حيث الزنازين .. كل إثنين في زنزانة عداي حيث أفردوا لي واحدة ليبالغوا في كرم الضيافة ..
تشكلت لجنة تحقيق لعمل ملفات إدانة قضائية للشبان الستة اللذين وقع عليهم العذاب الجماعي .. باءت كل محاولات إثبات مشاركتهم في التخطيط أو التنفيذ بالفشل .
· سنعيدكم للقسم ، أي تفكير برفع شكوى نحن جاهزون لعمل ملف متكامل ، فيه إثبات وشهود من الشرطة على أنكم شركاء في عملية الطعن ..
· ولكنا لسنا شركاء .. " رد وسيم "
· لستم شركاء الآن ولكن إن توجهتم للقضاء فأنتم خير من شارك ..
عدنا إلى القسم بعد أن ذهبت الزيارة وكل آمالها أدراج الرياح .. وعادت الأمهات والزوجات والأبناء بما يحملن من أخبار تزلزل الأركان وتخلخل الركب من مفاصلها وكأنهنّ في موكب جنائزي وقد خطفت الجنازة من بين أيديهن .. عدن بلا قلوبهن حيث بقيت هناك ترفرف في صحراء النقب وتلهج بالدعاء إلى رب السماوات أن يرحم تلك الآبار ومن هم خلف الجدران بما يسمى سجن النقب .
تفاجأنا بأن القسم خالي من سكانه وقد خرّت الخيام على الأرض صريعة دون حراك .. وكان واضحا أن القسم قد تعرض إلى عملية دهم قلب الحابل والنابل وتركته قاعاً صفصفاً .. أين ذهب الأسرى من القسم ؟!
بعد عدّة ساعات جاء الخبر مع عودة طلائعهم وقد أثخنتها الجراح لتشمل القسم .
طلبوا من سكان القسم البالغ مائة وعشرين الخروج عشرة عشرة .. يخضعونهم لتكبيل الأيدي والأرجل بداية ( وهم بالطبع لا يعلمون ما هي الحكاية ؟ ) ثم عندما تكدّس العدد كاملاً جاءتهم الزبانية .. الأسرى مكبلون غير قادرين على الحركة أو الدفاع عن أنفسهم بينما الفريق الآخر مدججً بكل أدوات القمع .. وصيف الصحراء يتميَّز من الغيظ ويرمي بأنفاسه الملتهبة كل من يدبّ على الأرض ..
بدأت ساعة الصفر وهجم فريق الذئاب والضباع على فريق البشر المصفَّد بالحديد والأغلال .. العصي ذات الكهرباء المتحركة والساكنة ، النعيق والصراخ وكل أشكال السب وفحش الكلام .. بعض الشباب وتحت وقع الألم اللاذع كانوا يردون على المسبات بمسبات مثلها .. لم يُجد الصراخ شيئاً .. وصلت عصّيهم وضربت كل ما يمكن أن تطاله أحقادهم .. الأسرى يُضربون دون أن يعلموا لماذا كل هذا الجنون ؟ لم يرتكبوا أي شئ من شأنه أن يستدعي كل هذا الإجرام ؟ سأل بعضهم فكانت العصي هي التي تجيب .. وعندما وقفوا أما هذا الجدار المنيع من القهر والبطش دون أي إجابة انطلقت حناجرهم بشكل عفوي بالتكبير .. مائة وعشرين أسيراً بأعلى صوتهم : الله أكبر .. الكلمة التي يعرفها الصهاينة جيداً .. كلمة الثورة والغضب وتفجير الظلم وزلزلة أركانه .. سمعت الأقسام من بُعد التكبير فأيقنت أن أمراً جللاً يحدث في إحدى الأقسام فانطلقت الحناجر من الأقسام بالتكبير .. ثلاثة آلاف أسير قد قُسِّموا إلى ما يزيد عن عشرين قسماً في أجنحة سجن النقب كلها بدأت تكبر وبدى للسجّان أن الأرض أخذت تمور موراً من تحت أقدامه .. توجَّسوا خيفة .. أمر مديرهم فريق الضباع الجبانة بالتراجع عن فريستهم المكبّلة .. أعادوهم لقسمهم كما أخرجوهم عشرة عشرة ..
اكتمل نصاب القسم حيث عاد ساكنوه .. وكانوا جميعاً ومع أنقاض الخيام والأثاث المبثوث كالعصف المأكول .. كست الوجوه المذلة والهوان وتقطعت قسماتها غيظاً ولاذوا في وادٍ سحيق من الصمت الذي خلا من الكرامة والروح الإنسانية الحّرة .. شعروا بالمهانة حتى النخاع خاصة عندما تناهت إلى مسامعهم الأسباب التي وقفت خلف كل هذا القمع ..
هجع القسم ليلاً دون أي حراك من عمق الألم والغيظ والضنك .. تحرّكوا مع آذان الجر للوضوء والصلاة فوجدوا المياه مقطوعة .. صلّوا تيمّماً ثم ما لبثوا وأن جاءهم غراب ينعق .. وقف حيث مربعهم الأمني الفاصل بين الباب الخارج وباب القسم .. نادى على قائمة من الأسماء بلغت ستين أسيراً ليكونوا جاهزين للنقل بعد خمس دقائق .. إذن هذه هي الخطوة التالية في القمع .. تماماً كنكبة ثماني وأربعين .. بعد المعركة والتدمير تأتي عملية التهجير والشتات ..
لم يبقوا شيئاً من الأدوات التي تجعل الحياة صالحة للحياة .. أدوات الطهي سُحبت من المطبخ وكل الأدوات الكهربائية .. الكتب بعثرت وصور الذكريات أهينت .. مواد الكنتين سحبت والملابس خُربشت .. ومن المضحك أنهم أتوا بالطعام دون طهي بعد أن سحبوا أدواته .. الباذنجان والبطاطا والبصل والفول وكل حتى تشبع ..
في الأيام التالية توالت النقليات وتعدّدت التفتيشات حيث الدهم مع العربدة والتحقير والويل لمن يبدو عليه أية علامة من علامات الغضب أو التفكير بالردّ ، وكانت السياسة واضحة أنها تحت عنوان : اجعلوهم عبرة لمن لم يعتبر أو لا يعتبر .
بقي في القسم أربعة عشر حيث اجتمعوا وقرروا الموت .. إذ قال أحدهم : ما فضل العيش دون كرامة وبكل هذه المهانة .. تحرّك من كان أنشط القسم وخادمه سابقاً وقبل أن يدمّر .. طلب الإدارة .. بعد عدة ساعات جاءه ضابط ينظر باستعلاء ويتكلم من مناخيره ..
- ماذا تريدون .. ما زلتم أحياء ؟!
- باختصار ، نحن بكلمة واحدة نريد أن نموت ؟ أطلب من هذا الشرطي المسلح أن يطلق النار ..
- لو كان الأمر بيدي لفعلت دون ترددّ .. ولماذا أتردٌّد .. أنتم تستحقون الموت منذ زمن بعيد ..
- ألم تتأكدوا بأن لا علاقة لنا بالمشكلة ؟! لماذا كل هذا العذاب ؟
- تريد أن تعرف لماذا ؟! أنا لا يهمني سوى الأمن ؟ لماذا نضع الحواجز ونمنع الناس من التنقل بسهولة بين المدن الفلسطينية ؟! لماذا تلد الحوامل على الحاجز ؟! لماذا نمنع التجول على آلاف السكان ؟! آلا تعرف : إنه الأمن .. صحيح فيه تضييق على الناس ولكنه وقاية لشعبنا من عملياتكم الإرهابية .. ألم تسمع درهم وقاية خير من قنطار علاج .. قناطير من العلاج عندنا لا تساوي قطرة دم يهودي ... نحن على استعداد لمنع التجول في العالم العربي كله من أجل منع لحظة ألم لأي مواطن من مواطنينا ...
- وآلامنا نحن ؟!
- لا حساب لها في أمننا .. أتدرك هذا ؟!
- نحن في هذا القسم ماذا فعلنا لكم ..
- أنتم ؟! هذا نصيبكم أن يخرج فدائي من عندكم ؟ أنتم القصة والعبرة التي ستصبح على كل لسان وبالتالي نمنع تكرار هذا الإجرام .
- إذن أكملوا القصة حتى النهاية ... نريد أن نموت ... أطلقوا علينا النار ...
- لا .. ليس بعد ...
" بعد أربعة عشر يوماً من العيش تحت الأنقاض وبعد أن أصبحنا قطعاً من الخردة البشرية في مهب ريح سموم النقب ... مع بداية صيف ملتهب وعندما أعلن حزيران حميان وطيسه بعث المدير إلى الذي كان يوماً دليلاً سياحيا ًلهذا القسم ...
ذهبت أنا وسيم بعد أن هربت مني وسامتي .. تدافع كيسه الجلدي بما فيه من عظام تقرقع ورأس ينتصب أعلاها ... وجد المدير بوجهه البدين وكرشه المتطاول والمزاحم للطاولة المديدة التي تجلس منبطحة أمامه ...ابتسم ابتسامة ذئب مفترس قد انتهى للتو من التهام فريستة .. قال والخبث يقطر من حروف كلماته...
- مبروك يا وسيم .. انتهت أيام العقاب ...سنعيد لكم كل شيء...
عليكم أولاً إعادة بناء الخيام ... سأزودكم بكل المستلزمات ... وأعيدوها إلى سابق عهدها .. سيأتوكم بعد ثلاثة أيام ضيوف جدد من السجون ...
- أعندك طلبات أخرى .. وفرَّت عليك الكلام صحيح ...
- البلاطات الكهربائية ، التلفاز ، المراوح ...
- حسناً ... بعد انتهائكم من البناء سيأتيكم كل شيء .. ألم أقل لك أن العقاب قد انتهى ..
" مضت ثلاثة أيام والأربعة عشر يعملون ليل نهار ... صبيحة اليوم الثالث لا يصدق أحد أن الأنقاض والهياكل الخشبية والأقمشة الممزقة قد عادت إلى سابق عهدها .. ست خيام مرتبة و مهندسة على أفضل وجه ... وقفت بكبرياء وتم تزيينها من الداخل وتنجيد سقفها وترتيب أفنيتها ... أصبحت كفيلا مترامية الأطراف تتوسطها ساحة نظيفة .. كنا فريقا ً متكاملاً يعمل بصمت ويعيد للبوصلة توازنها ... إرادة الحياة والعيش بكرامة حرَرت طاقات جبارة صنعت من المستحيل سكناً صالحاً للحياة بل جميلاً وفيه من المناظر التي تريح البصر وتمتع الفؤاد ...
صبيحة اليوم الرابع وبعد أن تنفس الأربعة عشر مهندساً الصعداء لانتهاء العمل جاءهم الخبر ... وقف غرابهم ينعق ...أنتم حضروا أنفسكم ... منقولين إلى سجن شطة ... من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ...
كانت صدمة ساحقة ... صرخنا ...هذا مرفوض ...لن ننتقل إلا إذا كان ذلك على جثثنا
أين ذهبت وعود المدير ؟!
انتهت الخمس دقائق ... دخلت قوات البوسطة مدججة بأسلحتها وأحقادها ... تبادلت عيون الأربعة عشر الرسائل بسرعة ... أنهم يبحثون عن فرصة لإشباع ساديتهم ... لا تعطوهم هذه الفرصة ...قلنا معا نحن جاهزون للنقل هذا سجن لا يؤسف عليه ... هيا بنا يا شباب ...
وأسدل الستار عن نهاية مأساوية لقاطني هذا القسم كي تبدأ لكل منهم قصة جديدة في السجن الذي نقل إليه لأن كل منهم يحمل ملفه تقريراً يشي بأنه مشاغب ... الكائنات المتوحشة في السجون المستقبلة تجيد ترجمة هذه التقارير بصورة جيدة ... بداية الطريق وجبة استقبال شهية لهذه الكائنات السادية التي تنتظر فرصتها للتعبير عن مواهبها المفضلة .
وليد ابراهيم الهودلي
كان أحد ستة من الأسرى استفردوا به ما بين قسمهم وغرفة الزيارة ، وكانت تنتظرهم أمهاتهم بعد أن قطعت مئات الكيلومترات لتصل عمق صحراء النقب حيث يرمي بشرره ولهيبه .. كانت الأمهات ينتظرن على بوابة جهنم النقب لرؤية فلذات أكبادهن وبريق العيون الذي يُبرّد لهيب القلوب .. عدن الأمهات على وقع أخبار قمع السجّان لأبنائهن .. بعد انتشار الجند .. لا بد وأنهن الآن يتقلبن على جمر العذاب وكل أشكال القهر والترقب لسماع أخبار مريعة تتهاوى أمامها أرواحهن كما تتقصف الأشجار أمام الأعاصير العاتية .. أما العصي التي عزفت على عظامي أنا فقد كانت هينة لينة أمام تلك العصا الكهربائية التي كانت تتركني أخرج كل ما في صدري من روح .. وكأن رئتي تُلفظ قطعة قطعة من بين أسناني .. أغيب وتدور الوجوه الغاشمة من حولي ثم ما ألبث وأن يستحضروا روحي من جديد .. ستة خرجوا معه من القسم .. كانوا بوجوه مستبشرة .. يلبس كل منهم أجمل ما لديه ، جباه لامعة تعلوها كسوة الرأس وقد مسَّ من الزيت والطيب ما جعلها تكاد تشرق وتضيء .. القلوب تترنم وتستعد لرؤية الأحبّة .. وأنت يا وسيم ... " وسيم الصدر " ابن أم الشهيد الصامدة المثابرة .. جاءته من مخيم عسكر .. من حيث قهر اللجوء وأسن عيش الكفاف جاءت لتقهر الصحراء وتمخر عبابها .. منعوها من الزيارة ثلاث سنوات حتى إذا ظفرت بها بعد صراع طويل على أعتاب الصليب الأحمر كان هذا الخبر العاجل ..
كان الفاصل الإعلامي بينها وبين ولدها مسافة أمتار وعدة دقائق .. وكانت الأمور تجري على قدم وساق ليتم هذا اللقاء بين روحين لكل روح قلب عاشق وعينين تستعدان للإرسال والاستقبال .. لماذا عاقبونا معه ؟! هو الذي طعن لرد اعتبار اهانة الشرطي له .. نحن وقفنا مذهولين .. جاءونا بعد أن أفرغوا كل أحقادهم في جسده .. كبلونا بالأيدي والأرجل ثم فعلوا بنا ما فعلوا به .. كان توقعي في غير محله .. نسيت أيها الغبي أنهم احتلال .. نعم لم يُغم عليّ في الوجبة الأولى ، أبقوا لدي رمق كمن لا يجيد ذبح ذبيحته فيبقيها تتأرجح بين العذاب والعذاب دون أن تلفظ أنفاسها .. جاء مدير السجن .. قلت له بعبرية واضحة : أن لا دخل لنا ولا علاقة لا من قريب ولا من بعيد .. لا يريد أن يسمع .
وهجم الزبانية يضربون بعصيهم ويركلون ببساطيرهم العسكريّة .. وعندما استحكمت العصي المكهربة في ظهورنا وانتشر ضجيج آلامها في أجسادنا.. خرج الزبد من أفواهنا ورأيت حال الجميع حيث صارت حالي .
هجم مديرهم وأخذ يضرب بنعله الحديدي أسفل ظهري .. بكل وضوح كان يريد ترك عاهة مستديمة .. ورأيت ضابطاً يطعن بقلمه أنحاء متعددة من الأجساد الملقاة تحت قدميه .. غبت عن وعيي عندما رأيت قلم هذا المجرم يخترق عين أحد الضحايا فتنطلق الدماء غزيرة منها لتصبغ الوجه وتخليه أحمر قانياً ..
وكانت تفصلني عنهم نوبات من الغيبوبة عندما كان يأتي فوج جديد من الزبانية فيمارسون أحقادهم فينا .. تلتقط عيناي صورة الشباب وهم يتجرعون الهوان والعذاب ثم ما ألبث وأن أتلقى وجبة جديدة فيغيب المشهد عني .. سحبونا جراً إلى حيث الزنازين .. كل إثنين في زنزانة عداي حيث أفردوا لي واحدة ليبالغوا في كرم الضيافة ..
تشكلت لجنة تحقيق لعمل ملفات إدانة قضائية للشبان الستة اللذين وقع عليهم العذاب الجماعي .. باءت كل محاولات إثبات مشاركتهم في التخطيط أو التنفيذ بالفشل .
· سنعيدكم للقسم ، أي تفكير برفع شكوى نحن جاهزون لعمل ملف متكامل ، فيه إثبات وشهود من الشرطة على أنكم شركاء في عملية الطعن ..
· ولكنا لسنا شركاء .. " رد وسيم "
· لستم شركاء الآن ولكن إن توجهتم للقضاء فأنتم خير من شارك ..
عدنا إلى القسم بعد أن ذهبت الزيارة وكل آمالها أدراج الرياح .. وعادت الأمهات والزوجات والأبناء بما يحملن من أخبار تزلزل الأركان وتخلخل الركب من مفاصلها وكأنهنّ في موكب جنائزي وقد خطفت الجنازة من بين أيديهن .. عدن بلا قلوبهن حيث بقيت هناك ترفرف في صحراء النقب وتلهج بالدعاء إلى رب السماوات أن يرحم تلك الآبار ومن هم خلف الجدران بما يسمى سجن النقب .
تفاجأنا بأن القسم خالي من سكانه وقد خرّت الخيام على الأرض صريعة دون حراك .. وكان واضحا أن القسم قد تعرض إلى عملية دهم قلب الحابل والنابل وتركته قاعاً صفصفاً .. أين ذهب الأسرى من القسم ؟!
بعد عدّة ساعات جاء الخبر مع عودة طلائعهم وقد أثخنتها الجراح لتشمل القسم .
طلبوا من سكان القسم البالغ مائة وعشرين الخروج عشرة عشرة .. يخضعونهم لتكبيل الأيدي والأرجل بداية ( وهم بالطبع لا يعلمون ما هي الحكاية ؟ ) ثم عندما تكدّس العدد كاملاً جاءتهم الزبانية .. الأسرى مكبلون غير قادرين على الحركة أو الدفاع عن أنفسهم بينما الفريق الآخر مدججً بكل أدوات القمع .. وصيف الصحراء يتميَّز من الغيظ ويرمي بأنفاسه الملتهبة كل من يدبّ على الأرض ..
بدأت ساعة الصفر وهجم فريق الذئاب والضباع على فريق البشر المصفَّد بالحديد والأغلال .. العصي ذات الكهرباء المتحركة والساكنة ، النعيق والصراخ وكل أشكال السب وفحش الكلام .. بعض الشباب وتحت وقع الألم اللاذع كانوا يردون على المسبات بمسبات مثلها .. لم يُجد الصراخ شيئاً .. وصلت عصّيهم وضربت كل ما يمكن أن تطاله أحقادهم .. الأسرى يُضربون دون أن يعلموا لماذا كل هذا الجنون ؟ لم يرتكبوا أي شئ من شأنه أن يستدعي كل هذا الإجرام ؟ سأل بعضهم فكانت العصي هي التي تجيب .. وعندما وقفوا أما هذا الجدار المنيع من القهر والبطش دون أي إجابة انطلقت حناجرهم بشكل عفوي بالتكبير .. مائة وعشرين أسيراً بأعلى صوتهم : الله أكبر .. الكلمة التي يعرفها الصهاينة جيداً .. كلمة الثورة والغضب وتفجير الظلم وزلزلة أركانه .. سمعت الأقسام من بُعد التكبير فأيقنت أن أمراً جللاً يحدث في إحدى الأقسام فانطلقت الحناجر من الأقسام بالتكبير .. ثلاثة آلاف أسير قد قُسِّموا إلى ما يزيد عن عشرين قسماً في أجنحة سجن النقب كلها بدأت تكبر وبدى للسجّان أن الأرض أخذت تمور موراً من تحت أقدامه .. توجَّسوا خيفة .. أمر مديرهم فريق الضباع الجبانة بالتراجع عن فريستهم المكبّلة .. أعادوهم لقسمهم كما أخرجوهم عشرة عشرة ..
اكتمل نصاب القسم حيث عاد ساكنوه .. وكانوا جميعاً ومع أنقاض الخيام والأثاث المبثوث كالعصف المأكول .. كست الوجوه المذلة والهوان وتقطعت قسماتها غيظاً ولاذوا في وادٍ سحيق من الصمت الذي خلا من الكرامة والروح الإنسانية الحّرة .. شعروا بالمهانة حتى النخاع خاصة عندما تناهت إلى مسامعهم الأسباب التي وقفت خلف كل هذا القمع ..
هجع القسم ليلاً دون أي حراك من عمق الألم والغيظ والضنك .. تحرّكوا مع آذان الجر للوضوء والصلاة فوجدوا المياه مقطوعة .. صلّوا تيمّماً ثم ما لبثوا وأن جاءهم غراب ينعق .. وقف حيث مربعهم الأمني الفاصل بين الباب الخارج وباب القسم .. نادى على قائمة من الأسماء بلغت ستين أسيراً ليكونوا جاهزين للنقل بعد خمس دقائق .. إذن هذه هي الخطوة التالية في القمع .. تماماً كنكبة ثماني وأربعين .. بعد المعركة والتدمير تأتي عملية التهجير والشتات ..
لم يبقوا شيئاً من الأدوات التي تجعل الحياة صالحة للحياة .. أدوات الطهي سُحبت من المطبخ وكل الأدوات الكهربائية .. الكتب بعثرت وصور الذكريات أهينت .. مواد الكنتين سحبت والملابس خُربشت .. ومن المضحك أنهم أتوا بالطعام دون طهي بعد أن سحبوا أدواته .. الباذنجان والبطاطا والبصل والفول وكل حتى تشبع ..
في الأيام التالية توالت النقليات وتعدّدت التفتيشات حيث الدهم مع العربدة والتحقير والويل لمن يبدو عليه أية علامة من علامات الغضب أو التفكير بالردّ ، وكانت السياسة واضحة أنها تحت عنوان : اجعلوهم عبرة لمن لم يعتبر أو لا يعتبر .
بقي في القسم أربعة عشر حيث اجتمعوا وقرروا الموت .. إذ قال أحدهم : ما فضل العيش دون كرامة وبكل هذه المهانة .. تحرّك من كان أنشط القسم وخادمه سابقاً وقبل أن يدمّر .. طلب الإدارة .. بعد عدة ساعات جاءه ضابط ينظر باستعلاء ويتكلم من مناخيره ..
- ماذا تريدون .. ما زلتم أحياء ؟!
- باختصار ، نحن بكلمة واحدة نريد أن نموت ؟ أطلب من هذا الشرطي المسلح أن يطلق النار ..
- لو كان الأمر بيدي لفعلت دون ترددّ .. ولماذا أتردٌّد .. أنتم تستحقون الموت منذ زمن بعيد ..
- ألم تتأكدوا بأن لا علاقة لنا بالمشكلة ؟! لماذا كل هذا العذاب ؟
- تريد أن تعرف لماذا ؟! أنا لا يهمني سوى الأمن ؟ لماذا نضع الحواجز ونمنع الناس من التنقل بسهولة بين المدن الفلسطينية ؟! لماذا تلد الحوامل على الحاجز ؟! لماذا نمنع التجول على آلاف السكان ؟! آلا تعرف : إنه الأمن .. صحيح فيه تضييق على الناس ولكنه وقاية لشعبنا من عملياتكم الإرهابية .. ألم تسمع درهم وقاية خير من قنطار علاج .. قناطير من العلاج عندنا لا تساوي قطرة دم يهودي ... نحن على استعداد لمنع التجول في العالم العربي كله من أجل منع لحظة ألم لأي مواطن من مواطنينا ...
- وآلامنا نحن ؟!
- لا حساب لها في أمننا .. أتدرك هذا ؟!
- نحن في هذا القسم ماذا فعلنا لكم ..
- أنتم ؟! هذا نصيبكم أن يخرج فدائي من عندكم ؟ أنتم القصة والعبرة التي ستصبح على كل لسان وبالتالي نمنع تكرار هذا الإجرام .
- إذن أكملوا القصة حتى النهاية ... نريد أن نموت ... أطلقوا علينا النار ...
- لا .. ليس بعد ...
" بعد أربعة عشر يوماً من العيش تحت الأنقاض وبعد أن أصبحنا قطعاً من الخردة البشرية في مهب ريح سموم النقب ... مع بداية صيف ملتهب وعندما أعلن حزيران حميان وطيسه بعث المدير إلى الذي كان يوماً دليلاً سياحيا ًلهذا القسم ...
ذهبت أنا وسيم بعد أن هربت مني وسامتي .. تدافع كيسه الجلدي بما فيه من عظام تقرقع ورأس ينتصب أعلاها ... وجد المدير بوجهه البدين وكرشه المتطاول والمزاحم للطاولة المديدة التي تجلس منبطحة أمامه ...ابتسم ابتسامة ذئب مفترس قد انتهى للتو من التهام فريستة .. قال والخبث يقطر من حروف كلماته...
- مبروك يا وسيم .. انتهت أيام العقاب ...سنعيد لكم كل شيء...
عليكم أولاً إعادة بناء الخيام ... سأزودكم بكل المستلزمات ... وأعيدوها إلى سابق عهدها .. سيأتوكم بعد ثلاثة أيام ضيوف جدد من السجون ...
- أعندك طلبات أخرى .. وفرَّت عليك الكلام صحيح ...
- البلاطات الكهربائية ، التلفاز ، المراوح ...
- حسناً ... بعد انتهائكم من البناء سيأتيكم كل شيء .. ألم أقل لك أن العقاب قد انتهى ..
" مضت ثلاثة أيام والأربعة عشر يعملون ليل نهار ... صبيحة اليوم الثالث لا يصدق أحد أن الأنقاض والهياكل الخشبية والأقمشة الممزقة قد عادت إلى سابق عهدها .. ست خيام مرتبة و مهندسة على أفضل وجه ... وقفت بكبرياء وتم تزيينها من الداخل وتنجيد سقفها وترتيب أفنيتها ... أصبحت كفيلا مترامية الأطراف تتوسطها ساحة نظيفة .. كنا فريقا ً متكاملاً يعمل بصمت ويعيد للبوصلة توازنها ... إرادة الحياة والعيش بكرامة حرَرت طاقات جبارة صنعت من المستحيل سكناً صالحاً للحياة بل جميلاً وفيه من المناظر التي تريح البصر وتمتع الفؤاد ...
صبيحة اليوم الرابع وبعد أن تنفس الأربعة عشر مهندساً الصعداء لانتهاء العمل جاءهم الخبر ... وقف غرابهم ينعق ...أنتم حضروا أنفسكم ... منقولين إلى سجن شطة ... من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال ...
كانت صدمة ساحقة ... صرخنا ...هذا مرفوض ...لن ننتقل إلا إذا كان ذلك على جثثنا
أين ذهبت وعود المدير ؟!
انتهت الخمس دقائق ... دخلت قوات البوسطة مدججة بأسلحتها وأحقادها ... تبادلت عيون الأربعة عشر الرسائل بسرعة ... أنهم يبحثون عن فرصة لإشباع ساديتهم ... لا تعطوهم هذه الفرصة ...قلنا معا نحن جاهزون للنقل هذا سجن لا يؤسف عليه ... هيا بنا يا شباب ...
وأسدل الستار عن نهاية مأساوية لقاطني هذا القسم كي تبدأ لكل منهم قصة جديدة في السجن الذي نقل إليه لأن كل منهم يحمل ملفه تقريراً يشي بأنه مشاغب ... الكائنات المتوحشة في السجون المستقبلة تجيد ترجمة هذه التقارير بصورة جيدة ... بداية الطريق وجبة استقبال شهية لهذه الكائنات السادية التي تنتظر فرصتها للتعبير عن مواهبها المفضلة .
وليد ابراهيم الهودلي
Войдите на Facebook
Войдите на Facebook, чтобы общаться с друзьями, родственниками и знакомыми.
www.facebook.com