منذر فالح الغزالي - جدلية الشكل والمضمون في قصة (صفقة) للكاتب بشير حمد.

صفقة، قصة قصيرة

زحف نحو النّافذة واستند بكلتا يديه على حافّتها وبعد جهدٍ رفع جذعه الأعلى ليستقرّ على كرسيّه أطلّ برأسه على السّاحة الّتي تتحلّق حولها البيوت كما تحيط إسوارةٌ بمعصم.
شعر بانقباضٍ في صدره فمدّ رأسه وفتح فمه بحثاً عن نسمة هواءٍ في هذه اللّيلة القائظة، لا يفصله عن السّاحة سوى هذا الشّريط الصّدئ وماسورتان من الحديد تنتصبان أمامه تستعملان كحمايةٍ للنّافذة من الخارج. كانت السّاحة ملعب صباه، ولكنّها لم تعد كذلك الآن ذلك زمانٌ ولّى ولن يعود.
وحدها ذكرى الصّفقة الأولى تعود كلّما حاول نسيانها...
اجتمع الأولاد في السّاحة للّعب كما يفعلون كلّ يوم بينهم ذلك الولد الخبيث نزار نظر إليّ بعينين ماكرتين وقال: أتحملني من هنا إلى باب بيتنا وأعطيك قرشاً! وضرب رجله بالأرض وهو يقول ثانيةً: من هنا فانتبه الأولاد للجزمة الجديدة الّتي كان يحتذيها.
لا أعرف بالضّبط لماذا خصّني بهذه الصّفقة.
أ لأنّني كنت قويّ الجسم؟
أ لأنّني كنت فقيراً؟
لمعت صورة القرش الّذي كان نزار يقلّبه بين أصابع يده في عينيّ.....
قرش يعني أن تشتري الحلوى اللّذيذة الّتي تشتهيها دوماً... أن تملأ جيوبك بالفستق الحلبيّ المملّح من دكّان أبي خليل لقد فتحت صورته ثقوباً في مخيّلتي يصعب ردمها.
لم يطل الصّمت طويلاً فعيون الأولاد تترقّب الجواب انتابني شعورٌ بالكراهية لهذا الوغد فصعد الدّم إلى رأسي كنت أرغب أن أرفسه كما يرفس بغل صاحبه بعد طول امتهان ولكنّ صورة القرش غلبتني فانتزعته من يده وأدرت ظهري وحنيته قليلاً: مددت رأسي إلى الأمام قفز نزارٌ فوقه وغرز أظافره الطّويلة في رقبي وسرت به نحو بيتهم وسط تصفيق الأولاد.
شعر وكأنّ الأظافر ما زالت مغروسة هنا في رقبته إنّها كالوشم لن تفارقه أبدا.

تلك أيام مضت وهذه هي الساحة الآن ملعبٌ للجرذان التي تتقافز فوق مستوعبات القمامة المركونة أمام البيوت، وعمد النور الذي يلقي ضوءه الأحمر على الساحة ما زال منتصباً مَكانه إنه الشاهد الوحيد على ما حدث قبل ثلاثين عاما. كبرت وكبر الأولاد وتفرقنا ولم أعد أرى نزاراً فقد رحل مع أسرته إلى بيتهم الجديد خارج الحارة كما عرفت فيما بعد. وقد كانت فرصتي لنسيان تفاصيل تلك الصفقة. حتى جاء يوم انفتح باب البيت كان الشرطي واقفا يحمل أوراقا وخلفه رجل يبدو عليه الوقار يلبس بدلة أنيقة وربطة عنق ملونة، استقبلهما أبي لم افهم تفاصيل الحديث، ولكنّ أبي اصطحبني في اليوم التالي خارج الحارة جلست أمام الكاميرا وكانت رقبتي الطويلة أبرز شيء فيها ابتسم المصور ابتسامة بلهاء وهو يقلب عينيه بيني وبين الصورة، كانت مجانية التعليم تفرض على أبي أن يدخلني المدرسة، سنة واحدة في المدرسة في اليوم الأخير.

المعلم: سهيل تعال اقترب، اخفض رأسك.
امتثلت لما قال فكرر قائلا مُدّ رقبتك أكثر.
وعندما صارت مستوية أمام عينيه ناولني صفعتة وقال وهو يناولني الشهادة: حمار، في طريق العودة كان صدى الصفعة يرنُّ في أذني.
في البيت قذف أبي بقطعة الكرتون التي يسمونها شهادة ناولني صفعة جديدة وقال بحزم: من الغد تذهب للعمل في الطاحونة إنهم بحاجة لمن يساعد في إدخال أشولة الحبوب من على ظهور الحمير والبغال إلى المطحنة، نظر إليّ وركز نظره في رقبتي فقال وقد زال عنه الغضب: هذا عمل يناسبك، كنت في المطحنة ملايين ملايين حبات القمح تنزل في الوعاء المعدني الذي يشبه محقانا كبيراً وتخرج طحيناً ليناً.
لم يكن باستطاعته رفع ظهره أكثر فشبك أصابعه وأراح ذقنه عليها وعيناه نصف مغمضتين بجانب النافذة ربط عربته التي يبيع عليها بسلسلة حديدية مع كرسي الخيزران لقد صنع جوانبها من بقايا اللافتات الخشبية وألبسها من قماش كانت تحمل شعارات وطنية في ذلك اليوم خرجنا لمحطة القطار كان الوقت باكراً.
كانت هناك مسيرة تضامنية لا أذكر مع من!
وعندما وصلنا المدينة تجمعنا وزع علينا المشرفون اللافتات وقف أحدهم ينظر إلينا
- ما اسمك يا رفيق؟
كانت كلمة رفيق جديدة ولها وقع في أذني.
- سهيل
وضع يده برفق على كتفي.
- استدر.
فاستدرت
قال حسنا وجاء بشاب رقيق وقال:
- أنت ستحمله علي رقبتك وهو سيحمل اللافتة وستهتفان معا أردت أن أرفض َلكنني خفت ولم أستطع تفسير خوفي.
تقوّس ظهري أكثر ولم أعد أستطيع رفع رأسي فصرت أسير كمن يبحث عن شيء أضاعه في الأرض ولا يجده.

تركت العمل بالمطحنة بعد أن أغلقت فقد دخلت المطحنة الحديثة وصار الناس يحصلون على الخبز من الأفران، طرقت أبواب الرفاق للحصول على وظيفة وقفت أمام الرفيق أبي - عماد
- اسمك؟
- سهيل
- الأب؟
- عبد ربه
- الأم؟
- مستورة
- سنة الميلاد؟
- 1963

كتب المعلومات على ورقة رفع سماعة الهاتف تحدث وضحك كثيراً أعاد قراءة البيانات ووضع السماعة وقال:
- غدا تقدم أوراقك لمديرية التربية لتباشر عملك كمستخدم في المدرسة القريبة من بيتك
بدأت بشائر الصباح تطلع على الساحة وها هو سعال أبي نضال يتعالى مع أول سيجارة يدخنها على الريق وهو ذاهب إلى سوق العتالين، عند السابعة سينسل الأولاد من البيوت حاملين حقائبهم للمدرسة.
شعر بأن رأسه خفيف عنده رغبة بالطيران سنوات وهذه الأرض تشده إليها كأنه مربوط إليها بسلاسل حديدية لا تختلف عن السلاسل التي تريط عربته المركونة بجانب النافذة، كانت نافذة البيت مفتوحة على الغرب ويحتاج لوقت طويل حتى تصله الشمس ليدفئ عظامه المتخشبة.


***


القراءة، جدلية الشكل والمضمون
مقدمة

الواقعية الجديدة أو الواقعية الاشتراكية مذهبٌ في الادب والنقد الأدبي، يعتبر تطوراً للواقعية الطبيعية والواقعية الرومانسية التي سادت في القرن التاسع عشر؛ وقد استلهم نقّاد الواقعية الجديدة من النظرية الماركسية في الجدلية التاريخية باعتبارها النظرية التي تعبر عن تطور المنظمات الاجتماعية عبر التاريخ، خواصّ ومصطلحاتٍ نقديةً، من هذه الخصائص نجد خاصّة (جدل الشكل والمضمون).
وتجد هذه الخاصة مبرر وجودها في هذا النص لما تملك اللغة من ترابط قوي مع المضمون من حيث اختيار الكاتب لعناصر السرد في المكان والزمان والشخصية والعنوان.
وستكون السطور القادمة تحليلا لهذا الافتراض من خلال تحليل اللغة في العناصر المذكورة في النص نفسه.

أولا، المكان القصصي
ابتدأ الكاتب قصته بجملة وصفية، وصف من خلالها حال شخصية القصة والمكان والزمان في عبارة مدروسة جيداً:

"زحف نحو النافذة، واستند بكلتا يديه على حافتها، وبعد جهد رفع جذعه نحو الأعلى ليستقر على كرسيه، أطلّ برأسه على الساحة التي تتحلق حولها البيوت كما تحيط إسوارة بمعصم"

ظهر المكان في هذه الافتتاحية بعنصرين اثنين: النافذة (وبالتالي الغرفة)، والساحة، وكلاهما مكانان مغلقان يوحيان بالحصار والضيق، أشبه بالسجن؛ فالنافذة من أكثر الرموز المستخدمة في الأدب التي تشير إلى السجن والتوق إلى الحرية... أما صورة الساحة، رغم ما تشير إليه عادةً من الانفتاح والحرية، فكان وصفها في هذه الافتتاحية يوحي بالحصار والضيق أيضاً.
هذه الافتتاحية ستحدّد لغة النص، وسترسم هدف الكاتب والنص معاً، سيما إذا اتّبعنا تصوير الساحة في تركيب لغويٍّ تالٍ لا يبعد كثيراً عن سابقه، حين يصف الكاتب الساحة: "تلك أيام مضت وهذه هي الساحة الآن ملعبٌ للجرذان التي تتقافز فوق مستوعبات القمامة المركونة أمام البيوت"
هذا حال البطل في افتتاحية القصة، في زمنه الحاضر، زمن الشيخوخة والتعب والمرض، المكان في القصة محدود بثلاثة أو أربعة أمكنة، الساحة والغرفة هما المكانان الأكثر رمزية والأكثر إيحاء، واستخداماً وظيفياً من قبل الكاتب.
الساحة يتغيّر حالها، وصفها بتغير الزمن القصصي، مثلما تتغير طبيعة وأوصاف شخصيّة القصّة الرئيسيّة بين الفتوّة والشباب والكهولة.
الساحة في طفولة البطل كانت واسعةً، منفتحةً بلا حدود، ملعبَ الطفولة، وساحةَ صراعٍ خفيّ بين طفلين يمثّلان طبقتين: الطفل بطل القصة، والذي عرفنا بأن اسمه سهيل، والطفل الآخر الذي أخبرنا الراوي عنه بأنه "الولد الخبيث نزار"، بما يحمل كلٌّ منهما من إشارة طبقيّة مجتمعيّة... وهنا حيث ابتدأت الصفقة، بخضوع طفلٍ لطفل/ طبقة لطبقة، بقرارٍ (إراديٍ)، تحت ضغط الفقر، وإغراء القرش... "قرش يعني أن تشتري الحلوى اللّذيذة الّتي تشتهيها دوماً"
الساحة الأخرى التي تحضر بشكل مضمر هي ساحة المدينة، حيث "كانت هناك مسيرة تضامنية لا أذكر مع من!،" كما يروي بطل القصة، في توريةٍ ذكيّةٍ تشير إلى كثرة المسيرات في تلك المرحلة، لدرجة أنه نسي مع من كانت تلك المسيرة التي يحدّثنا عنها. هنا كانت الصفقة الكبرى، والأخطر.. صفقة يكون فيها في الدرك الأسفل وفوقه يركب شخص آخر، دون حتى إغراء المال، أو العوز؛ إنه خداع الشعار، وكلمة رفيق التي خضعت تحت بريقها، ردحاً من الزمن، شعوب عريقة في التاريخ، ايماناً في البداية، ثم خوفاً وخنوعاً.
"الساحة الآن ملعبٌ للجرذان التي تتقافز فوق مستوعبات القمامة المركونة أمام البيوت"، متّسقة مع حال الشخصية، والمآل الذي آلت إليه بعد زمن القوّة والفتوّة.

ثانياً: الزمان القصصيّ
للزمان، كما للمكان دلالته ودوره الوظيفي في هذا النص.
فرغم أن الراوي يصف الزمان القصصي، ليشير إلى زمن السرد, وموقع اللحظة السردية في مجمل الحدث القصصي، إلا أن الزمن يبدو كأنه تأريخاً لمجتمعٍ كامل، إلى جانب كونه تأريخاً لمراحل عمر شخصيّة القصة.
ووقد اختار الكاتب أن يبدأ سرده من اللحظة الأخيرة في أحداث قصته، أو قبيل الأخيرة بلحيظات، كاشفاً لنا مآلات القصة، قبل أن يعود بالسرد إلى المراحل التي صنعت هذا المآل.
زمن القصة نكوصيّ، تراجعي، يبدأ من اللحظة الراهنة ليعود بنا الراوي دفعةً واحدةً إلى بداية القصة، إلى زمن الطفولة وبداية الصفقة، ثمّ يصعد بالزمن بشكلٍ خطّيٍّ مقسِّماً السرد إلى أزمنةٍ جزئيّةٍ متدرّجةٍ من حيث تطورها المساوق لتطوّر الحدث، فيرصد مفاصلَ زمنيّةً مكوِّنةً للحدث؛ حين ترك المدرسة، فتشكّل وضعه العلميّ والمهنيّ والاجتماعيّ، الذي أصبح، بدوره، أساساً لحدثٍ آخر مفصليٍّ، حين طأطأ رأسه للمرة الثالثة، لكنْ لا ليحمل طفلاً مقابل قرشٍ، أو ليحمل أشولة القمح في المطحنة ليكسب رزقه ورزق عائلته، لكن ليحمل إنساناً آخر على كتفيه، في تمايزٍ اجتماعيٍّ جديد خلقته حالةٌ سياسيةٌ أكثر امتهاناً للكرامة وأكثر كذباً، تسودها شعاراتٌ خادعة، وروحٌ رفاقية تستغلّها (القيادات) وسيلةً لاضطهاد البسطاء.
في كلّ شريحةٍ من تلك الشرائح الزمنية يتقدّم الزمن السرديّ, ومعه الحالة الاجتماعية نحو شكلٍ جديد، مختلفٍ في الشكل، متماثلٍ في المضمون.
الزمن، في القصّة، يؤرَّخ بمراحل عمر البطل، من طفولةٍ إلى فتوّةٍ فكهولةٍ ثم شيخوخة. هي عمر الأوطان في فكر ابن خلدون؛ هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى يتعمّد الكاتب إظهار تاريخٍ زمنيٍّ طبيعيّ هو السنة 1963م، سنة ولادة سهيل بطل النص، وهذا التاريخ له رمزيّةٌ هامّةٌ يعرفها أبناء سوريا والعراق على وجه الخصوص، هي تحولٌ سياسيٌّ، استلم فيه ضبّاط كلا البلدين مقاليدَ الحكم فيما سمي بثورة، وبداية مرحلة الشعارات الغزيرة والمسيرات الحاشدة المحَشَّدة، وبروز طبقةٍ مسيطرةٍ جديدة، أكثر شراسةً وطغياناً، تفتقد \إلى الأصول أو القيم التاريخيّة كالطبقة البرجوازية التي سبقتها، هي طبقة الضباط وأعضاء القيادات الحزبية، التي قادت البلاد إلى الخراب، ذلك الخراب الذي افتتح الكاتب قصّته في وصفه واختتمها به أيضاً: "كانت نافذة البيت مفتوحة على الغرب ويحتاج لوقت طويل حتى تصله الشمس ليدفئ عظامه المتخشبة." وللاتجاه (الغرب) قيمةٌ رمزيّةٌ لها دلالاتٌ سياسيّةٌ من جنس المرحلة الشعاراتيّة التي قسمت العالم إلى غربٍ وشرق.

ثالثاً: الشخصية
شخصيات القصة معدودة، لا تتجاوز أربع شخصياتٍ، أو خمس؛ غير أن الشخصية الفاعلة هي شخصية سهيل، بطل القصة والراوي في معظم القصة.
ظهرت شخصية سهيل بأربعة مواضع في أربع حالات؛ الطفولة والصفقة الأولى، ثم المدرسة والصفعة.
ثم الشبات والعمل والنشاط الحزبي، وأخيراً الشيخوخة والعجز.
في كلّ هذه المراحل كانت شخصية سهيل تخضع لاضطهادٍ مختلف؛ الطبقية الاجتماعية في القسم الأول من العمر، والاضطهاد الذي يخلقه مجتمع محافظ يتبع تقاليد بالية، تبيح للمدرّس أن يصفع طالبا، دون أن ينظر إلى الأسباب التي منعت عنه النجاح، والتي قد يكون هو جزءاً منها.
واضطهاد العمل الشاقّ الذي أحنى ظهره، واضطهاد قادته في الحزب الذين خلقوا طبقةً اجتماعية جديدة منبتّة، ليس لها جذور تاريخية، أو أصول تراعيها، طبقة القادة وكبار الموظفين في دولة الحزب الواحد، وأخيراً قهر المرض والشيخوخة المبكّرة وما رافقها من عجزٍ جسديٍّ.
في كلّ هذه المراحل تبدو اللغة مخاتلةً والالفاظ حمّالة أوجه.
يقول الكاتب في وصفه لحادثة الصفقة الأولى: " لا أعرف بالضّبط لماذا خصّني بهذه الصّفقة. ألأنّني كنت قويّ الجسم؟ أ لأنّني كنت فقيراً؟". تساؤلات البطل هذه، أو لنقل الإجابة عن هذه التساؤلات هي ما يريد أن يقوله الكاتب؛ لكنه امتنع عن قوله، تاركاً ملء هذا الفراغ للقارئ، حسب نظرية التلقّي، ترك للقارئ أن يقول: إنّ قوّة الرجل تنقلب لعنةً في الطبقات الفقيرة، لأنّ المستبدّ يبدأ بإذلال القويّ ليضمنَ خضوعَ بقيّة أفراد المجتمع له، وأنّ الفقر هو السلاح الأمضى، الذي، به، يمكنه إخضاع حتى الأبطال؛
ثم لننظر إلى وصف الكاتب للبطل وهو يمهّد للانتقال إلى المرحلة التالية من حياته: "لم يكن باستطاعته رفع ظهره أكثر فشبك أصابعه وأراح ذقنه عليها وعيناه نصف مغمضتين بجانب النافذة"؛
ثم كيف يروي البطل لنا شعوره حين طلب منه (الرفيق) أن ينحني ليرفع شخصاً ما على كتفيه في تلك المسيرة التضامنية: " أنت ستحمله علي رقبتك وهو سيحمل اللافتة وستهتفان معا أردت أن أرفض َلكنني خفت ولم أستطع تفسير خوفي". وكيف ختم تلك المرحلة بهذا الوصف الذي يرد على لسان البطل: "تقوّس ظهري أكثر ولم أعد أستطيع رفع رأسي فصرت أسير كمن يبحث عن شيء أضاعه في الأرض ولا يجده."
هذه هي مرحلة النضال بالشعارات، وهذه حي حال البطل فيها.
ولنعد أخيراً لنقرأ الحالة التي آل إليها البطل بعد كلّ تلك الصفقات والصفعات، كما وصفه الكاتب في افتتاحيّة القصّة لغرضٍ مدروسٍ: "زحف نحو النّافذة واستند بكلتا يديه على حافّتها وبعد جهدٍ رفع جذعه الأعلى ليستقرّ على كرسيّه أطلّ برأسه على السّاحة الّتي تتحلّق حولها البيوت كما تحيط إسوارةٌ بمعصم."
أليست حال سهيل بن عبد ربه، بطل القصة وشخصيتها الرئيسية هي صورة عن حال المجتمع السوري (والعراقي أيضا) في النصف الأخير من القرن العشرين؟
أليست حال الساحة والبيت هي حالة الوطن التي خلفتها لنا تلك الصفقات التي فرضت علينا، قهراً وجوعا، وخوفا؟ وكلّ ما تركته من إرث هو بقايا شعارات مهترئة، لا تساوي إلّا قيمةَ الموادّ التي كُتِبت عليها؟ "ربط عربته التي يبيع عليها بسلسلة حديدية مع كرسي الخيزران لقد صنع جوانبها من بقايا اللافتات الخشبية وألبسها من قماش كانت تحمل شعارات وطنية...."
رابعاً: العنوان
الصفقة في النصّ صفقات، وفي حقيقتها صفعات، قَبِل بها البطل حُرّاً أو مُكرهاً، لعلّ أهونها هي الصفقة الأولى، تلك، على الأقلّ، اختارها بإرادته، وكان يمكنه أن يرفضها لو تحدّى بريق القرش وطعم السكر والفستق. أمّا الصفقات التالية فلم يكن قادراً حتّى على الرفض، ولم يكن قادراً حتى على التفكير، فالخوف مطبقٌ على النفس، والشعارات تملأ الأعين والآذان، وكلمة رفيق أداةٌ سحريّة يستخدمها الكبار في تدجين البسطاء، ويتخفّى تحتها البسطاء للهروب من الإحساس بالذلّ... وفوق هذا سلطة لا بدّ من ممالأتها لتؤمّن للإنسان وظيفةً حقيرةً تسدّ، من أجرها، رمق الأُسَر الجائعة.
وفي جوهر الأمر؛ الصفقة الأولى كانت هي الأهمّ لأنّ سهيل بن عبد ربّه، بطل القصة، رضي بالخضوع لطفلٍ مثله، بعد أن خضع للذة طعم السكر والفستق الحلبي المملّح.
يمكن أن تُختصر هذا الدلالة للعنوان بعبارة للروائي والسياسي الأردني الأستاذ سالم النحاس: "من يسقط مرة يسقط إلى الأبد، ولا نهاية لبئر السقوط"
الصفقة الأولى كانت أول السقوط، كان بإمكانه أن يرفض، لولا أن نفسه أخضعته أمام اللذة المشتهاة... ولا حدود للشهوات، ولا انتهاء للصفقات.



منذر فالح الغزالي

بون في 5/9/2021









.












(1) سالم النحاس، رواية الساحات، إصدار اتحاد الكتاب العرب- دمشق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى