كتاب كامل محمد الراوي - الزهرة الصخرية.. روايــة - النص الكامل

{ 1 }

كان من عادتي أن أذهب بسيارتي إلى طريق فرعى يمتد بموازاة ساحل البحر ثم ينعرج إلى قلب الجبل . وكنت أحب أن أفعل ذلك عندما يكون الجو صحوا منعشا، وعندما تتناثر في السماء السحب البيضاء القريبة من الأرض. كنت أفتح نوافذ سيارتي فيمر الهواء البارد بقوة من خلال السيارة ، مما يبعث في جسدي النشاط والرغبة في الانطلاق بعيدا خاصة في الأماكن التي لا ترتادها السيارات كثيرا .

في يوم من الأيام التي كنت أعبر فيها ذلك الطريق، انفجرت عجلة خلفية فأوقفت سيارتي على جانب الطريق تحت سفح الجبل. وبينما أنا منهمك في فك العجلة إذا به يخرج من بطن الجبل في هدوء غريب وكأنه كان على موعد معي. ألقى بالتحية وقرفص بجواري. قال : أنا الشيخ عسران، ثم أخرج من صرة كبيرة كان يحملها على كتفه كوزا وأكوابا . أشعل نارا وقام بعمل شاي شربناه معا ونحن نتبادل الحديث .

كان الرجل، الشيخ عسران، يرتدى جلبابا ومداسا وشالا قديما وغطاء للرأس. يبدو جذابا في حديثه، غامضا ، تشعر إذا قابلته بأنه يقول الأشياء والأخبار التي يعرفها بلغة محببة ورقة وحكمة بالغة .

سألني عن وجهتي. أخبرته بأني أحب السير في هذا الطريق من حين لآخر، فهو طريق هادئ ومنظر البحر والجبل يوحيان لي بالتفكير والكتابة. هز رأسه وردد كلمة أوراق. قال: أنت أستاذ أوراق، إنني أعرف القراءة يا أستاذ..أكتب وأقرأ .

وهكذا بدأت علاقتي بالشيخ عسران، ولا أعرف كيف كان يظهر لي على الطريق في الموعد المناسب تماما. كنت أفاجأ به في نفس المكان الذي وقفت عنده أول مرة، أو بالقرب منه، أراه واقفا منتظرا وكأنه يعرف موعد وصولي، ملوحا بيديه، أو مسلطا عينيه على مقدمة السيارة ، فأقف وأنزل إليه .

في إحدى المرات، ظهر لي الشيخ عسران على جانب الطريق. أوقفت سيارتي وأشار لي أن أخرج منها، ودعاني إلى شرب الشاي . توغلت معه في جوف الجبل، اختار مكانا مناسبا وقعدنا على الرمال. أخرج من صرته مظروفا قديما وقال: اقرأ هذا يا أستاذ .

وكانت هذه أول مرة أتصفح فيها أحداث الزهرة الصخرية. كانت أوراقا بلا عنوان، كتب على أول ورقة في أعلاها ” إسماعيل” بخط كبير وتحتها كلمتين صغيرتين ( الزهرة الصخرية ) . وكانت بعض الوراق مكتوبة بقل كوبيا والبعض الآخر بقلم رصاص ثقيل .

قال الشيخ عسران أن في هذه الأوراق أحداثا تستهويني، وأرجو ألا أعتبره مسئولا ولو بطريقة غير مباشرة عما حدث لإسماعيل صاحب الأوراق فإنه كان يؤدى وظيفته كدليل ليس إلا. واستطرد بأنه يأمل أن أراه بعد قراءة هذه الأوراق في صورة أفضل من الصورة التي رآه عليها إسماعيل .

لم تكن الأوراق سجلا يوميا للوقائع التي حدثت فحسب، إنما امتزجت فيها الوقائع بالأحلام والهلاوس. فقد توقف قلم إسماعيل عند أماكن لم أرها ولم أسمع عنها من قبل . حتى الأحداث تشككت في واقعيتها ، إلا إذا كانت قد حدثت له هو وحده .

ورغم أن إسماعيل لم يسجل حياته داخل الزهرة الصخرية، إلا أن كل الأحداث كانت تدور حولها وبسببها وبتأثيرها. وقد آثرت أن أنشرها كما هي دون اختلاق النهاية من عندي لأنه لا نهاية لها. لكنني أعتقد أن إسماعيل كف عن الكتابة عندما اختار أن يحيا ويعيش كواحد من أهل الزهرة الصخرية .

قال الشيخ عسران إنه أخذ هذه الأوراق من بين محتويات إسماعيل التي تركها في الخيمة قبل أن يختفي. وقال إن اختفاء إسماعيل لم يسبب قلقا لمواطني الزهرة الصخرية لأن ظاهرة الاختفاء تكررت من قبل، وهو اختفاء محمود وليس اختفاء خبيثا .فالاختفاء المحمود هو الذي لا يترك مراءه حادثا أو انتحارا ، ويدل على أن المعنى بالأمر ـ والمقصود هنا إسماعيل ـ قد اختار أن يعيش فوق ، يقصد الزهرة الصخرية . أما الاختفاء الخبيث فهو ما يترك وراءه ـ فى غالب الحيان ـ جثة أو آثار دماء ، وهذا ما لم يحدث في قصتنا .

سألت الشيخ عسران فيما بعد عن مزيد من التفاصيل حول الزهرة الصخرية وأين موقعها، فقد أسرني جوها الخاص. قال: إنني يجب أن أذهب إليها بنفسي حتى أراها وأعيش في جوها. أحست بمكر الرجل، فهو يريد أن يستدرجني. ولما لمس ترددي ابتسم قائلا إنني إذا رغبت في الرحيل إلى الزهرة الصخرية فسوف يصف لي الطريق إليها .

وقد أثار شكي كثيرا وجود قرية الزهرة الصخرية فوق الجبل، فهذا الجبل الذي أمر به مرارا مرتفع حقا لكن لا أحد يعيش فوقه سوى بعض الحيوانات البرية ، وهذا ما يجعلني أفكر في أمر إسماعيل الذي يقول في أوراقه انه عبر البحر ثم قطع وديان فسيحة من أجل الوصول إلى الجبل الذي تقبع فوقه الزهرة الصخرية . وعندما كتب يصف المكان الذي أتى منه لم أعرف من التفاصيل التي أوردها أي بلد هذه سوى أنه كان يقطن في شارع كثيف السكان يموج بالحركة، ويبدو أنه أخذ ينسى بلدته بالتدريج حتى لم يعد يذكرها أو يحلم بها .

أعرف أن شاطئ هذا البحر يمتد عشرات الكيلومترات، يحده من الجانب الأيسر سلسلة جبال لا تنتهي. على الشاطئ توجد مدن صغيرة وقرى وواحات، لكن لا توجد قرى فوق الجبال، قد توجد بعض الأديرة والأماكن الأثرية في جوف الجبل، لكن فوق ..لا.

أي جبل يعنيه إسماعيل؟ وأي جبل يعرفه قينا الشيخ عسران ؟ تساؤلات كثيرة مهما كان نصيبها من الحقيقة والواقع ، فإن الزهرة الصخرية جذبت تفكيري، وهذا ما يجعلني أحاول في الآونة الأخيرة الذهاب إلى طريق البحر والدخول في جوف الجبل للالتقاء بالشيخ عسران، لكن دون جدوى فقد اختفى الشيخ عسران .

{ 2 }

عندما نزلت من العربة ، كان هو أول من تقدم منى . رمقني بعينيه المستديرتين وكأنه يقول لي أنت من أنتظرك. تقدم منى بقامته القصيرة وعباءته التي تغطى رأسه وكتفيه وشد على يدي . كان يرتدى مداسا من الجلد العتيق ، وكانت ساقاه معروقتين عضليتين . أدركت أن التعارف قد تم بيننا، وأن ليس هناك اكثر من ذلك. قال : مرحبا . ومرت الكلمة بسرعة حتى أنى لم أتأكد من أنه قال شيئا . ولما وجدني أنظر في وجهه الأسمر، قال: أهلا ، وكانت الكلمة في هذه المرة واضحة ، طويلة ومسحوبة .

قبل أن أبحث عن بعض الكلمات أقولها له ، إذا بي أرى حقيبتي الثقيلة ذات الحزامين فوق كتفه. لم يترك لي فرصة لاستطلع المكان الجديد ، ولم أجد الوقت لألتفت حولي كما يفعل الغرباء حينما يصلون إلى بلدان صغيرة وغريبة . فقد أوحت لي طريقته في استقبالي بأننا على عجلة، ولا وقت للأمور الصغيرة .

البلدة صغيرة وغامضة، بيوتها قصيرة متلاصقة، تبدو حواريها الضيقة وكأنها ممرات تفصل بين البواب القصيرة المتقاربة، ورغم ذلك فإن ميادينها واسعة ومستديرة. كأنهم استغلوا الخلاء في عمل الميادين. أناس لا أعرفهم، لا يعطوني الفرصة لأعرفهم ، فهم منغلقون على أنفسهم ، يعرفون بعضهم بعضا بالشكل أو الرائحة والعشرة الطويلة .

عبرت وراءه الشارع وتوقفنا عند الرصيف المقابل أمام سيارة ذات طراز قديم ، بلا سقف . ألقى الحقيبة عل المقعد الخلفي ثم صعد وتكوم بجوارها . أشار إلىّ أن اجلس بجوار السائق ، ففعلت .

اهتزت السيارة العتيقة واطلقت دخانا من خلفها ، ملأت الجو بالضجيج ثم تحركت وهى تكركر فى طرقات البلدة الضيقة وميادينها الفسيحة المرتبة الخالية. الشمس تصب حرارتها من فوق كان هناك من يسكبها فوقنا. كان الطريق متربا وكانت السيارة تثير غبارا أبيض على الجانبين ، يتعلق بأشعة الشمس، يظل محلقا فوق الأرض والأشياء والكائنات ، البيوت قصيرة متلاصقة خاصة وسط البلدة ، العيون سوداء واسعة مكحلة تطل من خلف أقنعتها وبراقعها ، تتابع العربة التى نجلس فيها، عيون مكحلة تستعصى على الفهم لكنها تعد بالمجهول الذى أود أن أكتشفه وأتوقع وجوده فى هذه البقعة البعيدة عن ما الفته فى حياتى، العيون تتابعنى، العيون تعرف أن هذه السيارة العتيقة لا تسير فى شوارع البلدة إلا إذا كان هناك غريب جديد حضر لغرض من الأغراض .

التفت إليه. كنت اريد أن أعرف منه إلى أين نحن ذاهبون، وكنت أريد أن أسأله عما إذا كانت هذه البلدة هى التى سيكون فيها عملى . كنت أتوقع أن تتوقف العربة فى أى لحظة فى مكان ما قائلا لى: هنا ..هنا عملك، وهنا نهاية المطاف فانزل وأستريح واتعرف على المكان دون سيارة عتيقة ، أتعرف على الناس والعيون الغامضة، أتعود على مكانى الذى سأعيش فيه، أتجول فى الشوارع واستنشق الغبار والروائح. لكن هذا لم يحدث، اندهشت لأن هذا لم يحدث، لأنى لم اتصور أن يكون هناك أبعد من ذلك. إذ يبدو أن موقع هذه البلدة فى قاع جبل يحوطها من كل جانب ولا تبدو ثمة منافذ فيه . أخذت استعيد رحلة الطريق ، الطرق الطويلة المتعرجة، الرمال التى لا يدرك مساحتها بصر، التيه، لا خضرة ولا ماء ولا حيوان، شمس محرقة، سماء مبهمة متجهمة ، سهول من الرمال وجبال جرداء لا تجد العين غيرها، ويضيع فيها البصر، والجبل الذى أخذت تدور من حوله العربة حتى نفذت منه ، إنه هذا الجبل .

واصلت العربة الخوض فى الطرقات المتربة والولوج بين صفوف متلاصقة من البيوت والكهوف وأكوام غريبة من النفايات المجهولة كانت فى الأصل مرتفعات ألقيت فوقها ما لا يحتاجه الناس. كانت عيون النساء من خلف براقعها شديدة الفضول، عميقة السواد، وكانت أجسادهن مختفية داخل ثياب فضفاضة لا تبين عن شىء إلا عند الانحناء أو الجلوس. كانت عيون الرجال كعيون الصقور والنسور. الأبواب عيون، النوافذ الضيقة عيون واسعة تخفى ما وراءها، تنتشر على طول الجدران فى كل مكان، الثياب الفضفاضة الواسعة السراويل الطويلة ، البراقع وأغطية الرأس تمنحهم القدرة على التطلع والتلصص دون أن يقتحمهم أحد أو يضبطهم متلبسين .

لم أسترح لحظة واحدة . هبطت من السفينة ورأسى يدور، قضيت فيها ثلاث ليالى داخل كابينة لا تزيد مساحتها عن متر فى متر، كنت طوال الوقت أتارجح من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين ، كنت أتدحرج وارتطم بالجدران الحديدية ، أفرغت معدتى مرات عديدة ، كففت عن تناول الطعام والشراب فأفرغت روحى .

صعدت إلى سطح السفينة ، شدتنى المواج بسحرها فكدت اسقط من فوق الحاجز المرتفع إلى أعماق البحر، كلما سمعت جرس صالة الطعام أضع يدى فوق معدتى، أغمض عينى وافتح فمى عن آخره. على ارض الميناء تعلمت السير من جديد على ارض ثابتة، خارت ساقاى، سحبت حقيبتى وانزويت فى ركن طلبا للراحة .

سارت بى العربة عبر وديان واسعة من الرمال، موجات رملية عالية، نخيلت الرمال ماء تسبح فيه العربة، كدت أعتقد أن هذا العالم كان فى الأصل رمالا ثم غزته المياه، أو أن العالم كان ماء غزته الرمال واستولت عليه .

صعدت بى العربة تلالا وكثبانا مطروقة. تساءلت عن سبب تجمعها بكثرة فى مكان واحد. لماذا لا تسلك العربة طرقا اخرى منبسطة وسهلة؟ أخذت التلال تتكاثر فى طرقنا، كانت تختفى فجأة وتلوح فجأة، قمة وراء قمة، موجة وراء موجة ، تدور وتمتد ، تهبط وترتفع، تستقيم وتنحنى ، تغور ، تتكور ثم تنبسط، تندفع فجأة لأعلى، تدور حولها العربة، تتسلقها كما الماعز ، تقترب من هضاب عالية اراها فى ألوان متعددة كلما غيرت العربة اتجاهها . رأيت الجبال فى لون جديد اخاذ. كنت أخشى أن تنحرف العربة فجأة فتصطدم مقدمتها بالكتل الصخرية البارزة من قلب الرمال فتتناثر أشلاء فى العراء. لكن دائما فى اللحظة الأخيرة يظهر منحنى مفاجىء يقود العربة إلى طريق جديد سرعان ما تنحدر إليه فى الفة .

{ 3 }

ها هو يجلس خلفى فى العربة العتيقة، ترج جسدى المتعب، لا تترك لى فرصة أن أغلق عينى و أنام . اتزم الصمت هو والسائق الذى لم يلتفت ناحيتى ولا مرة واحدة. كلامهما قليل مقتضب . السائق يعرف الطريق جيدا، دو مع الدروب وفى المنحنيات، يصعد درجات ألفتها العربة العتيقة وتدربت على تسلقها، نعبر خلالها بوابات حجرية فاقول ها هى لعربة العتيقة تدخل أحد الأحواش، لكنها تمرق منه واجد نفسى على ذات الدرب الملتوى، ولم تعد تخدعنى البوابات والطرقات المسدودة، مللت وتعبت.

ـ ألم نصل بعد ؟

استدرت بصدرى إليه، أحسست أنه يريد أن يبتسم لكنه كان فى حالة ابتسام، تحركت التجاعيد حول عينيه ووجنتيه ونفرت العروق فى رقبته. قال ملوحا :

ـ وراء هذا الجبل ..

تطلعت إلى الجبل، بدا لى وكأنى أراه لأول مرة، بدا مقبلا علينا، ضخما قاتما. من المستحيل أن اجتاز الجبل وأنا فى هذا الإعياء . فكرت للحظة أن أقفز من العربة وارتمى على الأرض أو أدلف من احدى هذه الأبواب الواطئة لاستشعر الرطوبة فى الداخل واتمدد على التراب . عدت اتطلع إلى لجبل، كانت الشمس تتجه نحوه، اختفت تضاريسه وبدا كتلة صماء تزداد قتامة مع زحف الشمس فى السماء .

ـ وراء هذا الجبل؟

ـ فوقه..

ـ فوقه .. كيف؟

ـ فوق الجبل..

ـ وماذا يوجد فوق الجبل؟

ـ الزهرة الصخرية..مدرستك هناك

ـ ولماذا هى فوق ؟

ـ لأن القرية والأطفال فوق ..

ـ أليس عندكم مدارس هنا ..فى الوادى..فى القرى التى مررنا بها..فى البلدة .

ـ توجد ..لكن فوق توجد مدرسة ولا يوجد معلمون..وأنت المعلم الذى ينتظرونه.

ـ سنتسلق الجبل بهذه العربة ؟

لم يرد ، ظل صامتا بعض الوقت، متسامحا. سمعت صوته خلف أذني :

ـ أنت مرهق، سنستريح اليوم ونواصل السير فى الفجر .

ـ إنني متعب..جسدي فى حاجة لنوم عميق..

ـ لا بد أن نكون عند حافة الجبل قبل طلوع سطوع الشمس .

أخذ يحدث السائق بلكنة أخرى سريعة. كنت العربة قد اجتازت البلدة فتباعدت البيوت عن بعضها البعض، وتباعدت العيون عن بعضها البعض، صارت مزدوجة وفرادى، كانت العيون الفرادى ترعبني أكثر. عبر مساحات مزروعة بالنخيل توقفنا أمام بناية صغيرة لها باب من الخشب ونافذة مستديرة ، عين واحدة، تعلو قامتي. هبط حاملا الحقيبة، أشار للسائق فعاد بعربته من حيث جئنا. دفع الباب فانفتح ، أدخل الحقيبة وخرج إلىّ .

ـ أدخل واسترح.

ـ هذا شئ أفضل من لا شئ..

ـ في الداخل فراش وماء..

ـ إذا دخلت ونمت فلا تزعجني حتى أخرج إليك ..

ـ كما قلت لك… عند حافة الجبل قبل طلوع الشمس

ـ إنك تلقى بالأوامر..هل هذا من عملك؟

ـ إنها أوامرهم لي.. وهم في انتظارنا في هذا الموعد .

اقترب منى وأمسك عضدي قائلا :

ـ هل أنت غاضب منى ؟

ـ إنني متعب..والإرهاق يجعلني عصبيا ..

ـ لا عليك أيها الرجل..

تحركت تجاعيد وجهه وانفجرت شفتاه فأدركت أنه عاد للابتسام ، فابتسمت له .

ـ هل أنت جوعان ؟

وضعت يدى على بطنى ورأيت نفسى وانا افرغ روحى من فمى.

ـ أكلت فى السفينة قبل أن أغادرها..ليست لى رغبة.

ـ سوف تستعيد رغبتك..سأحضر طعامك عندما يحل الليل .

ـ ما أسمك ؟ أنا لا أعرفه؟

ـ عسران ..الشيخ عسران.

ـ أنا أسمى إسماعيل ..

ـ أعرفه..أخبروني به..ورأيت صورتك فى الأوراق.

ـ أى أوراق ؟؟

ـ الأوراق..كانت معهم حينما أمروني بأن أستقبلك.

ـ كنت تعرفني !!

ـ أنا في خدمتك، أدخل واسترح.

ـ وأنت ؟

ـ لا شأن لك بي.. سأبقى هنا في الخارج ، أدبر طعاما وانتظر.

{ 4 }

كنت أعرف أن الشيخ عسران وراء الباب وراء الباب . قال إنه لم يتعود أن يقضى الليل بين جدران ، وقال إنه سيتركنى ثلاث ساعات من أجل الراحة وأنه سينتظرنى فى الخارج لنتسامر، وأضاف ضاحكا بأنه لا يلقى أوامر إنما يرجونى أن أفعل ما يريد . كنت أسمع صوت سعاله الجاف من وراء الباب، تخيلته جالسا القرفصاء مستندا إلى الجدار ورأسه يهبط إلى صدره حينما يغفو .

خطوت إلى الداخل وكدت أتعثر فى عتبة عالية على مدخل الغرفة، كانت أرضيتها هابطة. رميت بجسدى على الفراش، فراش من جذوع الشجر وجريد النخيل وقلع سميك ونتوءات، واطئا يكاد يلتصق بالأرض. اعتقدت أنى سأستغرق فى النوم على الفور، لكن النوم استعصى علىّ ، أخذت أحملق فى ظلام الغرفة الضيقة، كانت النافذة المستديرة تسمح ببعض الضوء لكنها كانت تخفى السماء. انعدمت الأصوات فى الخارج ورويدا رويدا أطبقت الظلمة ولم أعد أميز نفسى .

تسللت الأصوات البعيدة إلى أذنى، نباح كلاب ونعير بهائم ، أخذت تخف وتتلاشى بينما التمعت أمام عينى الأضواء وأعشت بصرى . فى هذا الوقت أكون قد عدت من جولة المساء عابرا المدان الكبير مخترقا شارعنا الصاخب المتلألىء النوار حتى الصباح، ومن حجرتى التى تقع فى الدور الرابع أسمع رواد المقاهى المنتشرة على طول الشارع وأسمع أصوات النرد والدومينو والنداءات ورائحة الدخان المحترق وشواء اللحم وأصوات النساء الحنونة. رأيت الأماكن والأشياء وملامح الناس فى صورة مضببة، سمعت حركة الحياة كصوت آلة منتظمة الإيقاع يوحى لى بأصوات سمعتها من قبل والفتها .

تبينت أن الصوت يصدر من قريب ، بل إنه يقترب ويبتعد حسبما يسرى الهواء، كان صوتا بشريا لم أستطع معرفة ما ينادى به.قمت من فراشي وتوجهت ناحية الباب وفتحته..وجدته جالسا كما تصورت مسندا ظهره على الجدار بجوار الباب ، لكنه لم يكن يغفو كما كنت أظن، كانت عيناه مشخصتين ناحية السماء.

ـ ماذا يقول هذا الرجل الذي ينادى ؟

كان الصوت يأتي إلينا عبر الظلام ، يتردد بين أشجار النخيل والبيوت المتناثرة والحظائر والتلال .

ـ يقول لأهل البلدة أن الحاكم أمر بإطلاق خرافهم وماعزهم في الصباح .

ولما وجدني لم أفهم شيئا ..قال

ـ اجلس أحكي لك .

قعدت بجواره على الأرض ..قال الشيخ عسران :

ـ إننا لا نعيش هنا وحدنا ، الخراف والماعز تشاركنا هذه الأرض وخيراتها، فى البيوت والشوارع والمزارع، إنها أكثر منا عددا، تخرج إلى رزقها معنا في الفجر وتعود مع حلول الليل، تألفنا ونافها ، تعرفنا واحدا واحدا بأسمائنا وأصواتنا ، تشمنا من بعيد فتتعرف علينا ، تميز بين أولادنا وتنتظر منا أن نوليها رعايتنا، تنتشر مع الصباح في طرقات البلدة وأطرافها ، وقبل غروب الشمس تتجمع في الميدان الرئيسي ومنه تتسرب إلى أحواشها وبيوتها، في الوقت المناسب تماما، يأتى الليل والطرقات خالية منها. ستقول أنك لم تر خرافنا وماعزنا وأنت في طريقك إلى هنا..معك حق، أنت لم ترها، وكيف تراها وهى ليست موجودة الآن في شوارعنا، آه شوارعنا، لن تقع عليها عيناك إلا في الغد، نعم في الغد، لكنك لن تكون هنا فى الغد، ستكون هناك ، فوق ، في الزهرة الصخرية. تستطيع أن تتخيل ذلك في شوارعنا حينما تعود الأمور إلى ما كانت عليه ، إنه ذلك النداء الذي سمعته..الصوت يبشر الجميع بأن يطلقوها في الصباح، تتساءل ما هي الحكاية؟ الحكاية بسيطة يا أخ إسماعيل، ما كان يجب أن يحدث ما حدث إنها لم تسبب لنا أي مشاكل، ما حدث لم يكن أحد يتوقعه، حينما تدخلوا في حياتنا جاءت المشاكل، الحمد لله لقد أحسوا انهم أخطأوا وبأنهم تدخلوا في طبيعة حياتنا التي نشأنا وتعودنا عليها .

تخيل معى ، هذه الكائنات التى تراها كل يوم من الصباح حتى المساء ، سنين طويلة، تقابلها كثيرا وأنت تسير فى الطرقات فتقترب منك وتقترب منها،تومىء إليك برؤوسها تتمسح بك فنعطيها بعض ما معك، قليل من الغلة أو الفول او الذرة، تصحبها إلى بائع الغلال فتوهب لها هدية صغيرة، قليل من الغلة، تخيل معى أن تفتقدها فجأة ، تخلو منه الطرقات ولا تلقى إلا إخوانك وجيرانك وأهل البلدة، وتظل تبحث دون جدوى عن خروف واحد فتيأس وتعود إلى بيتك خائبا شاعرا بالوحدة، أنت لا تفتقدها لأنك لم تعاشرها بل إنك لم ترها ، ربما تكون سمعت ثغاءها الحزين، لكنك لم تألف مواكبها وهو تنتشر فى الصباح أو وهى تعود فى المساء، إنها محبوسة فى أحواشنا ، ممنوعة من حرية التجول ومن حرية لقاء الناس فى الشوارع، محرومة من تلقى الهبات التى قد يعجز عنها اهل البيت، أنت لا تشعر بالمشكلة، نحن عشناها وعانيناها، قمنا بتحذيرهم وطلبنا منهم أن يراجعوا قرارهم، فليس من المعقول أن يصدر الحاكم قرارا دون دراسة خاصة إذا كان هذا القرار يمس البلد كلها. قلقنا لأن من وضع القرار لم يدرك مكانة الخراف والماعز فى حياتنا، دورها الكبير فى شئوننا اليومية، عرفوا الحقيقة فيما بعد. تقوم الخراف والماعز بوظيفة عمال النظافة عندكم، فهى تلتهم فى تجوالها النفايات والورق وبقايا البيوت والبهائم وقطع الخشاب والقماش وعلب الكرتون والصفيح وكل شىء ملقى على الأرض فتوفر علينا جهدنا فى التنظيف .

ماذا حدث بعد أن احتجزها داخل بيوتنا وأحواشنا ؟ هل تريد أن تعرف؟ أعتقد أنك تريد أن تعرف ماذا حدث، لعلك رأيت أكوام القاذورات فى الطريق، لا أحد ينظفها، ولا يوجد من يلتهمها أو يتخلص منها، ولما تكاثرت تراجعوا، تراجعوا ، أحسوا بالمشكلة وقدروا هذه الكائنات المسكينة حق تقدير، قالوا إنها بافعل توفر علينا تكاليف النظافة، وعفى الله عما سلف .

تسأل ما هو الذى سلف ؟

جاء الحاكم ذات يوم وعقد اجتماعا حضره مشايخ البلد وجمع غفير من الأعيان والأهالي. الخراف والماعز لاحظت الناس وهى تتجه نحو مكان الاجتماع فتبعتهم إلى هناك. وهناك رأت البلدة كلها مجتمعة فى دائرة كبيرة فاتخذت أماكنها فى الخلف وأخذت تثغو حتى تلفت الأنظار إليها .أسكتها الأهالى ، لوح بعضهم بأيديهم مهددا، واكتفى الآخرون بقول ( هش ) فصمتت ، اكتفت برفع رؤوسها إلى أعلى وأخذت تتصنت .

معزة صغيرة ظريفة لم تستطع السكون فى وضع معين، لأنه ضد طبيعتها تسللت من بين سيقان الواقفين وتقافزت فوق أكتاف الجالسين واستقرت فى حجر الحاكم .

{ 5 }

وكأنى انتظرته زمنا طويلا، أتوقع ظهوره الغامض من حين لآخر، أقول أنه سيلوح بهيكله الفارغ القوى وعرفه الأسود الفاحم وقوائمه الدقيقة القوية، تسبقه رائحة عرقه النفاذة التى ينشرها الريح فى الوادى، مع قوائمه على الصخر وهو يقترب ويقترب، أو وهو يبتعد ويبتعد.

أخذت أناديه بينى وبين نفسى وأنا أترقب ظهوره الغامض وانبثاقه من المجهول وسمعى مرهف لسماع وقع قوائمه البعيد..يا فرسى أقبل، اضرب الأرض والصخر بقوائمك القوية واسرع إلى..يا فرسى اقبل..يا فرسى الشجاع اقبل ها انا فى انتظارك..لا أعرف من أين ستأتى، من الوادى أم من فوق الجبل أم ستظل هكذا موجودا وغير موجود، تاتى ولا تاتى، نسمع صهيلك ونشم رائحتك دون أن نراك .

تراءى لى هيكله من فوق الجبل، شبح قاتم بلا معالم بزغ كالنجم الأسود فى هذا العراء، لكنى عرفته، لم أسمع ضرب قوائمه على الصخر لكنى عرفته فقد سمعت صهيله ، بزغ على حافة الجبل هناك فى القمة ، وحيدا عاريا، منتصبا فى شموخ يدق الصخر بقوائمه ، يرفع رأسه إلى اعلى ويصهل لا يخاف السقوط.

عدت اراه مرة اخرى اكثر وضوحا، فوق ظهره شبح إنسان ، أحسست أنى اعرفه وأنى فى حاجة إليه ، لوحت له بيدى وأخذت أصيح ، أسمع صوتى يتردد فى الوادى ، يرتطم بالصخور والكثبان فيعاود صداه الانتشار فى موجات تصل إلى قمة الجبل .

توقف رأس الحصان فجأة عن الحركة، أحسست بعينيه ترمقاننى من بعيد، هكذا أيقنت أنهما قادمان نحوى وانهما يحاولان الوصول إلى رغم المسافة البعيدة التى تفصلنى عنهما، إلا أنى كنت أقول فى نفسى إنى أعرف هذا الرجل الذى يمتطى الحصان ، إنى اعرفه، إنه فارس عظيم جاء باحثا عنى لينقذنى من الضلال فى التيه، عندما تعرفت عليه صحت :

يا شيخ عسران، يا شيخ عسران . انتابتنى نوبة من الفتور فالشيخ عسران سيذهب بى إلى الزهرة الصخرية فوق الجبل وكأن الحصان قرأ أفكارى، إذ وجدته يتقدم خطوة وبين فكيه زهرة كبيرة ما زالت ساقها الطويلة تحتفظ بأوراقها، قذفها الحصان من فوق الجبل فكان لقوطها صوت ارتطام الصخور ببعضها البعض، بعدها تراجع الحصان وهو يضرب الهواء بقائمتيه الأماميتين ثم انطلق قافزا من فوق الجبل ، سبح فى الهواء قاردا قوائمه متجها إلى الوادى ، والشيخ عسران يتشبث بعنق الحصان المنطلق كالسهم إلى اسفل .

{ 6 }

فتحت عينى، وجدته فوق رأسى يرمقنى، مد يده وأمسك كتفى يساعدنى على النهوض، قال فى اقتضاب:

ـ سنرحل الآن .

نظرت تجاه النافذة العلوية، كانت مظلمة، ولم يكن فى الخارج سوى أصوات الكلاب والحشرات الرملية .

ـ هذا صباحنا فألفجر على الأبواب .

لم أجد بدا من مغادرة الفراش. ذهب ناحية وعاء الماء، أمسك كوزا وأشار إلىّ بالاقتراب، أحنيت رأسى فسكب الماء على شعرى ووجهى، سمعت حركة فى الخارج فنظرت إليه مستفسرا. قال:

ـ إنها ركوبتنا إلى الجبل .

عندما خرجنا لم أر شيئا فى بداية المر. بعد برهة رأيت حمارين أحدهما مربوط فى ذيل الآخر . فى السماء كانت النجوم كبيرة شديدة الضياء والبهاء لم أر مثلها من قبل.

ـ أين العربة؟

ـ لسنا فى حاجة إليها ، سآخذ حقيبتك وأركب الحمار الأمامي، خذ الثانى وسيتبعنى.

سار الحماران فى الظلام، توغلنا فى الخلاء تجاه الجبل الذى اخفاه الليل عن عيوننا. كان الشيخ عسران يصحح اتجاه الحمارين كلما خرجا عن الطريق الذى يحفظه بحواسه. اختفت الأصوات تماما ولم نسمع إلا دقات حوافر الحمارين على الرمال . كان الصمت كثيفا يضغط على أذني ، وودت لو يحدثنى الشيخ عسران ونحن فى الطريق حتى يخفف عنى ذلك الإحساس بالضغط لكنه التزم الصمت ، يبدو إنه اكتفى بأحاديث أول الليل .

فى الأفق لاح شعاع رمادى ظهرت من خلاله قمة الجبل بينما ظل الجبل نفسه مختفيا فى الظلمة. قال الشيخ عسران : ستشرق الشمس من خلفك ويلوح الجبل قريبا منك، يلزمنا السير بعض الوقت فى ارض وعرة، أرض رملية صخرية ، كن خفيفا على حمارك حتى لا يتعثر .

أشرقت الشمس من خلفنا، أحسست بأشعتها الدافئة على ظهرى . كان الشيخ عسران يمتطى الحمار بطريقة خاصة به لا استطيع أن أقون بها، وفى حضنه حقيبتى الكبيرة ..المشهد من حولى قد تغير تماما، اختفت الخضرة وحلت محلها أرض ميتة عرتها الرياح من كل شىء، لا أجد فيها سوى الحصى والعظام وصخرا منتصبا أو مقلوبا ، لا أعرف ما الذى اتى به إلى هنا ومن الذى ثبته فى مكانه أو قلبه ..الريح أم الإنسان أم الشيطان ؟

لاحت الكثبان الرملية فى تناسق غريب، بدا الجبل فى ضوء الشمس بنيا فاتحا وظهرت تضاريسه وتجاويفه فى لون بنى قاتم . كلما اقتربنا منه ازداد ضخامة وارتفاعا ، على بعد لفتت نظرى كتلى قاتمة فأشرت نحوها للشيخ عسران . قال إنه دير قديم، طلبت منه ان نذهب إليه، تردد ولم يقل شيئا، واصلنا المسير وعندما وجدت إننا نبتعد عن الدير القديم طلبت منه ثانية أن نذهب إليه.

ـ إنه دير مهجور منذ مئات السنين .

ـ ولماذا لا نراه ونحن فى طريقنا إلى الجبل؟

ـ لا أهمية له، إنه مهجور..لا أحد يذهب إليه الآن .

ألححت فى طلبى ووعدته بأننا لن نتوقف كثيرا وما دمنا قريبين منه فلنستغل الفرصة للوقوف عنده. لوى عنق حماره وغير المسار .

قال محذرا ـ قد يكون هناك ضباع وذئاب..وأضاف :

ـ إذا نهق الحماران سنعود أدراجنا .

لكن الحمارين لم ينهقا، توقفنا أمام الدير. كان الهواء يصفر بالقرب من الدير. عند المدخل جذع شجرة متحجر، ربط فيها الشيخ عسران الحمارين ، بعد جذع الشجرة بقليل عمودان من الحجر أطول من قامتى بنصف ذراع كانا يشكلان البوابة الأمامية ثم يبدأ المدخل: ممر طويل متعرج تحت مستوى الرمال، ضيق وملتوى ذو انحناءات كثيرة، فى نهايته مكان الباب وآثار حريق قديم على الخشاب المتبقية التى صارت فى لون الرمال ، فى الحوش الداخلي بقايا برج. قال الشيخ عسرن:

ـ إنه برج الناقوس ويقال أنه كان ناقوسا ضخما يسمعه أى سائر فى الصحراء يحتاج إلى طعام أو الماء والمأوى .كان الحوش مملوءا بالرمال التى أخفت ملامح المكان، من هذا الحوش تفرعت دهاليز تفتح عيها حجرات ضيقة بلا أبواب، دخلت أحد الدهاليز و أخذت أمر بالحجرات الحجرية الصماء .

كان الشيخ عسران يتوقف عند أمل الدهليز ينتظرني حتى أفرغ من مشاهدتى، أحيانا كان يتبعني ويحدثني ويلفت انتباهى إلى أشياء صغيرة معلقا عليها ، رأيت فى الحجرات كوات صغيرة يدخل منه الضوء والهواء وكوات أخرى غريبة اسفل منه ذات مجارى منحدرة إلى أسفل تسد الطريق أمام ضوء الشمس .

قال الشيخ عسران أن الكوات العلوية لدخول الضوء والكوات السفلية للدفاع. ولما سألته أى دفاع؟ قال :يصب منها الرهبان أحجارا فوق رؤوس المغيرين واللصوص، لكن ليس كلهم من اللصوص، فالرهبان يقومون بواجب الضيافة في أحيان كثيرة للجوالين فى الصحراء، بل يسعى الرهبان إلى صداقتهم ومعرفة أخبار الناس والبلاد. كان العربان يمرون بالأديرة أثناء جولاتهم ويتوقفون ليناولوا طعامهم، يدخلون لأحواش الأديرة ليريحوا خيولهم وجمالهم وإبلهم ، يصل إليهم الطعام والشراب عن طريق بعض هذه الكوات ، تتدلى منها حبال ثبتت فى أطرافها قفف مملوءة بالطعام والشراب، وتوجد أيضا حجرات داخلية قريبة من الحوش يحتمي بها العربان إذا قامت العاصفة الرملية .

لفتت نظري حجرة وحيدة ما زالت تحتفظ ببابها، توقفت أمامها وتحسست الباب. التزم الشيخ عسران الصمت، ولم أتحرك من مكاني ، كان معنى هذا فى نظر الشيخ عسران إنني أرغب في رؤية ما بداخل الحجرة .

قال الشيخ عسران: إنهم يحترمون ما بداخل هذه الحجرة فهو شئ مقدس ولا يستطيع أحد أن يمسه أو يعبث به.

قال الشيخ عسران: افتح الباب يا إسماعيل والق نظرة سريعة .

دفعت الباب برفق ، لاحت أرضية الحجرة في ضوء باهت ينفذ من كوة بالقرب من السقف، خطوت إلى الداخل ، كان ثمة مصطبة فى أحد أركان الحجرة فوقها إناء أسطواني طويل من المعدن له واجهة زجاجية، اقتربت من الواجهة ودققت النظر..كان واقفا بردائه الأسود يداه مستريحتان فوق بعضهما البعض تحت صدره وذقنه طويلة متدلية، كان يحدجنى بنظراته من خلف الزجاج برأسه المستدير وعينيه المكحلتين الواسعتين وغطاء الرأس الأسود الموضوع بعناية فوق شعره وأذنيه الظاهرتين من تحت غطاء الرأس. كان واقفا هناك بشحمه ولحمه فى انتظاري. انتابني إحساس بالخجل لأني لم أطرق الباب مستأذنا للدخول عليه، ارتبكت وتراجعت خطوة إلى الوراء والتفت مستنجدا بالشيخ عسران، وجدته هناك عند مدخل الباب في انتظاري ، كان يرقبني ، يراقب تصرفاتي وانفعالاتي .

قال الشيخ عسران: إنه واحد من رؤساء هذا الدير كبير المقام وله أفضال كثيرة في هذه البقاع لذلك فقد حفظوا جثمانه بعد وفاته في هذا الإناء تخليدا لذكراه .

{ 7 }

عاد بي الشيخ عسران إلى جذع الشجرة المتحجر، امتطينا الحمارين فيما سقطت أشعة الشمس على الكثبان الرملية فصارت ذات بريق ذهبي يزغلل البصر. كلما اقتربنا من الجبل صار للهواء صوت كالصفير. أخذت أبحث عن المنفذ الذي سيقودنا إلى القرية، لم أجده ، لعله ممر سرى يخترق أسفل الجبل إلى الجانب الآخر، أو باب سحري يفتح أسفل ويغلق بتعويذة خاصة، جدار هائل من الصخر متموج متعرج أحسست به يتحرك نحونا ليجثم على أنفاسنا. توقف الحماران وهبط الشيخ عسران بالحقيبة، أشار إلىّ بالنزول .

نظرت حولي ، لم أجد ما دفعنا إلى الترجل عن ركائبنا في هذا المكان، ولا يوجد دليل واحد يميز هذا المكان عن غيره حتى نتوقف عنده ، الجدار الصخري الهائل لا منفذ فيه ولا يوجد من قريب أو من بعيد ما يشير إلى مسلك أو درب نجتازه إلى الزهرة الصخرية. نظرت إلى الشيخ عسران الذي كان منهمكا في تثبيت الحمارين، يربط وثاقهما في صخرة مدببة .

ـ أين الطريق يا شيخ عسران؟

قال دون أن ينظر إلىّ :

ـ لقد وصلنا يا أخ إسماعيل.

ـ لم نصل القمة بعد، قلت لي أن الزهرة الصخرية فوق الجبل ..أليس كذلك يا شيخ عسران؟

ـ الشيخ عسران لا يكذب يا أخ إسماعيل..الزهرة الصخرية فوق الجبل وسنصعد إليها حالا..يا أخ إسماعيل

ـ كيف يا شيخ عسران؟

ـ ستراها بعد قليل يا أخ إسماعيل، فأنت الآن تقف تحتها .

تراجع قليلا إلى الوراء وتطلع إلى فوق، وضع كفيه حول فمه وأخذ ينادى، تردد صوته بين الصخور وجنبات الوادي والجبل ، تصاعد الصدى وانتشر، لم اعرف بماذا كان ينادى لكن صوته كان قويا ومحددا ويعنى شيئا ما يريد أن يسمعه إنسان معين في انتظاره. تطلعت معه إلى فوق ، التوى عنقي تماما إلى الخلف ولم يدرك بصري قمة الجبل، لم أر شيئا سوى الجبل الشامخ ودروبه الخفية الملتوية التي صنعتها الطبيعة. عاود الشيخ عسران النداء فتردد صداه ثانية بنفس القوة، بعد قليل سمعت صياحا مشابها يتردد صداه فى أرجاء الوادي . عرفت من الشيخ عسران أنه صادر من أعلى الجبل .

ـ إنهم في انتظارنا .

ـ كيف سنصل إليهم يا شيخ عسران؟

ـ أصبر يا أخي.. سنصعد حالا إليهم .

فى البداية سمعت ما يشبه الهدير، ذبذبات قوية حملها هواء الجبل لا أعلم من أين، وبعد قليل سمعت صوتا أخذ يقترب رويدا رويدا، صادرا من أعلى ، لويت عنقي تجاه قمة الجبل، هناك رأيت الشيء يتدلى ببطء..صرخت:

ـ ما هذا يا شيخ عسران؟

قال بهدوء: هذا سينقلنا إلى فوق يا أخ إسماعيل

ـ وما هو يا شيخ عسران ؟

ـ إنه المصعد يا أخ إسماعيل.

ـ أى مصعد يا شيخ عسران أنت تسخر منى..

ـ الشيخ عسران لا يسخر..أنتم تسمونه المصعد وهو عندنا يدار باليد ونطلق عليه اسم الرافعة

ـ هذه قفة أو مغلاق يا شيخ عسران..اعمل معروفا..عد بى من حيث أتيت يا شيخ عسران.

ـ دونك واديا فسيحا وكثبان وقرى.

ـ عد بى جزاك الله خيرا..

ـ إنهم فى انتظارك يا أخ إسماعيل.

ـ أنا لم أحضر هنت لأهلك نفسى.

ـ كن صلبا.

ـ لم أكن أتصور ما يحدث..

ـ إنك أمانة فى أعناقنا يا أخ إسماعيل، نحن فى حاجة إليك ودورك كبير عند الناس كلها ، اطمئن ، يجب أن نحافظ عليك..أنت فى أمان .

ـ ماذا تفعلون بى؟

ـ نحن لم نفعل.. أنت الذى رغبت فى المجىء إلينا وهم فى انتظارك فوق، إنك معلم صاحب رسالة ولا يهم فى أى مكان تؤدى رسالتك .

ـ عد بى يا شيخ عسران والا عدت بمفردى.

كان ذلك الشىء قد وصل إلينا واستقر أمامنا على الصخر، قفة ضخمة من الكتان متصلة بعدد من الحبال السميكة ، هبطت واستقرت على الصخر أسفل الجبل..توقف الصوت الغريب .

ـ هيا اصعد يا أخ إسماعيل سألحق بك ومعى الحقيبة.

ـ لن أصعد. لا أريد أن أموت محطما على الصخور..

ـ عيب يا أخ إسماعيل، إنهم ينتظرونك .

ـ من ..؟ فوق؟

ـ ناس..عشيرة..قبيلة..أطفال قرية الزهرة الصخرية ..كلهم يا أخى.

ـ ولماذا لا يهبطون ويعيشون هنا فى الوادى؟

اقترب منى محاولا دفعى نحو القفة ..

ـ يا أخى اصعد، إنهم فوق من آلاف السنين، هل أحضرناك لتقول لهم انزلوا..اصعد أنت إليهم .

ـ لست بهلوانا حتى أتسلق الجبال بالحبال .

لأول مرة منذ قابلته أرى ملامح نفد الصبر والغضب عل وجهه،حدجنى بنظرات صارمة على وشك الانفجار، تطلعت إلى أعلى،لم أر نهاية الحبال التى اختفت الأجزاء العليا منها فيما يشبه الضباب. وضع يده على كتفي وربت عليه، تقدمت ووجدت نفسي أتسلق حافة القفة وجلست فى قاعها .

نظر إلىّ من فوق الحافة قائلا:

ـ لا تخف يا إسماعيل، إبق مكانك ولا تتحرك حتى تستقر بك الحبال فى أعلى الجبل ، لا تحاول أن تنظر إلى أسفل اجعل بصرك أفقيا تجاه الوادي أو إلى الجبل، إياك أن تغلق عينيك وسألحق بك فى الدور التالي .

أطلق الشيخ عسران صيحة عظيمة ثم جذب الحبال، شعرت بالقفة تهتز ثم تتحرك ببطء مبتعدة عن الأرض، أخذت أرتفع وأرتفع تاركا تحتي الوادي والحمارين والشيخ عسران الذي أخذت أردد نصائحه لي ، صوبت عيني على الجبل، كان قريبا منى على بعد ذراعين، الشيخ عسران حذرني من النظر إلى أسفل، التفت بحذر تجاه الوادي الرملي، كان كل شئ هناك على مرمى البصر، بدا الدير لمهجور كقطعة الحجر المتعرجة تاركا ظلا قصيرا على الرمال، وعلى مدى مسافات شاسعة ارتفعت هامات الكثبان الرملية متخذة كلها شكلا واحدا تبدأ بسطح متعرج يزداد انحداره مع الارتفاع حتى يصل إلى القمة التي تكون زاوية حادة مع سطح الكثيب الآخر المعاكس لاتجاه الهواء أو الريح والذي ينحدر انحدارا شديدا.

ضاقت المسافة بين القفة والجبل، تحركت الحبال وهى شديدة القرب من سطح الجبل، وصل إلى سمعي صوت الحبال وهى تعمل على آلاتها، تلا شت المسافة التى تفصل بين القفة والجبل، فى لحظة وجدتني استقر معها فى تجويف صخري مكشوف فى أعلى الجبل، رأيت أحدهم يطل علىّ وأنا قابع فى قعر القفة .

وقفت ولا أعرف كم مضى من الوقت وأنا واقف داخل القفة أنظر إلى الرجل الذي كان في انتظاري، وللحظة شعرت بالرعب عندما تخيلت نفسي انظر خلفي أو تحتي لأرى أى مسافة وأي ارتفاع قطعته وأنا في طريقي إلى هذا المكان المرتفع فوق الجبل..أفقت على صوت الرجل :

ـ أهلا وسهلا..لا تنظر وراءك يا أستاذ.

مد ذراع وساعدني على الخروج من القفة، وقفت أمامه مبهورا كمن أنقذ من الموت، رأيت حاملين من العروق الخشبية هما فى الأصل جذعا شجرتين مثبتتين فى الصخور بينهما اسطوانة ضخمة من الحديد تمر فوقها حبال قوية تلتف حولها، تدار الاسطوانة بواسطة روافع متشابكة تشبه تلك التى تستخدم فى المواني لإنزال الحجار والأشياء الثقيلة من فوق السفن، مثبتة فى تجاويف جانبية فى إمكان شخص واحد أن يقوم بتشغيلها .

تحركت السطوانة وهبطت القفة الفارغة لاحضار الشيخ عسران وحقيبتى. سرعان ما عادت وهبط منها الشيخ عسران بخفة حاملا الحقيبة. خرجنا من التجويف الصخرى إلى السطح، هناك لم أجد سوى الصخور، اصطحبنا الرجل الذى استقبلنى عند صعودى ، قام الشيخ عسران بتقديم كل منا إلى الآخر، الرجل هو صاحب المدرسة وناظرها وساكنها ، قان إن اسمه الشيخ عثمان وهو أيضا مسئول الاتصال بين الوادى أسفل الجبل وأهالى الزهرة الصخرية .

قال الشيخ عثمان إننى مسئول عن المدرسة منذ هذه اللحظة مسئولية شاملة ابتداء من المدرسة حتى التلاميذ أنفسهم، وقال إنه سيتركنى وحدى طوال الفترة الدراسية التى تستغرق سبعة شهور، وأنى سأقوم بعدة وظائف فى وقت معا، وأن الشيخ عسران سوف يمدنى من حين لآخر بالتموين والمؤن وكل ما يلزمنى وسيحضر لى البريد. اكتفيت بالاستماع إلى الشيخ عثمان، وكان الشيخ عسران يهز رأسه موافقا على كل كلمة يوجهها إلىّ الشيخ عثمان .

لم يكن هنا أى مبنى على وجه الأرض، لم أر قرية الزهرة الصخرية وان كنت قد عرفت لماذا وصفوها بالصخرية. لم أر ناسا ولا أطفالا ، كانت أمامنا مجموعة من الصخور تحجب الرؤية، ولما رآني الشيخ عثمان أتلفت حولي حائرا قال أن ما أبحث عنه موجود خلف هذه الصخور..وهى حدودي !

وقال أنه من الضروري أن أكيف نفسي مع عادات وتقاليد أهل الزهرة الصخرية فإن لهم عاداتهم وتقاليدهم الخاصة ولهم أفكارهم وعقائدهم التي ربما لم آلفها أو أسمع عنها من قبل..حذرني قائلا ألا أثير غضب أحد من المواطنين وألا أبدى استيائي من بعض تصرفاتهم، طمأنني بأنهم يحترمون ويقدسون من يقوم بتعليم أبنائهم ويرعاهم رغم أنه ليس تعليما كاملا .

قاطعته وسألته عن التعليم غير الكامل. لم يرد الشيخ عثمان واستمر فى حديثه قائلا بألا أسعى إليهم لأنهم هم الذين سيسعون إلىّ ، وأن الأطفال هم الذين سيحضرون، وإذا غاب أحدهم يوما فلا اعاتبه فى اليوم التالى، ولا أسارع بالسؤال عنه فقد لا يرغب الطفل فى التعليم ولا فى الذهاب إلى المدرسة. قال الشيخ عثمان أن التعليم هنا مقصور على الأطفال فقط ولا يتعدى حدود التعليم الابتدائى أو الإلزامى المتعارف عليه وذلك لظروف خاصة تعانى منها الزهرة الصخرية .

قال بعد تردد أن أطفال الزهرة الصخرية في بداية حياتهم يعتمدون على الإشارات في التفاهم وتعلمهم الكلام ينطقون الأسماء غير كاملة، إلا أنهم لا يعتقدون أنه السبب في أن يكون أطفالهم معوقين بالنسبة للغة، ومهمتي أن أرتب لهم الحروف وطريقة نطقها مع التدريب، فقد يخرج جيل منهم يستطيع أن يتغلب على هذه الظاهرة الاجتماعية عندهم ويتحرروا من تأثير الكبار عليهم .

طرحت عل الشيخ عثمان بعض الأسئلة حول أطفال الزهرة الصخرية..رعايتهم لهم..حياتهم، معاملة الكبار لهم. لم يعطني إجابات شافية، إنما كان يعود ليحدد لي مهمتي وطريقة التدريس وكلها تنحصر في تدريب اللسان على النطق الصحيح ليس إلا .

{ 8 }

برزت أمامنا خيمة ضخمة تنشر أوتادها على بقعة كبيرة من الأرض .

قال الشيخ عثمان: ها هي مدرستك، وبيتك .

التفت ورائي، لم أجد سوى الصخور، خيل إلىّ أنهم يضعون العراقيل من خلفي ومن أمامي، وأنهم يقطعون طريق عودتي بلا رجعة .

فتح الشيخ عثمان باب الخيمة وثبت الأطراف فى شنكل جانبي، دعاني للدخول: ثمة عمود رئيسي ضخم وسط الخيمة معلق عليه لمبة جاز، الأرض مفروشة بحصير ومفارش قديمة، في ركن منه وضعت بعض المفارش والوسائد فوق الحصير، في الأركان صناديق مغلقة وقفف وخيزرانة طويلة، أطباق وأكواب، كيزان من الصفيح.

قال الشيخ عثمان وهو يفتح الصناديق واحدا وراء الآخر:

ـ هنا ألواح اردواز وطباشير، هنا علب الطعام المجفف، سكر وشاى ، بن وسجائر، كل شىء فى هذه الصناديق، هنا خبز جاف وما تحتاجه من طعام أو خبز طازج سيصلك من القرية، لا تطلبه حتى يأتيك، هنا صندوف فارغ ضع فيه ملابسك وأشياءك الخاصة..الماء موجود فى خزان صغير خلف الخيمة، الشيخ عسران سيحضر إليك كل شهر ما يلزمك، وسيحضر معه بريدك إذا كان هناك من يراسلك أو يكتب إليك، كما سيأخذ مكاتباتك لارسالها إلى اهلك او لمن ترغب. وأنت يا شيخ عسران إبق مع الأستاذ حتى الغد، سأنزل وآخذ حمارا واترك لك الاخر، والسلام عليكم .

ـ ألا توجد كراسات وأقلام؟

ـ لست فى حاجة إليها..عندك ألواح الإردواز والطباشير .

هكذا اختفى الشيخ عثمان وعاد الشيخ عسران بعد مساعدته على الهبوط من الجبل. دخلنا الخيمة وطلب منى أن أغير ملابسى واستريح. قال أنه من الممكن أن أرتدى الجلباب وملحقاته الداخلية واحتفظ ببنطلونى وقميصى داخل الصندوق الخاص بى. قال انه واثق بانى سارتدى ما يرتدونه اهل الزهرة الصخرية بعد وقت ليس بالطويل .

ـ إننى فى أشد الحاجة إليك، لا تتكركنى يا شيخ عسران..

ـ يجب أن أذهب.

ـ لا أستطيع ان أعيش فى هذا المكان وحدى..

ـ إنه شعورك فى البداية.

ـ ليس فى هذا المكان ما يشجع على البقاء.

ـ ستألفه وتحبه.

ـ قذفتم بى إلى السماء والقيتمونى بين الصخور..

ـ إتهام فى غير محله .

ـ لا أحد يستطيع أن يعيش هنا..

ـ إنهم موجودون هنا منذ آلاف السنين.

ـ أرنى واحدا فقط، أرنى مظهرا واحدا من مظاهر الحياة..

ـ سوف ترى.

ـ اخبرني يا شيخ عسران عن الذين جاءوا قبلي إلى هنا..

ـ ماذا تقصد؟

ـ عن الذين عملوا في هذه الخيمة ..

ـ كثيرون .

ـ أين هم..لماذا لم يستمروا؟

ـ منهم من عاد إلى موطنه بعد أن انتهت مدة خدمته.

ـ والآخرون؟

ـ منهم من طلب نقله لظروف صحية.

ـ عندهم حق..

ـ ومنهم من ترك الخدمة وعاش مع أهل الزهرة الصخرية كواحد منهم.

ـ كاذب ..

ـ لا تتهم الشيخ عسران بالكذب..إياك أن تكررها .

ـ لا أتصور أن يختار إنسان العيش هنا .

ـ إنك لم تكتشف المكان بعد .

ـ لا أعتقد أن هناك اكثر مما أراه ..

ـ إنك لم تتعود الرؤية في هذا المكان فلا تتعجل الحكم.

ـ لا يوجد ما يشجعني على البصر..

ـ عاش بعضهم هنا وقطعوا صلاتهم بالعالم الذي يقع أسف الجبل.

ـ إنه اختيار صعب..

ـ حتى أكون أكثر صدقا معك ، حدث أن واحدا ، واحدا فقط ، ألقى بنفسه من فوق الجبل .

{ 9 }

قضيت بقية اليوم داخل الخيمة أفرغ حقيبتي وأفحص محتويات الصناديق. حاول الشيخ عسران جذبي إلى موضوعات أخرى، قال إنه من الأفضل أن أتريث ولا أتعجل وأن أهدأ بالا. ظل قريبا منى ومن تحركاتي، أخذ يسد علىّ حكايات شتى، بدا غريبا ومدهشا في نظري وهو يخرج عن صمته ووقاره، وهو يلوح بذراعيه ، وهو يقف ويقرفص، وهو يقلد الأصوات . أدركت أنى أسرعت في الحكم على شخصية الشيخ عسران، وما أدراني بدخيلته؟ لعله أحس بذعري من هذا المكان فأراد بأي وسيلة أن يجعلني أتمالك نفسي .

تجولت معي الشيخ عسران قبل الغروب حول الخيمة والمنطقة القريبة منها، لم يكن هناك بشر ولا بيوت ولا أصوات، كأن الزهرة الصخرية خدعة وخرافة . قرص الشمس الأصفر الكبير قريب منا ، ينزلق ببطء وراءنا، توهجت الصخور باللون الناري فأصطبغ الجو كله باللون الأصفر.

كان خزان المياه خلف الخيمة، وبيت الراحة مكان منعزل بين صخرتين. أوضح لي الشيخ عسران كيف أقضي حاجتي في بيت الراحة بالطريقة الصحيحة حتى أحمى نفسي من الشر والأذى. قال لي إنني يجب أن أعرف أشياء كثيرة في هذه المنطقة ، كيف أعيش وأمارس حياتي اليومية في بيئة تختلف عن بيئتي، نصحني بأن أغلق خيمتي من الداخل في الليل، ونصحني بألا أحرك الصخور الموجودة حولي دون داع، ولا اجلس بجوار مكان تتبول فيه الدواب والماشية، وأن أحذر خزان الماء والآبار وما حولها، وأن أحذر بيت الراحة وأن أستخدم عصاه طويلة في جس الأرض قبل الدخول إليه، ذكرني بالعصا الخيزران الموجودة داخل الخيمة ، نصحني بألا أعتدي على الثعبان دون سب، فإذا رأيته لا أقطع عليه الطريق واتركه يمضى في سبيله، نصحني بألا أجلس تحت ظل شجرة قبل أن أفتش عن الثعبان فوق الشجرة وألا أسارع بإشعال لمبة الجاز عند الغروب فينفذ الجاز دون الحاجة إلى ضرورة استخدامه .

عند حلول الليل جلسنا خارج الخيمة في الظلام. كانت النجوم قريبة منا إلى حد كبير، وكانت الصخور تعكس أضواءها الشاحبة فتبدو كالأشباح الجاثمة إلى الأرض .قال الشيخ عسران إنه سيقضى الليل معي وفى الصباح سيتوكل ، وفى اليوم التالي سيأتي الأولاد فهم يعرفون مواعيد الحضور وينصرفون حسبما يرغبون في الانصراف .

انقطع الشيخ عسران عن الكلام وولى وجهه ناحية السماء. رأيت النجوم فى عينيه، أحسست أن ثمة اتصالا بينه وبين النجوم ، وأنه يفهم لغتها كما تفهم هي لغته .

قال الشيخ عسران:

ـ في الليل تجبرك الصحراء على النظر إلى السماء، فهي الشيء الوحيد المضيء في العراء .

رأيت أنه من الأفضل ألا أرد حتى لا أقطع عليه هذا الاتصال ، ولما طال الصمت وجدتني أقول له:

ـ أتبحث عن نجومك يا شيخ عسران؟

ـ إنني أعثر عليها بسهولة، أتوجه إليها حيثما تكون .

أشار ناحية السماء قائلا:

ـ هذا هو نجمي..إنني أعرفه ولا أخطئه أبدا ، أينما سرت فهو فوق رأسي تماما ، وحينما يطلع القمر يكون هو بجواره لامعا مضيئا لا يخسفه نور القمر .

ـ لا بد أن القمر يبدو من فوق هذا الارتفاع كبيرا جدا..

ـ في إمكانك أن تمسكه بيديك..إنه عروس الكون.

ـ إنني أعرف ، يا شيخ عسران إن في الكون أقمارا كثيرة..

ـ في الكواكب الأخرى..

ـ المشترى مثلا له عشرة أقمار..

ـ علاقتي بقمر هذه الأرض.

ـ عندك حق..والليل يا شيخ عسران؟

ـ ماذا تقصد يا أخ إسماعيل؟

ـ الليل هنا يوازى النهار تقريبا..

ـ إنها حكمة الله في خلق الكون .

ـ في الكواكب الأخرى الليل يختلف..

ـ إنها حكمته التي أوجدتنا على هذا الكوكب.

ـ الليل في عطارد طوله أربع ليالي أرضية، وفى كوكب الزهرة ما يوازى مائة يوم يا شيخ عسران.

ـ لا يستطيع إنسان أن يعيش هناك.

ـ هناك كواكب تظل في ليل دائم لا تطلع له شمس تبدده..

ـ إنها حكمة الله في خلق الكون.

كان الشيخ عسران يسلم لله بكل ما لا يفهمه ولا يدركه .

قام الشيخ عسران ودخل الخيمة فدخلت وراءه، أشعل لمبة الجاز وجعلها قصيرة الشعلة، تحسس أركان الخيمة من أسفل وقال لي أنه لا بد من هذا العمل قبل أن أنام في الليل حتى أسد الثغرات وآمن من الشر . أغلق باب الخيمة ووزع الأغطية ، نام كل منا في جانب.

ـ لم أشاهد الزهرة الصخرية يا شيخ عسران ؟

ـ ستراها فيما بعد، مع مرور الأيام ستعرف كل شئ..نم الآن .

انبعث الدفء من الأرض واحتواني، أحسست بالأرض تحتضن جسدي وتبعث فيه الدفء. سمعت أصواتا كنت أظنها في البداية صادرة من الشيخ عسران ، لم أستطع تحريك رأسي لأراه في ركنه، لكنى أدركت بطريقة ما أنها صادرة من خارج الخيمة. منعتني الأرض الدافئة من القيام فتراخيت أكثر واسترخيت.

في البداية رأيت الأضواء من بعيد، كنت أظنها بعيدة إلى حد كبير ، لكنها اقتربت منى أو اقتربت أنا منها، احتوتني الأضواء ورأيت شارعنا يموج في ضوئه بالحركة، كان مزدحما بالناس كعادته، في قلب الشارع، وفى المقاهي، وقوفا أمام الأبواب المفتوحة والنوافذ، على النواصي. أخذت الرؤية تتغير، إذ شممت رائحة ثقيلة نفاذة ورأيت الناس يسيرون في ثقل وتكاسل عجيبين ، حتى رأيتهم يتحولون إلى خراف يحمل كل منهم فروة من الصوف على ظهره، رؤوسهم تحولت إلى رؤوس خراف، كانت لهم ذيول سمينة ثقيلة تهتز، تسير فى الشارع ورؤوسها إلى أسفل .

صعدت سلالم بيتنا، أو هكذا وجدت نفسي، لم أتوقف حتى وصلت إلى السطح، كنا في الليل، وكانت السماء مرصعة بالنجوم، وفى نهاية الأفق أخذ القمر يصعد بسرعة ويكبر حجمه اتجه نحوى واقترب منى ، مددت يدي ولمست حافته الفضية، لكنى فشلت في التشبث به والصعود إليه ، أخذ يبتعد ويعلو، نظرت من سور السطح، رأيت الخراف تسير في الشارع، وفى البيت المواجه كانت النافذة العلوية مفتوحة، فانتظرت حتى ظهرت لى امرأة أعرفها.. تطلعت نحوى، كانت ترتدى ثوب المساء ، ثوبا عاري الصدر يكشف عن تفاصيل كثيرة من جسدها .

قلت في نفسي إنها لم تتحول بعد إلى خروف، سألتني بيديها أين كنت ؟ فتذكرت أنى قد عدت من رحلة طويلة بعيدة، ابتسمت لي . كنت أعرفها، ويبدو أنى كنت التقى بها كثيرا، وأن ثمة علاقة خاصة جدا تربطني بها . كان ثمة فراش تحت النافذة مباشرة، تمددت عليه وعادت الابتسامة ترتسم على شفتيها، مسحت على بطنها المستوى ، قلت لها بيدي أنى سآتي إليها ، أومأت برأسها موافقة. اعتليت سور السطح وقفزت .

{ 10 }

استيقظت في الصباح على رائحة غريبة تملأ الجو من حولنا . قال الشيخ عسران إنها رائحة الصخور المبللة بالندى. في الخارج رأيتها مغسولة تلتمع تحت ضوء الشمس. تسللت الرائحة النفاذة إلى صدري ، كانت منعشة. شعرت أنى أريد أن أستنشق المزيد منها. سألت الشيخ عسران عما إذا كان أحد يقطن قريبا من مكان الخيمة. نظر إلىّ مليا وقال: لا ..إن القرية بعيدة عن هنا . ثم عاد يسألني عما رأيت . فقلت له: لم أر شيئا . فعاد يسألني عما سمعت. قلت له : ليس شيئا محددا ولكنى سمعت أصواتا. سألني: هل سمعت أحدا بالخارج فى الليل ؟

ـ كنت أحلم أو لعله وهم ..

قال الشيخ عسران : سأهبط الجبل وسأعود إليك بعد مرور ثلاثين ليلا ..لا تنس ما قلته لك، سيأتي إليك الأطفال فلا تبحث عنهم قبل أن تراهم داخل خيمتك ، اجعل من عاداتهم نظاما لمدرستك، لا تتعجل معهم ، اجعلهم يألفونك، يتعودونك عليك، كن قريبا منهم، حنونا معهم ، مبتسما في وجودهم حتى لو لم يعرفوا معنى الابتسامة، لا تقس على أحد منهم.

سرت معه إلى مكان الرافعة، قفز إلى قاع القفة في خفة، حركت ذراع البكرة، دارت بسهولة، لوح لي بيده مودعا، أخذ يهبط ويهبط حتى اختفى من أمامي .

حينما استدرت عائدا دب الخوف في قلبي، تلفت حولي، لم أجد سوى الصخور والصمت، أسرعت نحو الخيمة، جلست بالقرب من مدخلها، أرهفت سمعي علني أسمع صوتا أو همسا أو حركة تشعرني بالحياة، سمعت أنفاسي ودقات قلبى، تساءلت عما إذا كنت سأحتمل البقاء في هذا المكان مدة طويلة ، كيف سأتعود هذا الصمت والسكون، وقد كنت أسمع ضجيج الناس حتى الصباح. لاحت لي وجوه الذين سبقوني..أي وجوه ؟

حاولت أن أرسم ملامحها في الفراغ أمامي ، على جدران الصخور الملساء، أغمضت عيني فرأيت وجه الذي اختار النجاة قفزا من فوق الجبل، لعله المكان الذي أجلس فيه من قبل ، وشرع يفكر في الهرب والموت خوفا من الجنون. ألم يكن هذا المشهد أمامه ، نفس الصخور، نفس الصمت ، فما الذي يمنعني من التصرف مثله؟ لماذا لم يأخذ الطريق الآخر ويعيش في الزهرة الصخرية؟ وأين هي قرية الزهرة الصخرية؟ لماذا اختار طريق الموت على طريق الحياة؟

تخيلت وجها آخر..الوجه الذي اختار أن يعيش هنا في أعلى العالم ، ما الذي أغراه بالبقاء هنا؟هل هو نوع آخر من الموت يشبه الحياة ؟ أم هو نوع من الحياة يشبه الموت ؟

قمت من مكاني واتجهت ناحية الرافعة ، حفظت الطريق إليها، فلم تكن الخيمة بعيدة حينما أتيت إليها من حافة الجبل. كانت الصخور متباعدة عن مثيلاتها في الأماكن الأخرى .

اقتربت من البكرة وروافعها ، توقفت على بعد أمتار منها وأخذت أتطلع إلى الأفق البعيد ، سهول ووديان وكثبان رملية لا حصر لها تمتد حتى نهاية الأفق، ودرب كالخيط المتعرج يشق الرمال كالثعبان. شعرت بأن هناك قوة غامضة تجذبني إلى الأمام، خشيت أن تدفعني هذه القوة من فوق الجبل، لعله نداء غامض يستجيب له الإحساس .

اقتربت في حذر ،كأن إنسانا مجهولا سيدفعني من الخلف، وهناك بالقرب من الجذع الضخم الذي يحمل العمود الحديدي سمعت صوتا. في المرة الأولى اعتقدت أنه وهم أو من تأثير سريان الهواء، في المرة الثانية استطعت أن أحدد مكان الصوت خلف الجذع ، كان يتحتم علىّ أن أسير مع استدارته فهو ضخم .في الجانب الآخر حفرة واسعة أو تجريف صخري يخفى ما فيه. من فوق حافة التجويف رأيته: كومة من الملابس المهلهل تخفى بقايا إنسان عتيق، لحية طويلة تخفى الوجه، عينان صقريتان في قاع محجرين عميقين ككهفين، ذراعان معروقتان ينتهيان بكفين كبيرين إلى حد كبير، تشبههما قدمان مفلطحتان مشققتان مليئتان بالأصابع . تعلق بصري بهيكله العجيب ، بينما ظل هو يرمقني فترة طويلة وقد فاجأه وجودي. حرك رأسه ورفع كفا ضخمة مرحبا بى ..

ـ السلام عليكم .

ولما رآني أهم بالنزول إليه في الحفرة، واجهني بكفه الكبيرة مفرودة الأصابع ..

ـ اذهب .

توقفت وانتظرت منه أن يقول شيئا آخر، لكنه فتح فمه وأغلقه . فم بلا أسنان، هوة صفراء كشفت عن نفسها وسط دغل من شعر اللحية والشارب الضارب في الوجه ..أحسست بأنه اكتفى بتحيتي ولا يريد أن يتحدث معي، لم أسمع صوته ، انكمش فمه وتحول إلى دائرة صغيرة حمراء. وقفت قريبا منه مترددا.هل اقتحم عليه خلوته وحدته أم اتركه في حاله ؟

لماذا يبقى في هذه الحفرة أو هذا الجحر كحيوان طريد؟

نظرت إلى كفيه الكبيرتين وأصابعه المبرومة الطويلة، التفت ناحية البكرة والحبل الملفوف حولها، تخيلته واقفا إلى الرافعة وكفه الكبيرة الضخمة تحتوى العمود الذي يحرك الرافعة لتدور فى الهواء.

سمعته يقول لأول مرة :

ـ من خمسين عاما..

ـ الرافعة؟

ـ خمسون عاما..أخذها المرحوم أبى عن جدي لأمي ..

ـ لم أرك عندما صعدنا إلى هنا ..

ـ سمعتكم..كنت في انتظاركما أنت والشيخ عسران، تولى الشيخ عثمان رفعكما تقديرا لك وترحيبا .

ـ لماذا أنكر الشيخ عسران وجودك حينما سألته؟

ـ لا تهتم ..

ـ سنكون جيرانا ..أنت وأنا ..

ـ ليس لي جيران ..وليس لك جيران..

ـ أنت أقرب الناس إلىّ .

ـ اذهب يا إسماعيل..اذهب.

ـ إنكم تعرفونني جميعا..

ـ اذهب ولا تعد .

{ 11 }

شعرت بالبرد، دخلت إلى الخيمة وأغلقتها ورائي، انتشر ضوء اللمبة المعلقة عل العمود، ضوء واهن تسرب في أركان الخيمة. أطبق الصمت علىّ من الخارج يقطعه من حين لآخر صوت الحشرات التي تعيش بين الصخور وتحتها. تمددت عل الفراش ، أحسست بصلابة الأرض الصخرية من تحتي . تذكرت نصائح الشيخ عسران ، قمت ثانية ودرت على حواف الخيمة السفلية ، نقلت فرشتى بجوار الصناديق لتكون حاجزا بيني وبين جدار الخيمة . علقت بصري بلمبة الجاز المقابل لي ، ثمة تيار من الهواء ينفذ إلى داخل الخيمة يهز شعلة الضوء.وبكيت .

فتحت عيني ، كانت دموعي قد جفت ، خيل إلىّ أن شريط اللمبة صار قصيرا عما كان عليه في أول الليل، وأن الحشرات نامت في الخارج. انتابني شعور غريب امتلك جسدي وعقلي، شعور باليقظة وإدراك مرهف لكل ما في ما في الخيمة وما يحيط بها من الخارج ، وأنني صرت مركزا مشعا لما حولي، وأن الصخر الذي أنام عليه ذو إشعاع مغناطيسي أثر في تفكيري.

لم يكن قيامي من النوم تلقائيا، كان قيامي من النوم استجابة لنداء غامض، استجابة لوجود غريب شاركني الخيمة، يرقبني من الخارج ، يقبع في الظلام، ظلام الصخور. في اللحظة التي فتحت فيها عنى كنت أعتقد أنى في فراشي الوثير هناك، وأن شخصا ما سيطرق علىّ الباب ويدخل ليفتح النافذة ويوقظني.

كثيرا ما يحدث معي ومع آخرين ـ أن يقوموا من نومهم في الأماكن الغريبة ولا يدركون في لحظات اليقظة الأولى أنهم غادروا بيوتهم وحياتهم المألوفة، لكن سرعان ما يفرض عليهم الواقع نفسه حينما يلتقط الوعي مع البصر ما يحيط به من أشياء وأصوات .

هكذا كنت أنا ..زحفت ناحية الباب ونظرت من خلال فتحة صغيرة إلى الخارج. كانت الدنيا مظلمة ، وصوت خفيف سرعان ما ابتعد عنى، ظننته في بادئ الأمر الرجل القابع هناك فى الحفرة، حارس الرافعة، لكن الصوت كان خفيفا وسريعا، سمعته في اكثر من اتجاه حول الخيمة. انتابني القلق فقمت إلى اللمبة وأطلت شعلتها .

قعدت على الأرض وأسندت ظهري إلى عمود الخيمة الرئيسي، أرهفت سمعي دون جدوى. الصمت له صوت كالطنين ، يضغط على أذني ، ابتلع ريقي أتنحنح، أعود إلى فراشي أتمدد عليه. أسلم نفسي لموجات غريبة من الشد والجذب آتية من حولي ومن أسفل ومن الداخل، أستسلم لهزات تأتيني في موجات تبدأ من أصابع قدمي ثم تتدفق مع دمى فى العروق حتى تخبط في جدار الرأس ثم تعود من حيث أتت، تتداخل مع هذه الهزات المتدفقة عبر الجسد أصوات شاذة..تنبهت لها .

نظرت حولي وأنا نائم، وقع بصري على حافة الخيمة من أسفل ثم حكة من الخلف، طرف الخيمة يرتفع قليلا وتزحف أشياء ما ببطء شديد وحذر ، أمد رقبتي وأدقق النظر ، قلبي ينبض بشدة . في بداية الأمر ظننتها مجموعة من الثعابين السوداء تتسلل إلى الخيمة لكنه أبانت عن نفسها، زحفت إليها في خفة دققت النظر فإذا بها أصابع طويلة سوداء، أظافر مقوسة ممتلئة بالشعر. كانت الأصابع تحسس أرضية الخيمة كقرون الاستشعار تتقدم وتتراجع تجوس متحسسة يمينا وشمالا ، طرف الخيمة يرتفع..رويدا رويدا ينخفض.. حيوانات أم بشر ؟

لصوص؟ أي شئ يريدون الحصول عليه؟ إنهم يعرفون ما بداخلها، فليأتوا ويأخذونها، يأخذون تلك الصناديق اللعينة وهذا الحصير وهذه المفارش العتيقة. هل سكان الزهرة الصخرية مميزون بهذه البشرة المشعرة الغريبة ؟

زحفت ناحية المدخل وفتحته اندفعت إلى الخارج دفعة واحدة معتمدا على المفاجأة، صوت أقدام تبتعد، أشباح غامضة تذوب في الظلمة، صرخات قصيرة محذرة تصدر منه ، ثم سرعان ما خيم الصمت .

في الصباح الباكر خرجت من الخيمة ، درت حولها فلم أجد شيئا. من الصعب أن تحتفظ الصخور بأي أثر، ندى الصباح غسل كل شئ. توجهت ناحية الرافعة، اقتربت من الحفرة، وجدته هناك كما تركته بالأمس. رفع رأسه أخذ يرمقنى، لم يرفع يده لتحيتي ظل يحدق في وأنا لا أريد أن أتركه وأعود إلى الخيمة قبل أن تنتشر أشعة الشمس. دفس رأسه بين ذراعيه متكورا حول نفسه وكأنه يقول لي : اذهب .

ـ أريد أن أتحدث معك ..

التف اكثر حول نفسه، التصقت ساقاه حول تجويف بطنه واختفى الرأس بين الذراعين.

ـ ما الذي يحدث عندكم في الليل ؟

خرج رأسه من بين ذراعيه، رمقني بعينيه الصقريتين .

ـ لم استطع النوم ، كنت قلقا وكانت ثمة أشياء خارج الخيمة ..

ـ هل زارك أحد بالأمس ؟

ـ لم يزرني أحد، لكنى سمعت ولم استطع أن أرى فى الظلام..

ـ لقد أسرعوا في زيارتك.

ـ من هم ؟

ـ إنهم جيرانك على كل حال، فهم قريبون من هنا.

ـ من هم ؟

ـ القرود .

ـ أي قرود..لم أرها في النهار..

ـ إنها تعيش هناك بين تلك الصخور..تسعى ليلا، بعضها يسعى ليلا ، لن تتعرض لك بالأذى إلا إذا بدأت أنت .

ـ أرادت اقتحام الخيمة في الليل .

ـ كانت تريد أن تتعرف عليك.

ـ أي تعارف يا شيخ؟

ـ ستعاود زيارتك حتى تألف رائحتك ثم تتركك .

ـ لماذا لم تقضوا عليها أو تحتفظوا بها في أقفاص؟

ـ أسكت.

ـ إني أسأل ..

ـ أسكت أنت لا تعرف شيئا..اذهب من هنا .

لوح بذراعيه تجاه الخيمة وتأهب للرقاد ثانية ..

ـ أريد أن أعرف ..

ـ ستعرف كل شئ في حينه..لا تكن عجولا.

ـ أريد أن أعرف ..

ـ إنهم معنا منذ القدم، إننا نعيش معا في هذا المكان منذ خلقنا الله .

ـ في الوادي يعيشون مه الخراف وفوق الجبل يعيشون مع القرود .

ـ ماذا تقول ؟

استدرت عائدا. امتزجت أشعة الشمس الدافئة مع نسمة الصباح الباردة، استنشقت رائحة عطرة مع رائحة الصخور النفاذة، تصاعدت أبخرة من الأرض، أبخرة بيضاء تصاعدت مع السحب الدانية. ذهبت إلى بيت الخلاء، لم تكن الخيزرانة معي، تفحصت المكان جيدا، قضيت وقتا فيه. أحسست بالجوع وبشهية قوية إلى تناول وجبة كبيرة .

عندما دخل الخيمة وجدته جالسا أمامي على الحصير. جسم أسمر صغير دقيق الأطراف، يرتدى جلبابا من قماش قديم يصل حتى الركبتين، شعر الرأس قصير جدا، أذنان كبيرتان بالنسبة لحجم الرأس ، أسنان مفلوجة.

رفع بصره إلىّ عندما رآني أدخل، أخذ يتفحصني بعينيه، كان هناك تحت على الأرض، صغير جدا، يضع كلتا يديه فى حجره..جلست أمامه قريبا منه. لم يكن يرتدى شيئا تحت جلبابه . مددت له يدي، أطرق برأسه إلى الأرض ، مسحت على رأسه المستدير وربت على كتفيه.

لم اعرف ماذا أقول له، وماذا سأسمع منه ؟ لم أساله عن اسمه. السؤال في البداية مغامرة غير مضمونة العواقب، كنت أريد أن أسمع صوته ، لن يحدثني . ما قاله الشيخ عثمان جعلني أتردد ولا أتسرع في كسب ألفة طفل صغير، ربما بعد قليل حينما يألفني، لا يشعر بالحرج ويتصرف معي بطبيعته .

ارتسم على الحصير ظل صغير، التفت ورائي، طفل آخر يقف بالمدخل يحجب جسده النحيل الضوء الخارجي، يرتدى سروالا طويلا عاري الصدر يقبض بكلتا يديه على صرة من القماش مدلاة بين فخذيه . أشرت له بالدخول، جاء وقعد على الحصير بجوار زميله ووضع الصرة أمامه. توقفت عن النظر إليه حتى لا أحرجه. توقعت أن يأتى الآخرون، لا أعرف عددهم ، لا بد أن هناك آخرون سيأتون هكذا قال الشيخ عسران والشيخ عثمان. خرجت من الخيمة ونظرت في اتجاه الزهرة الصخرية ، كل شئ حولي أملس منحدر مدبب، مكان لا يليق إلا بالسحالي والفئران .

لاحظت رؤوسهم وهياكلهم العارية وهى تبرز من فوق الصخور ومن جنباتها منحدرين نحوى، أجساد ضامرة ، أطراف دقيقة ، أقدام حافية، صدور عارية ، بعضهم لا يرتدى سوى خرقة تحجب ما بين الفخذين .

اقتربوا من ، متشابهين، أصابع نحيلة وصدور صغيرة، ألواح من الرخام وأصابع من الجير، عقود من الخرز والزلط الملون تتدلى من صدورهم. أحاطوا بي عند مدخل الخيمة، ابتسمت وأشرت لهم بالدخول ، تدافعوا نحو المدخل وافترشوا الحصير والمفارش، وقفت في مواجهتهم ، شعرت بأنهم هناك تحت وأنى بعيد عنهم ، جلست على ركبتي حتى تكون قامتي قريبة من مستو قاماتهم، استدرت ناحية الصندوق القريب منى ، مددت يدي إلى ألواح الإردواز والطباشير، نظرت إليهم ، كانوا يرمقونني صامتين بعضهم جلس مربعا والبعض الآخر جلس القرفصاء، في آخر الحلقة وقف اثنان .

فتحت الصندوق التالي وأخرجت الخبز والجبن وأطعمة أخرى فرشتها أمامهم على الحصير، قلت لهم هيا نأكل . لم يتحرك أحد منهم ، ظلوا يرمقونني وهو في أماكنهم لا يتحركون. أشرت لهم ثانية ناحية الطعام وابتسمت ، قلت لهم هيا نأكل معا، اهتزت رؤوسهم واختلجت أجسادهم، تململوا في أماكنهم ، تقد م الاثنان الواقفان في نهاية الحلقة فتحرك الآخرون وبدأوا يحيطون بي في بطء وبغير ثقة في البداية حتى اكتملت حلقتهم حولي وحول الطعام، انتابهم النشاط ودبت في أجسادهم الحركة ، قدموا لي صررهم مفتوحة ، كانت تحتوى على أطعمة أجهل نوعها، أخذت أول لقمة وضعتها في فمى، تناولت قطعا صغيرة من طعامهم، مددت يدي في كل صرة قدمت لي ، مدوا أيديهم وملؤا أفواههم، سرت ابتسامة من فم إلى فم، اهتزت الرؤوس وسمعت ضحكاتهم ورايتها. قلت في نفسي إنهم أطفال حقا .

{ 12 }

تمنيت أن لا يأتى الليل، أن يتأخر وتظل الشمس باقية، لكنه أتى ونام فوق الصخور، نام فوق الخيمة وفوقي، سقط إلى أسفل الجبل، على الوادي، ولم تعد إلا الشعلة المضيئة يقاوم ضؤها الظلام . كان الضوء يتراجع أحيانا أمام موجات الظلمة فأرى الخط الفاصل بين الاثنين ، تنكمش دائرة الضوء ثم تتمدد، تظل في صراع طوال الليل ، انكمش بدوري تحت اللمبة واسند ظهري إلى عمود الخيمة، أرهف سمعي فأنا أريد أن التقط أخف الأصوات وأدقها ، إذا لم أفعل وانتبه ربما يأتون ويدخلون وأفاجأ بهم معي .

طلب الرجل العجوز أن أكون حذرا، أن أنام بعين واحدة وأذن واحدة. إنني أنام بالعينين معا، ويكف السمع عن أداء وظيفته، فإذا غلبني النوم سيأتون وسيدخلون ، وإذا بقيت بعين واحدة وأذن واحدة فلن أنام وسأتقلب طوال الليل ساهرا مؤرقا منتظرا. تصطدم عيناي بقماش الخيمة السميك الذي يحيط بي، يهتز فيتحرك إلى الداخل والخارج حسبما يسرى الهواء، أتنقل ببصري بين الصناديق المرصوصة والمفارش والحصر .

أعود أسأل نفسي ما الذي أتى بي إلى هنا ، ولماذا لم أرفض واطلب العودة؟ هل كنت أملك شيئا من هذا ؟ هل نسيت نظرة الشيخ عسران حينما ألححت عليه أن يعيدني إلى البلدة لآخذ السفينة عائدا من حيث أتيت، لماذا لا آخذ الرافعة وأهبط من الجبل، أتفاهم مع الرجل العجوز أعطيه شيئا وأقنعه بأني لا بد أن أهبط، وما أدراني فربما أجد الشيخ عسران ينتظرني هناك أسفل الجبل بعينيه الحادتين وهدوئه العجيب، ومن الذي سيعود بي عبر الكثبان والسهول الرملية الفسيحة؟

كدت أطلب من الأطفال أن يبقوا معي بقية النهار، أن يقضوا الليل معي، في استطاعتي أن اعتنى بهم وأطعمهم. حينما أعطوني ظهورهم الصغيرة خارجين من الخيمة شعرت بأنهم يتخلون عنى ، يتركونني للصمت والوحشة والوحدة . مددت يدي المس أكتافهم وظهورهم ، ضحكوا مهللين، فغروا أفواههم، لاحت أسنانهم المتفرقة والمخلوعة، اعتبروها نوبة حنان منى ، ألفوني بسرعة، لعبوا في الخيمة وجروا حولها عبثوا في أشيائي الخاصة دون تخريب..كانوا يتناولون الأشياء يرفعونها إلى عيونهم يشمونها ثم يعيدونها إلى أماكنها، كل شئ امتلكه كانوا يرفعونه إلى عيونهم ثم يشمونه ثم يعيدونه إلى مكانه ، بعضهم لا يستطيع أن ينظر مباشرة أمامه ، إنما يوجه بصره من تحت جفنيه، أو يرفع رأسه إلى الخلف حتى يرى ما أمامه ، كان الجفن ثقيلا يعجز عن فتحه ، تبقى العين مختفية في تجويف الجفن ولا تظهر سوى البقعة السوداء، تتحرك ببطء من خلال الشق الضيق.

لاحظت على ظهور بعضهم ما يشبه التسلخات القديمة، آثار طولية وعرضية، بشرة ميتة متقشرة تمتد من أعلى الكتفين حتى الجذع، لاحظت أن الذي يحمل هذه الآثار على ظهره أكبر في الحجم والسن عن ذويه .

ذهبوا وهبط الليل عل الصخور والخيمة.امتلأت السماء بنجومها الفضية الكثيرة ، انتظرت قلقا أسفل عمود الخيمة وفى يدي الخيزرانة ، لا بد أنهم سيأتون مثل الليلة الماضية..إنني رائحة جديدة في نظرهم فلا بد أن تتعود عليها أنوفهم، لماذا الرائحة فقط هو التي تجذبهم إلى هنا ؟ لماذا لا يكونون جائعين؟ أخرجت من الصندوق صرة الخبز وضعتها بجواري، انتابتني نفس حالة الأمس، شعور باليقظة والإدراك لما حولى، شعور بأني محور لشيء كبير أعيش داخله، واكتشف بعد لحظات ان هذا الشعور يأتيني بعد غيبوبة نوم مفاجئة لا أشعر بمقدماتها وكأن كل شئ موصول ببعضه البعض، حتى لو ضاع بعض الوقت في النوم، فهو وقت اسود تنطبع عليه حياة اخرى هى حياتي التي عشتها في الماضي، أو حياتي التي سأعيشها في المستقبل.

دوامات مضيئة تنبثق من بؤرتها الرؤى والأحلام ، الأشكال المألوفة والأشكال الغريبة وضيق في التنفس عانيت منه عندما كنت ولدا يافعا، عانيت منه أيضا وأنا في مرحلة الشباب بقيت آثاره في داخلي ، أشعر به في أوقات الشدة وكأني أعانيها أول مرة. أرع نفسي ولدا يافعا خرج إلى الميدان الفسيح ذات يوم فإذا بالناس يهرعون ولا يعرف السبب، يقتربون منه يمرون به دون أن يلتفتوا إليه أو يراعوا وجوده، يصطدمون به فيطرحونه أرضا وتمر عليه الأقدام ترتمي فوقه الأجساد ، يصاب بضيق تنفس .

هذه أول مرة يا إسماعيل تشعر فيها بأن ثقل الأرض كله فوق جسدك الغير. تمر الليالي وأنت تقوم من النوم لاهثا يتصبب جسدك عرقا كثيفا، تفتح فمك وتشد صدرك إلى الأمام طالبا الهواء، المرة الثانية متى يا إسماعيل؟ يوم وضعوك في حجرة لا منفذ فيها سوى ثقب في أعلى الباب تسده عين الحارس، رفعت رأسك إلى السقف تبحث عن نسمة من هواء تدخل صدرك .

تشممت الأركان الرطبة فربما تعثر على الهواء، بعض الهواء الذي لم ينفذ ولم يفسد بعد، فرائحة الهواء الفاسد الراكد ثقيلة يرفضها الجسم فتتوقف الحياة للحظات تظنها بداية الأبد. كرهت الزحام ،كرهت ما يؤدى بالناس إلى حجرات ذات الأبواب المغلقة بلا نوافذ، والعيون التي تسد فتحات التنفس، تراقبك وتتابعك في صحوك ومنامك، لكن يا إسماعيل هل هذا هو البديل ؟

استبدلت حوائط الصمت بجدران الأسمنت المسلح والحديد،واستبدلت الوحدة القاتلة بزحام الناس وتخبطهم ببعضهم البعض، أنت لا تستطيع أن تعيش هنا ولا هناك فإلى أين تذهب ؟ أنت على كل حال تقوم بمهمة إنسانية ، أن تحافظ على بشرية هؤلاء، أن تزيل مضغة التوحش من قلوبهم، وبؤرة الظلام من رؤوسهم .

رأيتني فيما يرى النائم عل مدخل الخيمة ف الليل أتطلع نحو الصخور الجاثمة حولي وكأني كنت في انتظارهم ، فسألت نفسي كيف أكون في انتظارهم وهم لا يأتون في الليل، إنه إحساس داخلي بأنهم سيأتون، وأنى يجب أن أكون في انتظارهم ، وعلى غير العادة أخذ الكون يصطبغ رويدا رويدا بلون برونزي ظهرت من خلاله نتوءات الصخور ملتمعة أتاحت لي الرؤية من خلال جو مشبع غريب .

بعد قليل رأيت رؤوسهم ثم صدورهم وهم في طريقهم إلى القاع، أشباح نحيلة تتجه نحوى من كل اتجاه ، امتلأ المكان بهم وكانوا كثيرين..أطفال لم أرهم من قبل أخذوا يقتربون منى وبدأت أتعرف على ملامحهم ، متشابهون ، هياكلهم النحيلة وقسماتهم التي تظل كئيبة إلا إذا ابتسموا .

امتلأ المكان بهم وكانت فى عيونهم ، أعطوني ظهورهم فرأيت هذه العلامات التي لا تفارق بشرتهم ، طولية وعرضية، ثم أخذت جموعهم تبتعد عنى وتتفرق، يختفي واحد وراء الآخر بعيدا ناحية الصخور التي أتوا من جهتها، ثم اختفوا ثانية .

ورأيتني فيما يرى النائم طفلا، كانوا يأتون بعرباتهم ، يتوقفون وسط الشارع، يهبطون من جوف العربات وعلى ظهورهم أنابيب ضخمة تتدلى منها خراطيم يمسكون بأطرافها ، يقتحمون منازلنا ، يرشونها ويغطون كل شئ باللون الأبيض، السلالم ، الصالات، دورات المياه ، الحجرات تحت الأسرة وفوق الأسطح. كنا نعترض طريقهم ونرتمى أمامهم لنعفر وجوهنا ونأخذ في السعال ونحن نجرى مبتعدين بعد لأن نأخذ حظنا من البودرة.

عندما ينتهون تتحرك عرباتهم إلى شارع آخر، يبدو شارعنا في لونه الأبيض والأرصفة في لونها الأبيض، بينما ينهمك البعض في إزالة ما تعلق بملابسه ورأسه من ذرات البودرة ، وهتافات الأولاد ( بتوع الصحة ) .

لم يعرفوا الطريق إلى شارعنا لولا تلك الجثث الثلاث التي أخرجوها من بيت يقع في قلب الشارع، جاءت الشرطة وأغلقت الشارع من أوله وآخره، ومن بعده أخذت تزورنا عربات الصحة وأنابيب الرش والتشريط والحقن وحرق الأماكن التي كانت تعيش فيها الجثث الثلاث قبل موتها، وكنا نرى عرباتهم في الشوارع المجاورة.

كنا نشم رائحة البودرة ورائحة الحريق وصريخ السكان والجلبة التي يصدرها رجال الصحة وهم يحملون الجثث أو وهم ينقلون الأشياء أو يقلبونها أو يحرقونها… كانت الرائحة هذه المرة نفاذة خانقة قريبة منى تكتم أنفاسي، أحاول الابتعاد عنها برأسي فيصطدم بعمود الخيمة، أفتح عيني على ضوء الشعلة المتراقص، الرائحة ما زالت في أنفى ، أشد جسدي قابضا على الخيزرانة ، كانت رائحتهم خارج الخيمة، يدورون حولها ، يتحينون الفرصة للانقضاض والدخول، ارتميت على الأرض وأنا أرقب أطراف الخيمة السفلية، أقدامهم المفلطحة المشعرة تخبط عل الصخور في الخارج، يقفزون في خفة وذيولهم ترتفع في خفة وتلوى في الهواء.

تسمرت منبطحا على الأرض مترقبا ، ها أنا وحدي ، هذه هي رائحتي تشمموها وانصرفوا، اتركوني لحالي أنام لأرى في الغد يوما جديدا، لن تجدوا معي سوى الخبز الجاف، خذوا صرة الخبز الجاف وانصرفوا .

الأصابع الطويلة ذات الظافر المقوسة والشعر الأسود الكثيف تطل من اسفل، تزحف، تتحسس حواف الخيمة محاولة رفعها واستكشاف ما وراءها. أفتح الصرة وأضع قطعة الخبز بين الأصابع السوداء التي تجفل، تقبض عل قطع الخبز تسحبها إلى الخارج ، تظهر أصابع غيرها في أماكن أخرى، أزحف إليها مسرعا، أضع قطعة الخبز في راحة اليد المشعرة ، تنسحب، تمضى برهة، تظهر نفس الأصابع ممسكة بقطع الخبز وتقذفها في وجهي، ترتفع أطراف الخيمة فى اكثر من موضع، تزحف الأصابع والراحات السوداء محاولة اقتحام المكان، أتراجع قليلا إلى الوراء، أقبض على طرف الخيزرانة ، في استطاعتي أن أضرب في أي مكان، ستصل خيزرانتي إلى الأصابع العابثة ، هب ، أضرب على الأصابع بطرف الخيزرانة فتنسحب مذعورة، أسمع صيحة تحذير، هب مرة ثانية، تنسحب، هكذا هب ، هب هنا هب هناك وهناك ، أدور بخيزرانتي ضاربا مطاردا طوال الليل ، تظهر الأصابع وتختفي، يدب فيها الذعر، تختفي واحدة وراء الأخرى ، لم تعد هناك .

زحفت مقتربا من حافة الخيمة السفلية ، رفعتها أخرجت رأسي، كانت الظلمة شديدة في الخارج، فجأة انقضوا على رأسي، شدوا شعري وضربوا وجهي في الصخر .

{ 13 }

وقفت عند حافة الجبل أنتظر طلوع الشمس من أقصى الوادي، لكن الشمس لم تطلع. انتشر ضوء أصفر قريبا من الأرض، انبثق فى البداية من الشرق حيث اختفت الشمس، ثم سرى رويدا رويدا في موجات عريضة عابرا فوق الكثبان والرمال والتلال الحجرية والصخرية. كان صباحا غريبا أصفر، أخذ يزداد قتامة واصبح هواء الصباح المنعش اكثر دفئا وحرارة ، ومن بعيد تحت مستوى الجبل بدت سحابة من الرمال ، رأيتها تنزع نفسها من فوق الكثبان وهى تدور حول نفسها وتحوم فوق المكان تلتقط وتشفط ذرات الرمال الناعمة من فوق هامات الكثبان والتلال مصدرة حولها دخانا أصفر كثيفا سرعان ما أخذ ينتشر ويسبح حولها. أخذت السحابة تكبر وتكبر، تتمدد وتتمدد وفجأة هبت العاصفة وصفر الهواء .

رأيت أمامي كثبان الوادي الرملية معلقة في الفراغ لكنها في نهاية الأمر لم ترتفع إلى قمة الجبل الذي أقف فوقه. أخذت السحابة المتضخمة تضرب إلى أسفل وإلى أعلى وتلفظ دوامات رملية سافية، تدور حول نفسها تفتك بنفسها ثم تنكمش وتسقط لتعلو دوامة جديدة أقوى وأشد. اختفى الوادي وتحول الأفق إلى سد أصفر يحجب الأرض عن السماء .

شعرت بالاختناق فانسحبت إلى الداخل. لم أرغب في العودة إلى الخيمة لذلك أخذت طريقي إلى حيث يقبع الرجل العجوز وراء الجذع القديم ، وكنت على يقين بأنه سيرحب بى في يوم من الأيام وفى يوم ما سيعتبرني جزءا من عالمه الخاص الذي ينام ويقوم عليه. رأيت دخانا يتصاعد من التجويف الذي يقبع فيه، نظرت إليه من وراء الجذع، كان جالسا القرفصاء واضعا في فمه الذي بلا أسنان طرف نرجيلة بدائية : غاب مثبت في قرعة مجوفة يعلوها غاب آخر صغير في طرفه وعاء حجري يحمل الدخان وقطع الجمر، في الحفرة وعلى الأرض كان يحتفظ بباقي الجمر ودورق من الفخار به ماء وخرقة يحفظ فيها دخانه .

وقفت مكاني وتذكرت رائحة التمباك والمعسل المحترق وهى تتصاعد من المقاهي المنتشرة في شارعنا وهى تتخلل أنوفنا ونحن نطل عليها من شرفاتنا ، تعلمت تدخينها هناك ولكنى لم أداوم عليها .

رفع يده بنرجيلته العجيبة فأسرعت قافزا إليه في تجويفه الصخري مسرورا من دعوته لي . بدل الحجر ووضع دخانا جديدا وبعض قطع الجمر، قدمه لي مقربا طرف الغاب في فمي، تناولته وسحبت نفسا، كان الدخان مرا حاذقا جعلني أسعل، رمقني بجانب عينيه وظل منتظرا، عاودت سحب الأنفاس فأحسست بصدري يحترق وبعرق غزير يفرزه رأسي، ناولته النرجيلة وأنا أسعل بشدة ، أخذها وقال:

ـ أعمل لك قهوة ..

قلت له وأنا سعيد ببوادر الترحيب:

ـ مثل هذه..

أشرت إلى النرجيلة

ـ أنت لم تتعود عليها..

ـ دخنتها من قبل ، لم تكن مثل هذه ..

ـ إن الدخان من نبات طبيعي ..

ـ سأحاول ثانية .

ـ أعمل لك قهوة أولا .

قام بتثاقل ، رأيت جسده لأول مرة وهو واقف، طويل منحنى ، مر من خلفي ثم توارى عنى، عاد بعد قليل ومعه أدوات القهوة. قال إنه دائما ينساها هناك عند عش الطيور وأشار خلفه، ولما سألته عن عش الطيور لم يقل لي ما هو إنما قال إنه يلقى برواسب القهوة في الماء الذي يضعه للطيور حتى تظل ساهرة طوال الليل .

ـ أفضل أن تنام طيوري بالنهار وتحرسني بالليل .

لم يدعني لرؤيتها، بقيت في مكاني ، عاد إلى جلسته وأخذ يصنع القهوة، أعطاني طرف النرجيلة من جديد وشجعني بهزة من رأسه، سحبت نفسا حذرا وطردت الدخان بسرعة من فمي ، سحبت نفسا آخر فشعرت بالاحتراق في داخلي ، انطلق العرق غزيرا من رأسي ومن عنقى، انسال على جسدي تحت ملابسى، تماسكت أمام العجوز ونظرت إليه ، امتلأت عيناي بالدموع فرأيت وجهه وجهين ، ورأيت كل شئ يهتز ويرتعش أمامى، سحبت نفسا ثالثا ..شعرت بالنار وهى تسرى في عروقي ثم وهى تضربني من الداخل، تيار متدفق يسرى في عروقي من الرأس حتى أخمص القدم، انزلقت حبات العرق من جبهتي ودخلت عيني ، لم أعد أرى شيئا .

مسحت وجهي فحرقتني عيني بشدة، رأيت وجه العجوز متموجا وهو بتسم بفمه الذي بلا أسنان ، ثم وهو يومئ لي مشجعا ، تماسكت بيدي على الأرض الصخرية لما شعرت باهتزازها وبأنها تتحرك بي، ألقيت النرجيلة على الأرض وأمسكت بطني، شعرت بيده تربت ظهرى، تحاملت على يدي وركبتي وفتحت فمي ، أردت أن أقول له إني أريد أن أتقيأ وأن أخرأ فلم أستطع .

زحفت على قدمي ويدي قليلا ، عجزت عن تسلق حافة الحفرة التي نقبع فيها، تراجعت قليلا إلى الوراء فوجدت نفسي أتدحرج وأنام على جنبي . عندما فتحت عيني رأيته من خلال قطرات العرق مقرفصا في مواجهتي في هدوء وفمه المدور الذي بلا أسنان منبسطا كشرطة ، فعرفت انه مستغرق في الضحك .

{ 14 }

حينما تمالكت وعيى لم أجد نفسي في حفرة الرجل العجوز، ولم أجدنى في فراشي بالخيمة ، إنما كنت مستلقيا على ظهري في مكان لم أره من قبل، لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا على هذا الوضع. كانت عينان واسعتان تطلان علىّ من فوق والسماء من ورائهما. أغمضت عيني محاولا أن أتذكر ماذا حدث؟ وأين حدث؟ وما الذي أتى بي إلى هذا المكان وما هذا الوجه الذي رأيته قريبا من وجهي ؟

أحسست بقبضة رقيقة على كتفي وبآلام شديدة في بطني وصدري. فتحت عيني ، كان الوجه أكثر قربا فاختفت السماء وظهر شعر أسود غزير يحيط بالوجه، وانفاس حارة ورائحة مميزة كنت أشمها في أحلامي داخل الخيمة ، حركت رأسي يمينا ويسارا ، حاولت أن أركز نظري ، كان الوجه يقترب ويبتعد ، وكنت أشم الرائحة المميزة حتى جرفتها رائحة أخرى تشبه رائحة الاحتراق فأدركت أنى لست بعيدا عن الحفرة وأن الرجل العجوز ما يزال يدخن .

رفعت رأسي محاولا الاستناد على كوعى. مدت يدها وأوقفتني، أشارت لي أن أتريث قليلا. أحسست بجسدي مددا على الأرض الصخرية والماء يبلل وجهي، كلما حاولت أن أنظر إلى وجهها لا أرى فيه سوى عينين واسعتين عميقتين ، يبدو شعرها كظلال قاتمة تحيط بالوجه. بعد قليل استرد بصري تركيزه فتفرست في الوجه: أسمر، ملساء ملتمعة لا تجاعيد فيها . لم أستطع أن أرى أكثر من ذلك وأنا في وضع الرقاد. استرددت أنفاسى، أحسست بدقات قلبي تنتظم وبأني أستطيع أن أتكلم وأن أقوم من مكاني.

يبدو أنها شعرت بذلك فابتعدت عنى قليلا حتى تتيح لي فرصة القيام. اعتدلت وبقيت جالسا على الأرض، نظرت إليها ، كانت تبتسم فابتسمت أنا الآخر، ولما تخيلت أنها هي التي نقلتني أو حملتني من الحفرة حتى هذا المكان ، ضحكت بصوت مرتفع .

سرعان ما شعرت بالخجل فنهضت واقفا ، حاولت أن أبدو طبيعيا أمامها ، قامة معتدلة متوازنة، شعر أسود غزير، رداء بلا أكمام لا لون له يكشف عن رقبة طويلة وصدر نافر ، وحزام ” أبو العبايا” الذي يضيق عند الخصر ثم ينزل على ثوبها القصير ، ذراعان سمراوان ممتلئتان من أعلى دقيقتان ناحية الأطراف، تبدو ركبتاها وتختفي عند حافة الرداء الذي توقف عند هذا الحد، ساقان قويتان ، يدفع الهواء رداءها فيلتصق بها مجسدا خصرها النحيل وبطنها المستوى واتساق فخذيها .

سألت نفسي من أين أتت هذه المرأة وأين كانت ؟ . رفعت يدها وكلمتني ، شغلتني مراقبة شفتيها وهما تتحركان فلم أفهم ماذا قالت لي . أشارت نحو المكان الذي ينبعث منه الدخان، ارتسمت خريطة المكان في مخيلتي وعرفت بأني موجود في الناحية التي تقع خلف حفرة العجوز ورأيت العش ، عش الطيور الذي حدثني عنه العجوز، اتجهت نحوه، الصمت يحوط المكان ، العش هادئ ساكن لا ينبئ عما يحتويه وكأنه عش مهجور، أوتاد مضروبة في الصخر، حواجز من الخشاب والأسلاك، ألصقت وجهي بالحاجز القريب منى .

من خلال الفتحات الضيقة رأيتها هناك في الداخل، بعضها واقف والبعض الآخر راقد على الأرض، لا تتحرك، عيونها مستديرة ، رؤوسها كبيرة ذات أعراف عريضة ملونة حمراء وصفراء وخضراء، ريشها طويل ذو ألوان زاهية. ضربت على الحاجز بيدي وأحدثت أصواتا ، لكنها لم تلتفت نحوى، لم تطرف بأعينها ولم تشعر بوجودي .

قال العجوز إنه يتركها تنام في النهار وقبل الغروب عندما تفيق يضع رواسب قهوته في أواني الماء التي تشرب منها حتى تحرسه وتؤنس وحشته في ظلام الليل .

كانت قد أعطتني ظهرها وسارت نحو الحفرة التي يقبع فيها العجوز، وكان هواء الصباح يعبث بردائها فتبرز ردفاها الممتلئتان ، وكان حزام أبو العبايا الملفوف على خصرها يمنع الرداء من أن يرتفع إلى أعلى ويكشف عن بقية جسدها. سارت بخطوات معتدلة ناحية الرجل العجوز، ترددت في السير خلفها ، قلت في نفسي إذا كنت أريد أن اعرف من هي فليكن ذلك بيني وبينه.

صعدت الشمس ولاحت من خلف الغمام قرصا أصفر تحاول أشعته أن تخترق طبقات الغبار الكثيف الذي يملأ الجو. وكان الهواء قد أصبح أكثر دفئا . تذكرت الأطفال فهو موعدهم، أسرعت الخطى تجاه خيمتي وقد ملأني إحساس بالنشاط والسعادة ، أحسست بالجوع ، وها هي امرأة تعيش بالقرب منى، إذن ليست الزهرة الصخرية جافة إلى هذا الحد فإن بها نساء أيضا ، نساء جميلات طبيعيات أو هكذا تخيلتهن في هذا المكان بعد أن رأيت واحدة منهن بدت بتفاصيلها غير العادية أكثر من عادية بل جذابة جدا وسط هذا الجدب الذي وجدت نفسي أعيش فيه .

كانوا في انتظاري داخل الخيمة كما توقعت، متقاربين في شبه دائرة ، حينما رأوني أدخل عليهم أشاروا إلى طعامهم وصرخوا مهللين . فرحت بهم وابتسمت وأنا اجلس وسطهم شاعرا بشهية كبيرة أتناول الطعام .

كتبت على لوحي الكبير كلمة ( زرع ) بخط واضح وطلبت منهم أن يكتبوا مثلها في ألواحهم الإردوازية بعد أن عرضتها عليهم . نكسوا رؤوسهم ، كان كل واحد منهم يضح لوحه على حجره منهمكين في رسم الكلمة . امتلأ جو الخيمة بأصوات أقلامهم الإردوازية وهى تحك في ألواحهم وبدأت الرؤوس ترتفع واحد وراء الآخر تعلن الانتهاء من كلمة ( زرع ) ، فوجئت بهم يرفعون ألواحهم بأعلى ما تستطيع أذرعهم النحيلة إلى ما فوق رؤوسهم حتى أشاهدها وأنا في مكاني . رأيت كلمة ( زرع ) مكتوبة بأشكال مختلفة حروفها متباعدة .

كان حرف العين يشكل عقبة عند نقله على ألواحهم، إذ بدا هذا الحرف بالذات في أشكال غريبة مضحكة، طلبت منهم إعادة نقل الكلمة في حيز محدود من اللوح ، وطلبت منهم أن يرددوا الكلمة ورائي بصوت مرتفع . وكانت أصواتهم مرتفعة جافة غير واثقة في البداية.رددت الكلمة حرفا حرفا في بطء فأعادوها بعدى حرفا حرفا في وضوح.

أصواتهم النحيلة تملأ الخيمة والفضاء من حولنا، قلت لهم والآن نأخذ كلمة ( ح ص د ) ، قابلت مشقة في توضيح كتابة حرف الصاد مفردا ومتصلا بحرف آخر. عندما انتقلنا إلى كتابة كلمة ( د ر س ) توقفت أيضا عند حرف السين لأبين لهم أسرار سنتي السين وكيف تكتب .

كانوا في كل مرة يركزون عيونهم على وجهي وعلى شفتي وأنا أحاول أن أنطق الكلمة ثم يتابعون ما أخطه على لوحي الكبير ، ثم ينكسون رؤوسهم ناحية ألواحهم المستقرة على حجورهم الصغيرة ليكتبوا الكلمة .

كنت في بعض الأحيان آخذ بأصابع واحد منهم لأكتب معه الحروف المختلفة، وكانوا يطلبون واحدا وراء الآخر أن أفعل معهم نفس الفعل ويقدمون كفوفهم الصغيرة وأصابعهم النحيلة وهى ممسكة بأقلام الإردواز لأرسم معهم حروف الكلمة .

{ 15 }

قالت لي أن أسمها قمرة، الرجل العجوز يناديها ب ( جاه ) . يرفع يده ويفتح فمه ويقول جـاه، جاه هي قاه، وقاه هي اختصار لكلمة قمره. هكذا كان يتم التفاهم بينهما. تعرف ما يريده ، وما يريده قليل ومحدود . الرجل العجوز يعتمد على حاستها التي تولدت لديها مع مرور الزمن ..أي زمن ؟

هل هو أبوها؟ هل هي ابنته ؟ لا بد أنها تعيش بالقرب منه أو معه في الحفرة. هل تقضى لياليها معه في هذا التجويف الصخرى؟ لا بد أن هناك بيتا أو كوخا أو خيمة بالقرب من المكان، سأبحث عن هذا لمكان ، ربما يكون معها رجل آخر..لم أسألها .

حاولت الاقتراب منها ، أتملى وجهها وأتفحصه ، لاحت لي من النظرة الثانية وهى تبتعد عنى آثار وشم أخضر باهت تحت شفتها السفلي ، وشم قديم ينسحب في شفافية على عنقها ثم يختفي هناك. أسمع نداء الرجل العجوز ( جاه ) تتسلل هي إليه من حيث لا أدرى، تخدمه وتؤدى له طلباته .

لم يعد مجيء الليل يصيبني بالتوتر، فالليل يجئ وراء النهار ، والنهار يجئ بعد الليل ، وحالي تغير . نسيت التفكير في الشيخ عسران ، لكن إيقاع كلماته ما زال في داخلي والشيخ عثمان صار ذكرى. أستقبل الأطفال في النهار بحب وشغف، أرى ملامح قمره في وجوههم الصغيرة، أرى ابتسامتها في ابتساماتهم ، كأنها أمهم جميعا .

بعد أن أنتهي منهم أسرع إلى مكان الرجل العجوز ، يستقبلني الرجل الماكر بعين مفتوحة وعين مغلقة وابتسامة صافية من فمه الخاوي. في الليل استلقى على فراشي وأسلط عيني على الشعلة المضيئة حتى تغمض عيناي ولم يعد نومي نوما ، إنه إبحار بعيد وسرعة في التنقل وقدرة على كشف الأستار .

رأيت فيما يرى النائم بيتنا المتعدد الطوابق ورأيتني أنظر من فوق السطح إلى البيت المقابل لي ، وقبل أن يقع بصري عليه أرى نتوءات الصخور تملأ الفضاء بدلا من البيوت، وعند أسفل النافذة المفتوحة أجدها هناك فى فراشها تدعوني لكنها لم تكن جارتي القديمة، فقد حلت محلها قمرة الزهرة الصخرية بثوبها البسيط الباهت وحزام أبو العبايا ببشرتها التي تلمع مع هبوط الليل ، توح لى وتدعوني إليها فأهبط قافزا سور السطح وقبل أن تلمس قدماي حافة النافذة تنفتح عيناي على ضوء الشعلة المهتز داخل خيمتي ويستقبل أنفى رائحة الصخور المبللة فأغادر فراشي وأخرج من الخيمة مستقبلا فجر الزهرة الصخرية .

كنت أراها عند الرجل العجوز في النهار أتابعها وهى تروح وتغدو متلهفا على كلمة واحدة توجهها إلى أو نظرة واحدة من عينيها السوداوين الواسعتين وأنا محاصر بعين العجوز وابتسامته، وفى الليل أسرع إلى فراشي لأحلم بها أو لتأتيني ، لا أعلم ، فأظل أقفز إليها عبر السور لأفتح عيني على الشعلة المهتزة ثم أغمضهما وأقفز إليها ثانية شغوفا بالالتحام بها ، لكن في كل مرة لا ألمس سوى حافة نافذتها بقدمي .

{ 16 }

أمرني الرجل العجوز بالبقاء لتناول الطعام معه. قال إن قمره ستعد طعاما شهيا من بيض الطيور . بدأ الرجل يألفني ولا تزعجه صحبتي ويرغب في بقائي معه أكبر قدر من الوقت ، وكنت أخشى بدوري أن يسخط أو يغضب علىّ فيحرمني من زيارته ومن رؤية قمره .

كنت لا أراها من مكاني ، لكنى كنت أسمع حركتها التي تشبه حركة الحيوان. كانت خفيفة قليلة الكلام تقضى حوائجها وتقوم بعملها في صمت .

أقبلت علينا ورأيت جزءا كبيرا من ساقها السمراء وأنا جالس في قاع الحفرة. وضعت بيننا صحنا من الخشب المحفور تفوح منه رائحة أثارت لعابي ، هزني الرجل من كتفي قائلا :

ـ سيعجبك هذا الطعام ..كل يا إسماعيل .

وكنت أل مره أسمعه وهو يقول اسمي بوضوح..إسماعيل .

ـ وقمره ..ألن تأكل معنا ؟

وكانت هي قد غادرتنا إلى حيث كانت .

ـ إنها لن تأكل معنا ..هذه عادتها .

حرك الصحن ناحيتي ، دفس أول لقمة في فمه المطبق الطري وهز رأسه متلذذا، أشار لي أن أفعل مثله. قبل أن أفعل هبط ظل من فوق رأسي في الصحن، كان واحدا من طيوره وقد جذبته الرائحة .

صاح الرجل العجوز ..

ـ اللعنة..احترس ..يا جاه الطيور هربت من عشها .

سقط الطائر وسط الصحن تماما غارسا ساقيه في عجة البيض، لم يكن واحدا من الطيور التي أعرفها ، فلا هو دجاجة ولا هو ديك، لوى رقبته ناحيتي فواجهتني عينان مستديرتان حادتان ومنقار معقوف فما كان منى إلا أن نظرت إلى ساقيه المدفوستين في عجة البيض فإذا بمخالب مقوسة حادة..ارتعد جسدي وحاولت القيام لكن قمره ظهرت وقبضت على الطائر من جناحيه وانتزعته من وسط الطبق وذهبت به .

ـ إنه طائر جارح أيها الرجل

ابتسم بطريقته الخاصة وأخذ يسوى ما في الطبق بعد أن بعثره الطائر .

ـ لا تجزع يا إسماعيل ..إنها طيور أليفة وهذا بيضها .

سمعت صوت قمره من وراء التجويف ويبدو أنها كانت تنادى على الطيور التي خرجت من عشها.

ـ اذهب إليها فقد تحتاج إليك .

تسلقت حافة التجويف واتجهت ناحية العش . رأيتها تعدو وراء بعض الطيور وتلوح بذراعيها متجهة بها نحو باب العش. أصدرت من فمها أصواتا كالقرقرة كانت تستجيب لها الطيور فتسارع إلى الالتفاف حولها بينما تتحرك في خفة نحو باب العش المفتوح حتى دخلوا جميعا. أسرعت أنا بغلق الباب وراءها فاستحسنت فعلتي. وقفت في الخارج انتظر خروجها ولما ظهرت اشتركنا معا في غلق الباب وقلت لها :

ـ هذا من تأثير رواسب القهوة التي يضعها العجوز لهذه الطيور .

ـ لقد اعتادت على شربها .

ـ ستصاب بالجنون وتتحول إلى طيور مسعورة ..

ضحكت وانفلتت من جواري، كدت أمد لها ذراعي لكيلا تبتعد

وددت لو قلت لها إني في حاجة إليها .

التفتت قائلة :

ـ عد للعجوز وأكمل طعامك.

ـ فقدت شهيتي.

ـ لا ترفض طعامي الذي أقدمه لك لأول مرة .

ـ أريد أن أبقى معك، فالعجوز لا يتحدث معي كثيرا .

تغيرت نظرتها وأحسست أنها تتفرسنى بعينيها ولاحظت بلعومها الصغير يتحرك في رقبتها السمراء فيبدو الوشم الزاحف إلى تحت وكأنه ثعبان بهم بالتحرك. في كل مرة لا أقوى على النظر في عينيها إلا لثوان معدودة بعدها يرتد بصري بعيدا وينتابني شعور داخلي بأني أتعامل مع حيوان نفور حذر قد ينفر منى في أي لحظة أو هجم علىّ ويعضني .

لم يكن في استطاعتي أن أنتظر اكثر من ذلك مستسلما لهذا الإحساس ، فهناك من يطارد الحيوان ويصطاده ، وهناك من يروضه ويجعله مستأنسا أليفا. شجعني الرأي الأخير على الاقتراب وطلبت منها أن تبقى معي . خيل إلىّ أنها تشمني ، وسمعت أنفاسها وهى تندفع إلى فتحتي انفها ليعلو صدرها، ولم أفهم ماذا يعنى ذلك، لكنى مددت ذراعي ووضعت كفى على كتفها فإذا بها ترتعد وتختلج شفتها السفلي في ارتعاشات سريعة .

ـ لا تلمسني يا إسماعيل .

لم أتوقع أن تناديني باسمي، شعرت بشيء من المتعة وأنا اسمع اسمي يتردد بين شفتيها، وكلما نظرت إليهما يجذبني الوشم تحت شفتيها، الوشم المنزلق على رقبتها وصدرها حيث لا أعلم ولا أدرى .

ـ ماذا تريد منى يا إسماعيل ؟

انزلقت يدي على ذراعها ، لم تتحرك ولكنى وجدت نفسي منطرحا فوق الأرض على بعد أمتار منها .

{ 17 }

انتفخت جوانب الخيمة على اثر دفقة من الهواء البارد، أحسست بالانتعاش والرغبة في الانطلاق بين الصخور. كان صباحا ذا رائحة ذكية جميلة، ولوقت طويل ظلت رائحة الصخور المبللة منتشرة في المكان. أفقت من نشوتي على الأطفال وهو يدخلون الخيمة ويقرفصون على الحصير والمفارش ، كانوا يتضاحكون ويتضاربون برفق ، تنطلق من أفواههم أصوات حادة رفيعة قصيرة ولما وجدوني منصرفا عنهم صمتوا واحدا وراء الآخر وانتظروا حتى التفت إليهم .

ربطت بيننا الألفة ، وكنت أقول لنفسي ها هم أولاد قمره يأتون .. ها هم أولاد قمره يرحلون، ولا أعرف لماذا ربطت بينهم وبين قمره بهذا الرباط الأموي. كانت معهم ألواحهم وصررهم ، وكانوا ينتظرون منى أن أجلس أو أقرفص وسطهم حتى نبدأ صباحنا الجميل هذا .

ارتسم ظل كبير على مدخل الخيمة ، وقفت قمره عند مدخل الخيمة وفى يدها لفة كبيرة ، دعوتها للدخول لكنه آثرت أن تقف عند المدخل وهى تبتسم للأطفال ولى. قمره لا تدرك أن طيفها دائم الإقامة معي في هذه الخيمة ولا تعرف شيئا عن الليالي الطويلة التي قضتها معي منذ رايتها لأول مرة عند الرجل العجوز .

قالت : هذا فطوركم ..

قلت : ولماذا لا تتناوليه معنا ..

قالت : فطرت منذ وقت طويل

لعلها جاءت لتعتذر عن سلوكها الخشن معي بالأمس. عندما اقتربت منها شممت تلك الرائحة الذكية وشممت رائحة الصخور المبللة، وكان شعرها أسود منسدلا في طراوة على كتفيها وكانت أجزاء جسدها الظاهرة ملتمعة وكأنها قامت بتلميع نفسها قبل أن تحضر .

ـ هل تصدقين.. إنني أعاملهم وكأنهم أولادك ..

وضعت يدها على بطنها المستوى وهى تقول:

ـ كلهم ؟

ـ كلهم ..

كدت أفعلها ثانية وأضع يدي على كتفها، تصورت نفسي منطرح أرضا وسط الأطفال وهو يضحكون ويدورون حولي ، ابتسمت قمره وكأنها قرأت أفكاري . لا أعرف حتى الآن كيف تمكنت منى ثم تطرحني أرضا، كان ذراعها وقت ذاك صلبا وكانت المفاجأة قد أذهلتني فلم أر ما حدث لي.

لاحظت قمره نظراتي إلى ذراعيها العاريتين فتطلعت إلى متسائلة .

لم يبد عليها أنها جاءت لتعتذر وكأن ما حدث أمرا طبيعيا .

ـ لعل واحدا منهم هم ابنك ؟

ـ أنا لم أنجب أطفالا .

ـ لأنك غير متزوجة ؟

ـ كنت .

ـ والرجل العجوز ؟

ـ إنه واحد من أجدادي

ـ وأين زوجك ؟

ـ إنه نائم في الكهف .

ـ أي كهف؟ ومتى يعود ؟

ابتسمت ووضعت لفتها بين ذراعي

ـ من ينم في الكهف لا يعود يا إسماعيل .

اقتربت منى ووضعت يدها على صدري فتدفق دمى في عروقي مستيقظا، نظرت إلى الأطفال ، كان بعضهم منهمكا في فتح صرره والبعض الآخر يتطلع إلينا من مكانه .

ـ أدخلي ..

ـ سأذهب، وعندما تنتهي تعال هناك..الرجل العجوز في انتظارك.

أعطتني ظهرها وابتعدت. خطواتها بلا صوت، جسدها يتحرك بخفة بين الصخور..اختفت كنسمة رقيقة .

التفت إلى الأطفال وقلت : صباح الخير يا أطفالي..رددوا معي:

رفس ..طرح .. قمر .. ود .. عض .. حب ..

{ 18 }

تحولت حياتي إلى مجموعة من الطقوس اليومية..استقبل فجر الزهرة الصخرية، استنشق الهواء المحمل برائحة الصخور المبللة بقطرات الندى والروائح الذكية التي لا أعرف مصدرها، أملأ منها صدري حتى أنتشي فلا أشعر بحاجة إلى طعام أو شراب ، وبعد قليل استقبل الأطفال ونظل معا داخل الخيمة أقول فيقولون ورائي أو اكتب على لوحي الكبير فيكتبون على ألواحهم الصغيرة ، نأكل ونضحك حتى ترتفع الشمس فوقنا فينصرفون، بعدها أعد نفسي للذهاب إلى الرجل العجوز وإلى قمره فلا أعود إلا مع هبوط المساء حيث تبدأ أحلامي ورؤاي التي تتكاثف مع اقتراب فجر جديد .

كفت القرود عن محاولاتها لاقتحام الخيمة، بل إني كنت أراها وقت الظهيرة وعند المساء فوق التلال الصخرية وهى تتطلع إلىّ في صمت ، وفى أحيان قليلة كانت تقترب منى في اطمئنان تام وكانت تعرف أين اقطن ، بل هي تعرف خط سيرى الذي ينحصر في المسافة بين الخيمة والتجويف الصخري الذي يعيش فيه الرجل العجوز ، والأماكن المجاورة .

كنت أريد أن أسأل قمره عن الكهف الذي ينام فيه زوجها بلا عودة، ولماذا اختار أن يدخل هذا الكهف الغامض والذي أسمع عنه لأول مرة من قمره . تثيرني الحقائق الغريبة لكنى أتقبلها وكأنها ضرورية في الزهرة الصخرية، الخيال والواقع متجاوران ومتلازمان ، لا يستطيع أحد أن يفصل بينهما فالحياة في الزهرة الصخرية نسيج واحد .

كنت أفكر في أشياء كثيرة وأنا في طريقي إلى الرجل العجوز . كانت الشمس فوق رأسي وقمم الصخور تعكس أشعتها شفى كل مكان . لفت انتباهي وجود أشخاص لم أرهم من قبل في هذا المكان ولا في أي مكان آخر ، كانوا يلوحون لي من خلف الصخور وهم متجهون نحو مكان الرافعة، ربما كانوا ينتظرون زائرا من الوادي ، لعله الشيخ عسران ، تذكرت الشيخ عسران ، وجهه الذي رأيته لأول مرة حينما تقدم منى وحياني ثم حمل حقبتي إلى السيارة العتيقة ، ملامح وجهه وهو يقص علىّ أخبار الناس والماعز والخراف، حواري الطويل معه عن النجوم والشموس والكواكب، هذا الرجل الشيخ عسران يعرف كل شئ ، يفسر أي شئ بطريقته الخاصة وإيمانه العميق بخالق الكون .

ظهرت قمره أمامي ، فوجئت بوجودها.أمسكتنى من ذراعي وقالت : مات العجوز

كررت وراءها: مات العجوز .ز

حقيقة أخرى من حقائق الزهر الصخرية: العجوز مات، وهذا يفسر مجيء هؤلاء الناس إلى هنا، ولا أعرف كيف انتشر خبر موت الرجل العجوز إذا كان قد مات في الصباح .

تركتني قمره وهى تقول إنها ستلقاني في وقت آخر. توافدوا تباعا ووقفوا في مجموعات بالقرب من التجويف الصخري الذي قضى فيه العجوز نحبه، كانوا يأتون واحدا وراء الآخر أو في جماعات من اثنين أو ثلاثة، كانوا متشابهين في ملبسهم ..دائما هذا الجلباب الذي يصل إلى الركبة بعضه له أكمام والبعض الآخر بلا أكمام ، معظمهم يضع شريط حول وسطه والصدر عار والأقدام حافية أو منتعلة بزحافات من الكتان المجدول .

بقيت بالقرب منهم ، لم أحاول أن أنظر لأرى ماذا يفعلون وهم يجهزون الرجل العجوز للدفن. انصرفت إلى مراقبة أهالي الزهرة الصخرية الذين حضروا للاشتراك في الجنازة ، كلهم من الرجال وقمره قد اختفت . كانوا يعرفونني، أتلقى منهم نظرات قصيرة وكأنهم يقولون لي: إننا نعرفك فأنت مدرس الزهرة الصخرية . سمعت جلبة تتصاعد من التجويف الصخري ورأيت حلقة الرجال المضروبة حول المكان تتسع فأيقنت أن طقوس الموت قد تمت وانهم أعدوا الجسد للدفن وحان لهم التوجه إلى المقابر.

انتظرت حتى ارتفعت المحفة على أكتافهم ، عمودان من الخشب وحبال من الكتان مثبتة بينهما وجسد الرجل العجوز داخل كفنه فوق المحفة، تحرك الرجال في موكبهم فتتبعتهم عن قرب .

اجتازوا مناطق لم أشاهدها من قبل ، وكان الموكب دائم الدوران والالتفاف حول الصخور المنتشرة في كل مكان ، ولم يكن في الجو إلا صوت الأقدام على الأرض الصخرية وانفاس اللهاث . دخل الموكب في ممر طويل يخترق جبلين عاليين، أرض الممر مغطاة بنوع من الحصى الرفيع الذي يجعل السير سهلا ميسورا. يبدو أن مواكب الموت ساعدت في تمهيد هذا المكان ، كان نظيفا وصخوره ملتمعة وكان إحساسي وأنا أراهم يتقدمون مطأطئي الرؤوس بان المكان مقدس عندهم جميعا وان كنت أسال نفسي أحيانا عما إذا كان إحساسهم هذا نحو المكان أم نحو مكانة الرجل العجوز الميت في قلوبهم .

تباطأ الموكب في المسير ثم توقف عند نهاية الممر بحيث يلتقي الجبلان ومن فوقهم رأيت فتحة عظيمة سوداء لكهف في قلب الجبل وتذكرت عل الفور الكهف الذي حدثتني عنه قمره . تنحيت جانبا وفضلت احتراما للموقف ألا أتقدم معهم أكثر من ذلك. تحرك الموقف وتبدلت مواقف الرجال فتقدم بعض منهم في بطء وهم يتمتمون، اختفى معظمهم داخل الكهف الذي كانت تنبعث منه رائحة نفاذة، لم تكن راحة عفونة ، إنما أحسست بثقلها وأنا استنشقها ، تسقط في صدري كسائل.

اقتربت وأخذت أتأمل مدخل الكهف..منحدر صخري يميل إلى أسفل كلما توغل الإنسان إلى الداخل، بروزات صخرية طويلة تتدلى من أعلى تبدو كالسيقان والبذور، بعض هذه البروزات لها شعيرات صخرية حادة كالسيوف .

بعد وقت قصير بدأوا يخرجون من الكهف واحدا وراء الآخر، خرجوا جميعا ما عدا العجوز ومحفته. رأيت ظهورهم وهم يبتعدون في الممر الطويل بينما وقفت أنا في مكاني بين الجبلين أفكر فى هذا الكهف ولم أجرؤ على الدخول إليه وحدي ، لكنى أيضا لم أرغب في الابتعاد عن الفوهة المظلمة إذ كان شئ ما يجذبني إليه ويدعوني للبقاء والدخول..

سمعت وقع قدمين خفيفتين على الممر فأقشعر جسدي ، قد يكون حيوانا مفترسا ذئبا أو ثعلبا أتى ليأخذ نصيبه من داخل الكهف. فوجئت بقمره أمامي، تنفست بعمق ، أتت في الوقت المناسب ..يا قمره لا تتركيني ، أبقى معي أو خذيني معك بعيدا عن هذا المكان .

وقالت قمره إني إذا لم أر ما بداخل الكهف فسوف أعود إليه مرارا، وهى ترى أن تأخذني إليه حتى أعرف ما بداخله. قالت إن الكهف هو مقبرة الزهرة الصخرية الأزلية فهم لا يعرفون سواه..يودعون فيه موتاهم . ولما سألتها لماذا لا يدفنون موتاهم في مقابر؟ ابتسمت ابتسامة خفيفة وقال:

ـ إن الأرض هنا صخرية ومن الصعب حفرها ..

وأخذتني من يدي قائلة أنها ستدخل معي الكهف لأرى موتى الزهرة الصخرية . قلت في نفسي هذه حقيقة غريبة أخرى من حقائق الزهرة الصخرية، حقيقة ضرورية حتى تبدو الحياة بهذا الشكل الذي أراها عليه .

اجتزت معها مدخل الكهف وأخذت انحدر ببطء نحو الداخل وهى تشير على الأماكن التي يجب أن أحنى فيها رأسي حتى لا تصيبني البروزات الصخرية، وكان الجو مظلما وكانت قمره تعرف طريقها جيدا وهى تسحبني من يدي حتى أوقفتني عند عتبة صخرية عريضة وقالت هنا درجات تؤدى إلى اسفل..ولما سألتها أين نحن ، قالت إننا تحت الجبل وفى طريقنا إلى جوف الأرض .

عند العتبة كان الجو مضيئا والرؤية صعبة وقالت قمره إنني سأرى بعد قليل عندما تتعود عيناي على ذلك الضوء النابع من الأعماق . نظرت إلى أعلى وإلى أسفل ، لم أجد سوى جدران صخرية قاتمة اللون، بعد قليل انتشر ضوء أصفر فسفوري يميل إلى اللون الرمادي ، بدا قريبا منى ثم أخذ ينتشر بالتدرج ويمتد إلى أعماق الكهف، وبدا اللون الرمادي يذوب بالتدريج وبقى اللون الأصفر المشع الذي رأيته ينبثق كالدوامات من قاع الكهف إلى أعلى وإلى الجوانب .

وجدت نفسي أطل من موقع عال على مشهد غريب وكأني في حلم. نظرت إلى قمره استوضحها حقيقة ما أرى وراعني أن قمره بدت لي في تلك اللحظات وكأنها جزء من هذا المشهد، الجزء الحي الوحيد الذي يطمئنني على نفسي والذي يستطيع أن يكشف لي عن هذه الأسرار وتخيلت للحظة أن قمره أتت بي إلى هذا المكان السحيق لغرض ما، ولكن أي غرض من الممكن أن يكون لها هنا في الجوف الرهيب ؟ تزاحمت الأسئلة في ذهني وأنا واقف على العتبة العالية التي تطل على المقبرة الجماعية حيث استلقى على الأرض آلاف وملايين الأجساد دون تغيير ، وقالت لي قمره أنها ستأخذني في رحلة إلى أسفل وستوضح لي ما أرى حتى اعرف كل شئ عن الزهرة الصخرية ، وقلت إنني لم أر القرية بعد فكيف أبدأ من مقبرتها ؟ قالت إن الزهرة الصخرية ستبدو صغيرة لا شأن لها في الحاضر أمام هذا التاريخ الذي عمره قرون.

نزلت معها الدرجات الصخرية درجة درجة وأنا متشبث بكفها الذي أحسست به الآن دافئا بضا واكثر ضرورية من أي شئ آخر ، وامتزجت إجاباتها بتساؤلاتي حتى اختلط صوتي بصوتها فأصبحت أرى نفسي فيها وأراها بداخلي تقودني إلى العالم السفلي..مقبرة الزهرة الصخرية .

دوى صوتها مع صوتي من داخلي في وسط هذا الصمت المطبق، وتلاصق الجسدان وتحولت عيوننا إلى عيون ذات مجسات تقودني عبر دهاليز وممرات عجيبة تخترق أكفان لا حصر لها ، أكفان تضم أجسادا لم تبلى ولم يفنها الزمن ، بحجمها الطبيعي الذي دفنت به منذ سنين ، منذ آلاف السنين

ورن صوتها في صوتي إن الأرض صخرية لا تأكل أجساد الموتى وقد تعودت شعوب الزهرة الصخرية أن تودع أمواتها هكذا داخل الكهف العظيم، تترك أجساد الموتى مستلقاه على القاع الصخري فتظل هكذا ، مستلقاه إلى الأبد ، والكهف عميق عميق لا حدود له يسرى تحت الأرض من أولها لآخرها، ومهما سار الإنسان فيه فلن يبلغ منتهاه ..

بدت أمامي مجموعة من الأكفان في الصفوف الأولى تحت النور الأصفر النابع من الأعماق ، كانت موضوعه فى ترتيب خاص ومعزولة بسور صخري عن بقية الأكفان الأخرى..هذه خاصة بذوي المكانة المقدسة عندنا، وعلى الجانب الأيمن منها صفوف أخرى من أكفان الملوك والأمراء الذين تولوا أمور هذه القرية عبر القرون الماضية، وعلى الجانب الأيسر أكفان أصحاب المقامات الكبيرة وأصحاب الجاه والثروات وكانت الصفوف تتابع أفقيا على الأرض وفى أعماق جوف الكهف ، وتبدو الصفوف الخلفية التي توقف بصري عندها بصعوبة، كانت تغطيها سحابة رمادية تحلق فوقها..وهناك فوهتان تؤدى إحداهما إلى مكان خاص بالأطفال ، أكفان صغيرة وأجساد ممتلئة تتلاصق صفوفهم في طوابير طويلة وتؤدى الفوهة الأخرى إلى مكان خاص بالنساء وممرات طويلة تخترق الصفوف التي اصطفت في مربعات ومستطيلات كبيرة الحجم..وهنا صفوف أخرى للموتى الطاعنين في السن ، وهناك صفوف الموتى من الثوار أصحاب الثورات الشهيرة وصفوف أخرى لا نهاية لها اختفت مؤخرتها في جو رمادي مضبب كانت لأجساد الجنود الذين ماتوا في حروب الزهرة الصخرية المتتالية وكانت لهم أكفان ذات لون مميز، وصفوف أخرى لموتى من المعدمين وضحايا الأوبئة واللصوص وكان معظمهم بلا أكفان فبدت أجسادهم القديمة مستلقاة بملابس رثة أو بلا ملابس سوى خرق تستر العورات، وأجساد من العصور الغابرة ما زالت تحتفظ بشخصيتها تمتد عبر الأفق السفلي الرمادي ،ويستغرق أهل الزهرة الصخرية وقتا طويلا لبلوغ نهايتها قد يصل إلى يوم كامل .

كانت قمره ترى في عيني نظرات الاندهاش والشك أحيانا فتنحني أمامي وتكشف الغطاء عن رؤوس بعض الموتى القدامى فأرى ناسا نائمين لا أثر للموت على وجوههم فهم نائمون النوم الأبدي وزوجها واحد من هؤلاء، آثرت ألا أطلب منها أن تقودني إليه .

كلهم هنا، سنوات قديمة وعصور غابرة ، خط سير الحياة الطويل والذي يحلو له أن يخلفنا وراءه أمواتا .

كنت أنظر إلى الوجوه وأتعجب من نفسي، إذ كنت أتوقع أن تقع عيناي على وجه أعرفه ، وكيف اعرف أحدا من هؤلاء الموتى في هذا المكان البعيد..ربما ظننت أن البشرية التي سبقتنا قد تجمعت في هذا المكان ، لكن على قدر ما رأت عيناي فالموجودين هنا هم موتى الزهرة الصخرية، الموت ، إنه هنا، إنه يجذبني إليه، الموت يجذب إلى الموت، إنه هنا فهذه الكتل المتراصة في صفوف لا نهائية ، الصفوف التي لا تشبع والأجساد التي لا تبلى فهي ضد التحلل والفناء، كل جسد يأخذ حيزه إلى الأبد وحتى اليوم الآخر ليقوم وينزع الكفن القديم من جسده، إنهم جميعا نائمون مستعدون للقيام في أي لحظة، في انتظار من ينادي عليهم ، من يهزهم من أكتافهم، من يرش عليهم قليلا من الماء، إنهم هنا ، في لحظة تجدهم يتزاحمون على بوابة الخروج لينطلقوا إلى الحياة مرة أخرى وهم فرحون بأشعة الشمس والهواء البارد المتجدد فيخرج إلى الحياة أطفال أعمارهم آلاف السنين وشيوخ يعيشون شيخوختهم من جديد لكن تحت الشمس ، ونساء ورسل وجنود ولصوص ،ولكن هل تعيد الحياة مجراها القديم ؟ إن أهل الكهف القدامى عجزوا عن ذلك فاستسلموا ثانية إلى الموت. ولكن ماذا يحدث لو لم يستسلم هؤلاء القوم وهبوا مرة واحدة وأسرعوا نحو مدخل الكهف لينطلقوا ويزاحموا الصخور أو يلحسوها حتى تبرى..إنهم هنا ، وفى لحظة قد يعجز الكهف عن تحمل ما لا طاقة له به فينفجر أو يخر الجبل منهارا ليملأ الوادي بشظاياه وبالبشر .

كانت المسافة بيني وبين مدخل الكهف بعيدة ..بدا كنقطة صغيرة مضيئة بشعاع مختلف عن أشعة الضوء الأصفر الفسفوري المنتشرة في كل مكان. كان المدخل يضئ ثم ينطفئ، يتلاشى ثم يعود كفنار وسط بحر مظلم .

أسرعت فى الممرات وتبينت أنه لا جدوى من الالتفات فكلهم حولي ولن يسند ظهري أو يحميه سوى هؤلاء الموتى، لذلك التصقت بقمره، كنت اجذبها من صدرها وكنت أجذبها من ظهرها وأنا أدفعها متخبطا نحو المدخل، كنت أتشبث بجسدها الحي الدافئ هروبا من الموت الذي يحاصرني ، وكنت أندفع بها نحو المدخل قبل أن ألفظ أنفاسي الخيرة وقد تخيلت نفسي مستلقيا معهم في هذا المكان إلى الأبد.

صعدت الدرجات وارتميت على العتبة العالية وأخذت نفسا عميقا بينما انحنت علىّ قمره تمسح جبهتي ، صعدنا سويا نحو المدخل وخرجنا إلى الشمس التي تأهبت للغروب. أحسست إني أولد من جديد وعندما نظرت خلفي وأنا أبتعد مع قمره طالعني الكهف بفوهته الغامضة وسرت كالمذهول عبر الممر المغطى بالحصى الرفيع ، وكنت أريد أن أشرب الشمس وأن احتضن كل صخرة أقابلها ، كنت أريد أن أتمرغ على الأرض وأن تجرحني الصخور.

كانت قمره أمامي ترقبني وتلاحظ تصرفاتي ، مددت ذراعي وقبضت على كتفيها ولما وجدتها مستسلمة هززتها بقوه فإذا بها تتراجع إلى الخلف وتمد ذراعها القوية لتدفعني مثلما فعلت من قبل ..لا يا قمره كانت لك مرة وهذه المرة لي ..وبدلا من أن تدفعني دفعتها أنا فتدحرجت على الأرض واستلقت على ظهرها، وخلت للحظة أنها سوف تصرخ غاضبة فإذا بوجهها هادئ ضاحك، ساعدتها على القيام وقبل أن تقف كنت أنا مطروحا على الأرض تحت قدميها وسمعت ضحكتها تدوي، قمت إليها فجرت بين الصخور وتسلقتها كما الماعز، رأيت ساقيها عاريتين وهى تبتعد عنى وتضحك..وها أنت فعلتها ثانية لكنك تضحكين، لعلني لم أفهم لغتك حتى الآن..جريت وراءها وفعلت مثلها، تسلقت الصخور وجرحت ساقاي لكنى أفلحت فى اللحاق بها واحتوائها في صدري، رفستنى بساقيها وضربتني بذراعيها فألقيتها على الأرض ، تعرت ولاح عمودان منحوتان من صخر مصقول وألقيت بجسدي فوقها وكأني ألقيت نفسي على صخرة من صخور الزهرة الصخرية .

كانت تنضح بالعرق وكانت تلتمع وقد برزت عروق رقبتها وانتشرت على جبهتها ، رأيت الوشم تحت شفتها السفلي وتتبعته إلى اسفل عنقها القريب منى ، قبضت على حافة ردائها من عند الصدر وجذبته فتمزق في يدي وبرز صدرها أمامي نافرا له لمعة الصخر المبلل بالندى وقد اخترق الوشم منتصف الصدر نازلا إلى اسفل، مزقت بقية الرداء وخلعت حزامها فتحرر خصرها وانقسم رداؤها إلى قسمين فانكشف جسدها الصخري، هناك رأيت امتداد الوشم وقد انفرش على بطنها عل بطنها المستوى فرأيت شمسا مستديرة مشرقة وسط البطن ، وسرتها تبدو في قلب الكوكب المضيء ورسوم منحوتة فى براعة على جدار صخرة رمادية ملساء قبابها ناعمة ممتلئة وافرة الحياة .

أجس بأصابعي فأجد الجدار لينا والقباب دافئة نابضة ..تملصت من تحتي، دفعتني بعظمة حوضها ورفعت خصرها إلى أعلى، حاولت الاستدارة بجذعها وأعطت صدرها للأرض وكادت تهب واقفة لكنى أمسكتها من كتفها وهبطت بها من جديد وقد انفصل عنها رداؤها فلاح لي ظهرها كله صخرة منحوتة يصعب تسلقها، واحدة من الصخور التي تحيط بخيمتي ، وهالنى ان الوشم الذي على بطنها قد التف من الأمام إلى الخلف وصعد فوق ردفيها المستديرتين على شكل زهرتين ثم التقيا وهما يصعدان على ظهرها الأملس الأسمر الجميل في شكل طائرين يمارسان الحب وأجنحتهما مفرودة تختفي أطرافها تحت إبطها ..قوست ظهرها وطرحتني من فوقها وأسرعت عارية بعيدا عن الممر المؤدى إلى الكهف .

كانت الشمس تستقر في مغيبها وقمره تبدو في غبش الغروب صخرة رمادية تعدو وأنا أعدو وراءها وملابسي تتساقط منى ، وكانت هي تلتفت نحوى وتضحك وتواصل العدو وكأنها تحثني على الاندفاع نحوها ، تخطينا في عدونا التجويف الصخري مكان الرجل العجوز الراحل واتجهنا نحو الخيمة فاعتقدت أن قمره ستتوقف عندها وتدخلها ، لكنها تجاوزتها واستمرت تعدو عارية تجاه قرية الزهرة الصخرية وأنا خلفها أعدو *

يوليو83 ـ يونيو1986



نشرت الرواية في سلسلة أصوات أدبية
العدد التاسع ـ أغسطس 1990



أعلى