من أين يتدفق الألم ليلون الأحاسيس؟ و ما علاقة الذاكرة بالوجدان و الجوارح؟ و كيف تستطيع صور ترزح تحت ثقل هائل من الوقائع و المشاهد من ان تستعيد الحياة و القدرة على التأثير، لتهب كريح عاتية تطيح بكل ما انتصب بعدها، فلا تخلف غير وجوه شاحبة، و فكر متلاش لا يدري أين يتموقع داخل الأزمنة؟
هكذا احسست حين طلب مني صحافي مرافقته في زيارته الأولى إلى قرية أبا محمد. كان الأمر بالنسبة له مجرد بحث عن انيس يخفف عنه وطاة الوحدة في رحلته الاولى الى ق ية ابا محمد. بينما كان الأمر بالنسبة لي أشبه بفتح فوهة بركان ستنساب حممه فوق جوارحه و تحرق أشياء جميلة أصررت على الاعتقاد انها لا تزال قائمة. و لذلك كان رفضي العودة للقرية مجددا مجرد محاولة مني للاحتفاظ بذلك الاعتقاد في كوني أملك عمقا و قلعة خلفية تمنحني الدفء الذي افتقد اليه في زحفي داخل هذا الزمن الشاحب.
أنتظر صديقي موافقتي، و لم يعلم أني كنت قد انطلقت في غمار الرحلة.
كانت الرحلة مختلفة كليا عن رحلات الأمس، حين كنا نتوجه للقرية – كتلاميذ- على متن سيارات او شاحنات معدة أصلا لنقل السلع و الحيوانات. إذ ركبنا هذه المرة حافلة محترمة. لكن الامر سرعان ما ساء كثيرا حين أصر القائمون على أمور الرحلة على ملء الناقلة عن آخرها، بما في ذلك ممرها. و مع توالي الوقت، تحولت الرحلة إلى حجيم حقيقي. فقد تعالى بكاء الاطفال المختلط بصراخ الكبار. و انعبقت أجواء الناقلة بروائح الكيف و العرق. لكن ذلك لم يستطع انتزاعي و تحريري من أطياف الماضي التي كانت تتراءى لي في كل مكان من مسار الرحلة. إذ كانت تطالعني صور ناصعة البياض. في ثناياها أسماء و بصمات لأشخاص بعضهم غادر للأبد. و آخرون يطفون على السطح من حين لآخر. ووجوه أخرى طواها النسيان. وقائع متناثرة متوزعة على مساحات مكانية و زمانية، يفترض المنطق أن أضعها الان في وضع غير المعني.صور ناصعة تتعجب كيف احتفظت ببريقها بالرغم من الكم الهائل من الوقائع ز الصور التي راكمته الحياة
مفترق ّ"الشقوبيينّ" ينتزعني من شرودي. و من الوهلة الأولى بدا و كان الزمن نفسه يقبع في الجزء الاخر من عمره. مظهر شاحب خال من حركية أيام زمان. و بعده تمضي الطريق صعودا مخترقة حقول أشجار الزيتون، و لتلوح القرية فجأة كجزيرة تسمق و ترتفع فوق محيط النسيان. و إذا كل الزمان الذي انقضى بعد مغادرتها مجرد سنة. و الحصار الذي ينتصب سدا منيعا بين النسيان و التذكر ينشطر في شبه انفجار شظاياه الأسماء و المعالم. ّوادي احبارةّ ّ" عقبة سباطيّ" ّأولاد قاسمّ" ّ"عين اسوارتةّ" ّبوهراوةّ ّ الزاز...
عجيب ..ا كيف انفلتت كل هذه الاسماء من سلطة السهو والنسيان؟ لكن بالرغم من ذلك شعرت بأن أشياء كثيرة تغيرت. العمران الذي سطا على المساحات الفارغة. الدور المتهالكة التي اختفت و سمقت أخرى محلها و ارتفعت لتناطح السماء. الحركة الكثيفة و الأماكن و المقاهي المكتظة. الشوارع التي صارت اكثر امتدادا و انتظاما.
أشياء نبهتني إلى أني في غير الزمن الذي تحاصرني أطيافه. لقد جئت لأبحث عن القرية الأخرى. مولد الأحلام و رهانات الشباب. قصص الوله ولواءات و بذور التمرد. جئت لابحث عن زمني الذي استهلكته هنا. و لذلك حين كانت العيون تضعني أمام غربتي، كانت تنتابني رغبة في أن اصرخ في كل وجه صادفنيّ قبلكم كنت هنا. سألوا ذاكرة المكان. اسألوا خفق هذا الفؤادّ
صوت يستفزني في أوج تيهي و شروديّ عم جئت تبحث ايها الهرم؟
استدرت باحثا عن مصدر الصوت. لم اعثر على احد. استأنفت سيري فتكرر ثانية. لم أستدر. انتبهت إلى أن هذا الصوت كان مألوفا لدي فيما مضى. ناصع كبياض يافطة شيخ المركز*. قوي كرغبةّ ّسيدي ابراهيمّ في التخلص من مجاورة الموتى*. عميق كإحساسي اتجاه هذا المكان. أغمضت عيني و أجبت: جئت لأسمع هذه النبرات. لأيام شبابي عدت.
اضاف: أجئت لتوث الماضي أيضا؟
- كيف؟
- رغبتك في بعث حياة في قصص سبق ان عشتها. نظراتك الزائغة التي لا تبحث الا عن وجوه معينة سبق ان عرفتها. مسامعك الحريصة على التقاط اصوات بعينه. لذلك تنصحك بان تجر اذيالك و امض فلن تعثر الا على حطامك ان ركبك العناد.
- تابعت سيري. كنت اجر خطاي حين استعدت مشهد ّالزازّ وهو في وقفته الشهيرة على اعتاب الليل. نظافته المفرطة ولباسه الابيض. في كل المساءات كان في هذا المكان يقف و كأنه على موعد. وفي تلك اللحظة فقط سألت نفسي: ماذا كان الزاز ينتظر وهو بصدد ذلك الموعد الدهري؟ ألست اعيش الوضع نفسه و انا أمشي غير مدرك لما ابحث عنه؟
- ركبت السيارة مغادرا، فجاءني صوت مرافقي: كيف وجدت القرية بعد هذه الغيبة الطويلة؟
- أجبت: أي القريتين تقصد؟
- اندهش مرافقي و قال، و هل هناك قرية أخرى؟
أجبت و كأني أبلغه حقيقة غابت عنه: القرية التي تسكنني.
هكذا احسست حين طلب مني صحافي مرافقته في زيارته الأولى إلى قرية أبا محمد. كان الأمر بالنسبة له مجرد بحث عن انيس يخفف عنه وطاة الوحدة في رحلته الاولى الى ق ية ابا محمد. بينما كان الأمر بالنسبة لي أشبه بفتح فوهة بركان ستنساب حممه فوق جوارحه و تحرق أشياء جميلة أصررت على الاعتقاد انها لا تزال قائمة. و لذلك كان رفضي العودة للقرية مجددا مجرد محاولة مني للاحتفاظ بذلك الاعتقاد في كوني أملك عمقا و قلعة خلفية تمنحني الدفء الذي افتقد اليه في زحفي داخل هذا الزمن الشاحب.
أنتظر صديقي موافقتي، و لم يعلم أني كنت قد انطلقت في غمار الرحلة.
كانت الرحلة مختلفة كليا عن رحلات الأمس، حين كنا نتوجه للقرية – كتلاميذ- على متن سيارات او شاحنات معدة أصلا لنقل السلع و الحيوانات. إذ ركبنا هذه المرة حافلة محترمة. لكن الامر سرعان ما ساء كثيرا حين أصر القائمون على أمور الرحلة على ملء الناقلة عن آخرها، بما في ذلك ممرها. و مع توالي الوقت، تحولت الرحلة إلى حجيم حقيقي. فقد تعالى بكاء الاطفال المختلط بصراخ الكبار. و انعبقت أجواء الناقلة بروائح الكيف و العرق. لكن ذلك لم يستطع انتزاعي و تحريري من أطياف الماضي التي كانت تتراءى لي في كل مكان من مسار الرحلة. إذ كانت تطالعني صور ناصعة البياض. في ثناياها أسماء و بصمات لأشخاص بعضهم غادر للأبد. و آخرون يطفون على السطح من حين لآخر. ووجوه أخرى طواها النسيان. وقائع متناثرة متوزعة على مساحات مكانية و زمانية، يفترض المنطق أن أضعها الان في وضع غير المعني.صور ناصعة تتعجب كيف احتفظت ببريقها بالرغم من الكم الهائل من الوقائع ز الصور التي راكمته الحياة
مفترق ّ"الشقوبيينّ" ينتزعني من شرودي. و من الوهلة الأولى بدا و كان الزمن نفسه يقبع في الجزء الاخر من عمره. مظهر شاحب خال من حركية أيام زمان. و بعده تمضي الطريق صعودا مخترقة حقول أشجار الزيتون، و لتلوح القرية فجأة كجزيرة تسمق و ترتفع فوق محيط النسيان. و إذا كل الزمان الذي انقضى بعد مغادرتها مجرد سنة. و الحصار الذي ينتصب سدا منيعا بين النسيان و التذكر ينشطر في شبه انفجار شظاياه الأسماء و المعالم. ّوادي احبارةّ ّ" عقبة سباطيّ" ّأولاد قاسمّ" ّ"عين اسوارتةّ" ّبوهراوةّ ّ الزاز...
عجيب ..ا كيف انفلتت كل هذه الاسماء من سلطة السهو والنسيان؟ لكن بالرغم من ذلك شعرت بأن أشياء كثيرة تغيرت. العمران الذي سطا على المساحات الفارغة. الدور المتهالكة التي اختفت و سمقت أخرى محلها و ارتفعت لتناطح السماء. الحركة الكثيفة و الأماكن و المقاهي المكتظة. الشوارع التي صارت اكثر امتدادا و انتظاما.
أشياء نبهتني إلى أني في غير الزمن الذي تحاصرني أطيافه. لقد جئت لأبحث عن القرية الأخرى. مولد الأحلام و رهانات الشباب. قصص الوله ولواءات و بذور التمرد. جئت لابحث عن زمني الذي استهلكته هنا. و لذلك حين كانت العيون تضعني أمام غربتي، كانت تنتابني رغبة في أن اصرخ في كل وجه صادفنيّ قبلكم كنت هنا. سألوا ذاكرة المكان. اسألوا خفق هذا الفؤادّ
صوت يستفزني في أوج تيهي و شروديّ عم جئت تبحث ايها الهرم؟
استدرت باحثا عن مصدر الصوت. لم اعثر على احد. استأنفت سيري فتكرر ثانية. لم أستدر. انتبهت إلى أن هذا الصوت كان مألوفا لدي فيما مضى. ناصع كبياض يافطة شيخ المركز*. قوي كرغبةّ ّسيدي ابراهيمّ في التخلص من مجاورة الموتى*. عميق كإحساسي اتجاه هذا المكان. أغمضت عيني و أجبت: جئت لأسمع هذه النبرات. لأيام شبابي عدت.
اضاف: أجئت لتوث الماضي أيضا؟
- كيف؟
- رغبتك في بعث حياة في قصص سبق ان عشتها. نظراتك الزائغة التي لا تبحث الا عن وجوه معينة سبق ان عرفتها. مسامعك الحريصة على التقاط اصوات بعينه. لذلك تنصحك بان تجر اذيالك و امض فلن تعثر الا على حطامك ان ركبك العناد.
- تابعت سيري. كنت اجر خطاي حين استعدت مشهد ّالزازّ وهو في وقفته الشهيرة على اعتاب الليل. نظافته المفرطة ولباسه الابيض. في كل المساءات كان في هذا المكان يقف و كأنه على موعد. وفي تلك اللحظة فقط سألت نفسي: ماذا كان الزاز ينتظر وهو بصدد ذلك الموعد الدهري؟ ألست اعيش الوضع نفسه و انا أمشي غير مدرك لما ابحث عنه؟
- ركبت السيارة مغادرا، فجاءني صوت مرافقي: كيف وجدت القرية بعد هذه الغيبة الطويلة؟
- أجبت: أي القريتين تقصد؟
- اندهش مرافقي و قال، و هل هناك قرية أخرى؟
أجبت و كأني أبلغه حقيقة غابت عنه: القرية التي تسكنني.