الفلسفة رؤية ذاتية وموضوعية، تفكير ينصب على الذات والموضوعات الخارجية، تفكير في اليومي والكوني، تساؤلات عن الممكن والمستحيل، حاضرة في كل المجالات، وتشمل التقسيمات الكبرى، من مبحث الوجود والمعرفة والقيم ، جوهرها السؤال وهاجسها البحث عن الحقيقة، ومن أهدافها تقعيد الأشياء وإرساء المبادئ ، محبة الحكمة وانهمام بالذاتي والموضوعي، ومحاولة النفاد إلى عمق الأشياء، لا تركن للجاهز، ولا تؤمن بالتنميط، والفيلسوف محب للحكمة ومندهش من الحقائق، إنه الكائن الذي يرغب في عالم خال من القهر والاستبداد ، إقامة عالم الفضيلة والكرامة، ولذلك تتوجه الفلسفة مخاطبة الإنسان في بعده الفكري والوجداني، وفي انتمائه الاجتماعي، واقعه السياسي والأخلاقي، أحلام الفلاسفة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون ، والتفكير الفلسفي في سعي الفلاسفة نحو إقامة نظم عادلة وقوانين منصفة، لا تتكلل هذه الأحلام دائما بالنجاح، ولا يحالفهم الحظ في تجريب الأفكار وتطبيقها على نحو شامل لأسباب تتعلق بالسياسة والسياسي، خير مثال على ذلك مواصفات الحاكم الفيلسوف عند أفلاطون باعتبار الفلسفة قوة في توجيه الدولة، وتعديل القوانين الوضعية في إحقاق الحق وطلب العدالة في الفرد والمجتمع، رغبة الفيلسوف في ميلاد الحاكم الفيلسوف عبر تجربة أفلاطون مع حاكم صقلية، أحلام الفيلسوف في إقامة الجمهورية العادلة وتحقيق السعادة المنشودة، فمن الغايات الأساسية أولا الربط بين السياسة والمعرفة، وبين الحكم والأخلاق، وانتشال السياسية من الاستبداد، لكن النتيجة كانت بالفعل صادمة وقاسية، أن السياسي لا يمكن أن يصير فيلسوفا، عالم السياسة يعني الحفاظ على السلطة والمكانة بكل الوسائل، والفلسفة لن تكون غاية في ذلك، بل وسيلة من الوسائل في تدعيم الحكم والحفاظ عليه . واقع الصراع بين التعليم السقراطي والتعليم السفسطائي يشهد على ذلك، بين ضرورة الفلسفة في تقعيد المفاهيم السياسية والأخلاقية، واعتبار الفلسفة تعليم يعنى بفن الجدال والنقاش من خلال إتقان الخطابة وفن القول .
واقع الحياة الأثينية في القرن الرابع قبل الميلاد رغم ما كانت تتميز به أثينا عن اسبرطا من خصائص بين النظام الديمقراطي والنظام العسكري، بركليس واحد من الشخصيات اليونانية الذي خبر فن السياسة، وجمع بين المجد الارستقراطي الديمقراطي والنزوع للقوة، فكانت السياسة تجري على مقياس الجمع بين الحق والقوة، أما تمرين السياسي على محبة الحكمة بدون قوة الدولة العسكرية فهو الأمر الذي ظل يبتغيه فلاسفة اليونان الكبار، أما في مجال التفكير الفلسفي الإسلامي، فان الأمر لا يخلو كذلك من طموحات، ورغبة الفيلسوف في عقلنة السياسة، وتخليق الفعل السياسي حتى ينسجم والقيم الإنسانية في صيانة الأمم من البطش والاستبداد، وجموح السياسي نحو القهر والتسلط . الفارابي في مدينته الفاضلة حاول الجمع بين آراء أهلها الذين اجتمعوا على الفضل والتعاون مع النظام السياسي المتين للدول المثالية ضد المدن المضادة للمدينة الفاضلة، ولم يغفل الفارابي مواصفات الفيلسوف الحاكم للمدينة، وما يتسم به من مزايا جسدية وفكرية وأخلاقية، إضافة للنباهة والذكاء والحس السياسي، طموح الفارابي نابع من سياق المرحلة، وما عرفته من قلاقل وصراعات جعلت الفارابي يتأمل في الممكن، تأملات الفيلسوف ومقاصده كانت بالفعل للغايات القصوى وهي تحقيق العدالة، وشعور أهل المدينة الفاضلة بالسعادة، لأنهم يجتمعون على فكرة واحدة، ويوحدهم الاجتماع الفاضل، فجاءت المدنية وفق ترتيب مبني على مميزات الفيلسوف الحاكم، وعلى التطابق بين أخلاقية المجتمع ومزايا السياسة في المدينة الفاضلة . لم تكن هذه التصورات سواء في السياق اليوناني أو الإسلامي إلا تصورات لأهداف بذاتها، وهي البحث في النماذج الممكنة للقيادة والتسيير، تأملات في النماذج الهادفة للحياة السياسية والاجتماعية، الدليل من كتابات أرسطو عن السياسة التي أفرد لها كتابا خاصا يتضمن عصارة التفكير في أنظمة الحكم والسلطة والثروة، وفي الدساتير المناسبة وأشكال الحكومات، والمواطن والمواطنة، وكل ما يتعلق بمزايا الأنظمة والتربية السليمة في تهذيب الناس، وحسن ممارسة السلطة، كما اشترط الفيلسوف أن يكون للسياسي الكفاءة العقلية والأخلاقية، وما يتعلق بالحكمة وفضائل أخرى، تلك مواصفات ومزايا تظهر إلمام الفيلسوف أرسطو بالحياة السياسية العامة وطرق تدبير الدولة، تأملات في مواصفات السياسي والنظام الصائب للحكم بعيدا عن التصور المثالي الذي قدمه أفلاطون في ميلاد المدينة الفاضلة، وتلك الترابية الطبقية التي تحكم الدولة، والمثال الحي للملك الفيلسوف.
ظلت المشكلات السياسية حاضرة بقوة في تأملات الفلاسفة، ونظرا للطابع المعقد للفعل السياسي وتقلبات الأحداث التاريخية وزيادة الإنسان في جرعة التسلط والاستبداد والحكم المطلق، بقيت العلاقة بين الحاكم والمحكوم يطبعها الصراع وعدم التوافق ، دور الفيلسوف تقديم الممكن والمفيد لإزالة كل أشكال الاستبداد والغلو في السلطة، ميكيافيلي وتحرير السياسية من البعد الأخلاقي، واقع الدولة الحديثة وسياسة الأمير في الحفاظ على سلطته عند تجريب كل آليات الدهاء والذكاء والمكر السياسي، وسائل متنوعة تبرر غايات الأمير نحو بناء دولة قوية . الفيلسوف لا يقدم نفسه بديلا للسياسي، ولا يرفع السياسة للمثالية، بكل موضوعية يقرأ ميكيافيلي نوايا الإنسان ونوازعه بين الخير والشر، ويقدم نصائح للأمير، يقرأ قوة الدولة من خلال أمثلة تاريخية، من أباطرة اليونان والرومان، صلابة الأمير ودهائه أفضل السبل لإقامة دولة قوية، وسلطة مركزية في مصارعة المتربصين والناقمين على سلطة الدولة، وكل من يحاول العبث بقدرتها ، عمل الفيلسوف هنا كإنسان موظف لدى الحاكم، عندها يكون منظرا وناصحا للأمير، تلك الغايات التي جاءت بالمعنى الجديد للسياسة في تطهيرها من المثالية .
لا نلمس هذه المواقف في الفكر التعاقدي، طوماس هوبس في قراءته العقلانية للحياة السياسية يعتبر نزوع الإنسان نحو الشر أمر واقعي، في قولته الشهيرة " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان لا يؤمن جانبه " دليل على العدوانية والرغبة في سفك الدماء، من أسبابها الصراع على السلطة، ما يعيشه المجتمع من حالة الطبيعة وحق القوة ، مظاهر التوجس والحذر والكبرياء، وحرب الكل ضد الكل واقعية، الفيلسوف هنا يقدم وصفة نهائية للحل السياسي والاستقرار الأمني أو السلام الدائم، عندما يتم تفويض كل الصلاحيات للحاكم من قبل الشعب بإرادة، للحفاظ على الحقوق الطبيعية والمدنية ، شرعية الحاكم مستمدة من الشعب ، فطبيعة النظام السياسي لا يخرج عن سياق الحكم المطلق تحت ذريعة الحماية من الفوضى، والحاجة لاستتباب الأمن والسلم، هاجس الفيلسوف هنا السلم والحرية المقيدة بالقوانين الوضعية لما شاهده من حروب وصراعات في انجلترا وأوروبا بصفة عامة، والسبيل للخروج من الحرب المدمرة يتجلى في العقد الاجتماعي ، بموجب هذا العقد يتحقق المجتمع السليم، وتسود دولة المؤسسات. نقد نظرية الحق الإلهي لأنها غير مستساغة من قبل الفلاسفة خصوصا جون لوك . لم يكن راضيا عن مفهوم "حق الملوك الإلهي"، أي الحكم المطلق الذي يعطي السلطة والتفويض التام للحاكم، ويجرده من كل محاسبة، هذا النوع من التفويض في حاجة للتعديل والعودة بالمجتمع نحو التوافق والتراضي، والبديل في سلطة الشعب وإرادته، في مشروعية المؤسسات والقوانين الوضعية، حيث استبدلت السلطة المطلقة بالسلطة التشريعية كأقوى وأعلى السلط، بإمكان الشعب الثورة و إرغام الحاكم على الامتثال إذا لزم الأمر ذلك، في حالة الاستفراد بالقرار والحكم .
شرور السياسة كما قال روسو كذلك موجودة، والفيلسوف ذات حالمة ومنتجة للفكر المفيد، السياسة هنا مقيدة بالإرادة العامة والعقد المشترك، يلزم الأمر التقيد بالقوانين المنصفة، والسير على خطى القيم الإنسانية النبيلة في صيانة الوحدة والكرامة، هكذا تبلورت فلسفة سياسية تعنى بالنظم والتشريعات والدساتير، وتهتم بالأنظمة الصائبة في ممارسة الفعل السياسي، بقدر تطور المجتمعات الإنسانية، يزداد شغف الإنسان في توسيع هامش الحريات، وتجديد الخطاب السياسي . الفيلسوف لا يجب أن يعيش في الأبراج العالية أو ينحني لكل مظاهر التفاهة، أن يكون طبيبا يشخص حالات العصر، وهواجس الناس في التغيير للزيادة في التقدم وصيانة الحريات ضد التسلط السياسي . أحلام الفلاسفة لا يمكن أن تصير أوهاما وضربا من الخيال والاستحالة، خصوصا إذا كان التنظير يستجيب للوقائع المادية، فلاسفة منقسمين بين تيارات مختلفة: مثالية ومادية، عقلانية وتجريبية، مناهجهم في قراءة الواقع متباينة، بين الوصف والتفسير والتغيير، يبسطون التحليل في فهم طبيعة السلطة واليات عملها، يقدمون تأملات في العلاقة بين السياسي والاقتصادي، بين النظرية والتجربة في عالم الممارسة السياسية، ليسوا سياسيين بالمعنى السياسي، يمكن اعتبارهم منظرين وفاعلين في تقديم الرؤى والبدائل من خارج العمل السياسي، وغالبا ما يطرح الفيلسوف أسئلة عن السياسة وأهدافها، وأحيانا ينحت مفاهيم جديدة مفيدة للحقل السياسي، كما هو الشأن في الفلسفة الماركسية، ومفاهيم كثيرة عن الطبقة الاجتماعية والصراع، وحتمية التغيير، والثورة والقوى المحركة للتغيير، وكذلك في آراء وأفكار الفيلسوف الألماني هابرماس عن الديمقراطية التشاركية والفضاء العمومي، والمبادئ العامة التي تتأسس عليها السياسة منها مبادئ الشعب في السيادة، والحرية في القرار، ومبدأ القانون، والفصل بين السلط، ثم التدرج نحو بناء مجتمع حداثي حر يتسم بالعقلانية والديمقراطية والسلطة المشتركة . إنها ليست قناعات جديدة أو اختيارات فرد معين، بل يمكن القول أنها مبادئ عامة صاغها الفلاسفة الغربيون الكبار منهم "مونتيسكيو وجون لوك وهيجل وكانط..."، إرادة الشعوب في تكريس التعددية، وصيانة الحقوق والحريات وبالتالي خلق نقاش مثمر عن طموحات الناس ورغباتهم للزيادة في جرعة الحرية، وتوسع هامشها بعيدا عن العنف والقوة .
أفكار الفيلسوف بعيدة المدى إذا كانت ترمي للتجاوز وتجريب الأفكار والتصورات في الواقع، طموح أفلاطون لم يكن ينصب على ما هو كائن، بل على ما ينبغي أن يكون من خلال البحث عن مواصفات معقولة في الحاكم الفيلسوف، هذا الأمر لا يأتي دفعة واحدة، لكن يستند على مواصفات أخرى يجب أن تتوفر في التعليم والتربية والمجتمع كذلك ، ومن هنا ساهم الفلاسفة في بناء نظريات ومواقف معقولة في الفلسفة السياسية، وهي تلك النظريات التي تبحث في النظم والتشريعات والحكم والمفاهيم، تحاول قدر الإمكان العبور بالتجارب السياسية نحو تحقيق السلام الدائم عل أساس الاحترام، وتفاعل الناس فيما بينهم، والإبقاء على صحوة الضمير الأخلاقي، حتى لا تنزلق السياسة نحو تدمير الوجود الإنساني، خصوصا إذا تبوأ الحمقى والتافهون مراكز القرار والحكم، التفاهة كما حدد خصائصها الفيلسوف الكندي ألان دونو لا تنتج تفكيرا نفعيا للكل، انحطاط العالم سياسيا وفنيا وأدبيا، واقع نراه في تدني الأذواق، وغياب الأداء الرفيع، وكل الأشياء قابلة للبيع والشراء في خدمة منطق السوق الحرة، كل ما في العالم قابل للتنميط والتعليب، ربح التافهون المعركة، لم تعد للثقافة الرزينة تأثيرا، أصاب التيه المثقف والفيلسوف والعالم، هؤلاء أخلوا المكان للخبير والتقني والشعبوي. لقد بسط التافهون سلطتهم على مواقع القرار، وتحكموا في دواليب الاقتصاد والتجارة والسياسة، إنهم التقنيون والخبراء وذوي الاختصاص، أصبحت لغة الأرقام والتمويه وإتقان فنون التملق والاحتيال والتهليل للزعيم من سمات هذا النظام المهيمن، الذي بدأت تتشكل معالمه في العالم، وليس في الغرب الأوروبي فقط، هنا يمكن للفيلسوف أن يتمرد على الواقع، أن يكون راديكاليا ومفكرا ثوريا للرفض، إبلاغ صوته الهادئ والمعارض لما يتعلق بفنون الإرغام والتبعية، حتى يرفع الستار عن عالم السياسة المزيف، يكون المحرض على ثقافة لا تجعل من الناس قطيعا وعقولا عمياء تجتر ما يملى عليها من قبل هؤلاء المتحكمين في الثقافة العالمية، يعني ليس بالضرورة أن يكون الفيلسوف زعيما سياسيا يتقن فن التحايل والكذب والمراوغة، بل يمكن أن يتحول لملهم الجماهير الكبيرة في عالم ينشد الكرامة والحرية.
واقع الحياة الأثينية في القرن الرابع قبل الميلاد رغم ما كانت تتميز به أثينا عن اسبرطا من خصائص بين النظام الديمقراطي والنظام العسكري، بركليس واحد من الشخصيات اليونانية الذي خبر فن السياسة، وجمع بين المجد الارستقراطي الديمقراطي والنزوع للقوة، فكانت السياسة تجري على مقياس الجمع بين الحق والقوة، أما تمرين السياسي على محبة الحكمة بدون قوة الدولة العسكرية فهو الأمر الذي ظل يبتغيه فلاسفة اليونان الكبار، أما في مجال التفكير الفلسفي الإسلامي، فان الأمر لا يخلو كذلك من طموحات، ورغبة الفيلسوف في عقلنة السياسة، وتخليق الفعل السياسي حتى ينسجم والقيم الإنسانية في صيانة الأمم من البطش والاستبداد، وجموح السياسي نحو القهر والتسلط . الفارابي في مدينته الفاضلة حاول الجمع بين آراء أهلها الذين اجتمعوا على الفضل والتعاون مع النظام السياسي المتين للدول المثالية ضد المدن المضادة للمدينة الفاضلة، ولم يغفل الفارابي مواصفات الفيلسوف الحاكم للمدينة، وما يتسم به من مزايا جسدية وفكرية وأخلاقية، إضافة للنباهة والذكاء والحس السياسي، طموح الفارابي نابع من سياق المرحلة، وما عرفته من قلاقل وصراعات جعلت الفارابي يتأمل في الممكن، تأملات الفيلسوف ومقاصده كانت بالفعل للغايات القصوى وهي تحقيق العدالة، وشعور أهل المدينة الفاضلة بالسعادة، لأنهم يجتمعون على فكرة واحدة، ويوحدهم الاجتماع الفاضل، فجاءت المدنية وفق ترتيب مبني على مميزات الفيلسوف الحاكم، وعلى التطابق بين أخلاقية المجتمع ومزايا السياسة في المدينة الفاضلة . لم تكن هذه التصورات سواء في السياق اليوناني أو الإسلامي إلا تصورات لأهداف بذاتها، وهي البحث في النماذج الممكنة للقيادة والتسيير، تأملات في النماذج الهادفة للحياة السياسية والاجتماعية، الدليل من كتابات أرسطو عن السياسة التي أفرد لها كتابا خاصا يتضمن عصارة التفكير في أنظمة الحكم والسلطة والثروة، وفي الدساتير المناسبة وأشكال الحكومات، والمواطن والمواطنة، وكل ما يتعلق بمزايا الأنظمة والتربية السليمة في تهذيب الناس، وحسن ممارسة السلطة، كما اشترط الفيلسوف أن يكون للسياسي الكفاءة العقلية والأخلاقية، وما يتعلق بالحكمة وفضائل أخرى، تلك مواصفات ومزايا تظهر إلمام الفيلسوف أرسطو بالحياة السياسية العامة وطرق تدبير الدولة، تأملات في مواصفات السياسي والنظام الصائب للحكم بعيدا عن التصور المثالي الذي قدمه أفلاطون في ميلاد المدينة الفاضلة، وتلك الترابية الطبقية التي تحكم الدولة، والمثال الحي للملك الفيلسوف.
ظلت المشكلات السياسية حاضرة بقوة في تأملات الفلاسفة، ونظرا للطابع المعقد للفعل السياسي وتقلبات الأحداث التاريخية وزيادة الإنسان في جرعة التسلط والاستبداد والحكم المطلق، بقيت العلاقة بين الحاكم والمحكوم يطبعها الصراع وعدم التوافق ، دور الفيلسوف تقديم الممكن والمفيد لإزالة كل أشكال الاستبداد والغلو في السلطة، ميكيافيلي وتحرير السياسية من البعد الأخلاقي، واقع الدولة الحديثة وسياسة الأمير في الحفاظ على سلطته عند تجريب كل آليات الدهاء والذكاء والمكر السياسي، وسائل متنوعة تبرر غايات الأمير نحو بناء دولة قوية . الفيلسوف لا يقدم نفسه بديلا للسياسي، ولا يرفع السياسة للمثالية، بكل موضوعية يقرأ ميكيافيلي نوايا الإنسان ونوازعه بين الخير والشر، ويقدم نصائح للأمير، يقرأ قوة الدولة من خلال أمثلة تاريخية، من أباطرة اليونان والرومان، صلابة الأمير ودهائه أفضل السبل لإقامة دولة قوية، وسلطة مركزية في مصارعة المتربصين والناقمين على سلطة الدولة، وكل من يحاول العبث بقدرتها ، عمل الفيلسوف هنا كإنسان موظف لدى الحاكم، عندها يكون منظرا وناصحا للأمير، تلك الغايات التي جاءت بالمعنى الجديد للسياسة في تطهيرها من المثالية .
لا نلمس هذه المواقف في الفكر التعاقدي، طوماس هوبس في قراءته العقلانية للحياة السياسية يعتبر نزوع الإنسان نحو الشر أمر واقعي، في قولته الشهيرة " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان لا يؤمن جانبه " دليل على العدوانية والرغبة في سفك الدماء، من أسبابها الصراع على السلطة، ما يعيشه المجتمع من حالة الطبيعة وحق القوة ، مظاهر التوجس والحذر والكبرياء، وحرب الكل ضد الكل واقعية، الفيلسوف هنا يقدم وصفة نهائية للحل السياسي والاستقرار الأمني أو السلام الدائم، عندما يتم تفويض كل الصلاحيات للحاكم من قبل الشعب بإرادة، للحفاظ على الحقوق الطبيعية والمدنية ، شرعية الحاكم مستمدة من الشعب ، فطبيعة النظام السياسي لا يخرج عن سياق الحكم المطلق تحت ذريعة الحماية من الفوضى، والحاجة لاستتباب الأمن والسلم، هاجس الفيلسوف هنا السلم والحرية المقيدة بالقوانين الوضعية لما شاهده من حروب وصراعات في انجلترا وأوروبا بصفة عامة، والسبيل للخروج من الحرب المدمرة يتجلى في العقد الاجتماعي ، بموجب هذا العقد يتحقق المجتمع السليم، وتسود دولة المؤسسات. نقد نظرية الحق الإلهي لأنها غير مستساغة من قبل الفلاسفة خصوصا جون لوك . لم يكن راضيا عن مفهوم "حق الملوك الإلهي"، أي الحكم المطلق الذي يعطي السلطة والتفويض التام للحاكم، ويجرده من كل محاسبة، هذا النوع من التفويض في حاجة للتعديل والعودة بالمجتمع نحو التوافق والتراضي، والبديل في سلطة الشعب وإرادته، في مشروعية المؤسسات والقوانين الوضعية، حيث استبدلت السلطة المطلقة بالسلطة التشريعية كأقوى وأعلى السلط، بإمكان الشعب الثورة و إرغام الحاكم على الامتثال إذا لزم الأمر ذلك، في حالة الاستفراد بالقرار والحكم .
شرور السياسة كما قال روسو كذلك موجودة، والفيلسوف ذات حالمة ومنتجة للفكر المفيد، السياسة هنا مقيدة بالإرادة العامة والعقد المشترك، يلزم الأمر التقيد بالقوانين المنصفة، والسير على خطى القيم الإنسانية النبيلة في صيانة الوحدة والكرامة، هكذا تبلورت فلسفة سياسية تعنى بالنظم والتشريعات والدساتير، وتهتم بالأنظمة الصائبة في ممارسة الفعل السياسي، بقدر تطور المجتمعات الإنسانية، يزداد شغف الإنسان في توسيع هامش الحريات، وتجديد الخطاب السياسي . الفيلسوف لا يجب أن يعيش في الأبراج العالية أو ينحني لكل مظاهر التفاهة، أن يكون طبيبا يشخص حالات العصر، وهواجس الناس في التغيير للزيادة في التقدم وصيانة الحريات ضد التسلط السياسي . أحلام الفلاسفة لا يمكن أن تصير أوهاما وضربا من الخيال والاستحالة، خصوصا إذا كان التنظير يستجيب للوقائع المادية، فلاسفة منقسمين بين تيارات مختلفة: مثالية ومادية، عقلانية وتجريبية، مناهجهم في قراءة الواقع متباينة، بين الوصف والتفسير والتغيير، يبسطون التحليل في فهم طبيعة السلطة واليات عملها، يقدمون تأملات في العلاقة بين السياسي والاقتصادي، بين النظرية والتجربة في عالم الممارسة السياسية، ليسوا سياسيين بالمعنى السياسي، يمكن اعتبارهم منظرين وفاعلين في تقديم الرؤى والبدائل من خارج العمل السياسي، وغالبا ما يطرح الفيلسوف أسئلة عن السياسة وأهدافها، وأحيانا ينحت مفاهيم جديدة مفيدة للحقل السياسي، كما هو الشأن في الفلسفة الماركسية، ومفاهيم كثيرة عن الطبقة الاجتماعية والصراع، وحتمية التغيير، والثورة والقوى المحركة للتغيير، وكذلك في آراء وأفكار الفيلسوف الألماني هابرماس عن الديمقراطية التشاركية والفضاء العمومي، والمبادئ العامة التي تتأسس عليها السياسة منها مبادئ الشعب في السيادة، والحرية في القرار، ومبدأ القانون، والفصل بين السلط، ثم التدرج نحو بناء مجتمع حداثي حر يتسم بالعقلانية والديمقراطية والسلطة المشتركة . إنها ليست قناعات جديدة أو اختيارات فرد معين، بل يمكن القول أنها مبادئ عامة صاغها الفلاسفة الغربيون الكبار منهم "مونتيسكيو وجون لوك وهيجل وكانط..."، إرادة الشعوب في تكريس التعددية، وصيانة الحقوق والحريات وبالتالي خلق نقاش مثمر عن طموحات الناس ورغباتهم للزيادة في جرعة الحرية، وتوسع هامشها بعيدا عن العنف والقوة .
أفكار الفيلسوف بعيدة المدى إذا كانت ترمي للتجاوز وتجريب الأفكار والتصورات في الواقع، طموح أفلاطون لم يكن ينصب على ما هو كائن، بل على ما ينبغي أن يكون من خلال البحث عن مواصفات معقولة في الحاكم الفيلسوف، هذا الأمر لا يأتي دفعة واحدة، لكن يستند على مواصفات أخرى يجب أن تتوفر في التعليم والتربية والمجتمع كذلك ، ومن هنا ساهم الفلاسفة في بناء نظريات ومواقف معقولة في الفلسفة السياسية، وهي تلك النظريات التي تبحث في النظم والتشريعات والحكم والمفاهيم، تحاول قدر الإمكان العبور بالتجارب السياسية نحو تحقيق السلام الدائم عل أساس الاحترام، وتفاعل الناس فيما بينهم، والإبقاء على صحوة الضمير الأخلاقي، حتى لا تنزلق السياسة نحو تدمير الوجود الإنساني، خصوصا إذا تبوأ الحمقى والتافهون مراكز القرار والحكم، التفاهة كما حدد خصائصها الفيلسوف الكندي ألان دونو لا تنتج تفكيرا نفعيا للكل، انحطاط العالم سياسيا وفنيا وأدبيا، واقع نراه في تدني الأذواق، وغياب الأداء الرفيع، وكل الأشياء قابلة للبيع والشراء في خدمة منطق السوق الحرة، كل ما في العالم قابل للتنميط والتعليب، ربح التافهون المعركة، لم تعد للثقافة الرزينة تأثيرا، أصاب التيه المثقف والفيلسوف والعالم، هؤلاء أخلوا المكان للخبير والتقني والشعبوي. لقد بسط التافهون سلطتهم على مواقع القرار، وتحكموا في دواليب الاقتصاد والتجارة والسياسة، إنهم التقنيون والخبراء وذوي الاختصاص، أصبحت لغة الأرقام والتمويه وإتقان فنون التملق والاحتيال والتهليل للزعيم من سمات هذا النظام المهيمن، الذي بدأت تتشكل معالمه في العالم، وليس في الغرب الأوروبي فقط، هنا يمكن للفيلسوف أن يتمرد على الواقع، أن يكون راديكاليا ومفكرا ثوريا للرفض، إبلاغ صوته الهادئ والمعارض لما يتعلق بفنون الإرغام والتبعية، حتى يرفع الستار عن عالم السياسة المزيف، يكون المحرض على ثقافة لا تجعل من الناس قطيعا وعقولا عمياء تجتر ما يملى عليها من قبل هؤلاء المتحكمين في الثقافة العالمية، يعني ليس بالضرورة أن يكون الفيلسوف زعيما سياسيا يتقن فن التحايل والكذب والمراوغة، بل يمكن أن يتحول لملهم الجماهير الكبيرة في عالم ينشد الكرامة والحرية.