الشافعي - كتاب الأم – كتاب الأقضية

- أدب القاضي وما يستحب للقاضي

أخبرنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي محمد بن إدريس قال أحب أن يقضي القاضي في موضع بارز للناس لا يكون دونه حجاب وأن يكون متوسطا للمصر وأن يكون في غير المسجد لكثرة من يغشاه لغير ما بنيت له المساجد ويكون ذلك في أوفق الأماكن به وأحراها أن لا يسرع ملالته فيه.

[قال]: وإذا كرهت له أن يقضي في المسجد فلان يقيم الحد في المسجد أو يعزر أكره.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولا يقضي القاضي وهو غضبان أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: (لا يقضي القاضي أو لا يحاكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: حديث رسول الله ﷺ يدل على أن لا يقضي الرجل وهو غضبان وكان معقولا في الغضب تغير العقل والفهم فأي حال جاءت عليه يعلم هو من نفسه تغير عقله أو فهمه امتنع من القضاء فيها فإن كان إذا اشتكى أو جاع أو اهتم أو حزن أو بطر فرحا تغير لذلك فهمه أو خلقه لم أحب له أن يقضي وإن كان ذلك لا يغير عقله ولا فهمه ولا خلقه قضى فأما النعاس فيغمر القلب شبيها بغمر الغشي فلا يقضي ناعسا ولا مغمور القلب من هم أو وجع يغمر قلبه.

[قال]: وأكره للقاضي الشراء والبيع والنظر في النفقة على أهله وفي ضيعته لأن هذا أشغل لفهمه من كثير من الغضب وجماع ما شغل فكره يكره له وهو في مجلس الحكم أكره له. ولو اشترى أو باع لم أنقض البيع ولا الشراء لأنه ليس بمحرم وإنما كره لئلا يشتغل فهمه. وكذلك لو قضى في الحال التي كرهت له أن يقضي فيها لم أرد من حكمه إلا ما كنت رادا من حكمه في أفرغ حالاته وذلك إذا حكم بخلاف الكتاب والسنة وما وصفت مما يرد به الحكم. [قال]: وإذا اختصم الرجلان إلى القاضي فبان له من أحد الخصمين اللدد نهاه فإن عاد زجره. ولا يبلغ أن يحبسه ولا يضربه إلا أن يكون في ذلك ما يستوجب ضربا أو حبسا ومتى بان له الحق عليه قطع به الحكم عليه.


=====


- الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر

أخبرنا الربيع بن سليمان قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أن رسول الله ﷺ قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دلالة على أن الأئمة إنما كلفوا القضاء على الظاهر لقول رسول الله ﷺ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فأخبر ﷺ أن قد يكون هذا في الباطن محرما على من قضي له به وأباح القضاء على الظاهر ودلالة على أن قضاء الإمام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا لقوله: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه) ودلالة على أن كل حق وجب لي ببينة أو قضاء قاض فأقررت بخلافه أن قولي أولى لقوله فمن قضيت له بشيء في الظاهر فلا يأخذه إذا كان في الباطن ليس له وأن الباطن إذا تبين بإقراره فيما يمكن أن يكون بحال حكم عليه به وهو أن لا يأخذ وإذا لم يأخذه فهو غير آخذ فأبطل إقراره بأن لا حق له فيما قضى له به من الحق ودلالة على أن الحكم على الناس يجيء على نحو ما يسمع منهم مما لفظوا به وإن كان قد يمكن أن يكون نياتهم أو غيبهم غير ذلك لقوله " فمن قضيت له فلا يأخذ " إذ القضاء عليهم إنما هو بما لفظوا به لا بما غاب عنه. وقد وكلهم فيما غاب عنه منهم بنية أو قول إلى أنفسهم ودلالة على أنه لا يحل لحاكم أن يحكم على أحد إلا بما لفظ وأن لا يقضي عليه بشيء مما غيب الله تعالى عنه من أمره من نية أو سبب أو ظن أو تهمة لقول النبي ﷺ " على نحو ما أسمع منه " وإخبار النبي ﷺ أن من قضيت له فلا يأخذه أن القضاء على ما يسمع منهما وإنه قد يكون في الباطن عليهما غير ما قضى عليهما بما لفظا به قضى بما سمع ووكلهم فيما غاب إلى أنفسهم فمن قضى بتوهم منه على سائله أو بشيء يظن أنه خلق به أو بغير ما سمع من السائلين فخلاف كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ قضى لأن الله عز وجل استأثر بعلم الغيب وادعى هذا علمه ولأن رسول الله ﷺ قضى بما سمع وأخبر أن قد يكون غيبهم غير ظاهرهم لقوله: (فمن قضيت له بشيء فلا يأخذه) ورسول الله ﷺ أولى الناس بعلم هذا لموضعه الذي وضعه الله تعالى به وكرامته التي اختصه الله تعالى بها من النبوة ونزول الوحي عليه فوكلهم في غيبهم إلى أنفسهم وادعى هذا علمه ومثل هذا قضاؤه لعبد بن زمعة بالولد وقوله لسودة: (احتجبي منه) عندما رأى شبها بينا فقضى بالظاهر وهو فراش زمعة ودلالة على أنه من أخذ من مال مسلم شيئا فإنما يقطع لنفسه قطعة من النار والفيء مال المسلمين فقياسا على هذا أن من أعطى أحدا منه شيئا لم يكن مستأهلا له ولم يكن حقا له فهو آخذ من مال المسلمين وكلهم أكثر حرمة من واحدهم فإنما أخذ قطعة من النار ومتى ظفر بماله أو بمن يحكم عليه أخذ من ماله بقدر ما أخذ منه مما لم يكن مستأهلا له ولم يكن حقا له فوضع في بيت مال المسلمين.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أخبرنا الدراوردي عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن بشر بن سعيد عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) قال يزيد فحدث بهذا الحديث أبا بكر بن حزم فقال: هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ومعنى الاجتهاد من الحاكم إنما يكون بعد أن لا يكون فيما يرد القضاء في كتاب ولا سنة ولا أمر مجتمع عليه فأما وشيء من ذلك موجود فلا. فإن قيل فمن أين قلت هذا وحديث النبي ﷺ ظاهره الاجتهاد؟ قيل له أقرب ذلك: (قول النبي ﷺ لمعاذ بن جبل كيف تقضي؟ قال بكتاب الله عز وجل قال فإن لم يكن؟ قال فبسنة رسول الله ﷺ قال فإن لم يكن قال أجتهد رأيي قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحب رسول الله) فأخبر النبي ﷺ أن الاجتهاد بعد أن لا يكون كتاب الله ولا سنة رسوله. ولقول الله عز وجل: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وما لم أعلم فيه مخالفا من أهل العلم ثم ذلك موجود في قوله إذا اجتهد لأن الاجتهاد ليس بعين قائمة وإنما هو شيء يحدثه من قبل نفسه فإذا كان هذا هكذا فكتاب الله والسنة والإجماع أولى من رأي نفسه ومن قال الاجتهاد أولى خالف الكتاب والسنة برأيه ثم هو مثل القبلة التي من شهد مكة في موضع يمكنه رؤية البيت بالمعاينة لم يجز له غير معاينتها ومن غاب عنها توجه إليها باجتهاده فإن قيل فما الحجة في أنه ليس للحاكم أن يجتهد على غير كتاب ولا سنة وقد قال رسول الله ﷺ إذا اجتهد الحاكم " وقال معاذ أجتهد رأيي ورضي بذلك رسول الله ﷺ بأبي هو وأمي ولم يقل رسول الله ﷺ إذا اجتهد على الكتاب والسنة؟ قيل لقول الله عز وجل: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} فجعل الناس تبعا لهما ثم لم يهملهم ولقول الله عز وجل: {اتبع ما أوحي إليك من ربك} ولقوله: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} ففرض علينا اتباع رسوله فإذا كان الكتاب والسنة هما الأصلان اللذان افترض الله عز وجل لا مخالف فيهما وهما عينان ثم قال " إذا اجتهد " فالاجتهاد ليس بعين قائمة إنما هو شيء يحدثه من نفسه ولم يؤمر باتباع نفسه إنما أمر باتباع غيره فإحداثه على الأصلين اللذين افترض الله عليه أولى به من إحداثه على غير أصل أمر باتباعه وهو رأي نفسه ولم يؤمر باتباعه فإذا كان الأصل أنه لا يجوز له أن يتبع نفسه وعليه أن يتبع غيره والاجتهاد شيء يحدثه من عند نفسه والاستحسان يدخل على قائله كما يدخل على من اجتهد على غير كتاب ولا سنة ومن قال هذين القولين قال قولا عظيما لأنه وضع نفسه في رأيه واجتهاده واستحسانه على غير كتاب ولا سنة موضعهما في أن يتبع رأيه كما اتبعا. وفي أن رأيه أصل ثالث أمر الناس باتباعه وهذا خلاف كتاب الله عز وجل لأن الله تبارك وتعالى إنما أمر بطاعته وطاعة رسوله وزاد قائل هذا القول رأيا آخر على حياله بغير حجة له في كتاب ولا سنة ولا أمر مجتمع عليه ولا أثر فإذا كانا موجودين فهما الأصلان وإذا لم يكونا موجودين فالقياس عليهما لا على غيرهما. فإن قال قائل: فأين هذا قيل مثل الكعبة من رآها صلى إليها ومن غاب عنها توجه إليها بالدلائل عليها لأنها الأصل فإن صلى غائبا عنها برأي نفسه بغير اجتهاد بالدلائل عليها كان مخطئا وكانت عليه الإعادة، وكذلك الاجتهاد فمن اجتهد على الكتاب والسنة فذلك. ومن اجتهد على غير الكتاب والسنة كان مخطئا. ومثل قول الله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} والمثل للمقتول وقد يكون غائبا فإنما يجتهد على أصل الصيد المقتول فينظر إلى أقرب الأشياء به شبها فيهديه. وفي هذا دليل على أن الله عز وجل لم يبح الاجتهاد إلا على الأصول لأنه عز وجل إنما أمر بمثل ما قتل فأمر بالمثل على الأصل ليس على غير أصل. ومثل أذان ابن أم مكتوم في عهد رسول الله ﷺ وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت فلو جاز الاجتهاد على غير أصل لجاز لابن أم مكتوم أن يؤذن بغير إخبار غيره له أن الفجر قد طلع. ولكن لما لم يكن فيه آلة الاجتهاد على الأصل لم يجز اجتهاده حتى يخبره من قد اجتهد على الأصل وفي إخباره على غير اجتهاد على الأصل أن الفجر قد طلع تحريم الأكل الذي هو حلال لي وتحليل الصلاة التي هي حرام علي أن أصليها إلا في وقتها وفي إخبار الحاكم على غير أصل لرجل له أربع نسوة أن واحدة قد حرمت عليه تحريم امرأة كانت له وتحليل الخامسة له فيكون كل واحد من هؤلاء وقد أحل وحرم برأي نفسه ولجاز أن يجتهد الأعمى فيصلي برأيه ولا رأي له ولجاز أن يصلي الأعمى ولا يدري قد أحل وحرم برأي نفسه ولجاز أن يجتهد الأعمى فيصلي برأيه ولا رأي له ولجاز أن يصلي الأعمى ولا يدري أزالت الشمس أم لا؟ برأي نفسه ولجاز أن يصوم رمضان برأي نفسه أن الهلال قد طلع ولجاز إذا كانت دلائل القبلة أن يدع الرجل النظر إليها والاجتهاد عليها ويعمل في ذلك برأي نفسه على غير أصل كما إذا كان الكتاب والسنة موجودين فآمره يترك الدلائل وآمره يجتهد برأيه وهذا خلاف كتاب الله عز وجل لقوله تبارك وتعالى: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} ولقوله عز وجل: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ولقول رسول الله ﷺ: (صوموا لرؤيته) ولصلاة النبي ﷺ بعد الزوال ولكان إذا يجوز لكل أحد علم كتاب الله وسنة رسوله ﷺ أو لم يعلمهما أن يجتهد فيما ليس فيه كتاب ولا سنة برأيه بغير قياس عليهما لأنه إذا جاز له أن يجتهد على غير كتاب ولا سنة فلا يعدو أن يصيب أو يخطئ وليس ذلك منه على الأصول التي أمر باتباعها فيكون إذا اجتهد عليها مؤديا لفرضه فقد أباح لكل من لم يعلم الكتاب والسنة وجهلهما أن يكون رأي نفسه وإن كان أجهل الناس كلهم فيما ليس فيه كتاب ولا سنة مثل رأي من علم الكتاب والسنة لأنه إذا كان أصله أن من علمهما واجتهد على غيرهما جاز له فما معنى من علمهما ومن لم يعلمهما في موضع الاجتهاد إذا كان على غيرهما إلا سواء؟ غير أن الذي علمهما يفضل الذي لم يعلمهما بما نصا فقط فأما بموضع الاجتهاد فقد سوى بينهما فكان قد جعل العالمين والجاهلين في درك علم ما ليس فيه كتاب ولا سنة سواء فكان للجاهلين إذا نزل بهم شيء من جهة القياس بما يستدرك قياسا أن يكون هو فيه والعالم سواء وأن يقتدي برأي نفسه لأنه إذا كان العالم عنده إنما يعمل في ذلك على غير أصل فأكثر حالات الجاهل أن يعمل على غير أصل فاستويا في هذا المعنى ولكان كل من رأى رأيا فاستحسنه جاهلا كان أو عالما جاز له إذا لم يكن في ذلك كتاب ولا سنة وليس كل العلم يوجد فيه كتاب وسنة نصا وكان قد جعل رأي كل أحد من الآدميين الجاهل والعالم منهم أصلا يتبع كما تتبع السنة لأنه إذا أجاز الاجتهاد على غير أصل لم يزل ذلك به في نفسه ورآه حقا له وجب عليه أن يأمر الناس باتباع الحق وهذا خلاف القرآن لأن الله عز وجل فرض عليهم فيه اتباعه واتباع رسوله ﷺ وزاد قائل هذا واتباع نفسك فأقام الناس في هذا الموضع مقاما عظيما بغير شيء جعله الله تعالى لهم ولا رسوله ﷺ فإن قيل فقد: (أمر النبي ﷺ سعدا أن يحكم في بني قريظة فحكم برأيه فقال رسول الله ﷺ وافقت حكم الله عز وجل فيهم) ففي هذا دليل على أنه إنما قال برأيه فوافق الحكم على غير أصل كان عنده من النبي ﷺ: (وأن قوما من أصحاب النبي ﷺ خرج لهم حوت من البحر ميت فأكلوه ثم سألوا عنه النبي ﷺ فقال هل بقي معكم من لحمه شيء؟) ففي هذا دليل على أنهم إنما أكلوه يومئذ برأي أنفسهم وأن النبي ﷺ كان يبعث عماله وسراياه ويأمر الناس بطاعتهم ما أطاعوا الله وقد فعل بعضهم شيئا في بعض مغازيهم فكره ذلك رسول الله ﷺ وهو الرجل الذي لاذ بالشجرة فأحرقوه والذي أمر الرجل أن يلقي نفسه في النار والذي جاء بالهدية وكل هذا فعلوه برأيهم فكره ذلك رسول الله ﷺ والرجل الذي قال أسلمت لله فقتل فكره ذلك رسول الله ﷺ؟ قيل له فما احتججت من هذا يشبه أنه لنا دونك. أما أولا، فأمر رسول الله ﷺ لسراياه وأمرائه بطاعة الله عز وجل ورسوله واتباعهما وأمره من أمر عليهم أمراء أن يطيعوهم ما أطاعوا الله فإذا عصوا الله عز وجل فلا طاعة لهم عليهم ففي نفس ما احتججت به أنه إنما أمر الناس بطاعة الله وطاعة أمرائهم إذا كانوا مطيعين لله فإذا عصوا فلا طاعة لهم عليكم وفيه أنه كره لهم كل شيء فعلوه برأي أنفسهم من الحرق والقتل وأباح لهم كل ما عملوه مطيعين فيه لله ولرسوله فلو لم يكن لنا حجة في رد الاجتهاد على غير أصل إلا ما احتججت به أن النبي ﷺ كره لهم ونهاهم عن كل أمر فعلوه برأي أنفسهم لكان لنا فيه كفاية وإن قيل فقد أجاز رأي سعد في بني قريظة ورأي الذين أكلوا الحوت على غير أصل. قيل أجازه لصوابه كما يجيز رأي كل من رأى ممن يعلم أو لا يعلم إذا كان بحضرته من يعلم خطأه وصوابه فيجيزه من يعلم ذلك منه إذا أصاب الحق بمعنى إجازته له أنه الحق لا بمعنى رأي نفسه منفردا دون علمك لأن رأي ذي الرأي على غير أصل قد يصيب وقد يخطئ ولم يؤمر الناس أن يتبعوا إلا كتاب الله أو سنة رسوله ﷺ الذي قد عصمه الله من الخطأ وبرأه منه فقال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} فأما من كان رأيه خطأ أو صوابا فلا يؤمر أحد باتباعه ومن قال للرجل يجتهد برأيه فيستحسن على غير أصل فقد أمر باتباع من يمكن منه الخطأ وأقامه مقام رسول الله ﷺ الذي فرض الله اتباعه فإن كان قائل هذا ممن يعقل ما تكلم به فتكلم به بعد معرفة هذا فأرى للإمام أن يمنعه وإن كان غبيا علم هذا حتى يرجع. فإن قيل فما معنى قوله له احكم قيل مثل قوله عز وجل: {وشاورهم في الأمر} على معنى استطابة أنفس المستشارين أو المستشار منهم والرضا بالصلح على ذلك ووضع الحرب بذلك السبب لا أن برسول الله ﷺ حاجة إلى مشورة أحد والله عز وجل يؤيده بنصره بل لله ورسوله المن والطول على جميع الخلق وبجميع الخلق الحاجة إلى الله عز وجل فيحتمل أن يكون قوله ﷺ له احكم على هذا المعنى وأن يكون قد علم من رسول الله ﷺ سنة في مثل هذا فحكم على مثلها أو يحكم فيوفقه الله تعالى ذكره لأمر رسوله فيعرف رسول الله ﷺ صواب ذلك فيقره عليه أو يعرف غير ذلك فيعمل رسول الله ﷺ في ذلك بطاعة الله عز وجل فإن قيل فيحكم رسول الله ﷺ من قد يخطئ؟ قيل نعم ولا يبرأ أحد من الآدميين من الخطأ إلا الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين كما ولى أمراء ففعل بعضهم بعض ما كره برأيه على معنى الاحتياط منهم للدين فردهم في ذلك إلى طاعة الله عز وجل وأجاز لهم ما عملوا من طاعة الله لأنه ﷺ إنما كان يجوز هذا من سنته لأن الله عز وجل اختصه بوحيه وانتخبه لرسالته فما كان من أمر من أحد أمرائه أقرهم عليه فبطاعة الله عز وجل أقرهم وما كره لهم بأن كانوا فعلوه طلب طاعة الله عز وجل فبطاعة الله كره لهم وليس يعلم مثل هذا من رأى أحد صوابه من خطئه أحد بعد رسول الله ﷺ فيجوز لأحد أن يقول برأيه لأنه لا مبين لرأيه أصواب هو أم خطأ وإنما على الناس أن يتبعوا طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ وهو كتاب الله عز وجل وسنة نبيه ﷺ وإذا غبي علمهما على أحد فالدلائل عليهما لأنهما اللذان رضي الله عز وجل ورسوله ﷺ لعباده وأمروا باتباعه ﷺ فإن قيل فقد أكلوا الحوت بغير حضور النبي ﷺ بلا أصل عندهم؟ قيل لموضع الضرورة والحاجة إلى أكله على أنهم ليسوا على يقين من حله. ألا ترى أنهم سألوا عن ذلك أو لا ترى أن أصحاب أبي قتادة في الصيد الذي صاده إذ لم يكن بهم ضرورة إلى أكله أمسكوا إذ لم يكن عندهم أصل حتى سألوا رسول الله ﷺ عن ذلك؟


***

مشاورة القاضي

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: أحب للقاضي أن يشاور ولا يشاور في أمره إلا عالما بكتاب وسنة وآثار وأقاويل الناس وعاقلا يعرف القياس ولا يحرف الكلام ووجوهه ولا يكون هذا في رجل حتى يكون عالما بلسان العرب ولا يشاوره إذا كان هذا مجتمعا فيه حتى يكون مأمونا في دينه لا يقصد إلا قصد الحق عنده ولا يقبل ممن كان هكذا عنده شيئا أشار به عليه على حال حتى يخبره أنه أشار به من خبر يلزم وذلك كتاب أو سنة أو إجماع أو من قياس على أحدهما ولا يقبل منه وإن قال هذا له حتى يعقل منه ما يعقل فيقفه عليه فيعرف منه معرفته ولا يقبله منه وإن عرفه هكذا حتى يسأل هل له وجه يحتمل غير الذي قال؟ فإن لم يكن له وجه يحتمل غير الذي قال أو كانت سنة فلم يختلف في روايتها قبله وإن كان للقرآن وجهان أو كانت سنة رويت مختلفة أو سنة ظاهرها يحتمل وجهين لم يعمل بأحد الوجهين حتى يجد دلالة من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس على أن الوجه الذي عمل به هو الوجه الذي يلزمه والذي هو أولى به من الوجه الذي تركه وهكذا يعمل في القياس لا يعمل بالقياس أبدا حتى يكون أولى بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو أصح في المصدر من الذي ترك ويحرم عليه أن يعمل بغير هذا من قوله استحسنت لأنه إذا أجاز لنفسه استحسنت أجاز لنفسه أن يشرع في الدين وغير جائز له أن يقلد أحدا من أهل دهره وإن كان أبين فضلا في العقل والعلم منه ولا يقضي أبدا إلا بما يعرف وإنما أمرته بالمشورة لأن المشير ينبهه لما يغفل عنه ويدله من الأخبار على ما لعله أن يجهله. فأما أن يقلد مشيرا فلم يجعل الله هذا لأحد بعد رسول الله ﷺ وإذا اجتمع له علماء من أهل زمانه أو افترقوا فسواء ذلك كله لا يقبله إلا تقليدا لغيرهم من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس يدلونه عليه حتى يعقله كما عقلوه فإن لم يكن في عقله ما إذا عقل القياس عقله وإذا سمع الاختلاف ميزه فلا ينبغي له أن يقضي ولا ينبغي لأحد أن يستقضيه وينبغي له أن يتحرى أن يجمع المختلفين لأنه أشد لتقصيه العلم وليكشف بعضهم على بعض، يعيب بعضهم قول بعض حتى يتبين له أصح القولين على التقليد أو القياس.


***

حكم القاضي

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا حكم القاضي بحكم ثم رأى الحق في غيره فإن رأى الحق في الحادث بأنه كان خالف في الأول كتابا أو سنة أو إجماعا أو أصح المعنيين فيما احتمل الكتاب أو السنة نقض قضاءه الأول على نفسه وكل ما نقض على نفسه نقضه على من قضى به إذا رفع إليه ولم يقبله ممن كتب به إليه، وإن كان إنما رأى قياسا محتملا أحسن عنده من شيء قضى به من قبل والذي قضى به قبل يحتمل القياس ليس الآخر بأبين حتى يكون الأول خطأ في القياس يستأنف الحكم في القضاء الآخر بالذي رأى آخرا ولم ينقض الأول وما لم ينقضه على نفسه لم ينقضه على أحد حكم به قبله ولا أحب له أن يكون منفذا له وإن كتب به إليه قاض غيره لأنه حينئذ مبتدئ الحكم فيه ولا يبتدئ الحكم بما يرى غيره أصوب منه، وليس على القاضي أن يتعقب حكم من كان قبله فإن تظلم محكوم عليه قبله نظر فيما تظلم فيه فإن وجده قضى عليه بما وصفت في المسألة الأولى من خلاف كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس فهذا خطأ يرده عليه لا يسعه غيره وإن لم يكن خلاف واحد من هؤلاء أو كان يراه باطلا بأن قياسا عنده أرجح منه وهو يحتمل القياس لم يرده لأنه إذا احتمل المعنيين معا فليس يرده من خطأ بين إلى صواب بين كما يرده في خلاف الكتاب أو السنة أو الإجماع من خطأ بين إلى صواب بين.

[قال]: وإذا تناقد الخصمان بينتهما وحجتهما عند القاضي ثم مات أو عزل أو ولي غيره لم يحكم حتى يعيدا عليه حجتهما وبينتهما ثم يحكم وينبغي أن يخفف في المسألة عن بينتهما إن كانوا ممن يسأل عنه وهكذا شهوده يعيد تعديلهم ويخفف في المسألة ويوجزها لئلا تطول.

ويحب للقاضي والوالي أن يولي الشراء له والبيع رجلا مأمونا غير مشهور بأنه يبيع له ولا يشتري خوف المحاباة بالزيادة له فيما اشترى منه أو النقص فيما اشترى له فإن هذا من مآكل كثير من الحكام وإن لم يفعل لم أفسد له شراء ولا بيعا إلا أن يستكره أحدا على ذلك إلا بما أفسد به شراء السوقة.

[قال]: ولا أحب لحاكم أن يتخلف عن الوليمة إذا دعي لها ولا أحب له أن يجيب وليمة بعض ويترك بعضا إما أن يجيب كلا أو يترك كلا ويعتذر ويسألهم أن يحللوه ويعذروه ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتي الغائب عند قدومه ومخرجه.

[قال]: وإذا تحاكم إلى القاضي أعجمي لا يعرف لسانه لم يقبل الترجمة عنه إلا بشاهدين عدلين يعرفان ذلك اللسان لا يشكان فيه فإن شكا لم يقبل ذلك عنهما وأقام ذلك مقام الشهادة فيقبل فيه ما يقبل في الشهادة ويرد فيه ما يرد فيها.


***

مسائل القاضي وكيف العمل عند شهادة الشهود

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا شهد الشهود عند القاضي فإن كانوا مجهولين كتب حلية كل واحد منهم ورفع في نسبه إن كان له نسب أو ولائه إن كان يعرف له ولاء. وسأله عن صناعته إن كان له صناعة وعن كنيته إن كان يعرف بكنية وعن مسكنه وموضع بياعاته ومصلاه. وأحب له إن كان الشهود ليسوا ممن يعرف بالحال الحسنة المبرزة والعقل معها أن يفرقهم ثم يسأل كل واحد منهم على حدته عن شهادته واليوم الذي شهد فيه والموضع الذي شهد فيه ومن حضره وهل جرى ثم كلام. ثم يثبت ذلك كله وهكذا أحب إن كان ثم حال حسنة ولم يكن سديد العقل أن يفعل به هذا ويسأل من كان معه في الشهادة على مثل حاله عن مثل ما يسأل ليستدل على عورة إن كانت في شهادته أو اختلاف إن كان في شهادته وشهادة غيره فيطرح من ذلك ما لزمه طرحه ويلزم ما لزمه إثباته وإن جمع الحال الحسنة والعقل لم يقفه ولم يفرقهم، وأحب للقاضي أن يكون أصحاب مسائله جامعين للعفاف في الطعمة والأنفس وافري العقول برآء من الشحناء بينهم وبين الناس أو الحيف على أحد بأن يكونوا من أهل الأهواء والعصبية والمماطلة للناس وأن يكونوا جامعين للأمانة في أديانهم وأن يكونوا أهل عقول لا يتغفلون بأن يسألوا الرجل عن عدوه ليخفي حسنا ويقول قبيحا فيكون ذلك جرحا عندهم أو يسألوه عن صديقه فيخفي قبيحا ويقول حسنا فيكون ذلك تعديلا عندهم.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ويحرص الحاكم على أن لا يعرف له صاحب مسألة فيحتال له. [قال]: وأرى أن يكتب لأهل المسائل صفات الشهود على ما وصفت وأسماء من شهدوا له ومن شهدوا عليه وقدر ما شهدوا فيه ثم لا يسألون أحدا عنهم حتى يخبره بمن شهدوا له، وشهدوا عليه وقدر ما شهدوا فيه فإن المسئول عن الرجل قد يعرف ما لا يعرف الحاكم من أن يكون الشاهد عدوا للمشهود عليه أو حنقا عليه أو شريكا فيما شهد فيه وتطيب نفسه على تعديله في اليسير ويقف في الكثير، ولا يقبل تعديله إلا من اثنين ولا المسألة عنه إلا من اثنين ويخفي على كل واحد منهما أسماء من دفع إلى الآخر لتتفق مسألتهما أو تختلف فإن اتفقت بالتعديل قبلها وإن اختلفت أعادها مع غيرهما فإن عدل رجل وجرح لم يقبل الجرح إلا من شاهدين وكان الجرح أولى من التعديل لأن التعديل يكون على الظاهر والجرح يكون على الباطن. [قال]: ولا يقبل الجرح من أحد من خلق الله فقيه عاقل دين ولا غيره إلا بأن يقفه على ما يجرحه به فإذا كان ذلك مما يكون جرحا عند الحاكم قبله منه وإذا لم يكن جرحا عنده لم يقبله فإن الناس يختلفون ويتباينون في الأهواء فيشهد بعضهم على بعض بالكفر فلا يجوز لحاكم أن يقبل من رجل وإن كان صالحا أن يقول لرجل ليس بعدل ولا رضا ولعمري إن من كان عنده كافرا لغير عدل، وكذلك يسمى بعضهم بعضا على الاختلاف بالفسق والضلال فيجرحونهم فيذهب من يذهب إلى أن أهل الأهواء لا تجوز شهادتهم فيجرحونهم من هذا المعنى وليس هذا بموضع جرح لأحد، وكذلك من يجرح من يستحل بعض ما يحرم هو من نكاح المتعة ومن إتيان النساء في أدبارهن وأشباه ذلك مما لا يكون جرحا عند أهل العلم فلا يقبل الجرح إلا بالشهادة من الجارح على المجروح وبالسماع أو بالعيان كما لا يقبلها عليه فيما لزمه من الحق وأكثر من نسب إلى أن تجوز شهادته بغيا حتى يعتد اليسير الذي لا يكون جرحا لقد حضرت رجلا صالحا يجرح رجلا مستهلا بجرحه فألح عليه بأي شيء تجرحه؟ فقال ما يخفى على ما تكون الشهادة به مجروحة فلما قال له الذي يسأله عن الشهادة لست أقبل هذا منك إلا أن تبين قال رأيته يبول قائما قال وما بأس بأن يبول قائما؟ قال ينضح على ساقيه ورجليه وثيابه ثم يصلي قبل أن ينقيه قال أفرأيته فعل فصلى قبل أن ينقيه وقد نضح عليه؟ قال لا ولكني أراه سيفعل. وهذا الضرب كثير في العالمين والجرح خفي فلا يقبل لخفائه ولما وصفت من الاختلاف إلا بتصريح الجارح ولا يقبل التعديل إلا بأن يوقفه المعدل عليه فيقول عدل علي ولي ثم لا يقبل ذلك هكذا حتى يسأله عن معرفته به فإن كانت معرفته به باطنة متقادمة قبل ذلك منه وإن كانت معرفته به ظاهرة حادثة لم يقبل ذلك منه.


***

- ما تجوز به شهادة أهل الأهواء

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ذهب الناس من تأويل القرآن والأحاديث أو من ذهب منهم إلى أمور اختلفوا فيها فتباينوا فيها تباينا شديدا واستحل فيها بعضهم من بعض ما تطول حكايته وكان ذلك منهم متقادما منه ما كان في عهد السلف وبعدهم إلى اليوم فلم نعلم أحدا من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم رد شهادة أحد بتأويل وإن خطأه وضلله ورآه استحل فيه ما حرم عليه ولا رد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول وذلك أنا وجدنا الدماء أعظم ما يعصى الله تعالى بها بعد الشرك ووجدنا متأولين يستحلونها بوجوه وقد رغب لهم نظراؤهم عنها وخالفوهم فيها ولم يردوا شهادتهم بما رأوا من خلافهم فكل مستحل بتأويل من قول أو غيره فشهادته ماضية لا ترد من خطأ في تأويله وذلك أنه قد يستحل من خالفه الخطأ إلا أن يكون منهم من يعرف باستحلال شهادة الزور على الرجل لأنه يراه حلال الدم أو حلال المال فترد شهادته بالزور أو يكون منهم من يستحل أو يرى الشهادة للرجل إذا وثق به فيحلف له على حقه ويشهد له بالبت ولم يحضره ولم يسمعه فترد شهادته من قبل استحلاله الشهادة بالزور أو يكون منهم من يباين الرجل المخالف له مباينة العداوة له فترد شهادته من جهة العداوة فأي هذا كان فيهم أو في غيرهم ممن لا ينسب إلى هوى رددت شهادته وأيهم سلم من هذا أجزت شهادته وشهادة من يرى الكذب شركا بالله أو معصية له يوجب عليها النار أولى أن تطيب النفس عليها من شهادة من يخفف المأثم عليها. وكذلك إذا كانوا مما يشتم قوما على وجه تأويل في شتمهم لا على وجه العداوة وذلك أنا إذا أجزنا شهادتهم على استحلال الدماء كانت شهادتهم بشتم الرجال أولى أن لا ترد لأنه متأول في الوجهين والشتم أخف من القتل فأما من يشتم على العصبية أو العداوة لنفسه أو على ادعائه أن يكون مشتوما مكافئا بالشتم فهذه العداوة لنفسه وكل هؤلاء ترد شهادته عمن شتمه على العداوة. وأما الرجل من أهل الفقه يسأل عن الرجل من أهل الحديث فيقول كفوا عن حديثه ولا تقبلوا حديثه لأنه يغلط أو يحدث بما لم يسمع، وليست بينه وبين الرجل عداوة فليس هذا من الأذى الذي يكون به القائل لهذا فيه مجروحا عنه لو شهد بهذا عليه إلا أن يعرف بعداوة له فترد بالعداوة لا بهذا القول، وكذلك إن قال إنه لا يبصر الفتيا ولا يعرفها فليس هذا بعداوة ولا غيبة إذا كان يقوله لمن يخاف أن يتبعه فيخطئ باتباعه وهذا من معاني الشهادات وهو لو شهد عليه بأعظم من هذا لم يكن هذا غيبة إنما الغيبة أن يؤذيه بالأمر لا بشهادته لأحد يأخذ به منه حقا في حد ولا قصاص ولا عقوبة ولا مال ولا حد لله ولا مثل ما وصفت من أن يكون جاهلا بعيوبه فينصحه في أن لا يغتر به في دينه إذا أخذ عنه من دينه من لا يبصره فهذا كله معاني الشهادات التي لا تعد غيبة.

[قال]: والمستحل لنكاح المتعة والمفتي بها والعامل بها ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسرا فنكح أمة مستحلا لنكاحها مسلمة أو مشركة لأنا نجد من مفتي الناس وأعلامهم من يستحل هذا وهكذا المستحل الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين يدا بيد والعامل به لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن فهذا كله عندنا مكروه محرم وإن خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم ونقول لهم إنكم حللتم ما حرم الله وأخطأتم لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل.


****

شهادة أهل الأشربة

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: من شرب من الخمر شيئا وهو يعرفها خمرا، والخمر: العنب الذي لا يخالطه ماء ولا يطبخ بنار ويعتق حتى يسكر هذا مردود الشهادة لأن تحريمها نص في كتاب الله عز وجل سكر أو لم يسكر ومن شرب ما سواها من الأشربة من المنصف والخليطين أو مما سوى ذلك مما زال أن يكون خمرا وإن كان يسكر كثيره فهو عندنا مخطئ بشربه آثم به ولا أرد به شهادته وليس بأكثر مما أجزنا عليه شهادته من استحلال الدم المحرم عندنا والمال المحرم عندنا والفرج المحرم عندنا ما لم يكن يسكر منه فإذا سكر منه فشهادته مردودة من قبل أن السكر محرم عند جميع أهل الإسلام إلا أنه قد حكي لي عن فرقة أنها لا تحرمه وليست من أهل العلم فإذا كان الرجل المستحل للأنبذة يحضرها مع أهل السفه الظاهر ويترك لها الحضور للصلوات وغيرها وينادم عليها ردت شهادته بطرحه المروءة وإظهاره السفه، وأما إذا لم يكن ذلك معها لم ترد شهادته من قبل الاستحلال.


***

شهادة أهل العصبية

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: من أظهر العصبية بالكلام فدعا إليها وتألف عليها وإن لم يكن يشهر نفسه بقتال فيها فهو مردود الشهادة لأنه أتى محرما لا اختلاف بين علماء المسلمين علمته فيه الناس كلهم عباد الله تعالى لا يخرج أحد منهم من عبوديته وأحقهم بالمحبة أطوعهم له وأحقهم من أهل طاعته بالفضيلة أنفعهم لجماعة المسلمين من إمام عدل أو عالم مجتهد أو معين لعامتهم وخاصتهم وذلك أن طاعة هؤلاء طاعة عامة كثيرة فكثير الطاعة خير من قليلها وقد جمع الله تعالى الناس بالإسلام ونسبهم إليه فهو أشرف أنسابهم.

[قال]: فإن أحب امرؤ فليحب عليه وإن خص امرؤ قومه بالمحبة ما لم يحمل على غيرهم ما ليس يحل له فهذا صلة ليست بعصبية وقل امرؤ إلا وفيه محبوب ومكروه فالمكروه في محبة الرجل من هو منه أن يحمل على غيره ما حرم الله تعالى عليه من البغي والطعن في النسب والعصبية والبغضة على النسب لا على معصية الله ولا على جناية من المبغض على المبغض ولكن بقوله أبغضه لأنه من بني فلان فهذه العصبية المحضة التي ترد بها الشهادة فإن قال قائل ما الحجة في هذا؟ قيل له: قال الله تبارك وتعالى: {إنما المؤمنون إخوة} وقال رسول الله ﷺ: (وكونوا عباد الله إخوانا)، فإذا صار رجل إلى خلاف أمر الله تبارك وتعالى اسمه وأمر رسول الله ﷺ بلا سبب يعذر به يخرج به من العصبية كان مقيما على معصية لا تأويل فيها ولا اختلاف بين المسلمين فيها ومن أقام على مثل هذا كان حقيقا أن يكون مردود الشهادة.


***

شهادة الشعراء

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: الشعر كلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام غير أنه كلام باق سائر فذلك فضله على الكلام فمن كان من الشعراء لا يعرف بنقص المسلمين وأذاهم والإكثار من ذلك، ولا بأن يمدح فيكثر الكذب لم ترد شهادته. ومن أكثر الوقيعة في الناس على الغضب أو الحرمان حتى يكون ذلك ظاهرا كثيرا مستعلنا، وإذا رضي مدح الناس بما ليس فيهم حتى يكون ذلك كثيرا ظاهرا مستعلنا كذبا محضا ردت شهادته بالوجهين، وبأحدهما لو انفرد به، وإن كان إنما يمدح فيصدق، ويحسن الصدق أو يفرط فيه بالأمر الذي لا يمحض أن يكون كذبا لم ترد شهادته، ومن شبب بامرأة بعينها ليست ممن يحل له وطؤها حين شبب فأكثر فيها وشهرها وشهر مثلها بما يشبب، وإن لم يكن زنى ردت شهادته، ومن شبب فلم يسم أحدا لم ترد شهادته لأنه يمكن أن يشبب بامرأته، وجاريته، وإن كان يسأل بالشعر أو لا يسأل به فسواء. وفي مثل معنى الشعر في رد الشهادة من مزق أعراض الناس، وسألهم أموالهم فإذا لم يعطوه إياها شتمهم.

فأما أهل الرواية للأحاديث التي فيها مكروه على الناس فيكره ذلك لهم، ولا ترد شهادتهم لأن أحدا قلما يسلم من هذا إذا كان من أهل الرواية فإن كانت تلك الأحاديث عضة بحر أو نفي نسب ردت بذلك شهادتهم إذا أكثروا روايتها أو عمدوا أن يرووها فيحدثوا بها، وإن لم يكثروا.

وأما من روى الأحاديث التي ليست بمحض الصدق ولا بيان الكذب، وإن كان الأغلب منها أنها كذب فلا ترد الشهادة بها، وكذلك رواية أهل زمانك من الإرجاف، وما أشبهه.

وكذلك المزاح لا ترد به الشهادة ما لم يخرج في المزاح إلى عضة النسب أو عضة بحر أو فاحشة فإذا خرج إلى هذا، وأظهره كان مردود الشهادة.


***

- شهادة أهل اللعب

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: يكره من، وجه الخير اللعب بالنرد أكثر مما يكره اللعب بشيء من الملاهي، ولا نحب اللعب بالشطرنج، وهو أخف من النرد، ويكره اللعب بالحزة، والقرق، وكل ما لعب الناس به لأن اللعب ليس من صنعة أهل الدين ولا المروءة. ومن لعب بشيء من هذا على الاستحلال له لم ترد شهادته والحزة تكون قطعة خشب فيها حفر يلعبون بها إن غفل به عن الصلوات فأكثر حتى تفوته ثم يعود له حتى تفوته رددنا شهادته على الاستخفاف بمواقيت الصلاة كما نردها لو كان جالسا فلم يواظب على الصلاة من غير نسيان ولا غلبة على عقل. فإن قيل فهو لا يترك الصلاة حتى يخرج وقتها للعب إلا وهو ناس؟ قيل فلا يعود للعب الذي يورث النسيان، وإن عاد له، وقد جربه يورثه ذلك فذلك استخفاف. فأما الجلوس والنسيان فمما لم يجلب على نفسه فيه شيئا إلا حديث النفس الذي لا يمتنع منه أحد، ولا يأثم به، وإن قبح ما يحدث به نفسه، والناس يمتنعون من اللعب. فأما ملاعبة الرجل أهله وإجراؤه الخيل، وتأديبه فرسه، وتعلمه الرمي، ورميه فليس ذلك من اللعب، ولا ينهى عنه. وينبغي للمرء أن لا يبلغ منه، ولا من غيره من تلاوة القرآن، ولا نظر في علم ما يشغله عن الصلاة حتى يخرج وقتها، وكذلك لا يتنفل حتى يخرج من المكتوبة لأن المكتوبة أوجب عليه من جميع النوافل.


***

شهادة من يأخذ الجعل على الخير

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولو أن القاضي والقاسم والكاتب للقاضي وصاحب الديوان وصاحب بيت المال والمؤذنين لم يأخذوا جعلا، وعملوا محتسبين كان أحب إلي، وإن أخذوا جعلا لم يحرم عليهم عندي، وبعضهم أعذر بالجعل من بعض، وما منهم أحد كان أحب إلي أن يترك الجعل من المؤذنين

[قال]: ولا بأس أن يأخذ الرجل الجعل عن الرجل في الحج إذا كان قد حج عن نفسه، ولا بأس أن يأخذ الجعل على أن يكيل للناس ويزن لهم، ويعلمهم القرآن والنحو، وما يتأدبون به من الشعر مما ليس فيه مكروه

[قال الربيع]: سمعت الشافعي يقول لا تأخذ في الأذان أجرة، ولكن خذه على أنه من الفيء.


***

شهادة السؤال

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: لا تحرم المسألة في الجائحة تصيب الرجل تأتي على ماله، ولا في حمالة الرجل بالديات والجراحات، ولا في الغرم لأن هذه مواضع ضرورات، وليس فيها كبير سقاطة مروءة. وهكذا لو قطع برجل ببلد فسأل لم أر أن هذا يحرم عليه إذا كان لا يجد المضي منها إلا بمسألة، ولا ترد شهادة أحد بهذا أبدا فأما من يسأل عمره كله أو أكثر عمره أو بعض عمره، وهو غني بغير ضرورة، ولا معنى من هذه المعاني، ويشكو الحاجة فهذا يأخذ ما لا يحل له، ويكذب بذكر الحاجة فترد بذلك شهادته

[قال]: ومن سأل، وهو فقير لا يشهد على غناه لم تحرم عليه المسألة، وإن كان ممن يعرف بأنه صادق ثقة لم ترد شهادته، وإن كان تغلبه الحاجة، وكانت عليه دلالات أن يشهد بالباطل على الشيء لم تقبل شهادته، وهكذا إن كان غنيا يقبل الصدقة المفروضة من غير مسألة كان قابلا ما لا يحل له فإن كان ذلك يخفى عليه أنه محرم عليه لم ترد شهادته، وإن كان لا يخفى عليه أنه محرم عليه ردت شهادته. فأما غير الصدقة المفروضة يتصدق بها على رجل غني فقبلها فلا يحرم عليه، ولا ترد بها شهادته.

***

- شهادة القاذف

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: من قذف مسلما حددناه أو لم نحدده لم نقبل شهادته حتى يتوب فإذا تاب قبلنا شهادته فإن كان القذف إنما هو بشهادة لم تتم في الزنا حددناه ثم نظرنا إلى حال المحدود فإن كان من أهل العدل عند قذفه بشهادته قلنا له تب، ولا توبة إلا إكذابه نفسه فإذا أكذب نفسه فقد تاب حد أو لم يحد، وإن أبى أن يتوب، وقد قذف، وسقط الحد عنه بعفو أو غيره مما لا يلزم المقذوف اسم القذف لم تقبل شهادته أبدا حتى يكذب نفسه. وهكذا قال عمر للذين شهدوا على من شهدوا عليه حين حدهم فتاب اثنان فقبل شهادتهما، وأقام الآخر على القذف فلم يقبل شهادته، ومن كانت حاله عند القذف بشهادة أو غير شهادة حال من لا تجوز شهادته بأنه غير عدل حد أو لم يحد فسواء، ولا تقبل شهادته حتى تحدث له حال يصير بها عدلا، ويتوب من القيل بما وصفت من إكذابه نفسه، وتجوز شهادة المحدود في القذف إذا تاب على رجل في قذف.

وتجوز شهادة ولد الزنا على رجل في الزنا، وشهادة المحدود في الزنا إذا تاب على الحد في الزنا، وهكذا المقطوع في السرقة، والمقتص منه في الجراح إذا تابوا ليس ههنا إلا أن يكونوا عدولا في كل شيء أو مجروحين في كل شيء إلا ما يشركهم فيه من لا عيب فيه من هذه العيوب فشهدوا فيكونون خصماء أو أظناء أو جارين إلى أنفسهم أو دافعين عنها أو ما ترد به شهادة العدول.

وهكذا تجوز شهادة البدوي على القروي، والقروي على البدوي، والغريب على الآهل، والآهل على الغريب ليس من هذا شيء ترد به الشهادة إذا كانوا كلهم عدولا، وإذا كان معروفا أن الرجلين قد يتبايعان فلا يحضرهما أحد، ويتشاتمان، ولا يحضرهما أحد، ويقتل أحدهما الآخر، ولا يحضرهما أحد فحضور البدوي القروي، والقروي البدوي حتى يشهد على ما رأى، واستشهد عليه جائز، وقد لا يشهد لأنه حاضر يشهد غيره ثم ينتقل المشهد أو يموت أو يطمئن إلى صاحبه فلا يكون له شاهد غير بدوي أو بدويين. وكذلك قد يكون له شهود غيره يغيبون أو يموتون فلا يمنع ذلك البدوي أن تجوز شهادته إذا كان عدلا.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: في الرجل يغني فيتخذ الغناء صناعته يؤتى عليه ويأتي له، ويكون منسوبا إليه مشهورا به معروفا، والمرأة، لا تجوز شهادة واحد منهما؛ وذلك أنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، وأن من صنع هذا كان منسوبا إلى السفه وسقاطة المروءة، ومن رضي بهذا لنفسه كان مستخفا، وإن لم يكن محرما بين التحريم، ولو كان لا ينسب نفسه إليه، وكان إنما يعرف بأنه يطرب في الحال فيترنم فيها، ولا يأتي لذلك، ولا يؤتى عليه، ولا يرضى به لم يسقط هذا شهادته، وكذلك المرأة.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: في الرجل يتخذ الغلام والجارية المغنيين وكان يجمع عليهما، ويغشى لذلك فهذا سفه ترد به شهادته، وهو في الجارية أكثر من قبل أن فيه سفها ودياثة، وإن كان لا يجمع عليهما ولا يغشى لهما كرهت ذلك له، ولم يكن فيه ما ترد به شهادته.

[قال]: وهكذا الرجل يغشى بيوت الغناء، ويغشاه المغنون إن كان لذلك مدمنا، وكان لذلك مستعلنا عليه مشهودا عليه فهي بمنزلة سفه ترد بها شهادته. وإن كان ذلك يقل منه لم ترد به شهادته لما وصفت من أن ذلك ليس بحرام بين.

فأما استماع الحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به قل أو كثر، وكذلك استماع الشعر أخبرنا ابن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة: (عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال أردفني رسول الله ﷺ فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم قال: هيه فأنشدته بيتا. فقال: هيه فأنشدته حتى بلغت مائة بيت).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وسمع رسول الله ﷺ الحداء، والرجز، وأمر ابن رواحة في سفره فقال حرك القوم فاندفع يرتجز: (وأدرك رسول الله ﷺ ركبا من بني تميم معهم حاد فأمرهم أن يحدوا، وقال إن حادينا وني من آخر الليل قالوا يا رسول الله نحن أول العرب حداء بالإبل قال وكيف ذلك؟ قالوا كانت العرب يغير بعضها على بعض فأغار رجل منا فاستاق إبلا فتبددت فغضب على غلامه فضربه بالعصا فأصاب يده فقال الغلام: وايداه، وايداه قال فجعلت الإبل تجتمع قال فقال هكذا فافعل قال والنبي ﷺ يضحك فقال ممن أنتم؟ قالوا نحن من مضر فقال النبي ﷺ، ونحن من مضر) فانتسب تلك الليلة حتى بلغ في النسبة إلى مضر.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فالحداء مثل الكلام، والحديث المحسن باللفظ، وإذا كان هذا هكذا في الشعر كان تحسين الصوت بذكر الله والقرآن أولى أن يكون محبوبا فقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: (ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن) وأنه: (سمع عبد الله بن قيس يقرأ فقال لقد أوتي هذا من مزامير آل داود).

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولا بأس بالقراءة بالألحان وتحسين الصوت بها بأي وجه ما كان، وأحب ما يقرأ إلي حدرا وتحزينا.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ومن تأكدت عليه أنه يغشى الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة، ولا يستحل صاحب الطعام فتتابع ذلك منه رددت شهادته لأنه يأكل محرما إذا كانت الدعوة لرجل بعينه. فأما إن كان طعام سلطان أو رجل يتشبه بالسلطان فيدعو الناس إليه فهذا طعام عام مباح، ولا بأس به. ومن كان على شيء مما وصفنا أن الشهادة ترد به فإنما ترد شهادته ما كان عليه فأما إذا تاب ونزع قبلت شهادته.

[قال]: وإذا نثر على الناس في الفرح فأخذه بعض من حضر لم يكن هذا مما يجرح به شهادة أحد لأن كثيرا يزعم أن هذا مباح حلال لأن مالكه إنما طرحه لمن يأخذه. فأما أنا فأكرهه لمن أخذه من قبل أنه يأخذه من أخذه، ولا يأخذه إلا بغلبة لمن حضره إما بفضل قوة، وإما بفضل قلة حياء، والمالك لم يقصد به قصده إنما قصد به قصد الجماعة فأكرهه لآخذه لأنه لا يعرف حظه من حظ من قصد به بلا أذية، وأنه خلسة وسخف.


***

- كتاب القاضي

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وما ينبغي عندي لقاض، ولا لوال من ولاة المسلمين أن يتخذ كاتبا ذميا، ولا يضع الذمي في موضع يتفضل به مسلما. وينبغي أن نعرف المسلمين بأن لا يكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم، والقاضي أقل الخلق بهذا عذرا، ولا ينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا لأمور المسلمين حتى يجمع أن يكون عدلا جائز الشهادة، وينبغي أن يكون عاقلا لا يخدع، ويحرص على أن يكون فقيها لا يؤتى من جهالة، وعلى أن يكون نزها بعيدا من الطمع فإن كتب له عنده في حاجة نفسه وضيعته دون أمر المسلمين فلا بأس، وكذلك لو كتب له رجل غير عدل.


***

- القسام

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: والقسام في هذا بمنزلة ما وصفت من الكتاب لا ينبغي أن يكون القاسم إلا عدلا مقبول الشهادة مأمونا عالما بالحساب أقل ما يكون منه، ولا يكون غبيا يخدع، ولا ممن ينسب إلى الطمع.

***

- الكتاب يتخذه القاضي في ديوانه

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا شهد الشهود عند القاضي فينبغي أن يكون له نسخة بشهادتهم عنده، وأن يتولى ختمها ورفعها، ويكون ذلك بين يديه، ولا يغيب عنه، ويليه بيديه أو يوليه أحدا بين يديه. وأن لا يفتح الموضع الذي فيه تلك الشهادة إلا بعد نظره إلى خاتمه أو علامة له عليه، وأن لا يبعد منه، وأن يترك في يدي المشهود له نسخة تلك الشهادة إن شاء، ولا يختم الشهادة، ويدفعها إلى المشهود له، وليس في يديه نسختها لأنه قد يعمل على الخاتم، ويحرف الكتاب، وإن أغفل، ولم يجعل نسختها عنده، وختم الشهادة، ودفعها إلى المشهود له ثم أحضرها، وعليها خاتمه لم يقبلها إلا أن يكون يحفظها أو يحفظ معناها فإن كان لا يحفظها، ولا معناها فلا يقبلها بالخاتم فقد يغير الكتاب، ويغير الخاتم، وأكره قبوله أيضا توقيعه بيده للشهادة، وإيقاع الكاتب بيده إلا أن يجعل في إيقاعه وإيقاع كاتبه شهد فلان عند القاضي على ما في هذا الكتاب، وهي كذا وكذا دينار لفلان على فلان أو هي دار كذا شهد بها فلان لفلان حتى لا يدع في الشهادة موضعا في الحكم إلا أوقعه بيده فإذا عرف كتابه، وذكر الشهادة أو عرف كتاب كاتبه، وذكر الشهادة جاز له أن يحكم به، وخير من هذا كله أن تكون النسخ كلها عنده فإذا أراد أن يقطع الحكم أخرجها من ديوانه ثم قطع عليه الحكم فإن ضاعت من ديوانه، ومن يدي صاحبها الذي أوقع له فلا يقبلها إلا بشهادة قوم شهدوا على شهادة القوم كتابه كانوا أو غير كتابه.

[قال]: وكذلك لو شهد قوم على أنه حكم لرجل، ولا يذكر هو حكمه له فسألوه أن يستأنف حكما جديدا بما شهدوا به عليه لم يكن ذلك لهم لأنهم يشهدون على فعل نفسه، وهو يدفعه، ولكنه يدعه فلا يبطله، ولا يحقه، وإذا رفع ذلك إلى حاكم غيره أجازه كما يجيز الشهادة على حكمه الحاكم الذي يلي بعده لأن غيره لا يعرف منه ما يعرف من نفسه، وإذا جاء الذي يقضي عليه ببينة على أن الحاكم، وهو حاكم أنكر أن يكون حكم بما شهد به هؤلاء عليه، ودفعه فلا ينبغي له أن ينفذه إنما ينفذه إذا علم أنه لم يدفعه.


***

كتاب القاضي إلى القاضي

[قال]: ويقبل القاضي كتاب كل قاض عدل، ولا يقبل إلا بشاهدين عدلين، ولا يقبله بشاهدين عدلين حتى يفتحه، ويقرأه عليهما، ويشهدا على ما فيه، وأن القاضي الذي أشهدهما عليه قرأه بحضرتهما أو قرئ عليهما، وقال اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان فإذا شهدا على هذا قبله، وإذا لم يشهدا على هذا، ولم يزيدا على أن يقولا هذا خاتمه، وهذا كتابه دفعه إلينا لم يقبله. وقد حضرت قاضيا جاءه كتاب قاض مختوم فشهد عنده شاهدان أن هذا كتاب فلان بن فلان إليك دفعه إلينا، وقال اشهدوا عليه ففتحه، وقبله فأخبرني القاضي المكتوب إليه أنه فض كتابا آخر من هذا القاضي كتب إليه في ذلك الأمر بعينه، ووقف عن إنفاذه، وأخبرني هو أو من أثق بخبره أنه رد إليه الكتاب يحكي له كتابا فأنكر كتابه الآخر، وبلغه أو ثبت عنده أنه كتب الكتاب، وختمه فاحتيل له فوضع كتابا مثله مكانه، ونحى ذلك الكتاب، وأشهد على ذلك الكتاب، وهو يرى أنه كتابه.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فلما كان هذا موجودا لم يجز أن يقبل من الشهود حتى يقرأ عليهم الكتاب، ويقبضوه قبل أن يغيب عنهم، وينبغي للقاضي أن يأمرهم أن يأخذوا نسخة كتابه في أيديهم، ويوقعوا شهادتهم فيه فلو انكسر خاتمه أو ذهب بعض كتابه شهدوا أن هذا كتابه قبله، وليس في الخاتم معنى إنما المعنى فيما قطعوا به الشهادة كما يكون معاني في إذكار الحقوق، وكتب التسليم بين الناس.

[قال]: وإذا كتب القاضي إلى القاضي بما ثبت عنده ثم مات القاضي الكاتب أو عزل قبل أن يصل كتابه إلى القاضي المكتوب إليه ثم وصل قبله، ولم يمتنع من قبوله بموته، ولا عزله لأنه يقبل ببينته كما يقبل حكمه ألا ترى أنه لو حكم ثم عزل أو مات قبل حكمه هكذا يقبل كتابه.

[قال]: ولو كتب القاضي إلى القاضي فترك أن يكتب اسمه في العنوان أو كتب اسمه بكنيته فسواء، وإذا قطع الشهود أن هذا كتابه إليه قبله ألا ترى أني إنما أنظر إلى موضع الحكم في الكتاب، ولا أنظر إلى الرسالة، ولا الكلام غير الحكم، ولا الاسم فإذا شهد الشهود على اسم الكاتب والمكتوب إليه قبلته.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: كتاب القاضي كتابان أحدهما كتاب يثبت فهذا يستأنف المكتوب إليه به الحكم، والآخر كتاب حكم منه فإذا قبله أشهد على المحكوم له أنه قد ثبت عنده حكم قاضي بلد كذا وكذا فإن كان حكم بحق أنفذه له، وإن كان حكم عنده بباطل لا يشك فيه لم ينفذه له، ولم يثبت له الكتاب، وإن كان حكم له بشيء يراه باطلا، وهو مما اختلف الناس فيه، فإن كان يراه باطلا من أنه يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو قياسا في معنى واحد منها فهذا من الباطل الذي ينبغي له أن يرده، وإن كان مما يحتمله القياس، ويحتمل غيره، وقلما يكون هذا أثبته له، ولم ينفذه، وخلى بينه وبين حكم الحاكم يتولى منه ما تولى، ولا يشركه بأن يكون مبتدئا للحكم به، وهو يراه باطلا، ويقبل القاضي كتاب القاضي في حقوق الناس في الأموال والجراح وغيرها، ولا يقبلها حتى تثبت إثباتا بينا والقول في الحدود اللاتي لله عز وجل واحد من قولين أحدهما أنه يقبل فيها كتاب القاضي، والآخر لا يقبله حتى تكون الشهود يشهدون عنده فإذا قبلها لم يقبلها إلا قاطعة.

[قال]: وإذا كتب القاضي لرجل بحق على رجل في مصر من الأمصار فأقر ذلك الرجل أنه المكتوب عليه بذلك الكتاب رفع في نسبه أو لم يرفع أو نسبه إلى صنعته أو لم ينسبه إليها أخذ به، وإن أنكر لم يؤخذ به حتى تقوم بينة أنه هو المكتوب عليه بهذا الكتاب فإذا رفع في نسبه أو نسبه إلى صناعة أو قبيلة أو أمر يعرف به فأنكره فقامت عليه بينة بهذا الاسم والنسب والقبيلة والصناعة أخذ بذلك الحق، وإن كان في ذلك البلد أو غيره رجل يوافق هذا الاسم والنسب والقبيلة والصناعة فأنكر المكتوب عليه، وقال قد يكتب بهذا في هذا البلد على غيري ممن يوافق هذا الاسم، وقد يكون به من غير أهله ممن يوافق هذا الاسم والنسب والقبيلة والصناعة لم يقض على هذا بشيء حتى يباين بشيء لا يوافقه غيره أو يقر أو تقطع بينة على أنه المكتوب عليه فإن لم يكن هذا لم يؤخذ به.

[قال]: وإذا كان بلد به قاضيان كبغداد فكتب أحدهما إلى الآخر بما يثبت عنده من البينة لم ينبغ له أن يقبلها حتى تعاد عليه إنما يقبل البينة في البلد الثانية التي لا يكلف أهلها إتيانه، وكتاب القاضي إلى الأمير والأمير إلى القاضي والخليفة إلى القاضي سواء لا يقبل إلا ببينة كما وصفت من كتاب القاضي إلى القاضي.


***

أجر القسام

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ينبغي أن يعطى أجر القسام من بيت المال، ولا يأخذون من الناس شيئا لأن القسام حكام فإن لم يعطوه خلي بين القسام وبين من يطلب القسم، واستأجروهم بما شاءوا قل أو كثر، وإن كان في المقسوم لهم أو المقسوم عليهم صغير فأمر بذلك وليه فإذا جعلوا له معا جعلا على قسم أرض فذلك صحيح فإن سموا على كل واحد منهم شيئا معلوما أو على كل نصيب شيئا معلوما، وهم بالغون يملكون أموالهم فجائز، وإن لم يسموه وسموه على الكل فهو على قدر الأنصباء لا على العدد، ولو جعلته على العدد أوشكت أن آخذ من قليل النصيب مثل جميع ما قسمت له فإذا أنا أدخلت عليه بالقسم إخراجه من ماله، ولكنه يؤخذ منه القليل من الجعل بقدر القليل، والكثير بقدر الكثير، وإن في نفسي من الجعل على الصغير، وإن قل شيئا إلا أن يكون ما يستدرك له بالقسم أغبط له مما يخرج من الجعل فإن لم يكن كذلك كان في نفسي من أن أجعل عليه شيئا، وهو ممن لا رضا له شيء.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا شهد القسام على ما قسموا قسموا ذلك بأمر القاضي أو بغير أمره لم تجز شهادتهم لشيئين أحدهما أنهم يشهدون على فعل أنفسهم، والآخر أن المقسوم عليهم لو أنكروا إنهم لم يقسموا عليهم لم يكن لهم جعل، ولا بد للقسام من أن يأتوا بشهود غير أنفسهم على فعلهم.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا تراضى القوم بالقاسم يقسم بينهم كان بصيرا بالقسم أو لم يكن بصيرا به فقسم فلا أنفذ قسمه إذا كان بغير أمر الحاكم حتى يتراضوا بعدما يعلم كل واحد منهم ما صار له فإذا رضوا أنفذته بينهم كما أنفذ بينهم لو قسموا من أنفسهم فإن كان فيهم صغير أو غائب أو مولى عليه لم أنفذ من القسم شيئا إلا بأمر الحاكم فإذا كان بأمر الحاكم نفذ، وإذا تداعى القوم إلى القسم، وأبى عليهم شركاؤهم فإن كان ما تداعوا إليه يحتمل القسم حتى ينتفع واحد منهم بما يصير إليه مقسوما أجبرتهم على القسم، وإن لم تنتفع البقية بما يصير إليهم إذا بعض بينهم، وأقول لمن كره القسمة إن شئتم جمعت لكم حقوقكم فكانت مشاعة تنتفعون بها، وأخرجت لطالب القسم حقه كما طلبه، وإن شئتم قسمت بينكم نفعكم ذلك أو لم ينفعكم، وإن طلب أحدهم القسم، وهو لا ينتفع بحقه، ولا غيره لم أقسم ذلك له، وكأن هذا مثل السيف يكون بينهم أو العبد، وما أشبهه فإذا طلبوا مني أن أبيع لهم فأقسم بينهم الثمن لم أبع لهم شيئا، وقلت لهم تراضوا في حقوقكم فيه بما شئتم كأنه كان ما بينهم سيف أو عبد أو غيره.


***

- السهمان في القسم

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ينبغي للقاسم إذا أراد القسم أن يحصي أهل القسم، ويعلم مبلغ حقوقهم فإن كان منهم من له سدس وثلث ونصف قسمه على أقل السهمان، وهو السدس فجعل لصاحب السدس سهما، ولصاحب الثلث سهمين، ولصاحب النصف ثلاثة أسهم ثم قسم الدار ستة أجزاء، وكتب أسماء أهل السهمان في رقاع من قراطيس صغار ثم أدرجها في بندق من طين ثم دور البندق فإذا استوى درجه ثم ألقاه في حجر رجل لم يحضر البندقة ولا الكتاب أو حجر عبد أو صبي ثم جعل السهمان فسماها أولا وثانيا وثالثا ثم قال أدخل يدك وأخرج على الأول بندقة واحدة، فإذا أخرجها فضها فإذا خرج اسم صاحبها جعل له السهم الأول، فإن كان صاحب السدس فهو له، ولا شيء له غيره، وإن كان صاحب الثلث فهو له، والسهم الذي يليه، وإن كان صاحب النصف فهو له، والسهمان اللذان يليانه، ثم يقال أدخل يدك فأخرج بندقة على السهم الفارغ الذي يلي ما خرج، فإذا خرج فيها اسم رجل فهو كما وصفت حتى تنفذ السهمان، وإذا قسم أرضا فيها أصل أو بناء أو لا أصل فيها ولا بناء فإنما يقسمها على القيمة لا على الذرع فيقومها قيما ثم يقسمها كما وصفت، وإن كان المقسوم عليهم بالغين فاختاروا أن نقسمها على الذرع ثم نعيد عليها القيمة ثم يضرب عليها بالسهمان فأيهم خرج سهمه على موضع أخذه، وإذا فضل رد فيه عليه، وأخذ فضلا إن كان فيه لم نجز القسم بينهم حتى يلزم على هذا إلا بعدما يعرف كل واحد منهم بموقع سهمه، وما يلزمه، ويسقط عنه فإذا علمه كما يعلم البيوع ثم رضي به أجزته في ذلك الوقت لا على الأول كما كنت ألزمهم القرعة الأولى، ولهم أن ينقضوه متى شاءوا، وإن كان فيهم صغير أو مولى عليه لم يجز هذا القسم، وإنما يجوز القسم حتى يجبر عليه إذا كان كما وصفت في القسم الأول يخرج كل واحد منهم لا شيء له، ولا عليه إلا ما كان خرج عليه سهمه.

[قال]: ولا يجوز أن يقسم الرجل الدار بين القوم فيجعل لبعضهم سفلا، ولبعضهم علوا لأن أصل الحكم أن من ملك السفل ملك ما تحته من الأرض، وما فوقه من الهواء فإذا أعطي هذا سفلا لا هواء له، وأعطي هذا علوا لأسفل له فقد أعطي كل واحد منهما على غير أصل ما يملك الناس، ولكنه يقسم ذلك بالقيمة، ولا يعطي أحدا بقعة إلا ما ملكه ما تحتها، وهواءها، وإن كان في الناس قسام عدول أمر القاضي من يطلب القسم أن يختاروا لأنفسهم قساما عدولا إن شاءوا من غيرهم، وإن رضوا بواحد لم يقبل ذلك حتى يجتمعوا على اثنين، ولا ينبغي له أن يشرك بين قسامه في الجعل فيتحكموا على الناس، ولكن يدع الناس حتى يستأجروا لأنفسهم من شاءوا.


***

ما يرد من القسم بادعاء بعض المقسوم

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا قسم القسام بينهم فادعى بعض المقسوم بينهم غلطا كلف البينة على ما يقول من الغلط فإن جاء بها رد القسم عنه.

[قال]: وإذا قسمت الدار بين نفر فاستحق بعضها أو لحق الميت دين فبيع بعضها انتقض القسم، ويقال لهم في الدين والوصية إن تطوعتم أن تعطوا أهل الدين، والوصية أنفذنا القسم بينكم، وإن لم تطوعوا، ولم نجد للميت مالا إلا هذه الدار بعنا منها ونقضنا القسم.

[قال]: فإذا جاء القوم فتصادقوا على ملك دار بينهم، وسألوا القاضي أن يقسمها بينهم لم أحب أن يقسمها، ويقول إن شئتم أن تقسموا بين أنفسكم أو يقسم بينكم من ترضون فافعلوا، وإن أردتم قسمي فأثبتوا البينة على أصول حقوقكم فيها، وذلك أني إن قسمت بلا بينة فجئتم بشهود يشهدون أني قسمت بينكم هذه الدار إلى حاكم غيري كان شبيها أن يجعلها حكما مني لكم بها، ولعلها لقوم آخرين ليس لكم فيها شيء فلا نقسم إلا ببينة، وقد قيل يقسم، ويشهد أنه إنما قسم على إقرارهم، ولا يعجبني هذا القول لما وصفت فإذا ترك الميت دورا متفرقة أو دورا، ورقيقا أو دورا، وأرضين فاصطلح الورثة، وهم بالغون من ذلك على شيء يصير لبعضهم دون بعض لم أردده، وإن تشاحوا فسأل بعضهم أن يقسم له دارا كما هي، ويعطي غيره بقيمتها دارا غيرها بقيمتها لم يكن ذلك له، ويقسم كل دار بينهم فيأخذ كل رجل منهم حقه، وكذلك الأرضين، والثياب، والطعام، وكل ما احتمل أن يقسم.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: العدل يجب على القاضي في الحكم، وفي النظر في الحكم فينبغي أن ينصف الخصمين في المدخل عليه، والاستماع منهما، والإنصات لكل واحد منهما حتى تنفد حجته، وحسن الإقبال عليهما، ولا يخص واحدا منهما بإقبال دون الآخر، ولا يدخل عليه دون الآخر، ولا بزيارة له دون الآخر، ولا ينهره، ولا ينهر الآخر وينبغي أن يكون من أقل عدله عليهما أن يكف كل واحد منهما عن عرض صاحبه، وأن يغير على من نال من عرض صاحبه بقدر ما يستوجب بقوله لصاحبه، ولا ينبغي له أن يلقن واحدا منهما حجة، ولا بأس إذا جلسا أن يقول تكلما أو يسكت حتى يبتدئ أحدهما، وينبغي أن يبدأ الطالب فإذا أنفد حجته تكلم المطلوب، ولا ينبغي له أن يضيف الخصم إلا وخصمه معه، ولا ينبغي له أن يقبل منه هدية، وإن كان يهدي له قبل ذلك حتى تنفد خصومته.

[قال الشافعي]: رحمه الله، ولا بأس إذا حضر القاضي مسافرون ومقيمون فإن كان المسافرون قليلا فلا بأس أن يبدأ بهم، وإن جعل لهم يوما بقدر ما لا يضر بأهل البلد، ويرفق بالمسافرين فلا بأس، وإن كثروا حتى يساووا أهل البلد أسا بهم، لأن لكلهم حقا.

وينبغي للقاضي أن يجلس في موضع بارز، ويقدم الناس الأول فالأول لا يقدم رجلا جاء قبله غيره، وإذا قدم الذي جاء أولا وخصمه، وكان له خصوم فأرادوا أن يتقدموا معه لم ينبغ له أن يسمع إلا منه، ومن خصم واحد فإذا فرغا أقامه، ودعا الذي جاء بعده إلا أن يكون عنده كثير أخر، ويكون آخر من يدعو، ولا يقضي القاضي إلا بعدما يتبين له الحق بخبر متبع لازم أو قياس، فإن لم يبن ذلك له لم يقطع حكما حتى يتبين له، ويستظهر برأي أهل الرأي.

[قال]: وإذا أشاروا عليه بشيء ليس بخبر فلم يبن له من ذلك أنه الحق عنده لم ينبغ له أن يقضي، ولو كانوا فوقه في العلم لأن العلم لا يكون إلا موجودا إما خبر لازم، وإما قياس يبينه له المرء فيعقله فإذا بينه له فلم يعقله فلا يعدو أن يكون واحدا من رجلين إما رجل صحيح العقل غلط عليه من أشار عليه فقال له أنت تجد ما لا نجد فلا ينبغي أن يقبل من مخطئ عنده، وإما رجل لا يعقل إذا عقل فهذا لا يحل له أن يقضي، ولا لأحد أن ينفذ حكمه، وإذا كنا نرد شهادة المرء على ما لا يعقل مما يشتبه عليه فحكم الحاكم فيما لا يعقل أولى بالرد إلا أن يجده من رفع إليه صوابا فينفذ الصواب حيث كان.

[قال]: ولا يلقن القاضي الشاهد ويدعه يشهد بما عنده، ولكنه يوقفه، والتوقيف غير التلقين [قال]: ولا ينبغي للقاضي أن ينتهر الشاهد، ولا يتعنته.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وينبغي للقاضي أن يقف الشاهد على شهادته، ويكتب بين يديه أو ناحية ثم يعرض عليه، والشاهد يسمع، ولا يقبلها في مجلس لم يوقع فيها بيده أو كاتبه حيث يراه، ولا ينبغي له أن يخلي الكاتب يغيب على شيء من الإيقاع من كتاب الشهادة إلا أن يعيده عليه فيعرضه، والشاهد حاضر ثم يختم عليها بخاتمه، ويرفعها في قمطره [قال]: فإن أراد المشهود له أن يأخذ نسختها أخذها، وينبغي له أن يضم الشهادات بين الرجلين، وحجتهما في موضع واحد ثم يكتب ترجمتهما بأسمائهما، والشهر الذي كانت فيه ليكون أعرف لها إذا طلبها فإذا مضت السنة عزلها، وكتب خصومة سنة كذا، وكذا حتى تكون كل سنة معروفة وكل شهر معروفا.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وينبغي للقاضي أن يقف الشاهد على شهادته، ويكتب بين يديه أو ناحية ثم يعرض عليه، والشاهد يسمع، ولا يقبلها في مجلس لم يوقع فيها بيده أو كاتبه حيث يراه، ولا ينبغي له أن يخلي الكاتب يغيب على شيء من الإيقاع من كتاب الشهادة إلا أن يعيده عليه فيعرضه، والشاهد حاضر ثم يختم عليها بخاتمه، ويرفعها في قمطره [قال]: فإن أراد المشهود له أن يأخذ نسختها أخذها، وينبغي له أن يضم الشهادات بين الرجلين، وحجتهما في موضع واحد ثم يكتب ترجمتهما بأسمائهما، والشهر الذي كانت فيه ليكون أعرف لها إذا طلبها فإذا مضت السنة عزلها، وكتب خصومة سنة كذا، وكذا حتى تكون كل سنة معروفة وكل شهر معروفا.

[قال الشافعي]: رضي الله تعالى عنه ويسأل عمن جهل عدله سرا فإذا عدل سأل تعديله علانية ليعلم أن المعدل سرا هو هذا بعينه لأنه يوافق اسمه اسمه، ونسبه نسبه.

[قال]: وإذا وجد القاضي في ديوانه شهادة، ولا يذكر منها شيئا لم يقض بها حتى يعيد الشهود أو يشهد شهود على شهادتهم فإن خاف النسيان، والإضرار بالناس تقدم إذا شهد عنده شهود إليهم بأن يشهد على شهادتهم من حضرهم من كتابه، ويوقع على شهادتهم كما وصفت، وإذا ذكر شهاداتهم حكم بها، وإلا شهد عليها من تقبل شهادته فيقبله لأنه قد يحتال لكتاب فيطرح في ديوانه الخط فيشبه الخط الخط، والخاتم الخاتم، وهكذا لو كان شاهد يكتب شهادته في منزله، ويخرجها لم يشهد بها حتى يذكرها.

[قال]: وما وجد في ديوان القاضي بعد عزله من شهادة أو قضاء غير مشهود عليه لم يقبل.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وينبغي للإمام أن يجعل مع رزق القاضي شيئا لقراطيسه وصحفه فإذا فعل ذلك لم يكلف الطالب أن يأتي بصحيفة، وإن لم يفعل قال القاضي للطالب إن شئت جئت بصحيفة بشهادة شاهديك، وكتاب خصومتك، وإلا لم أكرهك، ولم أقبل منك أن يشهد عندي شاهد الساعة بلا كتاب، وأنسى شهادته.

[قال]: وأحب أن لا يقبل القاضي شهادة الشاهد إلا بمحضر من الخصم المشهود عليه فإن قبلها بغير محضر منه فلا بأس، وينبغي إذا حضر أن يقرأها عليه ليعرف حجته فيها، وكذلك يصنع بكل من شهد عليه ليعرف حجته في شهاداتهم، وحجته إن كانت عنده ما يجرحهم به.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولو قبل القاضي شهادة على غائب، وكتب بها إلى قاض ثم قدم الغائب قبل أن يمضي الكتاب لم يكلف الشهود أن يعودوا، وينبغي له أن يقرأ عليه شهادتهم، ونسخة أسمائهم، وأنسابهم، ويوسع عليه في طلب جرحهم أو المخرج مما شهدوا به عليه فإن لم يأت بذلك حكم عليه [قال]: ولو مضى الكتاب إلى القاضي الآخر لم ينبغ له أن يقضي عليه حتى يحضره إن كان حاضرا، ويقرأ عليه الكتاب، ونسخة أسماء الشهود، ويوسع عليه في طلب المخرج من شهاداتهم فإن جاء بذلك، وإلا قضى عليه.

[قال]: وإذا أقام الرجل البينة على عبد موصوف أو دابة موصوفة له ببلد آخر حلفه القاضي أن هذا العبد الذي شهد لك به الشهود لعبدك أو دابتك لفي ملكك ما خرجت من ملكك بوجه من الوجوه كلها، وكتب بذلك كتابا من بلده إلى كل بلد من البلدان، وأحضر عبدا بتلك الصفة أو دابة بتلك الصفة، وقد قال بعض الحكام يختم في رقبة كل واحد منهما، ويبعث به إلى ذلك البلد، ويأخذ من هذا كفيلا يقيمها فإن قطع عليه الشهود بعدما رأيا سلم إليه، وإن لم يقطعوا رد، وهذا استحسان، وقد قال غيره إذا وافق الصفة حكمت له، والقياس أن لا يحكم له حتى يأتي الشهود الموضع الذي فيه تلك الدابة فيشهدوا عليها، وكذلك العبد، ولا يخرج من يدي صاحبه الذي هو في يديه بهذا إذا كان يدعيه أو يقضي له بالصفة كما يقضي على الغائب يشهد عليه باسمه ونسبه، وهكذا كل مال يملك من حيوان، وغيره.

[قال]: وما باع القاضي على حي أو ميت فلا عهدة عليه، والعهدة على المبيع عليه، واختلف الناس في علم القاضي هل له أن يقضي به، ولا يجوز فيه إلا واحد من قولين أحدهما أن له أن يقضي بكل ما علم قبل الحكم وبعده في مجلس الحكم، وغيره من حقوق الآدميين، ومن قال هذا قال إنما أريد بالشاهدين ليعلم أن ما ادعى كما ادعى في الظاهر فإذا قبلته على صدق الشاهدين في الظاهر كان علمي أكثر من شهادة الشاهدين أو لا يقضي بشيء من علمه في مجلس الحكم، ولا في غيره إلا أن يشهد شاهدان بشيء على مثل ما علم فيكون علمه، وجهله سواء إذا تولى الحكم فيأمر الطالب أن يحاكم إلى غيره، ويشهد هو له فيكون كشاهد من المسلمين، ويتولى الحكم غيره، وهكذا قال شريح، وسأله رجل أن يقضي له بعلمه فقال ائت الأمير، وأشهد لك.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فأما علمه بحدود الله التي لا شيء فيها للآدميين فقد يحتمل أن تكون كحقوق الناس، وقد يحتمل أن يفرق بينهما لأن من أقر بشيء للناس ثم رجع لم يقبل رجوعه، ومن أقر بشيء لله ثم رجع قبل رجوعه، والقاضي مصدق عند من أجاز له القضاء بعلمه، وغير مقبول منه عند من لم يجزه له فأما إذا ذكر بينة قامت عنده فهو مصدق على ما ذكر منها، وهكذا كل ما حكم به من طلاق أو قصاص أو مال أو غيره.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا أنفذ ذلك، وهو حاكم لم يكن للمحكوم عليه أن يتبعه بشيء منه إلا أن تقوم بينة بإقرار القاضي بالجور أو ما يدل على الجور فيكون متبعا في ذلك كله.

[قال]: وإذا اشترى القاضي عبدا لنفسه فهو كشراء غيره لا يكون له أن يحكم لنفسه ولو حكم رد حكمه، وكذلك لو حكم لولده أو، والده، ومن لا تجوز له شهادته، ويجوز قضاؤه لكل من جازت له شهادته من أخ، وعم، وابن عم، ومولى.

[قال الشافعي]: رحمه الله تعالى وإذا عزل القاضي عن القضاء، وقال قد كنت قضيت لفلان على فلان لم يقبل ذلك منه حتى يأتي المقضي له بشاهدين على أنه حكم له قبل أن يعزل.

[قال]: وأحب للقاضي إذا أراد القضاء على رجل أن يجلسه، ويبين له، ويقول له احتججت عندي بكذا، وجاءت البينة عليك بكذا، واحتج خصمك بكذا فرأيت الحكم عليك من قبل كذا ليكون أطيب لنفس المحكوم عليه، وأبعد من التهمة، وأحرى إن كان القاضي غفل من ذلك عن موضع فيه حجة أن يبينه فإن رأى فيها شيئا يبين له أن يرجع أو يشكل عليه أن يقف حتى يتبين له فإن لم ير فيها شيئا أخبره أنه لا شيء له فيها، وأخبره بالوجه الذي رأى أنه لا شيء له فيها، وإن لم يفعل جاز حكمه غير أن قد ترك موضع الأعذار إلى المقضي عليه عند القضاء.

[قال]: وأحب للإمام إذا ولي القضاء أن يجعل له أن يولي القضاء في الطرف من أطرافه، والشيء من أموره الرجل فيجوز حكمه، وإن لم يجعل ذلك له فمن رأى أنه لا يجوز إلا بأمر وال قال لم ينبغ للقاضي أن ينفذ حكم ذلك القاضي الذي استقضاه ولم يجعل إليه، وإن أنفذه كان إنفاذه إياه باطلا إلا أن يكون إنفاذه إياه على استئناف حكم بين الخصمين فإذا كان إنما هو لإنفاذ الحكم فليس بجائز، وإذا كان الأمر بينا عند القاضي فيما يختصم فيه الخصمان فأحب إلي أن يأمرهما بالصلح، وأن يتحللهما من أن يؤخر الحكم بينهما يوما أو يومين فإن لم يجتمعا على تحليله لم يكن له ترديدهما، وأنفذ الحكم بينهما متى بان له، وإن أشكل الحكم عليه لم يحكم بينهما طال ذلك أو قصر عليه الأناة إلى بيان الحكم، والحكم قبل البيان ظلم، والحبس بالحكم بعد البيان ظلم، والله أعلم.




======================

كتاب الأم - كتاب الأقضية
أدب القاضي وما يستحب للقاضي | الإقرار والاجتهاد والحكم بالظاهر | مشاورة القاضي | حكم القاضي | مسائل القاضي وكيف العمل عند شهادة الشهود | ما تجوز به شهادة أهل الأهواء | شهادة أهل الأشربة | شهادة أهل العصبية | شهادة الشعراء | شهادة أهل اللعب | شهادة من يأخذ الجعل على الخير | شهادة السؤال | شهادة القاذف | كتاب القاضي | القسام | الكتاب يتخذه القاضي في ديوانه | كتاب القاضي إلى القاضي | أجر القسام | السهمان في القسم | ما يرد من القسم بادعاء بعض المقسوم

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
الأدب القضائي - المحاكمات والمحاكمات الأدبية
المشاهدات
1,014
آخر تحديث
أعلى