عباس محمود العقاد - التصوف عند ألدوس هكسلي

عرضنا لناحية من نواحي الكاتبين الكبيرين شو وولز في بعض أعداد «الكتاب» السابقة، وهما نمطان مختلفان من أنماط الأدب، لا يجمع بينهما إلا الموضوع الذي يكتبان فيه ويهتمان به، وهو مستقبل الإنسان فردًا وجماعةً، ونظام الحياة الذي يصلح عليه الأفراد والجماعات.

ونعرض في هذا العدد لناحية بارزة من نواحي أديب آخَر شريك لهما في هذا الموضوع على نمط مختلف جد الاختلاف عن كلا النمطين، وهو ألدوس هكسلي الروائي الشاعر الناقد الفنان الباحث الأديب، والمتصوف قبل كل شيء، وبعد كل شيء، في كل جانب من الجوانب المتوزعة في حياته الذهنية والنفسية، ولا شك عندنا ولا عند غيرنا — فيما نعتقد — أنه أوفر الثلاثة نصيبًا من الثقافة بأنواعها الفنية والعلمية والفلسفية، وإن كان أصغر الثلاثة سنًّا، لأنه الآن في الثانية والخمسين وقد جاوز شو وولز الثمانين.
اطلاعه أوسع من كل اطلاعٍ عُرِف به كاتب من كُتَّاب أوروبا المشهورين في العصر الحاضر، وأُفُقه الذهني يتناول البيولوجية وهندسة العمارة وفن الموسيقى وأدب الأقدمين والمحدثين، ومعرفته بالعالم معرفة الرجل الذي اطلع ذلك الاطلاع وساح في أرجاء العالمين القديم والحديث، ومزج هذه المعرفة بفطنة نادرة، وحسٍّ مرهف، وقلب جيَّاش، وعقل وثَّاب.
تكلمنا عن سخرية شو، وفي ألدوس هكسلي شيء كثير من سخرية شو وحبه للدعابة، ولكنه يشوب سخريته بمرارة وقسوة لا تُحسَبان من خلائق شو، ويزيد عليه بأنه يسخر سخرية المسئول حين يعفي شو نفسه من تبعات آرائه، وإن دعابته ضربات عقلية في ميدان الضمير … أما دعابة شو فهي تمرينات بهلوانية في ميدان الاجتماع أو معترك المعيشة.
وتكلَّمنا عن آمال ولز في المستقبل، وهكسلي ممَّن ينظرون إلى المستقبل، ويقدِّرون مصير الإنسان فيه، ولكنه لا يؤمن بمستقبل الناس — مع العلم — كما يؤمن به ولز ويدعو إليه، ولا يأتمن العلم على مصير الإنسان فردًا كان أو جماعة، بل يرى أن العلم خليق أن يمسخ الناسَ آلاتٍ قاصرةً لا روح فيها، تتوزِّع بينها الأعمال على حسب الاختصاص وتقسيم الوظائف الاجتماعية، ولا يهديهم إلى شغل نافع أو بطالة صالحة يقضون بها أوقات الفراغ التي تتوافر لهم بفضل المخترعات وأدوات الصناعة الحديثة.
وعنده أن الإنسان ضائع لا محالة إذا كان معوَّله كله في المستقبل على العلم الحديث، إنما سبيل الهداية أن يسعى الإنسان في سبيل السلام، وأن يتوجَّه إلى السلام في عالم الروح.
ولا ينسى هكسلي علمه حين يتكلم عن الروح أو عن الشخصية الإنسانية، فهو يسلم للعلماء وللفلاسفة الماديين أن الإنسان حزمة من الإحساسات والأعضاء المحسة لما يخالجها ويحيط بها، ولكنه يسأل: وما الذي جعلها حزمة؟ ولماذا تجمَّعَتْ بعد تفرُّق؟ وما هذه الوحدة التي تربط بين هذه المتفرقات؟
تلك الوحدة هي شيء من عالم الروح، وهي شيء على اتصال «بالروح الكلي» الذي تقوم به جميع الموجودات.
وغاية الغايات في حياة المرء أن يعقد الصلة بين القبس الروحاني الذي فيه، وبين ذلك «الروح الكلي» الذي لا تخلو منه حياة.
وقد يصل المرء إلى ذلك من أبواب ثلاثة لا من باب واحد: يصل إليه من الباب الأعلى كما يسميه، وهو باب التأمُّل والنظر، ومن الباب الأدنى، وهو باب الزهد والقناعة وإخضاع الشهوات، ومن الباب الأوسط الذي هو قوام بين هذا وذاك، وهو باب الرياضة الروحية والديانة الصوفية، وقد سلك متصوفة الإسلام في هذا الباب.
وإن المرء ليهتدي إلى الحقيقة الإلهية — أو إلى الروح الكلي — وإن لم يكن من كبار الفلاسفة أو من كبار ذوي العقول؛ لأن طلب الحقيقة الإلهية استعداد غير استعداد العلم والفلسفة، وخلاصته الحب ونقاء القلب والوداعة. ويتساءل: لماذا كان هذا؟ ثم يقول إنه لا يدري على التحقيق، ولكنه في أطواء كتبه يعطي الجواب لمَن يستخلصه من شواهده ومراميه. وزبدة ما يتجمَّع من كلامه في هذا الموضوع أن المرء ينحصر في حدوده كلما اشتغل بشهواته وحاجاته، وطاوَعَ كبرياءه، وتعالى على غيره، ومتى انحصر في تلك الحدود قامت الأسداد والحجب بينه وبين الروح الكلي الذي يعم الأكوان ولا يخص الأفراد والجزيئات، وأنه لا يزال كذلك حتى يخرج من جزئياته، فيروِّض نفسه على الحب، وهو سبب الاتصال الذي يشفيه من داء الانفصال، ويروِّض نفسه على الدعة، وهي التي تحطِّم له سور الكبرياء فيلتقي بالعالَم الذي كان يحجبه عنه ذلك السورُ، ويروِّض نفسَه على نقاء القلب فلا يطويه على شيء ينعزل به عن نور البصائر والأبصار.
وليس معنى هذا أن الإنسان يفني قوام شخصه كما يقع في روع المتسرع العجول، بل معناه أنه يحيي أفضل جانبيه «على حساب» الجانب المفضول، وأنه يتسلَّط بالجوهر الإنساني فيه على الصفات التي يشارك فيها الحيوان الجماد.
وليس على الإنسان خسارة في التضحية بتلك الصفات المبتذلة في سبيل الكمال الذي تنشده خلص النفوس القادرة عليه، فإن الروح أقوى من الجسد، وأقدر على تطويعه وتسخيره، ومن ترك القوي في سبيل الأقوى فما هو بخاسر ولا مغبون. وكلام هكسلي في هذا المعنى يذكِّرنا بكلام ابن سينا الذي تناوَلَ الموضوع من الوجهة الفلسفية في غير كتاب من كُتُبه، فوفاه حقَّه من البيان، لأن هكسلي يقول: إننا لا نعرف كيف يؤثِّر العقل في بدنه، فكيف نمنع أن يؤثِّر العقل في غيره من الأبدان والأجسام؟ وكذلك يقول ابن سينا، كما قال في كتاب الإشارات عن القوة الروحية، إنه «لا يبعد إتيان العارف بما يخرق العادة في الأمور السفلية؛ وذلك لأن الأجرام السفلية قابلة لهذه الصفات، والنفس الناطقة ليست بجسم ولا حالة في الجسم، فإذا لم يبعد وقوعها بحيث تقدر على التأثير في هذا البدن، لا يبعد وقوعها بحيث تقوى على التصرف في مادة هذا العالم العنصري، لا سيما على قولنا أن النفوس الناطقة مختلفة بالماهية، فلا يبعد أن تكون الماهية المخصوصة التي لنفسه تقتضي تلك القدرة.» إلى آخِر ما قال واستشهد عليه بكثير من الأحوال.
ومن الجائز أن يهتدي السالك إلى «الروح الكلي» بهَدْيِ المرشدين والنصحاء من العارفين، غير أنه لا يصل إليه إلا إذا وصل إليه بنفسه واعتمَدَ على بصيرته ووجدانه، فالعين لا ترى القمر بتعليم كما نُقِل عن بعض الأقطاب، فكيف ترجو الروح أن ترى الحقيقة الإلهية بتعليم؟ إن الهداية قد تجديك في رؤية ما يشار إليه ويقوم الدليل الحسي أو العقلي عليه، ولكن الحقيقة الإلهية هي التي تُرِيكَ ما لا يُرى، وتعرفك ما لا يُعرَف، وتصل بك إلى «الكل» الذي يوجد في كل شيء، وما هو بمنظور لأنه وراء كل منظور.
وما لا شك فيه أن إيمان هكسلي بسلطان العقل والإرادة على الجسد إيمانٌ وثيقٌ مستقر من نفسه في قرار عميق، لأنه بهذا الإيمان صدق ما شاع عن بعض المتطبِّبين أنهم يشفون ضعف البصر بالعزيمة من غير حاجة إلى الاستعانة بالنظارات والعقاقير، فاستعاد بصره بعد أن كاد يعمى في مقتبل الشباب.
على أنه لا يذهب في التجرُّد مذهب الدراويش أو نسَّاك الصوامع أو أبناء الطريق؛ لأنه يرى أن معرفة الحقيقة الإلهية من طريق العالم متمِّمة لمعرفتها من طريق البصيرة والروح، فهناك — كما قال — طريقة إلى الحقيقة الإلهية من داخل النفس، وطريقة إليها من داخل العالم وجواهره وأعراضه، ومشكوك فيه أن تغنينا واحدة من الطريقتين عن الأخرى كل الغنى، فأما إذا اتفقتا معًا فذلك هو المنهج السديد.
ويفرق هكسلي بين طلب البقاء وطلب الحقيقة الإلهية؛ لأن الحقيقة الإلهية «حضور سرمدي» لا ينحصر في زمان أو مكان، أما البقاء فهو في قبضة الزمان انتقال من حال إلى حال.
ولعله لم يعتمد في فهم هذا المعنى على أحد كما اعتمد على حكماء الشرق، وبخاصةٍ حكماء الإسلام، فنقل عن جلال الدين الرومي حين عرض لهذا المعنى قوله: «إنني متُّ معدنًا وعدتُ نباتًا، ثم متُّ نباتًا وعدتُ حيًّا، ثم متُّ حيًّا وعدتُ إنسانًا، فماذا عساني أن أخاف؟ إنني لا أصغر ولا أخسر بالموت، وسأموت مرة أخرى إنسانًا لأُبعَث في عالم الملائكة والأرواح، ولا مناص لي حتى في عالم الملائكة والأرواح مع اجتياز وارتفاع، ويومئذٍ أنزع روحي المليكية لأصبح ما لا يخطر على عقل ولا يلم بشعور. يا رب لا تشغلني بالوجود واشغلني باللاوجود؛ فإن ما أطلب هو الفناء، وبه يصدق السر المكنون، إنَّا إليه راجعون.»
ونقل عن الهروي في هذا المعنى قوله: «يارب، أنا بين يديك ابن سبيل، ولكني أسألك ما لا يطلبه منك ألف سلطان، فكلهم يطلب منك شيئًا يأخذه إليه، أما أنا فأطلبك أنت يا الله …»
وكثيرًا ما استشهد هكسلي على أمثال هذه المعاني بكلمات من أقوال المتصوفة المسلمين غير هذين الشاعرين، ومنهم رابعة العدوية والغزالي والبسطامي وغيرهم من الحكماء والشعراء، ويعجبه قول أبي يزيد البسطامي حين سُئِل: كم عمرك؟ فقال: أربع سنوات. لأنه لا يحسب من عمره ما تقدَّمَ من حياته قبل أن يهتدي إلى الطريق.
هذه خلاصة موجزة من ناحية التصوف في أدب هذا الكاتب الذي يُعَدُّ الآن في طليعة الكتَّاب العالميين، وموضع العجب أن تستولي هذه الحكمة الصوفية في هذا العصر المادي الجحود على عقل رجل قد أخذ من حضارة أوروبية وثقافة العرب كله بأوفى نصيب، ويحدث هذا حين نرى بيننا في الشرق أناسًا لم يتذوقوا قطرةً من ذلك العباب العلمي، الذي يخوض فيه هكسلي ويعوم، قائمين قاعدين بإنكار كل قول عن الحياة الروحية، وتقرير كل رأي عمَّا يسمونه بحقائق المادة وقواعد العلم الحديث، وما هي إلا آفة العقل المحدود الذي يحد هذا الكون العظيم، فيحسبه مما يفرغ القول عن سره في عصر واحد أو فترة في عصر واحد، ركونًا إلى كشف ظاهر يغيِّر العوارض والأسماء ولا يغيِّر جواهر الأشياء.
وأصدق ما يُفهَم من نزعة هكسلي هذه ونزعات أمثاله الأدباء والعلماء، أن الحقائق المادية المزعومة ليست من الثبوت بحيث لا يختلف فيها قولان من أقوال العلماء، فضلًا عن أقوال الفلاسفة والمتصوفة وسائر المؤمنين، وإن أحق الناس بعرفان هذا لأولئك الذين نظروا إلى الكون بعين الباطن قبل أن ينظر إليه الأوروبيون بتلك العين، وقالوا في ذلك ما لم ينقضه علم ولن ينقضه ما دام للإنسان لباب وراء الحواس والعقول.
ولا نحب مع هذا أن نحيل الأمر في العقائد الصوفية إلى مجهول لا تلم به الأسباب، فإن الأسباب لتفسِّر لنا على الأقل لماذا يدين هكسلي بهذه العقائد ولا يدين بها كلُّ مَن تعلَّم كما تعلَّم، وكلُّ مَن نشأ كما نشأ في القرن العشرين وفي البلاد الإنجليزية؟ ومن هذه الأسباب التي يصح أن تفرده بهذه الخصلة بين أمثاله ونظرائه أنه ورث الجد في طلب الحقيقة من أبويه كما ورثه من جده لأبيه وجده لأمه، فجده لأبيه هو توماس هكسلي العظيم قائد الحملة الأكبر في مذهب النشوء والارتقاء، وجده لأمه الدكتور توماس أرنلد المشهور بالغيرة الدينية والحماسة الروحية، ولم يكن توماس هكسلي كالدكتور أرنلد من المتديِّنين المتنطسين، ولكنه كان أشجع الشجعان في الجهر بالحقيقة والوفاء بالواجب، ولو غضب عليه الثقلان.
وهكسلي نفسه يقول في كلامه عن المتصوف الفرنسي بسكال: «إننا إذا نظرنا إلى حالة كرليل أو حالة بسكال نفسه وكثيرين غيره، رأينا أن هناك علاقة حميمة بين أحشاء المرء وفلسفته، فإقامة الحجة على يأس كرليل المتوهج العينين عبثٌ كإقامة الحجة على جهاز هضمه …»
وهو قول لا نبطله، ولا نرى بنا ولا بأحد حاجة إلى إبطاله؛ لأن تهيُّؤَ الجسمِ لحالة من الحالات النفسية لا ينقض تلك الحالة ولا ينفيها، كما أن تهيُّؤَ الظلام لإبراز النجوم لا يقيم الحجة على تلك النجوم، ولعلنا نردُّ شيئًا من «النزعة الصوفية» في هكسلي إلى بنيته، كما نردها إلى ميراثه العقلي من جديه وأبويه، فإنه لقي في بصره وجسده ما يرهف حسه لاستطلاع عالم الأسرار، ولا جناح عليه في ذلك، ولا هو مما يثبت مذاهب الماديين، إن لهم تركيبًا من وظائف الجسد يخالف هذا التركيب، ولكن الاستعداد لمعرفة من المعارف شيء، ونصيب تلك المعرفة من الحقيقة شيء سواه.
ونحسبنا في غنى — ونحن نختم هذا المقال — عن التنبيه إلى الفارق في شرح هذه المذاهب بين الإجمال والتفصيل، فما قدَّمناه هنا هو إجمال يلمُّ بالأطراف ولا يتكفَّل بالشمول والاستيعاب، ومَن شاء المزيدَ من الإحاطة بتصوُّف هكسلي فلا غنى له عن مراجعة كتبه، ولا سيما الأخير منها، وأنفعها في هذا الغرض هما كتاب Ends and Means أي الغايات والوسائل، وكتاب The Perennial Philosophy أي الحكمة الخالدة، ولم يصدر له بعده كتاب مخصَّص لهذا الموضوع.



* مجلة الكتاب مايو 1946
*المصدر: كتاب / دين وفن وفلسفة، عباس محمود العقاد
أعلى