د. نجاح إبراهيم - كثيرةٌ هذه القسوة

كلّما وقفتُ أمام مكتبتي المُحدثة لأتناولَ كتاباً، أشعر بقهرٍ وغُصّة ، إذ أتذكرُ مكتبتي الكبيرة التي اغتالتها يدُ الإثم حرقاً في الرّقة.
بقلبٍ عارٍ إلاَّ من الوجع، ونبضٍ حافٍ إلاّ من القهر تنتصب هذه الذكرى في وجهي كلَّ حينٍ ، فأشعر أنني فقدتُ عزيزاً عاليَ المقام في نفسي، فهذه المكتبة الأنيقة حتى أطراف حدودها بشهادة الجميع، دفعت سني عمري في تكوينها، بل أفنيتُ عمراً بها ولها .
كانت خطاً أحمرَ ، لا يمكن لأحد أن يقتربَ منها سواء الناس الغرباء، أم الذين يشاطرونني البيت.
قيل: إنَّ الاهتمامَ بالمكتبة يشيعُ غيرةَ من يحظى بمكانة في قلب مالكها ، ولأنَّ قلبي كان خالياً من الطامحين بالجلوس فيه ارتحتُ من هذا العناء ، لكن ابتليتُ بغيرة الغزاة لبيتي منها، وحقدهم الكبير على كمِّ الكتب التي رأوها وهذا ما دفعهم إلى احراقها.
أذكرُ مرّة أنَّ أديباً كبيراً من اللاذقية زارني، فتحسر حين رأى مكتبتي الفارهة أمامه فقال: مكتبتي أكبر عدوٍ لزوجتي .
تفتحت عيناي دهشة واستغراباً ، قرأ هذا وأردف بقهرٍ: على الرّغم من رفدي لها بقيتْ قزمة ، كلما غبتُ أراها تنقص ، فأسأل عن الكتاب الفلاني ، أو مجموعة الكتب التي جئتُ بها مؤخراً ، فلا أقبضُ على جوابٍ حتى علمتُ أنَّ زوجتي تضرمُ ببعض الصفحاتِ النار لتشعلَ الغاز، ثم ترمي بباقي الكتاب دون شعور بالذنب، ولكي أنفر من المكتبة تضع ألواحَ الصابون وعلب الزيت على رفوفها، بل وتساعد أحفادي على امتطائها والعبث بها.
ثم ختم كلامه وهو يلتقط صورة بجانب مكتبتي : ماكنتُ لأحققَ مطمحاً في أن أمتلكَ مكتبة كهذه .
فتساءلتُ :" لماذا تعدُّ المكتبة عدواً للزوجة ، إذ تعتبرها ضرّة لها؟! ألأنَّ الزوجَ الأديب، أو المفكر أو ... ينشغل بها وقتاً، وهذا الانشغال الطويل يجرح الزوجة وتعتقده اهمالاً لها ، فتشتعلُ الغيرة ، وتتحوّل إلى حقدٍ وانتقام ، حيث تصدر حكماً قاسياً وتسعى إلى تنفيذه. بعض النساء لا يجرؤن على فعلِ شيء، فيحولن الغيرة إلى جدال ومشاكل دائمة في البيت ، وبعضهن ينتقمن وأزواجهن على قيد الحياة كما فعلتْ زوجة " سيبويه" إذ انتظرته يخرجُ إلى السوق وأحرقتها مع قطع الجلود التي كان يكتبُ عليها . وبعضهن ينتقمن بعدما يموتُ الزوج، كما زوجة الأمير محمود بن فاتك الآمري في مصر ، إذ كان جامعاً كبيراً للكتب ، بل ومنشغلاً بها جداً، وقارئاً نهماً، ولما توفاه الله أخرجت زوجه وجواريها الكتب جميعها ورمين بها في بركة ماء واسعة، فأتلفتها دون رحمة .
وفي الآونة الأخيرة سمعتُ بما حلَّ بمكتبة الشاعر العراقي إبراهيم الخياط، إذ قضت الزوجة على ترحيلها بعد وفاته بشكلٍ محزن ومؤثر.
أشعر بأنَّ المرأة أحياناً من شدّة غيرتها وتكاثف حقدها على الكتبِ التي تخصُّ زوجها تشاطرُ الغزاة المحتلين الذين سعوا إلى إبادة مخازن المعرفة والقضاء على أي شيء ينيرُ عقول الناس كي يبقوا في جهلهم، فهل ننسى ما قام به تيمورلنك بمكتبة بيت الحكمة في بغداد، حيث رمى أطناناً من الكتبِ في النهر؟
هل ننسى أعمال أرسطو المسماة " الليسيوم" التي أغرقها الإمبراطور قسطنطين إذ كانت الفلسفة محرّمة في عهده؟
ومكتبة الاسكندرية التي أسسها بطليموس الأول عام 300 ق.م، واستغرق انشاؤها ستة عشر عاماً، بينما عدد الكتب يزيد على مليون كتاب أحرقها يوليوس قيصر عام 48 ق.م، وكذلك ما فعله الإمبراطور الصيني " تسي شن هوانغ" حيث أحرق مائة ألف مخطوط، بينما الكتب لا حصر لها.
ومكتبة قرطاج التي ضمّت نصف مليون مخطوط أحرقها الرّومان وظلت النارُ لسبعة عشر يوماً مستعرة.
التاريخ سجل لنا عدداً من المكتبات التي تمَّ القضاء عليها لأسباب عديدة لا تخفى على أيِّ مثقف.
أتصور أنه لا بدَّ من أن نعرف ما فعله الظلاميون لندرك أنَّ هناك نوراً.
حرقُ مكتبتي لا أنساه، وثّقته عبرَ مقالاتي، ورواية لي، وقصيدة، ومازال الحريقُ في دمي.
فهل كان " لابدَّ من حريقٍ
يزأرُ في الجهاتِ
يأتي على كتبي وذكرياتي،
وأحلامٍ مصلوبةٍ على الجدران..
لابدَّ من مُلحدين يرقصونَ حولَ النار
فرحاً بنهايتي..
لتبقى أنتَ ، أنتَ
كتابي الأوحد، فيك
أجدُ سلوتي.".



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى