يُغرّد بعض الفلاسفة والمفكّرين الغربيّين اليوم خارج سرب التغنّي بمركزيّة الحضارة الغربيّة وتفوّقها، فيتحدّثون عن أزماتها الأخلاقيّة والروحيّة وانْحرافها عن قيّم التنوير، ويَتوسّلون في نُصوصهم بقراءة التاريخ والمعاصر منه بشكل خاصّ، بُغْية فهم عميق لتلك الأزمات وأملاً في الإفْلات من مآزقها. وكان من الطبيعي، في مثل هذه الأحوال، أن لا يُجاري هؤلاء المفكّرين الرأي الذي تفاقمفي السنوات الأخيرة في المنابر الإعلاميّة والسياسيّة الغربيّة، الذي يَنظر إلى الشعوب غير الأوروبيّة نظرة دونيّة وعنصريّة رغم مزاعم الحداثة والديمقراطيّة التي يتشدّق بها. ويُنبّه هؤلاء في أعمالهم إلى خُطورة تلك الأفكار المتطرّفة التي لا تعدو أن تكون مجرّد تخوم مُصْطنعة أفْرَزتها الإيديولوجيّات الفاسدة والقراءة الخاطئةللتاريخ وفكرة الذات الغربيّة المتضخّمة التي يتبادر إلى ذهنها أنّها فتحتْ قوس التحضّر وأغلقتهُ،فيقودها وهمها إلى تطويع المفاهيملصالح المنظومة الثقافيّة الغربيّة التي تسعى لكيتكون نموذجا مثاليا للحضارة يجب أن يُحتذى به، وقدعزّزتْ المناهج التربويّة، المسطّرة بعناية فائقة، من هذه الفكرة، إضافة إلى ما لعبه الإعلام من دور في توطين نظريّة صراع الحضارات وتفوّق العرق الأبيض على الأعراق الأخرى.
ووفقا لذلك فإنّ هؤلاء، الذين يسعون للخروج من السياجات الدغمائية المغلقة، لايثقون في المفاهيم الناجزة والنهائيّة، ويتريّثون في النظر إلى الأمور بالاسترشاد بالعقل والمنطق والقراءة الموضوعيّة للتاريخ لتأكيد فكرة الانسانيّة المشتركة، ولدحض التصنيف العنصري ضدّ الشعوب الذي هلّلتْ له الأنساق الثقافيّة المنحازة إلى نظريّة العرق الأعلى والعرق الأدنى، التي تنامتْ، بشكل ملفت للانتباه، في غضون السنوات الأخيرة خاصّة مع صعود التيارات السياسيّة المحافظة في أوروبا وأمريكا إلى سدّة الحكم وتَغوّل الليبيراليّة الجديدةوما مارسته من حروب بكل أصنافها. فهل يمكن لأفكار الكُتّاب والمفكّرين والفلاسفة، التي تُراقب كلّ هذه التحوّلات، أن تُحْدث التغيير وتُعيد تشكيل عقليّة الغرب وتتّجه به نحو أفق جديد يتحرّر فيه من أوهامه؟ هل يستطيع الحوار اليوم أن يفتح كوّة في الحائط المسدود؟ أم أنّ الفكر في وادٍ والسياسة في واد ثانٍ ولا يلتقيان!
كان الفيلسوف الفرنسي من أصل بلغاري تزيفتان تودوروف Todorov Tzvetan (1939 - 2017) واحدا من هؤلاء المفكّرين الذين غرّدوا خارج سرب يقينيات الثقافة الغربيّة، واهتمّ في نصوصه الأدبيّة والفكريّة بكشف مزالق تلك الثقافة وغُلوّها وانْعطافاتها السلبيّة، وقام بتقديم جملة من الحجج والبراهين على تهافتها. فقد ردّ في كتابه الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات، على أطروحة صامويل هنتنغتون Samuel Huntington (1927 - 2008) حول ''صدام الحضارات'' الواردة في كتابهصدام الحضارات: إعادة صناعة النظام العالمي، وقال تودوروف في السياق نفسه: إنّ «''الحضارات'' لا تتصادم حين تلتقي وأنّ ''الصدامات'' تتعلّق بالكيانات السياسيّة وليس الثقافيّة»، مُناقشا ومُحلّلا أطروحات هنتنغتون وتداعياتها السلبيّة في المجال التداولي السياسي والاجتماعي في أوروبا وأمريكا وفي العالم بأسره، منتقدا، في الوقت عينه، خطاب الكونيّة الذي يتشدّقُ به الغرب في سياساته وفي منابره الإعلاميّة، لكنّه في الحقيقة لا أثر له على أرض الواقع، فهو خطاب زائف ممهور بالمبالغة والكذب والرياء. فقد فضح تودوروف الأقبية المظلمة التي تعاني فيها الانسانيّة وتئنّ، وكشف عن أوجاع التاريخ الحديث والمعاصر وعن مآسي الجغرافيات المشتعلة بالحروب وبثقافة الضغينة. ولا يُخفي تودوروف في كتابه اللانظام العالمي الجديد: تأملات مواطن أوروبي الذي يُترجمُ أيضا بــــ الفوضى العالميّة الجديدة، تبرُّمَه من البربريّة والوحشيّة التي يعيشها عالمنا اليوم، مُستندا في تحليله على آراء كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss (1908 - 2009) في كتابه العرق والتاريخ، تلك الآراء التي تُقرّ بأنّ الحضارة الإنسانيّة هي تُراث عالمي مشترك وأنّ «التجمّعات الإثنيّة الكبيرة التي تؤلّف الإنسانيّة قد أسهمتْ بحدّ ذاتها مساهمات خاصّة في التُراث العام» ( ص5)، ما جعل شتراوس يصوغُ النظريّة العرقِيّة بطريقة عكْسيّة لما كان سائداً ومتداولا.
وعطفا عمّا قيل فإنّ تودوروف يؤكّد في كتابه الخوف من البرابرة: أنّ «الخوف من البرابرة هو الذي يُخشى من أن يحوّلنا إلى برابرة، والسوء الذي نتسبّبُ به لأنفسنا سيتخطّى السوء الذي كُنّا نخشاه في الأساس. إنّ التاريخ يُعَلّمنا ذلك يمكن للدواء أن يكون أسوء من الداء. إنّ الأنظمة التوتاليتاريّة قدّمتْ نفسها كوسيلة لشفاء المجتمع البورجوازي من نقائصهِ، فأنتجتْ عالماً أكثر خطورة من ذاك الذي تُحاربهُ» (ص 12).ولعلّ الحرب على الإرهاب الذي شنّتها أمريكا وحلفائها وما صاحبها من خوف مبالغ فيه من الآخر، قد خلّف كوارث إنسانيّة لن تمحى من ذاكرة التاريخ، فما حصل مثلاً في سجنيْ ''أبو غريب'' و''غوانتانامو'' من انتهاكات وتجاوزات انسانيّة وأخلاقيّة بدعوى محاربة الإرهاب لهو وصمة عار في جبين الإنسانيّة، فقد أسفرتْ الانتهاكات المرتكبة في حقّ السُجناء العُزل عن بربريّة فظيعة وبشعة رأينا بعض صورها وصور فاعليها المقزّزة على الشاشات، لكنّ الذاكرة الفرديّة أو الجمعيّة قاهرة وهيهات أن تنسى البطش والظلم ورُعونَة البشر!
فمن بين مدلولات الحضارة في كتاب الخوف من البرابرة، النأي عن البربريّة وإدانتها فـــ «المتحضّر هو الذي في كلّ مكان وزمان يَعْرف كيف يُقرّ بإنسانية الآخر التامّة. ولتحقيق ذلك لا بدّ من المرور بمرحلتين: في الأولى، نكتشفُ بأنّ للآخرين أنماط عيش مختلفة عنّا، وفي الثانية، نتقبّل بأنّهم يتشاركون معنا بالإنسانيّة نفسها. إنّ المقتضى الأخلاقي يترافق مع بعد فكري» (ص 27)،لأنّه متى تمّ الإيمان باختلاف البشر توسّعتْ دائرة الانسانيّة والتحضّر وإمكانية العيش معاً بدون منغّصات رغم الاختلاف في الجنس واللغة والدين والعرق أو في أيّ مكوّن إنسانيّ آخر. فلا يُمكن بلوغ درجة التحضّر من دون الاعتراف بتعدّد الثقافات واختلافها بعيداً عن أيّ تراتبيّة هرميّة تنتهي إلى تصنيفها إلى عُليا ودُنيا، ولا يكفي إدانة العنف بل يجب فهمه ثم منع عودته.
ولعلّ مثل هذه المواقف هي التي دفعتْ إدغار موران Edgar Morin إلى التساؤل في ختام الفصل الثاني من كتابه ثقافة أوروبا وبربريتها عن إمكانية خلق نزعة إنسانية جديدة من خلال إنتاج ترياق مضادّ ينبع من ثقافة أوروبا ومن نزعتها الانسانيّة التي كانت قد شكّلتها في الماضي، على شرط أن يبدأ المشوار أوّلا بالتفكير في البربريّة، لأنّ التفكير فيها يُفضي إلى المساهمة في إحياء النزعة الإنسيّة/الإنسانيّة، وإحياء الإنسيّة يقاوم البربرية، مُسْتطردا في كتابه عنف العالم-الذي اشترك في كتابته مع زميله الفيلسوف جان بودريارد Jean Baudrillard- أنّه من الواجب خلق تضامن إنساني على كوكبنا وإنهاء الحروب والمآسي وأشكال اللامساواة الصارخة بين ساكنة الأرض من أجل هويّة إنسانيّة ومواطَنة عالميّة تُجنّبنا السيْر نحو الهاوية، فهل يُمكن لهذه الآمال أنْ تتحقّق يوما؟
ووفقا لذلك فإنّ هؤلاء، الذين يسعون للخروج من السياجات الدغمائية المغلقة، لايثقون في المفاهيم الناجزة والنهائيّة، ويتريّثون في النظر إلى الأمور بالاسترشاد بالعقل والمنطق والقراءة الموضوعيّة للتاريخ لتأكيد فكرة الانسانيّة المشتركة، ولدحض التصنيف العنصري ضدّ الشعوب الذي هلّلتْ له الأنساق الثقافيّة المنحازة إلى نظريّة العرق الأعلى والعرق الأدنى، التي تنامتْ، بشكل ملفت للانتباه، في غضون السنوات الأخيرة خاصّة مع صعود التيارات السياسيّة المحافظة في أوروبا وأمريكا إلى سدّة الحكم وتَغوّل الليبيراليّة الجديدةوما مارسته من حروب بكل أصنافها. فهل يمكن لأفكار الكُتّاب والمفكّرين والفلاسفة، التي تُراقب كلّ هذه التحوّلات، أن تُحْدث التغيير وتُعيد تشكيل عقليّة الغرب وتتّجه به نحو أفق جديد يتحرّر فيه من أوهامه؟ هل يستطيع الحوار اليوم أن يفتح كوّة في الحائط المسدود؟ أم أنّ الفكر في وادٍ والسياسة في واد ثانٍ ولا يلتقيان!
كان الفيلسوف الفرنسي من أصل بلغاري تزيفتان تودوروف Todorov Tzvetan (1939 - 2017) واحدا من هؤلاء المفكّرين الذين غرّدوا خارج سرب يقينيات الثقافة الغربيّة، واهتمّ في نصوصه الأدبيّة والفكريّة بكشف مزالق تلك الثقافة وغُلوّها وانْعطافاتها السلبيّة، وقام بتقديم جملة من الحجج والبراهين على تهافتها. فقد ردّ في كتابه الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات، على أطروحة صامويل هنتنغتون Samuel Huntington (1927 - 2008) حول ''صدام الحضارات'' الواردة في كتابهصدام الحضارات: إعادة صناعة النظام العالمي، وقال تودوروف في السياق نفسه: إنّ «''الحضارات'' لا تتصادم حين تلتقي وأنّ ''الصدامات'' تتعلّق بالكيانات السياسيّة وليس الثقافيّة»، مُناقشا ومُحلّلا أطروحات هنتنغتون وتداعياتها السلبيّة في المجال التداولي السياسي والاجتماعي في أوروبا وأمريكا وفي العالم بأسره، منتقدا، في الوقت عينه، خطاب الكونيّة الذي يتشدّقُ به الغرب في سياساته وفي منابره الإعلاميّة، لكنّه في الحقيقة لا أثر له على أرض الواقع، فهو خطاب زائف ممهور بالمبالغة والكذب والرياء. فقد فضح تودوروف الأقبية المظلمة التي تعاني فيها الانسانيّة وتئنّ، وكشف عن أوجاع التاريخ الحديث والمعاصر وعن مآسي الجغرافيات المشتعلة بالحروب وبثقافة الضغينة. ولا يُخفي تودوروف في كتابه اللانظام العالمي الجديد: تأملات مواطن أوروبي الذي يُترجمُ أيضا بــــ الفوضى العالميّة الجديدة، تبرُّمَه من البربريّة والوحشيّة التي يعيشها عالمنا اليوم، مُستندا في تحليله على آراء كلود ليفي شتراوس Claude Lévi-Strauss (1908 - 2009) في كتابه العرق والتاريخ، تلك الآراء التي تُقرّ بأنّ الحضارة الإنسانيّة هي تُراث عالمي مشترك وأنّ «التجمّعات الإثنيّة الكبيرة التي تؤلّف الإنسانيّة قد أسهمتْ بحدّ ذاتها مساهمات خاصّة في التُراث العام» ( ص5)، ما جعل شتراوس يصوغُ النظريّة العرقِيّة بطريقة عكْسيّة لما كان سائداً ومتداولا.
وعطفا عمّا قيل فإنّ تودوروف يؤكّد في كتابه الخوف من البرابرة: أنّ «الخوف من البرابرة هو الذي يُخشى من أن يحوّلنا إلى برابرة، والسوء الذي نتسبّبُ به لأنفسنا سيتخطّى السوء الذي كُنّا نخشاه في الأساس. إنّ التاريخ يُعَلّمنا ذلك يمكن للدواء أن يكون أسوء من الداء. إنّ الأنظمة التوتاليتاريّة قدّمتْ نفسها كوسيلة لشفاء المجتمع البورجوازي من نقائصهِ، فأنتجتْ عالماً أكثر خطورة من ذاك الذي تُحاربهُ» (ص 12).ولعلّ الحرب على الإرهاب الذي شنّتها أمريكا وحلفائها وما صاحبها من خوف مبالغ فيه من الآخر، قد خلّف كوارث إنسانيّة لن تمحى من ذاكرة التاريخ، فما حصل مثلاً في سجنيْ ''أبو غريب'' و''غوانتانامو'' من انتهاكات وتجاوزات انسانيّة وأخلاقيّة بدعوى محاربة الإرهاب لهو وصمة عار في جبين الإنسانيّة، فقد أسفرتْ الانتهاكات المرتكبة في حقّ السُجناء العُزل عن بربريّة فظيعة وبشعة رأينا بعض صورها وصور فاعليها المقزّزة على الشاشات، لكنّ الذاكرة الفرديّة أو الجمعيّة قاهرة وهيهات أن تنسى البطش والظلم ورُعونَة البشر!
فمن بين مدلولات الحضارة في كتاب الخوف من البرابرة، النأي عن البربريّة وإدانتها فـــ «المتحضّر هو الذي في كلّ مكان وزمان يَعْرف كيف يُقرّ بإنسانية الآخر التامّة. ولتحقيق ذلك لا بدّ من المرور بمرحلتين: في الأولى، نكتشفُ بأنّ للآخرين أنماط عيش مختلفة عنّا، وفي الثانية، نتقبّل بأنّهم يتشاركون معنا بالإنسانيّة نفسها. إنّ المقتضى الأخلاقي يترافق مع بعد فكري» (ص 27)،لأنّه متى تمّ الإيمان باختلاف البشر توسّعتْ دائرة الانسانيّة والتحضّر وإمكانية العيش معاً بدون منغّصات رغم الاختلاف في الجنس واللغة والدين والعرق أو في أيّ مكوّن إنسانيّ آخر. فلا يُمكن بلوغ درجة التحضّر من دون الاعتراف بتعدّد الثقافات واختلافها بعيداً عن أيّ تراتبيّة هرميّة تنتهي إلى تصنيفها إلى عُليا ودُنيا، ولا يكفي إدانة العنف بل يجب فهمه ثم منع عودته.
ولعلّ مثل هذه المواقف هي التي دفعتْ إدغار موران Edgar Morin إلى التساؤل في ختام الفصل الثاني من كتابه ثقافة أوروبا وبربريتها عن إمكانية خلق نزعة إنسانية جديدة من خلال إنتاج ترياق مضادّ ينبع من ثقافة أوروبا ومن نزعتها الانسانيّة التي كانت قد شكّلتها في الماضي، على شرط أن يبدأ المشوار أوّلا بالتفكير في البربريّة، لأنّ التفكير فيها يُفضي إلى المساهمة في إحياء النزعة الإنسيّة/الإنسانيّة، وإحياء الإنسيّة يقاوم البربرية، مُسْتطردا في كتابه عنف العالم-الذي اشترك في كتابته مع زميله الفيلسوف جان بودريارد Jean Baudrillard- أنّه من الواجب خلق تضامن إنساني على كوكبنا وإنهاء الحروب والمآسي وأشكال اللامساواة الصارخة بين ساكنة الأرض من أجل هويّة إنسانيّة ومواطَنة عالميّة تُجنّبنا السيْر نحو الهاوية، فهل يُمكن لهذه الآمال أنْ تتحقّق يوما؟