الشاعر الكبير سمير عبدالباقى اختار كتابة الشعر بالمصرى وأبدع فى مجالات الرواية وقصص للأطفال ومنذ عدة سنوات يُصدر مجلة شعرية على نفقته الخاصة. وقبل الإبداع أنصتَ لصوت الضمير الإنسانى الحر فانحاز للعدل . ورأى منذ شبابه المُبكر أنّ الماركسية هى وسيلة تحقيق هذا العدل . ولأنّ مطلب العدل والديكتاتورية نقيضان ، فإنّ الصدام حتمى ، وهو ما حدث عندما تم اعتقاله وهو ابن 22سنة ونصف يوم 27/9/59 فقضى 30 شهرًا فى زنزانة انفرادية فى سجن المنصورة. عن هذا الجزء من سيرته الذاتية صدر كتابه (زمن الزنازين) عن مكتبة جزيرة الورد عام 2011 وينتهى بوعد صدور الأبشع من السيرة مع باقى معتقلات عبدالناصر.
رغم مرارة التجربة من تعذيب وحشى والحرمان من الحياة الطبيعة ، فإنها تنبض بالروح المصرية. فمثلا عاتب أحد الزملاء سمير لأنه لم يحضر فى الموعد فقال (مش الميعاد اللى بينا إنت اللى حدّدته) طغتْ السخرية المصرية على الموقف فردّ عليه : إنت اللى حدتوفى إشارة لحزب حدتوالمُنحاز للضباط رغم الإعتقالات ، لدرجة كتابة خطاب من 20صفحة لعبدالناصر، من داخل السجن وبتوقيع إبراهيم عبدالحليم فحواه أنّ الاعتقالات بسبب (الطفولة اليسارية) التى لم تستوعب ظروف المرحلة. ويختتم برجاء أنْ يأمربإطلاق سراح المُعتقلين (إظهارًا لحُسن النوايا) أما الطلبة فوصفوا الخطاب بالخزى والمهانة خاصة أنه لم يتعرّض لتزايد السُعارالمُعادى للديمقراطية. وأنّ راديوعبدالناصر(كان يزعق فى هستيريا مُطالبًا بذبح الشيوعيين) بل إنّ الضابط كمال الدين حسين (وزيرالتعليم) قرّرعلى تلاميذ المدارس فقرة عن الشيوعية باعتبارها (داء ينخرفى جسم الإسلام) لذلك فدماء الشيوعيين مباحة. ومع إنّ كاتب السيرة من حدتو فقد التزم الصدق وهو يتذكر ما حدث فكتب (كنا زى الهواة. زى شلة صحاب بنلم بعض عشان مظاهرة لتأييد عبدالناصر. وإنْ أفكارنا عمرها ما شكتْ إنْ عبدالناصر ينقلب علينا) وصدر قرار من الحزب سمح للأعضاء بكتابة تعهد بعدم الاشتغال بالسياسة(417) ورغم صغرسن راوى السيرة فإنه رفض كتابة التعهد. فى المحكمة ألزموا المحامى بعدم الهجوم على الشيوعية ومع ذلك قال أحدهم (إحنا بنأيد عبدالناصر وقراراته الاشتراكية) (423) عمى السرابُ العيون فحدّد رؤية بعض فصائل اليسار فلم يُفكر أحد أنّ عبدالناصر يمكن أنْ يلقى بمُريديه وأنصاره فى السجون (37) والهجوم على اليسار بتهمة العمالة للسوفيت (وضعنا نحن المُتهمين بأننا عملاء لسلطة عبدالناصرفى موقف ضعيف أمام رفاق التكتل وأمام أنفسنا) (50) خصوصًا بعد أنْ أشاع إعلام وتعليم عبدالناصرأنّ الشيوعيين كفار(وبيتجوزا من اخواتهم) وإنهم زى الشياطين فخاف العساكر منهم فلما سمع أحدهم أنّ الشيوعى المعتقل قال لزميله أثناء لعبة الشطرنج : ح آكل العسكرى دا ، صرخ جندى الحراسة : إلحقوا الشيوعيين عايزين ياكلوا العساكر. ح ياكلونا ياسيادة المأمور(407، 441)
وتكون ذروة المأساة عندما يصل خطاب من الأب لابنه فى المعتقل يتبرّأ فيه منه لأنّ الابن وزملاءه يُمارسون ما حرّم الله (إننى لا أكاد أصدّق هذا الذى يُروى عنكم فى الصحف والإذاعة) (64) وبدأ (الجهاد الأكبر) ضد الشيوعيين بعد أنْ قال وزيرالخارجية الأمريكى لعبدالناصر إنّ معركتكم انتهتْ مع الاستعمار (عقب حرب السويس) لتبدأ مع اليسار، فدأب عبدالناصر على ترديدها فى خطبه. وترجمها هيكل فى الأهرام بأنّ (على الشيوعيين أنْ يضعوا أقفالا على أفواههم وإلا..) (فخرى لبيب – الشيوعيون وعبدالناصر- جزءان أكثرمن صفحة- وكتبها صاحب السيرة بصياغته الخاصة ص287) تواكب مع هذا تحالف الضباط مع الإخوان المسلمين وأصبح من مروا (بمسالخ السجن الحربى وطرة وزراء مثل عبدالعزيز كامل ومن قبله الباقورى (235)
ولعلها أدق لحظة يمربها الإنسان عندما يُطلب منه الغناء والهتاف لجلاده ـ إذْ أمر ضابط المباحث من المعتقلين أنْ يُغنوا أغنية أم كلثوم (يا جمال يامثال الوطنية) فمن غنى نجا من التعذيب أما من رفض فتم ضربه بوحشية حتى كاد أنْ يموت مثلما حدث مع نجاتى عبدالحميد الذى أصرّعلى الرفض حتى بعد أنْ وضعوه فى حفرة مليئة بالبراز وهو يحتضن جثة كلب (من 315- 330) وسط جهنم الناصرية يبرز الوجه الإنسانى للشاويش عويس الذى انتهز فرصة ذهاب الضباط فأحضر لنجاتى الماء ومسح وجهه وسقاه وقطع الرغيف وأطعمه بيده. وفى وسط الظلام يبرز الشاويش عطية الذى بكى تعاطفـًا مع المُعتقلين وعند ترحيلهم قال لهم (مع السلامه أشوفكم مع الحرية) (80، 140) وبرز الشاويش محمد الصياد الذى حكى عن اضراب أنطون مارون وكان يُقدّم له اللبن سرًا (عشان يستمر فى الاضراب) ولما مات أنطون ترحم عليه. وحضر ذبح شهدى عطية. وتـُشرق الفتاة المناضلة انتصار التى تزور المعتقلين وتمدهم بالطعام والأخبار. ويبرز المعلم كرم تاجر المخدرات الذى تحول من كراهية الشيوعيين إلى التعاطف معهم وتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه لدرجة أنْ يُرسل إحدى زوجاته لزيارتهم.
وتمتزج السخرية بالمأساة فى مشاهد كثيرة مثلما حدث مع الضابط الذى سأل لويس عوض عن مهنته. قال له دكتور. سأله دكتور فى إيه ؟ قال دكتور فى الأدب. ردّ الضابط ابن يوليو(حلو. ح نخرجك من هنا دكتورفى قلة الأدب ياروح أمك) واشتد الضرب لأنه مسيحى وشيوعى وصعيدى (321) والشاويش عبدالله رفض الصلح مع أحد زملائه بطلب من مأمور السجن فسجنه مع المعتقلين فوصفه عبدالله قائلا (المأمور حمار. فاكر نفسه ح يبلفنى والله لو يكون همرشيلد) وأحد المعتقلين يسخر من عبدالناصر ومن اليسار المؤيد له فيقول إنه سيذهب للسيدة زينب (لعلها ترتق تمزقات الجبهة الوطنية) (175) وقال واحد من الإخوان المسلمين (عبدالناصر لا يريد أى قوى مناوئة أو معارضة أو تفكر بغير طريقته. طريقة المستبد الذى لايريد أنْ يُقيم وطنـًا قويًا. فى رأيى إنْ السياسة تحتاج لبعض الوساخة. ولذا أربأ بنفسى كمسلم أنْ أشتغل بالسياسة) (224) وإذا كان لكل مهنة لغة خاصة كذلك كان لضباط معتقلات يوليو فمثلا (خد البغل دا إسقيه شاى خفيف) تعنى الضرب بالكرباج على القدمين العاريتين حتى يتفجر الدم منهما (228) فلنا أنْ نتخيل عندما يكون الأمر (إسقيه قهوه أوشاى تقيل) ومن سخريات الواقع أنْ تـُرسل حكومة البكباشية رئيس الاتحاد التعاونى (محمد الجمال) ليمنع انتخابات الطلبة عام 58 لذا – كما يتذكر راوى السيرة- (وكلما كان المذيع يذكر شركة أو مصنعًا جرى تأميمه أخاف ، لأنه سوف يُسلم لأمثال (الجمال) الذين يكرهون الجماهيروالانتخابات . يومها تنبّأتُ للقطاع العام – رغم فرحتى بالتأميم – بمستقبل أسود عندما يتولى مسئوليته أمثال الجمال) (367، 368)
أما أهوال السجن الحربى التى حكاها المعتقلون الذين انتقلوا لسجن المنصورة ، فقد حرّكتْ منابع الدموع حتى انفجرتْ بها عيناى ، رغم أننى قرأتها عدة مرات فى مصادرأخرى (التفاصيل لمن يرغب ص 396 وما بعدها) ولكن استوقفتنى قصة الشاب عزيز المسيحى الذى شاء حظه أنْ يحب فتاة مسلمة بادلته الحب وتتهور لدرجة الذهاب لبيت حبيبها ، ورغم أنّ أم عزيزأخذتها وسلمتها لأهلها ، فإنّ شقيق الفتاة لأنه من ضباط يوليوالذين ملكوا الكون لفق للشاب تهمة التهرب من التجنيد وألقى به فى جحيم السجن الحربى . وهناك لم يكن التعذيب البدنى الوحشى فقط ، وإنما اغتصاب الشاب الرقيق العاشق للحياة ولفن الرسم. وظلتْ (عقدة) الاغتصاب تلاحق الفتى حتى بعد نقله إلى سجن المنصورة فأنهى حياته بالانتحار (355وما بعدها)
ومع إنّ السيرة تنقل الواقع المأساوى الطافح بالدم والقروح البدنية والنفسية ، فإنّ لغة الشعر الوصفية كانت البلسم المُرطب لفجاجة واقع الضباط القبيح . وربما كان استخدامه للتعبيرات والألفاظ التى نحتها شعبنا المصرى ، أحد تجليات هذا البلسم . فمثلا قال أحد المعتقلين على الطعام القادم من أسرة زميل (ياعم همّ شايلين وطابخين عشان ترم جتتك) التعبير المصرى هنا يعنى الطعام الجيد الصحى بينما (رمّم) فى العربى تعنى ترميم الجدار. ويقول آخر(إنتم بتغرقونى فى خيركم) فالغرق فى العربى يعنى الموت فى البحربينما فى المصرى أخذ معنى مختلفـًا. واستخدم تعبير (نوز على بعض) ولكى يفهمه العربى لابد من ترجمته بمعنى الخبص أوالتقول إلخ واستخدم تعبير(بلاش تناكه) أى لا تتعاظم ويأخذك الغروربالعربى. أما الألفاظ فهى بالعشرات مثل (برطم) أى الكلام غيرالمفهوم (لمض) أى القدرة على الجدل فى الحوار (جرمأ) أى العدد الكثير (جاب له الكافيه) أصابه بمصيبة. عصلج ، زرجن، (بوّق فيه) اى الإنسان البجح إلخ.
ذكر الشاعر سمير عبدالباقى أنه عثر فى مكتبة سجن المنصورة على عدد كبير من مجلات المقتطف والعصور (التى كان يُصدرها اسماعيل مظهر منذ عام 1927) مُجلدة ومُهداة من أحد باشوات الدقهلية (393) فهل الباشوات الجُدد الذين سيطروا على الاقتصاد المصرى منذ يوليو 52 وصولا إلى محطة عصابة مبارك ، لديهم فى بيوتهم مكتبة مثل مكتبة باشا الدقهلية ؟ ألاتؤكد هذه الواقعة أنّ الباشوات (اللى بجد) ساهموا فى بناء الاقتصاد المصرى ، بينما باشوات ضباط يوليوساهمو فى تخريبه ؟ وهل يمكن نجاح مخطط التخريب إلاّ إذا سار بجانبه تخريب العقل المصرى ؟ كما فعل ضباط يوليوالذين اعتقلوا كل أصحاب العقول الحرة والضمائر الحية ، كما رواها الشاعر سمير عبدالباقى فى الجزء الأول من سيرته الذاتية ، إذْ اختتم هذا الجزء بوعد الكتابة عن باقى معتقلات عبدالناصر، عن أيام (الواحات) ، (عزَب الفيوم) ومزرعة طرة إلخ .
رغم مرارة التجربة من تعذيب وحشى والحرمان من الحياة الطبيعة ، فإنها تنبض بالروح المصرية. فمثلا عاتب أحد الزملاء سمير لأنه لم يحضر فى الموعد فقال (مش الميعاد اللى بينا إنت اللى حدّدته) طغتْ السخرية المصرية على الموقف فردّ عليه : إنت اللى حدتوفى إشارة لحزب حدتوالمُنحاز للضباط رغم الإعتقالات ، لدرجة كتابة خطاب من 20صفحة لعبدالناصر، من داخل السجن وبتوقيع إبراهيم عبدالحليم فحواه أنّ الاعتقالات بسبب (الطفولة اليسارية) التى لم تستوعب ظروف المرحلة. ويختتم برجاء أنْ يأمربإطلاق سراح المُعتقلين (إظهارًا لحُسن النوايا) أما الطلبة فوصفوا الخطاب بالخزى والمهانة خاصة أنه لم يتعرّض لتزايد السُعارالمُعادى للديمقراطية. وأنّ راديوعبدالناصر(كان يزعق فى هستيريا مُطالبًا بذبح الشيوعيين) بل إنّ الضابط كمال الدين حسين (وزيرالتعليم) قرّرعلى تلاميذ المدارس فقرة عن الشيوعية باعتبارها (داء ينخرفى جسم الإسلام) لذلك فدماء الشيوعيين مباحة. ومع إنّ كاتب السيرة من حدتو فقد التزم الصدق وهو يتذكر ما حدث فكتب (كنا زى الهواة. زى شلة صحاب بنلم بعض عشان مظاهرة لتأييد عبدالناصر. وإنْ أفكارنا عمرها ما شكتْ إنْ عبدالناصر ينقلب علينا) وصدر قرار من الحزب سمح للأعضاء بكتابة تعهد بعدم الاشتغال بالسياسة(417) ورغم صغرسن راوى السيرة فإنه رفض كتابة التعهد. فى المحكمة ألزموا المحامى بعدم الهجوم على الشيوعية ومع ذلك قال أحدهم (إحنا بنأيد عبدالناصر وقراراته الاشتراكية) (423) عمى السرابُ العيون فحدّد رؤية بعض فصائل اليسار فلم يُفكر أحد أنّ عبدالناصر يمكن أنْ يلقى بمُريديه وأنصاره فى السجون (37) والهجوم على اليسار بتهمة العمالة للسوفيت (وضعنا نحن المُتهمين بأننا عملاء لسلطة عبدالناصرفى موقف ضعيف أمام رفاق التكتل وأمام أنفسنا) (50) خصوصًا بعد أنْ أشاع إعلام وتعليم عبدالناصرأنّ الشيوعيين كفار(وبيتجوزا من اخواتهم) وإنهم زى الشياطين فخاف العساكر منهم فلما سمع أحدهم أنّ الشيوعى المعتقل قال لزميله أثناء لعبة الشطرنج : ح آكل العسكرى دا ، صرخ جندى الحراسة : إلحقوا الشيوعيين عايزين ياكلوا العساكر. ح ياكلونا ياسيادة المأمور(407، 441)
وتكون ذروة المأساة عندما يصل خطاب من الأب لابنه فى المعتقل يتبرّأ فيه منه لأنّ الابن وزملاءه يُمارسون ما حرّم الله (إننى لا أكاد أصدّق هذا الذى يُروى عنكم فى الصحف والإذاعة) (64) وبدأ (الجهاد الأكبر) ضد الشيوعيين بعد أنْ قال وزيرالخارجية الأمريكى لعبدالناصر إنّ معركتكم انتهتْ مع الاستعمار (عقب حرب السويس) لتبدأ مع اليسار، فدأب عبدالناصر على ترديدها فى خطبه. وترجمها هيكل فى الأهرام بأنّ (على الشيوعيين أنْ يضعوا أقفالا على أفواههم وإلا..) (فخرى لبيب – الشيوعيون وعبدالناصر- جزءان أكثرمن صفحة- وكتبها صاحب السيرة بصياغته الخاصة ص287) تواكب مع هذا تحالف الضباط مع الإخوان المسلمين وأصبح من مروا (بمسالخ السجن الحربى وطرة وزراء مثل عبدالعزيز كامل ومن قبله الباقورى (235)
ولعلها أدق لحظة يمربها الإنسان عندما يُطلب منه الغناء والهتاف لجلاده ـ إذْ أمر ضابط المباحث من المعتقلين أنْ يُغنوا أغنية أم كلثوم (يا جمال يامثال الوطنية) فمن غنى نجا من التعذيب أما من رفض فتم ضربه بوحشية حتى كاد أنْ يموت مثلما حدث مع نجاتى عبدالحميد الذى أصرّعلى الرفض حتى بعد أنْ وضعوه فى حفرة مليئة بالبراز وهو يحتضن جثة كلب (من 315- 330) وسط جهنم الناصرية يبرز الوجه الإنسانى للشاويش عويس الذى انتهز فرصة ذهاب الضباط فأحضر لنجاتى الماء ومسح وجهه وسقاه وقطع الرغيف وأطعمه بيده. وفى وسط الظلام يبرز الشاويش عطية الذى بكى تعاطفـًا مع المُعتقلين وعند ترحيلهم قال لهم (مع السلامه أشوفكم مع الحرية) (80، 140) وبرز الشاويش محمد الصياد الذى حكى عن اضراب أنطون مارون وكان يُقدّم له اللبن سرًا (عشان يستمر فى الاضراب) ولما مات أنطون ترحم عليه. وحضر ذبح شهدى عطية. وتـُشرق الفتاة المناضلة انتصار التى تزور المعتقلين وتمدهم بالطعام والأخبار. ويبرز المعلم كرم تاجر المخدرات الذى تحول من كراهية الشيوعيين إلى التعاطف معهم وتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه لدرجة أنْ يُرسل إحدى زوجاته لزيارتهم.
وتمتزج السخرية بالمأساة فى مشاهد كثيرة مثلما حدث مع الضابط الذى سأل لويس عوض عن مهنته. قال له دكتور. سأله دكتور فى إيه ؟ قال دكتور فى الأدب. ردّ الضابط ابن يوليو(حلو. ح نخرجك من هنا دكتورفى قلة الأدب ياروح أمك) واشتد الضرب لأنه مسيحى وشيوعى وصعيدى (321) والشاويش عبدالله رفض الصلح مع أحد زملائه بطلب من مأمور السجن فسجنه مع المعتقلين فوصفه عبدالله قائلا (المأمور حمار. فاكر نفسه ح يبلفنى والله لو يكون همرشيلد) وأحد المعتقلين يسخر من عبدالناصر ومن اليسار المؤيد له فيقول إنه سيذهب للسيدة زينب (لعلها ترتق تمزقات الجبهة الوطنية) (175) وقال واحد من الإخوان المسلمين (عبدالناصر لا يريد أى قوى مناوئة أو معارضة أو تفكر بغير طريقته. طريقة المستبد الذى لايريد أنْ يُقيم وطنـًا قويًا. فى رأيى إنْ السياسة تحتاج لبعض الوساخة. ولذا أربأ بنفسى كمسلم أنْ أشتغل بالسياسة) (224) وإذا كان لكل مهنة لغة خاصة كذلك كان لضباط معتقلات يوليو فمثلا (خد البغل دا إسقيه شاى خفيف) تعنى الضرب بالكرباج على القدمين العاريتين حتى يتفجر الدم منهما (228) فلنا أنْ نتخيل عندما يكون الأمر (إسقيه قهوه أوشاى تقيل) ومن سخريات الواقع أنْ تـُرسل حكومة البكباشية رئيس الاتحاد التعاونى (محمد الجمال) ليمنع انتخابات الطلبة عام 58 لذا – كما يتذكر راوى السيرة- (وكلما كان المذيع يذكر شركة أو مصنعًا جرى تأميمه أخاف ، لأنه سوف يُسلم لأمثال (الجمال) الذين يكرهون الجماهيروالانتخابات . يومها تنبّأتُ للقطاع العام – رغم فرحتى بالتأميم – بمستقبل أسود عندما يتولى مسئوليته أمثال الجمال) (367، 368)
أما أهوال السجن الحربى التى حكاها المعتقلون الذين انتقلوا لسجن المنصورة ، فقد حرّكتْ منابع الدموع حتى انفجرتْ بها عيناى ، رغم أننى قرأتها عدة مرات فى مصادرأخرى (التفاصيل لمن يرغب ص 396 وما بعدها) ولكن استوقفتنى قصة الشاب عزيز المسيحى الذى شاء حظه أنْ يحب فتاة مسلمة بادلته الحب وتتهور لدرجة الذهاب لبيت حبيبها ، ورغم أنّ أم عزيزأخذتها وسلمتها لأهلها ، فإنّ شقيق الفتاة لأنه من ضباط يوليوالذين ملكوا الكون لفق للشاب تهمة التهرب من التجنيد وألقى به فى جحيم السجن الحربى . وهناك لم يكن التعذيب البدنى الوحشى فقط ، وإنما اغتصاب الشاب الرقيق العاشق للحياة ولفن الرسم. وظلتْ (عقدة) الاغتصاب تلاحق الفتى حتى بعد نقله إلى سجن المنصورة فأنهى حياته بالانتحار (355وما بعدها)
ومع إنّ السيرة تنقل الواقع المأساوى الطافح بالدم والقروح البدنية والنفسية ، فإنّ لغة الشعر الوصفية كانت البلسم المُرطب لفجاجة واقع الضباط القبيح . وربما كان استخدامه للتعبيرات والألفاظ التى نحتها شعبنا المصرى ، أحد تجليات هذا البلسم . فمثلا قال أحد المعتقلين على الطعام القادم من أسرة زميل (ياعم همّ شايلين وطابخين عشان ترم جتتك) التعبير المصرى هنا يعنى الطعام الجيد الصحى بينما (رمّم) فى العربى تعنى ترميم الجدار. ويقول آخر(إنتم بتغرقونى فى خيركم) فالغرق فى العربى يعنى الموت فى البحربينما فى المصرى أخذ معنى مختلفـًا. واستخدم تعبير (نوز على بعض) ولكى يفهمه العربى لابد من ترجمته بمعنى الخبص أوالتقول إلخ واستخدم تعبير(بلاش تناكه) أى لا تتعاظم ويأخذك الغروربالعربى. أما الألفاظ فهى بالعشرات مثل (برطم) أى الكلام غيرالمفهوم (لمض) أى القدرة على الجدل فى الحوار (جرمأ) أى العدد الكثير (جاب له الكافيه) أصابه بمصيبة. عصلج ، زرجن، (بوّق فيه) اى الإنسان البجح إلخ.
ذكر الشاعر سمير عبدالباقى أنه عثر فى مكتبة سجن المنصورة على عدد كبير من مجلات المقتطف والعصور (التى كان يُصدرها اسماعيل مظهر منذ عام 1927) مُجلدة ومُهداة من أحد باشوات الدقهلية (393) فهل الباشوات الجُدد الذين سيطروا على الاقتصاد المصرى منذ يوليو 52 وصولا إلى محطة عصابة مبارك ، لديهم فى بيوتهم مكتبة مثل مكتبة باشا الدقهلية ؟ ألاتؤكد هذه الواقعة أنّ الباشوات (اللى بجد) ساهموا فى بناء الاقتصاد المصرى ، بينما باشوات ضباط يوليوساهمو فى تخريبه ؟ وهل يمكن نجاح مخطط التخريب إلاّ إذا سار بجانبه تخريب العقل المصرى ؟ كما فعل ضباط يوليوالذين اعتقلوا كل أصحاب العقول الحرة والضمائر الحية ، كما رواها الشاعر سمير عبدالباقى فى الجزء الأول من سيرته الذاتية ، إذْ اختتم هذا الجزء بوعد الكتابة عن باقى معتقلات عبدالناصر، عن أيام (الواحات) ، (عزَب الفيوم) ومزرعة طرة إلخ .