مناظرة لابن قدامة: حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم الفقيه موفق الدين شيخ الاسلام مفتي الأنام سيد العلماء أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي وآله أجمعين أما بعد فإنه تكرر سؤال بعض أصحابنا عن حكاية مناظرة جرت بيني وبين بعض أهل البدعة في القرآن فخفت من الزيادة والنقصان فرأيت أن أذكر ذلك على غير سبيل الحكاية كي لا تكون الزيادة في الحجج والأجوبة عن شبههم كذبا مع تضمن ذلك لأكثر ما جرى إن شاء الله سبحانه والله الموفق والمعين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فنقول: موضع الخلاف أننا نعتقد أن القرآن كلام الله وهو هذه المائة والأربع عشرة سورة أولها سورة الفاتحة وآخرها المعوذات وانه سور وايات وحروف وكلمات متلو مسموع مكتوب وعندهم أن هذه السور والآيات ليست بقرآن وإنما هي عبارة عنه وحكاية وانها مخلوقة وأن القرآن معنى في نفس الباري وهو شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا هو شيء ينزل ولا يتلى ولا يسمع ولا يكتب وأنه ليس في المصاحف إلا الورق والمداد.
واختلفوا في هذه السور التي هي القرآن فزعم بعضهم انها عبارة جبريل عليه السلام هو الذي ألفها بإلهام الله تعالى له ذلك وزعم آخرون منهم أن الله تعالى خلقها في اللوح المحفوظ فأخذها جبريل منه واحتجوا على كون هذه السور مخلوقة بأنها تتعدد ولا يتعدد إلا المخلوق وهذا يبطل بصفات الله تعالى فإنها صفات متعددة منها السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة والحياة والكلالام ولا خلاف في أنها قديمة وكذلك أسماء الله تعالى فإنها متعددة قال الله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الاعراف 180] وقال النبي ﷺ (إن لله تعالى تسعة تسعون اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة)[1] فثبت تعدادها بالكتاب والسنة الإجماع وهي قديمة. وقد نص الشافعي رحمه الله على أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة، وقال احمد رحمه الله: من زعم ان اسماء الله تعالى مخلوقة فقد كفر، وكذلك كلمات الله تعالى متعددة قال الله تعالى {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف 109] وهي قديمة وكذلك كتب الله تعالى فإن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن متعددة وهي غير مخلوقة وإن قالوا هي مخلوقة فقد قالوا بخلق القرآن وهو قول المعتزلة وقد اتفقنا على ضلالهم واتفق المنتمون إلى السنة على ان القائل بخلق القرآن كافر. منهم من قال كفر ينقل عن الملة ومنهم من قال لا ينقله عنها فمتى قالوا بخلق القرآن وغيره من كتب الله تعالى فقد قالوا بقول أقروا بكفر قائله وإن أقروا بها غير مخلوقة وهي متعددة فقد بطل قولهم وان قالوا هى شيء واحد غير متعددة فقد كابروا ويجب على هذا أن تكون التوراة هي القرآن والإنجيل والزبور وأن موسى لما أنزلت عليه التوراة فقد انزل عليه كل كتاب لله تعالى وان نبينا عليه السلام لما أنزل عليه القرآن فقد أنزلت عليه التوراة والإنجيل والزبور وأن من قرأ آية من القرآن فقد قرأ كل كتاب الله تعالى ومن حفظ شيئا منه فقد حفظه كله ويجب على هذا ان لا يتعب احد في حفظ القرآن لأنه يحصل له حفظ كل كتاب لله تعالى بحفظ آية منه ويجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه آية من القرآن انزل عليه جميعه وجميع التوراة والإنجيل والزبور وهذا خزي على قائله ومكابرة لنفسه ويجب على هذا أن يكون الأمر هو النهي والإثبات هو النفي وقصة نوح هي قصة هود ولوط واحد الضدين هو الآخر وهذا قول من لا يستحيي ويشبه قول السوفسطائية وقد بلغني عن واحد منهم أنه قيل له سورة البقرة هي سورة آل عمران قال نعم.
وإن قالوا إن كلام الله تعالى هو هذه الكتب وإن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلام الله تعالى القديم لكن لم ينزل منه شيء على الأنبياء ولا هو شي يحفظ ولا يتلى ولا يسمع وإنما أنزل عبارته كذبهم القرآن والسنة وإجماع الأمة فإنه لا خلاف بين المسلمين كلهم ان القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وان التوراة انزلت على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود والله تعالى يقول آلر تلك آيات الكتاب المبين {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف 1 2] وقال سبحانه {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة 185] وقال تعالى {وأنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء 192 194] وقال سبحانه {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان 32] {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف 31] وقال سبحانه {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الاسراء 82] وقال الله تعالى {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر 87] وقال تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك} [ص 29] وقال {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام 155 و 92] ومثل هذا كثير وقد أكفر الله تعالى اليهود بقولهم {ما أنزل الله على بشر من شيء} ثم قال {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} ثم قال {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام 91] وقال تعالى {وهو الذي انزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} [الأنعام 114] وقال سبحانه {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية} [آل عمران 7] ومثل هذا كثير وقال النبي ﷺ (انزل القرآن على سبعة احرف)[2] والسنة مملوءة منه.
فإن قالوا فكتاب الله غير القرآن قلنا خالفتم رب العالمين وخرقتم إجماع المسلمين وجئتم بما لم يأت به احد من الملحدين فإنه لا خلاف بين المسلمين ان كتاب الله هو القرآن العظيم المنزل على سيد المرسلين بلسان عربي مبين والله تعالى قد أخبر بذلك فقال سبحانه {آلر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا} [يوسف 1-2] وقال {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}[ الزخرف 1-3] وقال سبحانه حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} [فصلت 1-3] وقال سبحانه {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى} [الأحقاف 29-30] فسموه قرآنا وكتابا وقال في موضع آخر {فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به} [الجن 1-2] ولا يخفى هذا إلا على من أعمى الله قلبه واضله عن سبيله {ومن يضلل الله فما له من هاد} [الرعد 33 و الزمر 36 و 23 غافر 33].
واحتجوا ايضا بأن هذه الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات فلا يجوز إضافة ذلك إلى الله سبحانه. والجواب عن هذا من أوجه:
أحدها: ما الدليل على ان الحروف لا تكون الا من مخارج وأدوات فإن قالوا لأننا لا نقدر على النطق بها إلا من مخارج وأدوات فكذلك الله رب العالمين قلنا هذا قياس لله تعالى على خلقه وتشبيه له بعباده وإلحاق لصفاتهم بصفاته وهذا من أقبح الكفر وقد اتفقنا على أن الله تعالى لا يشبه بخلقه وأنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11].
الثاني: ان هذا باطل بسائر صفات الله تعالى فإن العلم لا يكون في حقنا إلا بقلب والسمع لا يكون إلا من انخراق والبصر لا يكون إلا من حدقة والله تعالى عالم سميع بصير ولا يوصف بذلك فإن نفيتم الكلام لافتقاره في زعمكم إلى المخارج والأدوات فيلزمكم نفي سائر الصفات وإن أثبتم له الصفات ونفيتم عنه الأدوات لزمكم مثل ذلك في الكلام وإلا فما الفرق بينهما.
الثالث: إن الله تعالى أنطق بعض مخلوقاته بغير مخارج فإنه قال تعالى {وتكلمنا ايديهم وتشهد أرجلهم} [يس 65] وقال تعالى {حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء} [فصلت 20-21] واخبر عن السماء والأرض أنهما {قالتا أتينا طائعين} [فصلت 11] وأخبر النبي ﷺ أن حجرا كان يسلم عليه وسبح الحصى في يديه، وقال ابن مسعود: (كنا نسمع تسيبح الطعام وهو يؤكل)[3] ولا خلاف في أن الله تعالى قادر على إنطاق الحجر الأصم من غير مخارج فلم لا يقدر سبحانه على التكلم إلا من المخارج؟!
واحتجوا بان الحروف يدخلها التعاقب فيسبق بعضها بعضا والجواب ان هذا إنما يلزم في حق من يتكلم بالمخارج والأدوات والله سبحانه لا يوصف بذلك وعلى ان هذا يعود إلى تشبيه الله تعالى بعباده فإنه لا يتصور في حقه إلا ما يتصور منهم وهو باطل في نفسه.
فإن قالوا فما دليلكم على أن هذه السور المشتملة على الحروف قرآن قلنا كتاب الله تعالى، وسنة نبيه ﷺ، وإجماع الأمة:
أما كتاب الله تعالى: فقوله سبحانه {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} [يس 69] فأخبر الله تعالى ان الذي سموه شعرا قرآن مبين وما ليس بحروف لا يجوز ان يكون شعرا عند أحد فلما ثبت أنهم سموه شعرا دل على أنه حروف وقال الله تعالى {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء 88] فأشار إلى حاضر وتحداهم بالإتيان بمثله ولا يجوز التحدي بما لا يعلم ولا يدرى ما هو وقال تعالى {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل} [النمل 76] وقال تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء 9] وقال تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} [الحشر 21] وقال تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص 29] وقال تعالى {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [يونس 15] وقال سبحانه {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال 31] وقال تعالى {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف 31] فأخبر الله تعالى عنهم أنهم طلبوا منه الإتيان بغيره أو تبديله ومرة أنهم ادعوا القدرة على ان يقولوا مثله ومرة قالوا لولا انزل على غيره علم يقينا أنه هذا الموجود عندنا الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات وقال الله تعالى {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فابى أكثر الناس إلا كفورا} [الاسراء 89] وقال {ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا} [الاسراء 41] وقال {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} [الكهف 54] وقال تعالى {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} [الزمر 27-28] وهذه إشارة إلى حاضر والذي صرفت فيه الأمثال إنما هو هذا القرآن العربي الذي يعرفه الناس قرآنا وسماه الله تعالى عربيا وهذا إنما يوصف به النظم الذي هو حروف دون ما لا يعرف ولا يدرى ما هو وقال تعالى {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا} [فصلت 3] وقال سبحانه {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء 192-195] وقال {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد} [طه 113] وقال {انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف 2] وقال {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} [الأحقاف 12] وهذه الآيات وأشباهها في كتاب الله تعالى كثير تدل بمجموعها على أن القرآن هذا الذي هو سور محكمات وآيات مفصلات وحروف وكلمات وإن تطرق احتمال بعضها فلا يتطرق إلى مجموعها.
وقال النبي ﷺ (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن هو حبل الله تعالى هو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول آلم حرف ولكن في الالف عشر وفي اللام عشر وفي الميم عشر). وروي ايضا عن ابن مسعود موقوفا عليه والسنة مشحونة بذلك.
والأمة مجمعة على أن هذا القرآن الذي لا تصح الصلاة الا به ولا تصح الخطبة إلا بآية منه ولا يقرأه حائض ولا جنب ولما اختلف اهل الحق والمعتزلة فقال أهل الحق القرآن كلام الله غير مخلوق وقالت المعتزلة هو مخلوق لم يكن اختلافهم في هذا الموجود دون ما في نفس الباري مما لا يدرى ما هو ولا نعرفه ولما أمر الله تعالى بترتيل القرآن بقوله سبحانه {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل 4] لم يفهم منه المسلمون إلا هذا الموجود ولما قال الوليد بن المغيرة {إن هذا إلا قول البشر} [المدثر 25] إنما أشار إلى هذا النظم فتوعده الله تعالى فقال {سأصليه سقر} [المدثر 26] ولما قالوا {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} [سبأ 31] إنما أشاروا إليه ولما قالوا {إن هذا الا أساطير الأولين} لم يعنوا غيره. ولو لم يكن هذا النظم قرآنا لوجب ان تبطل الصلاة به لأن النبي ﷺ قال (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)[4] فعلى قول هؤلاء المخذولين يكون القرآن الذي لا تصح الصلاة إلا به مبطلا لها لأنه ليس بقرآن وإنما هو تصنيف جبريل وهذه فضيحة لم يسبقوا إليها. وأجمع المسلمون على أن في القرآن ناسخا ومنسوخا وإنما يتعلق هذه النظم دون ما في النفس وأجمعوا على أن القرآن معجز للخلق عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله او سورة مثله وإنما يتعلق ذلك بهذا القرآن وهو هذا القرآن الذي اجمع عليه المسلمون وكفر به الكافرون وزعمت المعتزلة أنه مخلوق وأقر الاشعري أنهم مخطئون ثم عاد فقال هو مخلوق وليس بقرآن فزاد عليهم. ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن من جحد آية أو كلمة متفقا عليها أو حرفا متفقا عليه أنه كافر وقال علي رضي الله عنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله والأشعري يجحده كله ويقول ليس شيء منه قرآنا وإنما هو كلام جبريل ولا خلاف بين المسلمين كلهم في انهم يقولون قال الله كذا إذا أرادوا ان يخبروا عن آية أو يستشهدوا بكلمة من القرآن ويقرون كلهم بأن هذا قول الله وعند الأشعري ليس هذا قول الله وانما هو قول جبريل فكان ينبغي لهم أنهم يقولون قال جبريل أو قال النبي ﷺ إذا حكوا آية.
ثم إنهم قد أقروا ان القرآن كلام الله غير مخلوق فإذا لم يكن القرآن هذا الكتاب العربي الذي سماه الله قرآنا فما القرآن عندهم وبأي شيء علموا أن غير هذا يسمى قرآنا فإن تسمية القرآن إنما تعلم من الشرع أو النص فأما العقل فلا يقتضي تسمية صفة الله قرآنا وما ورد النص بتسميته القرآن إلا لهذا الكتاب ولا عرفت الأمة قرآنا غيره وتسميتهم غيره قرآنا تحكم بغير دليل شرعي ولا عقلي مخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ومدار القوم على القول بخلق القرآن ووفاق المعتزلة ولكن أحبوا ان لا يعلم بهم فارتكبوا مكابرة العيان وجحد الحقائق ومخالفة الإجماع ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهورهم والقول بشيء لم يقله قبلهم مسلم ولا كافر ومن العجب انهم لا يتجاسرون على إظهار قولهم ولا التصريح به إلا في الخلوات ولو أنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة وإذا حكيت عنهم مقالتهم التي يعتقدونها كرهوا ذلك وأنكروا وكابروا عليه ولا يتظاهرون إلا بتعظيم القرآن وتبجيل المصاحف والقيام لها عند رؤيتها وفي الخلوات يقولون ما فيها إلا الورق والمداد وأي شيء فيها، وهذا فعل الزنادقة.
ولقد حكيت عن الذي جرت المناظرة بيني وبينه بعض ما قاله فنقل إليه ذلك فغضب وشق عليه وهو من أكبر ولاة البلد وما أفصح لي بمقالته حتى خلوت معه وقال أريد ان أقول لك أقصى ما في نفسي وتقول لي اقصى ما في نفسك وصرح لي بمقالتهم على ما حكيناه عنهم ولما الزمته بعض الآيات الدالة على ان القرآن هو هذه السور قال وأنا أقول إن هذا قرآن ولكن ليس هو القرآن القديم قلت ولنا قرآنان قال نعم وأي شيء يكون إذا كان لنا قرآنان. ثم غضب لما حكيت عنه هذا القول وقال له بعض أصحابنا أنتم ولاة الأمر وأرباب الدولة فما الذي يمنعكم من إظهار مقالتكم لعامة الناس ودعاء الناس إلى القول بها بينهم فبهت ولم يجب إلي ولا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ولا يتجاسرون على إظهارها الا الزنادقة والأشعرية وقد امر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار الدين والدعاء اليه وتبليغ ما أنزل عليه فقال تعالى {يا ايها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} [المائدة 67] فإن كانت مقالتهم كما يزعمون هي الحق فهلا أظهروها ودعوا الناس إليها وكيف حل لهم كتمانها وإخفاؤها والتظاهر بخلافها وإيهام العام اعتقاد ما سواها بل لو كانت مقالتهم هي الحق الذي كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه والأئمة الذين بعدهم كيف لم يظهرها أحد منهم وكيف تواطأوا على كتمانها؟! أم كيف حل للنبي ﷺ كتمانها عن أمته وقد أمر بتبليغ ما انزل إليه وتوعد على إخفاء شىء منه بقوله {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}؟! أم كيف وسعه ان يوهم الخلق خلاف الحق؟! ثم هو ﷺ اشفق على أمته من أن يعلمه الله حقا ويأمره بتبليغه إلى أمته فيكتمه عنهم حتى يضلوا عنه. ثم إذا كتمه فمن الذى بلغه إلى الصحابة حتى اعتقدوه ودانوا به؟! وكيف تصور منهم ان يدينوا به ويتواطأوا على كتمانه حتى لا ينقل عن أحد منهم مع كثرتهم وتفرقهم في البلدان؟! فإن تصور ذلك منهم فمن الذي نقله إلى التابعين حتى اعتقدوه؟! فكل هذا من المستحيل الذي يقطع كل ذي لب بفساده ويعلم يقينا أن رسول الله ﷺ واصحابه وتابعيهم ما كانوا يعتقدون في القرآن اعتقادا سوى اعتقاد المسلمين وانه هذا القرآن العربي الذي هو سور وآيات وهذا أمر لا يخفى على غير من أضله الله.
وإن تصور في عقولهم أن الحق خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه والتابعين بعدهم وعلى الأئمة الذين مهدوا الدين واقتدوا بسلفهم واقتدوا بهم من بعدهم وغطي عنهم الصواب ولم يتبين لهم الصحيح إلى أن جاء الأشعري فبينه وأوضح ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته وكشفه فهذه عقول سخيفة وآراء ضعيفة إذ يتصور فيها أن يضيع الحق عن النبي ﷺ ويجده الأشعري ويغفل عنه كل الأمة وينتبه له دونهم وإن ساغ لهم هذا ساغ لسائر الكفار نسبتهم لنبينا عليه السلام وامته إلى أنهم ضاعوا عن الصواب وأضلوا عن الطريق وينبغي ان تكون شريعتهم غير شريعة محمد ﷺ ودينهم غير دين الإسلام لأن دين الإسلام هو الذي جاء به محمد ﷺ وهذا إنما جاء به الأشعري وإن رضوا هذا واعترفوا به خرجوا عن الإسلام بالكلية.
فإن قالوا فكيف قلتم إن القرآن حروف ولم يرد في كتاب ولا سنة ولا عن أحد من الأئمة قلنا قد ثبت ان القرآن هو هذه السور والآيات ولا خلاف بين العقلاء كلهم مسلمهم وكافرهم في أنها حروف ولا يختلف عاقلان في أن الحمد خمسة أحرف واتفق المسلمون كلهم في أن سورة الفاتحة سبع آيات واختلفوا في أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية منها أم لا واتفقوا كلهم على أنها كلمات وحروف وقد افتتح الله تعالى كثيرا من سور القرآن بالحروف المقطعة مثل آلم و آلر ولا يجحد عاقل كونها حروفا إلا على سبيل المكابرة وهذا أمر غير خاف على أحد فلا حاجة إلى الدليل عليه.
فإن قالوا لا يسوغ لكم أن تقولوا لفظة لم ترد في كتاب ولا سنة وإن كان معناها صحيحا ثابتا قلنا هذا خطأ فإنه لا خلاف في أنه يجوز أن يقال إن القرآن مائة واربع عشرة سورة وإن سورة البقرة مائتان وست وثمانون آية وفي عد آى سور القرآن وأحزابه وأسباعه وأعشاره ولم يرد لفظ في ذلك في كتاب ولا سنة على ان لفظ الحرف قد جاءت به السنة وأقوال الصحابة وإجماع الأمة فقال النبي ﷺ (من قرأ القرآن وأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف منه حسنة) وهذا حديث صحيح وقال النبي ﷺ (اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم) وقال ﷺ (أنزل القرآن على سبعة احرف) وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) وقال علي رضي الله عنه: (من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله) وقال ايضا: (تعلموا البقرة فإن بكل حرف منها حسنة والحسنة بعشرة أمثالها) وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من حلف بالقرآن فعليه بكل حرف كفارة) وقال ابن عمر: (إذا خرج أحدكم لحاجته ثم رجع إلى أهله فليأت المصحف فيفتحه فيقرا سورة فإن الله يكتب له بكل حرف عشر حسنات اما إني لا أقول الم ولكن الألف عشر واللام عشر والميم عشر) وقال الحسن البصري: (قراء القرآن ثلاثة فقوم حفظوا حروفه وضيعوا حدوده) وقال حذيفة وفضاله بن عبيج: (خذ علي المصحف ولا تردن علي ألفا ولا واوا) وذكر أبو عبيد وغيره من الأئمة في تصانيفهم "باب اختلافهم في حروف القرآن" واتفق أهل الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام على عدد حروف القرآن فعدها كل أهل مصر وقالوا عددها كذا وكذا وقال المسيب بن واضح: (قلت ليوسف بن اسباط حدثني ابو عمر الصنعاني حفص بن ميسرة قال القرآن ألفا ألف حرف واربعة وعشرون الف حرف فمن قرأ القرآن اعطي بكل حرف زوجة من الحور العين فقال لي يوسف بن أسباط وما يعجبك من ذلك حدثني محمد بن ابان العجلي عن عبد الاعلى عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال من قرأ القرآن أعطي بكل حرف زوجتين من الحور العين) ولم تزل هذه الأخبار وهذه اللفظة متداولة منقولة بين الناس لا ينكرها منكر ولا يختلف فيها أحد إلى ان جاء الأشعري فأنكرها وخالف الخلق كلهم مسلمهم وكافرهم ولا تأثير لقوله عند أهل الحق ولا تترك الحقائق وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة لقول الأشعري إلا من سلبه الله التوفيق وأعمى بصيرته واضله عن سواء السبيل.
وقالوا أيضا قد قلتم إن الله يتكلم بصوت ولم يأت كتاب ولا سنة قلنا بل قد ورد به الكتاب والسنة وإجماع أهل الحق أما الكتاب فقول الله تعالى {وكلم الله موسى تكليما} [النساء 164] وقوله تعالى {منهم من كلم الله} [البقرة 254] وقوله سبحانه وتعالى {وما كان لبشر ان يكلمه الله الآ وحيا أو من وراء حجاب} الآية [الشورى 51] وقوله تعالى {وإذ نادى ربك موسى} [الشعراء 10] ولا خلاف بيننا أن موسى سمع كلام الله من الله بغير واسطة ولا يسمع إلا الصوت فإن الصوت هو ما يتأتى سماعه وقد صح عن النبي ﷺ انه قال (إن الله يجمع الخلائق فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمع من قرب أنا الملك أنا الديان) وذكر عبد الله بن أحمد انه قال: (سالت ابي فقلت يا ابه إن الجهمية يزعمون ان الله لا يتكلم بصوت فقال كذبوا إنما يريدون على التعطيل، ثم قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال حدثنا سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه انه قال إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء) قال أبو نصر السجزي رحمه الله وهذا الخبر ليس في رواته إلا إمام مقبول وقد روي مرفوعا إلى النبي ﷺ.
وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام لما ناداه ربه يا موسى اجاب سريعا استئناسا بالصوت فقال: (لبيك اسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت قال انا فوقك وامامك ووراءك وعن يمينك وعن شمالك) فعلم ان هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى قال: (فكذلك انا يا رب أفكلامك أسمع أم كلام رسولك قال بل كلامي) وفي أثر آخر أن موسى عليه السلام لما ناجاه ربه ثم سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقر في مسامعه من كلام الله تعالى ومثله في الآثار كثير تناولته الأمة ولم ينكره إلا مبتدع لا يلتفت إليه.
فإن قالوا فالصوت لا يكون إلا من هواء بين جرمين قلنا هذا من الهذيان الذي اجبنا عن مثله في الحرف وقلنا إن هذا قياس منهم لربنا تبارك وتعالى على خلقه وتشبيه له بعباده وحكم عليه بأنه لا تكون صفته إلا كصفات مخلوقاته وهذا ضلال بعيد. ثم إنه يلزمهم مثل هذا في بقية الصفات على ما اسلفناه على ان معتمدنا في صفات الله تعالى إنما هو الاتباع نصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ولا نتعدى ذلك ولا نتجاوزه ولا نتأوله ولا نفسره ونعلم ان ما قال الله ورسوله حق وصدق ولا نشك فيه ولا نرتاب ونعلم ان لما قال الله ورسوله معنى هو به عالم فنؤمن به بالمعنى الذي اراده ونكل علمه إليه ونقول كما قال سلفنا الصالح وأئمتنا المقتدى بهم: آمنا بالله وما جاء عن الله على مراد الله وآمنا برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله نقول ما قال الله ورسوله ونسكت عما وراء ذلك نتبع ولا نبتدع بذلك أوصانا الله تعالى في كتابه وأوصانا رسول الله ﷺ في سنته وأوصانا به سلفنا رضي الله عنهم فقال الله تعالى {وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام 153] وقال تعالى {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر 55] وقال لرسوله عليه السلام {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران 31] وقال النبي ﷺ (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وقال عبد الله بن مسعود (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاما معناه (قف حيث وقف القوم فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد كفوا وهم كانوا على كشفها اقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون فلئن كان المهدي ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فما احدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ولقد وصفوا منه ما يكفي وتكلموا منه بما يشفي فما دونهم مقصر ولا فوقهم محسر لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا وإنهم من ذلك لعلى هدى مستقيم) وقال الأوزاعي رحمه الله: (عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول).
ولم يزل السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والأئمة بعدهم يعظمون هذا القرآن ويعتقدون أنه كلام الله ويتقربون إلى الله بقراءته ويقولون إنه غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر ولما وقعت الفتنة وظهرت المعتزلة ودعوا إلى القول بخلق القرآن ثبت أهل الحق حتى قتل بعضهم وحبس بعضهم وضرب بعضهم فمنهم من ضعف فأجاب تقية وخوفا على نفسه ومنهم من قوي إيمانه وبذل نفسه لله واحتسب ما يصيبه في جنب الله ولم يزل على السنة إلى أن كشف الله تعالى تلك الفتنة وازال تلك المحنة وقمع أهل البدعة.
واتفق أهل السنة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ولم يكن القرآن الذى دعوا إلى القول بخلقه سوى هذه السور التي سماها الله قرآنا عربيا وأنزلها على رسوله عليه السلام ولم يقع الخلاف في غيرها البتة وعند الأشعري أنها مخلوقة فقوله قول المعتزلة لا محالة إلا أنه يريد التلبيس فيقول في الظاهر قولا يوافق أهل الحق ثم يفسره بقول المعتزلة فمن ذلك أنه يقول القرآن مقروء متلو محفوظ مكتوب مسموع ثم يقول القرآن في نفس الباري قائم به ليس هو سورا ولا آيات ولا حروفا ولا كلمات فكيف يتصور إذا قراءته وسماعه وكتابته ويقولون إن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت ويقولون إن القرآن مكتوب في المصاحف ثم يقولون ليس فيها إلا الحبر والورق فإن كانت كما زعموا فلم لا يمسها الا المطهرون وما رأينا المحدث يمنع من مس حبر ولا ورق ولم تجب الكفارة على الحالف بالمصحف إذا حنث.
ومن قال إنه ليس في المصحف إلا الحبر والورق لزمه التسوية بين المصحف وبين ديوان ابن الحجاج لأنه إذا لم يكن بين كل واحد منهما غير الحبر والورق فقد تساويا فيجب تساويهما في الحكم هذا مع ردهم على الله تعالى وعلى رسوله وخرقهم لإجماع الأمة فإن الله تعالى قال {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين} [الواقعة 75-80] فأقسم الله تعالى أنه قرآن كريم في كتاب مكنون فردوا عليه وقالوا ما في الكتاب إلا الحبر والورق وقال الله تعالى {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج 21-22] وقال سبحانه {والطور وكتاب مسطور في رق منشور} [الطور 1-3] وقال ﷺ: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم) يريد المصاحف التي فيها القرآن واتفق المسلمون كلهم على تعظيم المصحف وتبجيله وتحريم مسه على المحدث أن من حلف به فحنث فعليه الكفارة ولا تجب الكفارة بالحلف بمخلوق.
وذكر بعض المبتدعة أنه إنما وجبت الكفارة على الحالف لاعتقاد العامة أن فيه كلام الله وهذه غفلة منه فإن هذا الحكم من لدن النبي ﷺ لم يتجدد الآن فإن أقر أن عامة أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا يعتقدون أن فيه كلام الله تعالى وأقرهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصوبهم فيه فهو الحق الذي لا شك فيه ولا يحل خلافه وإن قال إنهم كانوا يعتقدون ذلك ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم فكيف علم هو وكيف علم هو من أحوال أصحاب رسول الله ﷺ ومن اعتقاداتهم ما يخفى على رسول الله ﷺ وهو بين أظهرهم وعنه يأخذون وإليه يرجعون وبه يقتدون وعنه يصدرون ثم هل كانوا مصيبين في اعتقادهم أو مخطئين فإن كانوا مخطئين فقد اعتقد ان أصحاب رسول الله ﷺ كانوا ضلالا ومن بعدهم وأنه هو أصاب بمخالفتهم وكيف يجوز أن يكون أصحاب رسول الله ﷺ اتفقوا على اعتقاد الخطأ والضلال والباطل وأخطأوا الحق وتبعهم من بعدهم على ذلك إلى أن جاء هذا الجاهل بزعمه فعرف الصواب وعرف خطأ من كان قبله ثم هذا إقرار بأن مقالته بدعة حادثة خالف بها أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين بعدهم وهو الذي يقوله عنهم وبدعته فيهم.
وإن زعم أن أهل عصر النبي ﷺ لم يكونوا يعتقدون هذا وإنما حدث بعدهم فلم يثبت هذا الحكم في عصرهم ولم وجبت الكفارة على الحالف بالورق والحبر ولا خلاف بين المسلمين أنه لا تجب كفارة بالحلف بورق ولا حبر ولا مخلوق ثم متى حدث هذا الاعتقاد وفي أي عصر وما علمنا الحادث إلا قولهم الخبيث المخالف للأمة وللكتاب والسنة ثم كيف يحل أن يوهموا العامة ما يقوى به اعتقادهم الذي يزعمون أنه بدعة من تعظيمهم للمصاحف في الظاهر واحترامها عند الناس وربما قاموا عند مجيئها وقبلوها ووضعوها على رؤوسهم ليوهموا الناس أنهم يعتقدون فيها القرآن وربما امروا من توجبت عليه يمين في الحكم بالحلف بالمصحف إيهاما له أن الذي يحلف به هو القرآن العظيم والكتاب الكريم وهذا عندهم اعتقاد باطل فكيف يحل لهم أن يتظاهروا به ويضمرون خلافه وهذا هو النفاق في عهد رسول الله ﷺ وهو الزندقة اليوم وهو أن يظهر موافقة المسلمين في اعتقادهم ويضمر خلاف ذلك وهذا حال هؤلاء القوم لا محالة فهم زنادقة بغير شك فإنه لا شك في أنهم يظهرون تعظيم المصاحف إيهاما أن فيها القرآن ويعتقدون في الباطن أنه ليس فيها إلا الورق والمداد ويظهرون تعظيم القرآن ويجتمعون لقراءته في المحافل والأعرية ويعتقدون أنه من تأليف جبريل وعبارته ويظهرون أن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت ويقولون في أذانهم وصلواتهم أشهد ان محمدا رسول الله ويعتقدون أنه انقطعت رسالته ونبوته بموته وأنه لم يبق رسول الله وإنما كان رسول الله في حياته وحقيقة مذهبهم أنه ليس في السماء إله ولا في الأرض قرآن ولا أن محمدا رسول الله وليس في أهل البدع كلهم من يتظاهر بخلاف ما يعتقده غيرهم وغير من أشبههم من الزنادقة.
ومن العجب أن إمامهم الذي أنشأ هذه البدعة رجل لم يعرف بدين ولا ورع ولا شيء من علوم الشريعة البتة ولا ينسب إليه من العلم إلا علم الكلام المذموم وهم يعترفون بأنه أقام على الاعتزال أربعين عاما ثم أظهر الرجوع عنه فلم يظهر منه بعد التوبة سوى هذه البدعة فكيف تصور في عقولهم أن الله لا يوفق لمعرفة الحق إلا عدوه ولا يجعل الهدى إلا مع من ليس له في علم الاسلام نصيب ولا في الدين حظ ثم إن هذه البدعة مع ظهور فسادها وزيادة قبحها قد انتشرت انتشارا كثيرا وظهرت ظهورا عظيما وأظنها آخر البدع وأخبثها وعليها تقوم الساعة وأنها لا تزداد إلا كثرة وانتشارا؛ فإن نبينا ﷺ أخبرنا أن في آخر الزمان تكثر البدع وتموت السنن ويغرب الدين وأن الدنيا لا تزداد إلا إدبارا وأنه يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وأنه يقل أهل الحق إلا أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وأنه يعظم ثوابهم ويكثر أجرهم وشبه النبي ﷺ الدين في آخره بأول ابتدائه في غربته وقلة أهله فقال ﷺ: (بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ ثم جمع بينهم في أن لهم طوبى فقال فطوبى للغرباء) ثم فضل المتأخرين في بعض الأخبار فقال في حديث (يأتي على الناس زمان يكون للقائمين بالكتاب والسنة مثل اجر خمسين شهيدا قالوا يا رسول الله منا أو منهم قال منكم) وهذا فضل عظيم وذلك والله أعلم لعظم نفعهم وصعوبة الأمر عليهم وكثرة أعدائهم وتألبهم عليهم وقلة أنصارهم وقد جاء في خبر (يأتي على الناس زمان يكون المتمسك بدينه كالقابض على الجمر) فهذه الصعوبة هي الموجبة لذلك الأجر ثبتنا الله على الإسلام والسنة وأحيانا عليها وأماتنا عليها وحشرنا عليها.
ومن العجب أن أهل البدع يستدلون على كونهم أهل الحق بكثرتهم وكثرة أموالهم وجاههم وظهورهم ويستدلون على بطلان السنة بقلة أهلها وغربتهم وضعفهم فيجعلون ما جعله النبي ﷺ دليل الحق وعلامة السنة دليل الباطل فإن النبي ﷺ أخبرنا بقلة أهل الحق في آخر الزمان وغربتهم وظهور أهل البدع وكثرتهم ولكنهم سلكوا سبيل الأمم في استدلالهم على أنبيائهم وأصحاب أنبيائهم بكثرة أموالهم وأولادهم وضعف أهل الحق فقال قوم نوح له {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} [هود 27] وقال قوم صالح فيما أخبر الله عنهم بقوله {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما ارسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} [الأعراف 75-76] وقال قوم نبينا ﷺ {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبأ 35] وقال الله تعالى {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} [الأنعام 53] {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} [الأحقاف 11] ونسوا قول الله تعالى {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} [الرعد 26] وقوله سبحانه {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} [الكهف 28] وقوله سبحانه {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} الآيات كلها [الكهف 32-40] وقوله {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} [الحجر 88] وقال تعالى {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} [الزخرف 33-35].
وقد كان قيصر ملك الروم وهو كافر أهدى منهم فإنه حين بلغه كتاب النبي ﷺ سأل عنه ابا سفيان فقال (يتبعه ضعفاء الناس أو أقوياؤهم فقال بل ضعفاؤهم) فكان هذا مما استدل به على أنه رسول الله ﷺ فقال (إنهم أتباع الرسل في كل عصر وزمان) وفي الآثار أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه تعالى قال له (يا موسى لا يغرنكما زينة فرعون ولا ما متع به فإنني لو شئت أن أزينكما بزينة يعلم فرعون أن مقدرته تعجز عن أقل ما أوتيتما لفعلت ولكنني أضن بكما عن ذلك وأزويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائي وقديما ما خرت لهم إني لأذودهم عن الدنيا كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وإني لأجنبهم سلوتها ونعيمها كما يجنب الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من الآخرة سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطغه الهوى) وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه (دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بمشربة له فرفع رأسه في البيت فلم ير فيه إلا اهبة ثلاثة والنبي ﷺ متكىء على رمال حصير وما بينه وبينه شيء قد اثر في جنبه فقلت يا رسول الله وأنت على هذه الحال وفارس والروم وهم لا يعبدون الله لهم الدنيا فجلس النبي صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه ثم قال افي شك أنت يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) هذا معنى الخبر ثبتنا الله وإياكم على الإسلام والسنة وجنبنا الكفر والبدعة وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وجعلنا من الراشدين.
وقد أنشد ابو الحسن علي بن ابي بكر الطرازي فيهم:
دعوني من حديث بني اللتيا ....... ومن قوم بضاعتهم كلام
تفاريق العصا من كل أوب ....... إذا ذكروا وليس لهم إمام
إذا سئلوا عن الجبار مالوا ....... إلى التعطيل وافتضح اللئام
وإن سئلوا عن القرآن قالوا ....... يقول بخلقه بشر كرام
كلام الله ليس له حروف ....... ولا في قوله الف ولام
ولو قيل النبوة كيف صارت ....... لقالوا تلك طار بها الحمام
إذا قبض النبي فكيف تبقى ....... نبوته فديتك والسلام
فهذا دينهم فاعلم يقينا ....... وليس على مهجنهم ملام
لهم زجل وتوحيد جديد ....... أبى الإسلام ذلك والأنام
وزمزمة وهينمة وطيش ....... كأنهم دجاج أو حمام
وإزراء بأهل الحق ظلما ....... وتلقيب وتشنيع مدام
وقول الملحدين وإن تعاووا ....... عواء البين ليس له نظام
فصبرا يا بني الأحرار صبرا ....... فإن الظلم ليس له دوام
وأن الحق أبلج لا يضام ....... وقول الزور آخره غرام
آخره. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.
هامش
متفق عليه
متفق عليه بلفظ (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه).
صحيح البخاري.
"السنن الصغير" للبيهقي، و"سنن النسائي" وصححه الألباني.
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم الفقيه موفق الدين شيخ الاسلام مفتي الأنام سيد العلماء أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي وآله أجمعين أما بعد فإنه تكرر سؤال بعض أصحابنا عن حكاية مناظرة جرت بيني وبين بعض أهل البدعة في القرآن فخفت من الزيادة والنقصان فرأيت أن أذكر ذلك على غير سبيل الحكاية كي لا تكون الزيادة في الحجج والأجوبة عن شبههم كذبا مع تضمن ذلك لأكثر ما جرى إن شاء الله سبحانه والله الموفق والمعين وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فنقول: موضع الخلاف أننا نعتقد أن القرآن كلام الله وهو هذه المائة والأربع عشرة سورة أولها سورة الفاتحة وآخرها المعوذات وانه سور وايات وحروف وكلمات متلو مسموع مكتوب وعندهم أن هذه السور والآيات ليست بقرآن وإنما هي عبارة عنه وحكاية وانها مخلوقة وأن القرآن معنى في نفس الباري وهو شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتعدد ولا هو شيء ينزل ولا يتلى ولا يسمع ولا يكتب وأنه ليس في المصاحف إلا الورق والمداد.
واختلفوا في هذه السور التي هي القرآن فزعم بعضهم انها عبارة جبريل عليه السلام هو الذي ألفها بإلهام الله تعالى له ذلك وزعم آخرون منهم أن الله تعالى خلقها في اللوح المحفوظ فأخذها جبريل منه واحتجوا على كون هذه السور مخلوقة بأنها تتعدد ولا يتعدد إلا المخلوق وهذا يبطل بصفات الله تعالى فإنها صفات متعددة منها السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة والحياة والكلالام ولا خلاف في أنها قديمة وكذلك أسماء الله تعالى فإنها متعددة قال الله تعالى {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه} [الاعراف 180] وقال النبي ﷺ (إن لله تعالى تسعة تسعون اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة)[1] فثبت تعدادها بالكتاب والسنة الإجماع وهي قديمة. وقد نص الشافعي رحمه الله على أن أسماء الله تعالى غير مخلوقة، وقال احمد رحمه الله: من زعم ان اسماء الله تعالى مخلوقة فقد كفر، وكذلك كلمات الله تعالى متعددة قال الله تعالى {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف 109] وهي قديمة وكذلك كتب الله تعالى فإن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن متعددة وهي غير مخلوقة وإن قالوا هي مخلوقة فقد قالوا بخلق القرآن وهو قول المعتزلة وقد اتفقنا على ضلالهم واتفق المنتمون إلى السنة على ان القائل بخلق القرآن كافر. منهم من قال كفر ينقل عن الملة ومنهم من قال لا ينقله عنها فمتى قالوا بخلق القرآن وغيره من كتب الله تعالى فقد قالوا بقول أقروا بكفر قائله وإن أقروا بها غير مخلوقة وهي متعددة فقد بطل قولهم وان قالوا هى شيء واحد غير متعددة فقد كابروا ويجب على هذا أن تكون التوراة هي القرآن والإنجيل والزبور وأن موسى لما أنزلت عليه التوراة فقد انزل عليه كل كتاب لله تعالى وان نبينا عليه السلام لما أنزل عليه القرآن فقد أنزلت عليه التوراة والإنجيل والزبور وأن من قرأ آية من القرآن فقد قرأ كل كتاب الله تعالى ومن حفظ شيئا منه فقد حفظه كله ويجب على هذا ان لا يتعب احد في حفظ القرآن لأنه يحصل له حفظ كل كتاب لله تعالى بحفظ آية منه ويجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه آية من القرآن انزل عليه جميعه وجميع التوراة والإنجيل والزبور وهذا خزي على قائله ومكابرة لنفسه ويجب على هذا أن يكون الأمر هو النهي والإثبات هو النفي وقصة نوح هي قصة هود ولوط واحد الضدين هو الآخر وهذا قول من لا يستحيي ويشبه قول السوفسطائية وقد بلغني عن واحد منهم أنه قيل له سورة البقرة هي سورة آل عمران قال نعم.
وإن قالوا إن كلام الله تعالى هو هذه الكتب وإن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن كلام الله تعالى القديم لكن لم ينزل منه شيء على الأنبياء ولا هو شي يحفظ ولا يتلى ولا يسمع وإنما أنزل عبارته كذبهم القرآن والسنة وإجماع الأمة فإنه لا خلاف بين المسلمين كلهم ان القرآن أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وان التوراة انزلت على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود والله تعالى يقول آلر تلك آيات الكتاب المبين {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف 1 2] وقال سبحانه {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة 185] وقال تعالى {وأنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء 192 194] وقال سبحانه {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة} [الفرقان 32] {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف 31] وقال سبحانه {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الاسراء 82] وقال الله تعالى {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحجر 87] وقال تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك} [ص 29] وقال {وهذا كتاب أنزلناه مبارك} [الأنعام 155 و 92] ومثل هذا كثير وقد أكفر الله تعالى اليهود بقولهم {ما أنزل الله على بشر من شيء} ثم قال {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} ثم قال {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام 91] وقال تعالى {وهو الذي انزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} [الأنعام 114] وقال سبحانه {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات الآية} [آل عمران 7] ومثل هذا كثير وقال النبي ﷺ (انزل القرآن على سبعة احرف)[2] والسنة مملوءة منه.
فإن قالوا فكتاب الله غير القرآن قلنا خالفتم رب العالمين وخرقتم إجماع المسلمين وجئتم بما لم يأت به احد من الملحدين فإنه لا خلاف بين المسلمين ان كتاب الله هو القرآن العظيم المنزل على سيد المرسلين بلسان عربي مبين والله تعالى قد أخبر بذلك فقال سبحانه {آلر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا} [يوسف 1-2] وقال {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}[ الزخرف 1-3] وقال سبحانه حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} [فصلت 1-3] وقال سبحانه {وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا انا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى} [الأحقاف 29-30] فسموه قرآنا وكتابا وقال في موضع آخر {فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به} [الجن 1-2] ولا يخفى هذا إلا على من أعمى الله قلبه واضله عن سبيله {ومن يضلل الله فما له من هاد} [الرعد 33 و الزمر 36 و 23 غافر 33].
واحتجوا ايضا بأن هذه الحروف لا تخرج إلا من مخارج وأدوات فلا يجوز إضافة ذلك إلى الله سبحانه. والجواب عن هذا من أوجه:
أحدها: ما الدليل على ان الحروف لا تكون الا من مخارج وأدوات فإن قالوا لأننا لا نقدر على النطق بها إلا من مخارج وأدوات فكذلك الله رب العالمين قلنا هذا قياس لله تعالى على خلقه وتشبيه له بعباده وإلحاق لصفاتهم بصفاته وهذا من أقبح الكفر وقد اتفقنا على أن الله تعالى لا يشبه بخلقه وأنه {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} [الشورى 11].
الثاني: ان هذا باطل بسائر صفات الله تعالى فإن العلم لا يكون في حقنا إلا بقلب والسمع لا يكون إلا من انخراق والبصر لا يكون إلا من حدقة والله تعالى عالم سميع بصير ولا يوصف بذلك فإن نفيتم الكلام لافتقاره في زعمكم إلى المخارج والأدوات فيلزمكم نفي سائر الصفات وإن أثبتم له الصفات ونفيتم عنه الأدوات لزمكم مثل ذلك في الكلام وإلا فما الفرق بينهما.
الثالث: إن الله تعالى أنطق بعض مخلوقاته بغير مخارج فإنه قال تعالى {وتكلمنا ايديهم وتشهد أرجلهم} [يس 65] وقال تعالى {حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وابصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء} [فصلت 20-21] واخبر عن السماء والأرض أنهما {قالتا أتينا طائعين} [فصلت 11] وأخبر النبي ﷺ أن حجرا كان يسلم عليه وسبح الحصى في يديه، وقال ابن مسعود: (كنا نسمع تسيبح الطعام وهو يؤكل)[3] ولا خلاف في أن الله تعالى قادر على إنطاق الحجر الأصم من غير مخارج فلم لا يقدر سبحانه على التكلم إلا من المخارج؟!
واحتجوا بان الحروف يدخلها التعاقب فيسبق بعضها بعضا والجواب ان هذا إنما يلزم في حق من يتكلم بالمخارج والأدوات والله سبحانه لا يوصف بذلك وعلى ان هذا يعود إلى تشبيه الله تعالى بعباده فإنه لا يتصور في حقه إلا ما يتصور منهم وهو باطل في نفسه.
فإن قالوا فما دليلكم على أن هذه السور المشتملة على الحروف قرآن قلنا كتاب الله تعالى، وسنة نبيه ﷺ، وإجماع الأمة:
أما كتاب الله تعالى: فقوله سبحانه {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} [يس 69] فأخبر الله تعالى ان الذي سموه شعرا قرآن مبين وما ليس بحروف لا يجوز ان يكون شعرا عند أحد فلما ثبت أنهم سموه شعرا دل على أنه حروف وقال الله تعالى {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على ان يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء 88] فأشار إلى حاضر وتحداهم بالإتيان بمثله ولا يجوز التحدي بما لا يعلم ولا يدرى ما هو وقال تعالى {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل} [النمل 76] وقال تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء 9] وقال تعالى {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل} [الحشر 21] وقال تعالى {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته} [ص 29] وقال تعالى {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي} [يونس 15] وقال سبحانه {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الأنفال 31] وقال تعالى {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف 31] فأخبر الله تعالى عنهم أنهم طلبوا منه الإتيان بغيره أو تبديله ومرة أنهم ادعوا القدرة على ان يقولوا مثله ومرة قالوا لولا انزل على غيره علم يقينا أنه هذا الموجود عندنا الذي هو سور وآيات وحروف وكلمات وقال الله تعالى {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فابى أكثر الناس إلا كفورا} [الاسراء 89] وقال {ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا} [الاسراء 41] وقال {ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا} [الكهف 54] وقال تعالى {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} [الزمر 27-28] وهذه إشارة إلى حاضر والذي صرفت فيه الأمثال إنما هو هذا القرآن العربي الذي يعرفه الناس قرآنا وسماه الله تعالى عربيا وهذا إنما يوصف به النظم الذي هو حروف دون ما لا يعرف ولا يدرى ما هو وقال تعالى {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا} [فصلت 3] وقال سبحانه {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء 192-195] وقال {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد} [طه 113] وقال {انا انزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف 2] وقال {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} [الأحقاف 12] وهذه الآيات وأشباهها في كتاب الله تعالى كثير تدل بمجموعها على أن القرآن هذا الذي هو سور محكمات وآيات مفصلات وحروف وكلمات وإن تطرق احتمال بعضها فلا يتطرق إلى مجموعها.
وقال النبي ﷺ (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن هو حبل الله تعالى هو النور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول آلم حرف ولكن في الالف عشر وفي اللام عشر وفي الميم عشر). وروي ايضا عن ابن مسعود موقوفا عليه والسنة مشحونة بذلك.
والأمة مجمعة على أن هذا القرآن الذي لا تصح الصلاة الا به ولا تصح الخطبة إلا بآية منه ولا يقرأه حائض ولا جنب ولما اختلف اهل الحق والمعتزلة فقال أهل الحق القرآن كلام الله غير مخلوق وقالت المعتزلة هو مخلوق لم يكن اختلافهم في هذا الموجود دون ما في نفس الباري مما لا يدرى ما هو ولا نعرفه ولما أمر الله تعالى بترتيل القرآن بقوله سبحانه {ورتل القرآن ترتيلا} [المزمل 4] لم يفهم منه المسلمون إلا هذا الموجود ولما قال الوليد بن المغيرة {إن هذا إلا قول البشر} [المدثر 25] إنما أشار إلى هذا النظم فتوعده الله تعالى فقال {سأصليه سقر} [المدثر 26] ولما قالوا {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه} [سبأ 31] إنما أشاروا إليه ولما قالوا {إن هذا الا أساطير الأولين} لم يعنوا غيره. ولو لم يكن هذا النظم قرآنا لوجب ان تبطل الصلاة به لأن النبي ﷺ قال (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)[4] فعلى قول هؤلاء المخذولين يكون القرآن الذي لا تصح الصلاة إلا به مبطلا لها لأنه ليس بقرآن وإنما هو تصنيف جبريل وهذه فضيحة لم يسبقوا إليها. وأجمع المسلمون على أن في القرآن ناسخا ومنسوخا وإنما يتعلق هذه النظم دون ما في النفس وأجمعوا على أن القرآن معجز للخلق عجزوا عن الإتيان بعشر سور مثله او سورة مثله وإنما يتعلق ذلك بهذا القرآن وهو هذا القرآن الذي اجمع عليه المسلمون وكفر به الكافرون وزعمت المعتزلة أنه مخلوق وأقر الاشعري أنهم مخطئون ثم عاد فقال هو مخلوق وليس بقرآن فزاد عليهم. ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن من جحد آية أو كلمة متفقا عليها أو حرفا متفقا عليه أنه كافر وقال علي رضي الله عنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله والأشعري يجحده كله ويقول ليس شيء منه قرآنا وإنما هو كلام جبريل ولا خلاف بين المسلمين كلهم في انهم يقولون قال الله كذا إذا أرادوا ان يخبروا عن آية أو يستشهدوا بكلمة من القرآن ويقرون كلهم بأن هذا قول الله وعند الأشعري ليس هذا قول الله وانما هو قول جبريل فكان ينبغي لهم أنهم يقولون قال جبريل أو قال النبي ﷺ إذا حكوا آية.
ثم إنهم قد أقروا ان القرآن كلام الله غير مخلوق فإذا لم يكن القرآن هذا الكتاب العربي الذي سماه الله قرآنا فما القرآن عندهم وبأي شيء علموا أن غير هذا يسمى قرآنا فإن تسمية القرآن إنما تعلم من الشرع أو النص فأما العقل فلا يقتضي تسمية صفة الله قرآنا وما ورد النص بتسميته القرآن إلا لهذا الكتاب ولا عرفت الأمة قرآنا غيره وتسميتهم غيره قرآنا تحكم بغير دليل شرعي ولا عقلي مخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ومدار القوم على القول بخلق القرآن ووفاق المعتزلة ولكن أحبوا ان لا يعلم بهم فارتكبوا مكابرة العيان وجحد الحقائق ومخالفة الإجماع ونبذ الكتاب والسنة وراء ظهورهم والقول بشيء لم يقله قبلهم مسلم ولا كافر ومن العجب انهم لا يتجاسرون على إظهار قولهم ولا التصريح به إلا في الخلوات ولو أنهم ولاة الأمر وأرباب الدولة وإذا حكيت عنهم مقالتهم التي يعتقدونها كرهوا ذلك وأنكروا وكابروا عليه ولا يتظاهرون إلا بتعظيم القرآن وتبجيل المصاحف والقيام لها عند رؤيتها وفي الخلوات يقولون ما فيها إلا الورق والمداد وأي شيء فيها، وهذا فعل الزنادقة.
ولقد حكيت عن الذي جرت المناظرة بيني وبينه بعض ما قاله فنقل إليه ذلك فغضب وشق عليه وهو من أكبر ولاة البلد وما أفصح لي بمقالته حتى خلوت معه وقال أريد ان أقول لك أقصى ما في نفسي وتقول لي اقصى ما في نفسك وصرح لي بمقالتهم على ما حكيناه عنهم ولما الزمته بعض الآيات الدالة على ان القرآن هو هذه السور قال وأنا أقول إن هذا قرآن ولكن ليس هو القرآن القديم قلت ولنا قرآنان قال نعم وأي شيء يكون إذا كان لنا قرآنان. ثم غضب لما حكيت عنه هذا القول وقال له بعض أصحابنا أنتم ولاة الأمر وأرباب الدولة فما الذي يمنعكم من إظهار مقالتكم لعامة الناس ودعاء الناس إلى القول بها بينهم فبهت ولم يجب إلي ولا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ولا يتجاسرون على إظهارها الا الزنادقة والأشعرية وقد امر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار الدين والدعاء اليه وتبليغ ما أنزل عليه فقال تعالى {يا ايها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} [المائدة 67] فإن كانت مقالتهم كما يزعمون هي الحق فهلا أظهروها ودعوا الناس إليها وكيف حل لهم كتمانها وإخفاؤها والتظاهر بخلافها وإيهام العام اعتقاد ما سواها بل لو كانت مقالتهم هي الحق الذي كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه والأئمة الذين بعدهم كيف لم يظهرها أحد منهم وكيف تواطأوا على كتمانها؟! أم كيف حل للنبي ﷺ كتمانها عن أمته وقد أمر بتبليغ ما انزل إليه وتوعد على إخفاء شىء منه بقوله {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}؟! أم كيف وسعه ان يوهم الخلق خلاف الحق؟! ثم هو ﷺ اشفق على أمته من أن يعلمه الله حقا ويأمره بتبليغه إلى أمته فيكتمه عنهم حتى يضلوا عنه. ثم إذا كتمه فمن الذى بلغه إلى الصحابة حتى اعتقدوه ودانوا به؟! وكيف تصور منهم ان يدينوا به ويتواطأوا على كتمانه حتى لا ينقل عن أحد منهم مع كثرتهم وتفرقهم في البلدان؟! فإن تصور ذلك منهم فمن الذي نقله إلى التابعين حتى اعتقدوه؟! فكل هذا من المستحيل الذي يقطع كل ذي لب بفساده ويعلم يقينا أن رسول الله ﷺ واصحابه وتابعيهم ما كانوا يعتقدون في القرآن اعتقادا سوى اعتقاد المسلمين وانه هذا القرآن العربي الذي هو سور وآيات وهذا أمر لا يخفى على غير من أضله الله.
وإن تصور في عقولهم أن الحق خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه والتابعين بعدهم وعلى الأئمة الذين مهدوا الدين واقتدوا بسلفهم واقتدوا بهم من بعدهم وغطي عنهم الصواب ولم يتبين لهم الصحيح إلى أن جاء الأشعري فبينه وأوضح ما خفي على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته وكشفه فهذه عقول سخيفة وآراء ضعيفة إذ يتصور فيها أن يضيع الحق عن النبي ﷺ ويجده الأشعري ويغفل عنه كل الأمة وينتبه له دونهم وإن ساغ لهم هذا ساغ لسائر الكفار نسبتهم لنبينا عليه السلام وامته إلى أنهم ضاعوا عن الصواب وأضلوا عن الطريق وينبغي ان تكون شريعتهم غير شريعة محمد ﷺ ودينهم غير دين الإسلام لأن دين الإسلام هو الذي جاء به محمد ﷺ وهذا إنما جاء به الأشعري وإن رضوا هذا واعترفوا به خرجوا عن الإسلام بالكلية.
فإن قالوا فكيف قلتم إن القرآن حروف ولم يرد في كتاب ولا سنة ولا عن أحد من الأئمة قلنا قد ثبت ان القرآن هو هذه السور والآيات ولا خلاف بين العقلاء كلهم مسلمهم وكافرهم في أنها حروف ولا يختلف عاقلان في أن الحمد خمسة أحرف واتفق المسلمون كلهم في أن سورة الفاتحة سبع آيات واختلفوا في أن بسم الله الرحمن الرحيم هل هي آية منها أم لا واتفقوا كلهم على أنها كلمات وحروف وقد افتتح الله تعالى كثيرا من سور القرآن بالحروف المقطعة مثل آلم و آلر ولا يجحد عاقل كونها حروفا إلا على سبيل المكابرة وهذا أمر غير خاف على أحد فلا حاجة إلى الدليل عليه.
فإن قالوا لا يسوغ لكم أن تقولوا لفظة لم ترد في كتاب ولا سنة وإن كان معناها صحيحا ثابتا قلنا هذا خطأ فإنه لا خلاف في أنه يجوز أن يقال إن القرآن مائة واربع عشرة سورة وإن سورة البقرة مائتان وست وثمانون آية وفي عد آى سور القرآن وأحزابه وأسباعه وأعشاره ولم يرد لفظ في ذلك في كتاب ولا سنة على ان لفظ الحرف قد جاءت به السنة وأقوال الصحابة وإجماع الأمة فقال النبي ﷺ (من قرأ القرآن وأعربه فله بكل حرف منه عشر حسنات ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف منه حسنة) وهذا حديث صحيح وقال النبي ﷺ (اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمون حروفه إقامة السهم لا يجاوز تراقيهم) وقال ﷺ (أنزل القرآن على سبعة احرف) وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: (إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه) وقال علي رضي الله عنه: (من كفر بحرف من القرآن فقد كفر به كله) وقال ايضا: (تعلموا البقرة فإن بكل حرف منها حسنة والحسنة بعشرة أمثالها) وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من حلف بالقرآن فعليه بكل حرف كفارة) وقال ابن عمر: (إذا خرج أحدكم لحاجته ثم رجع إلى أهله فليأت المصحف فيفتحه فيقرا سورة فإن الله يكتب له بكل حرف عشر حسنات اما إني لا أقول الم ولكن الألف عشر واللام عشر والميم عشر) وقال الحسن البصري: (قراء القرآن ثلاثة فقوم حفظوا حروفه وضيعوا حدوده) وقال حذيفة وفضاله بن عبيج: (خذ علي المصحف ولا تردن علي ألفا ولا واوا) وذكر أبو عبيد وغيره من الأئمة في تصانيفهم "باب اختلافهم في حروف القرآن" واتفق أهل الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام على عدد حروف القرآن فعدها كل أهل مصر وقالوا عددها كذا وكذا وقال المسيب بن واضح: (قلت ليوسف بن اسباط حدثني ابو عمر الصنعاني حفص بن ميسرة قال القرآن ألفا ألف حرف واربعة وعشرون الف حرف فمن قرأ القرآن اعطي بكل حرف زوجة من الحور العين فقال لي يوسف بن أسباط وما يعجبك من ذلك حدثني محمد بن ابان العجلي عن عبد الاعلى عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال من قرأ القرآن أعطي بكل حرف زوجتين من الحور العين) ولم تزل هذه الأخبار وهذه اللفظة متداولة منقولة بين الناس لا ينكرها منكر ولا يختلف فيها أحد إلى ان جاء الأشعري فأنكرها وخالف الخلق كلهم مسلمهم وكافرهم ولا تأثير لقوله عند أهل الحق ولا تترك الحقائق وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة لقول الأشعري إلا من سلبه الله التوفيق وأعمى بصيرته واضله عن سواء السبيل.
وقالوا أيضا قد قلتم إن الله يتكلم بصوت ولم يأت كتاب ولا سنة قلنا بل قد ورد به الكتاب والسنة وإجماع أهل الحق أما الكتاب فقول الله تعالى {وكلم الله موسى تكليما} [النساء 164] وقوله تعالى {منهم من كلم الله} [البقرة 254] وقوله سبحانه وتعالى {وما كان لبشر ان يكلمه الله الآ وحيا أو من وراء حجاب} الآية [الشورى 51] وقوله تعالى {وإذ نادى ربك موسى} [الشعراء 10] ولا خلاف بيننا أن موسى سمع كلام الله من الله بغير واسطة ولا يسمع إلا الصوت فإن الصوت هو ما يتأتى سماعه وقد صح عن النبي ﷺ انه قال (إن الله يجمع الخلائق فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمع من قرب أنا الملك أنا الديان) وذكر عبد الله بن أحمد انه قال: (سالت ابي فقلت يا ابه إن الجهمية يزعمون ان الله لا يتكلم بصوت فقال كذبوا إنما يريدون على التعطيل، ثم قال حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال حدثنا سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه انه قال إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء) قال أبو نصر السجزي رحمه الله وهذا الخبر ليس في رواته إلا إمام مقبول وقد روي مرفوعا إلى النبي ﷺ.
وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام لما ناداه ربه يا موسى اجاب سريعا استئناسا بالصوت فقال: (لبيك اسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت قال انا فوقك وامامك ووراءك وعن يمينك وعن شمالك) فعلم ان هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى قال: (فكذلك انا يا رب أفكلامك أسمع أم كلام رسولك قال بل كلامي) وفي أثر آخر أن موسى عليه السلام لما ناجاه ربه ثم سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقر في مسامعه من كلام الله تعالى ومثله في الآثار كثير تناولته الأمة ولم ينكره إلا مبتدع لا يلتفت إليه.
فإن قالوا فالصوت لا يكون إلا من هواء بين جرمين قلنا هذا من الهذيان الذي اجبنا عن مثله في الحرف وقلنا إن هذا قياس منهم لربنا تبارك وتعالى على خلقه وتشبيه له بعباده وحكم عليه بأنه لا تكون صفته إلا كصفات مخلوقاته وهذا ضلال بعيد. ثم إنه يلزمهم مثل هذا في بقية الصفات على ما اسلفناه على ان معتمدنا في صفات الله تعالى إنما هو الاتباع نصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ولا نتعدى ذلك ولا نتجاوزه ولا نتأوله ولا نفسره ونعلم ان ما قال الله ورسوله حق وصدق ولا نشك فيه ولا نرتاب ونعلم ان لما قال الله ورسوله معنى هو به عالم فنؤمن به بالمعنى الذي اراده ونكل علمه إليه ونقول كما قال سلفنا الصالح وأئمتنا المقتدى بهم: آمنا بالله وما جاء عن الله على مراد الله وآمنا برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله نقول ما قال الله ورسوله ونسكت عما وراء ذلك نتبع ولا نبتدع بذلك أوصانا الله تعالى في كتابه وأوصانا رسول الله ﷺ في سنته وأوصانا به سلفنا رضي الله عنهم فقال الله تعالى {وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام 153] وقال تعالى {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر 55] وقال لرسوله عليه السلام {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} [آل عمران 31] وقال النبي ﷺ (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وقال عبد الله بن مسعود (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم) وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاما معناه (قف حيث وقف القوم فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد كفوا وهم كانوا على كشفها اقوى وبالفضل لو كان فيها أحرى وإنهم لهم السابقون فلئن كان المهدي ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ولئن قلتم حدث حدث بعدهم فما احدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم ولقد وصفوا منه ما يكفي وتكلموا منه بما يشفي فما دونهم مقصر ولا فوقهم محسر لقد قصر دونهم أناس فجفوا وطمح آخرون عنهم فغلوا وإنهم من ذلك لعلى هدى مستقيم) وقال الأوزاعي رحمه الله: (عليك بآثار السلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول).
ولم يزل السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والأئمة بعدهم يعظمون هذا القرآن ويعتقدون أنه كلام الله ويتقربون إلى الله بقراءته ويقولون إنه غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر ولما وقعت الفتنة وظهرت المعتزلة ودعوا إلى القول بخلق القرآن ثبت أهل الحق حتى قتل بعضهم وحبس بعضهم وضرب بعضهم فمنهم من ضعف فأجاب تقية وخوفا على نفسه ومنهم من قوي إيمانه وبذل نفسه لله واحتسب ما يصيبه في جنب الله ولم يزل على السنة إلى أن كشف الله تعالى تلك الفتنة وازال تلك المحنة وقمع أهل البدعة.
واتفق أهل السنة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ولم يكن القرآن الذى دعوا إلى القول بخلقه سوى هذه السور التي سماها الله قرآنا عربيا وأنزلها على رسوله عليه السلام ولم يقع الخلاف في غيرها البتة وعند الأشعري أنها مخلوقة فقوله قول المعتزلة لا محالة إلا أنه يريد التلبيس فيقول في الظاهر قولا يوافق أهل الحق ثم يفسره بقول المعتزلة فمن ذلك أنه يقول القرآن مقروء متلو محفوظ مكتوب مسموع ثم يقول القرآن في نفس الباري قائم به ليس هو سورا ولا آيات ولا حروفا ولا كلمات فكيف يتصور إذا قراءته وسماعه وكتابته ويقولون إن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت ويقولون إن القرآن مكتوب في المصاحف ثم يقولون ليس فيها إلا الحبر والورق فإن كانت كما زعموا فلم لا يمسها الا المطهرون وما رأينا المحدث يمنع من مس حبر ولا ورق ولم تجب الكفارة على الحالف بالمصحف إذا حنث.
ومن قال إنه ليس في المصحف إلا الحبر والورق لزمه التسوية بين المصحف وبين ديوان ابن الحجاج لأنه إذا لم يكن بين كل واحد منهما غير الحبر والورق فقد تساويا فيجب تساويهما في الحكم هذا مع ردهم على الله تعالى وعلى رسوله وخرقهم لإجماع الأمة فإن الله تعالى قال {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين} [الواقعة 75-80] فأقسم الله تعالى أنه قرآن كريم في كتاب مكنون فردوا عليه وقالوا ما في الكتاب إلا الحبر والورق وقال الله تعالى {بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ} [البروج 21-22] وقال سبحانه {والطور وكتاب مسطور في رق منشور} [الطور 1-3] وقال ﷺ: (لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم) يريد المصاحف التي فيها القرآن واتفق المسلمون كلهم على تعظيم المصحف وتبجيله وتحريم مسه على المحدث أن من حلف به فحنث فعليه الكفارة ولا تجب الكفارة بالحلف بمخلوق.
وذكر بعض المبتدعة أنه إنما وجبت الكفارة على الحالف لاعتقاد العامة أن فيه كلام الله وهذه غفلة منه فإن هذا الحكم من لدن النبي ﷺ لم يتجدد الآن فإن أقر أن عامة أهل عصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا يعتقدون أن فيه كلام الله تعالى وأقرهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصوبهم فيه فهو الحق الذي لا شك فيه ولا يحل خلافه وإن قال إنهم كانوا يعتقدون ذلك ولم يعلم بهم النبي صلى الله عليه وسلم فكيف علم هو وكيف علم هو من أحوال أصحاب رسول الله ﷺ ومن اعتقاداتهم ما يخفى على رسول الله ﷺ وهو بين أظهرهم وعنه يأخذون وإليه يرجعون وبه يقتدون وعنه يصدرون ثم هل كانوا مصيبين في اعتقادهم أو مخطئين فإن كانوا مخطئين فقد اعتقد ان أصحاب رسول الله ﷺ كانوا ضلالا ومن بعدهم وأنه هو أصاب بمخالفتهم وكيف يجوز أن يكون أصحاب رسول الله ﷺ اتفقوا على اعتقاد الخطأ والضلال والباطل وأخطأوا الحق وتبعهم من بعدهم على ذلك إلى أن جاء هذا الجاهل بزعمه فعرف الصواب وعرف خطأ من كان قبله ثم هذا إقرار بأن مقالته بدعة حادثة خالف بها أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين بعدهم وهو الذي يقوله عنهم وبدعته فيهم.
وإن زعم أن أهل عصر النبي ﷺ لم يكونوا يعتقدون هذا وإنما حدث بعدهم فلم يثبت هذا الحكم في عصرهم ولم وجبت الكفارة على الحالف بالورق والحبر ولا خلاف بين المسلمين أنه لا تجب كفارة بالحلف بورق ولا حبر ولا مخلوق ثم متى حدث هذا الاعتقاد وفي أي عصر وما علمنا الحادث إلا قولهم الخبيث المخالف للأمة وللكتاب والسنة ثم كيف يحل أن يوهموا العامة ما يقوى به اعتقادهم الذي يزعمون أنه بدعة من تعظيمهم للمصاحف في الظاهر واحترامها عند الناس وربما قاموا عند مجيئها وقبلوها ووضعوها على رؤوسهم ليوهموا الناس أنهم يعتقدون فيها القرآن وربما امروا من توجبت عليه يمين في الحكم بالحلف بالمصحف إيهاما له أن الذي يحلف به هو القرآن العظيم والكتاب الكريم وهذا عندهم اعتقاد باطل فكيف يحل لهم أن يتظاهروا به ويضمرون خلافه وهذا هو النفاق في عهد رسول الله ﷺ وهو الزندقة اليوم وهو أن يظهر موافقة المسلمين في اعتقادهم ويضمر خلاف ذلك وهذا حال هؤلاء القوم لا محالة فهم زنادقة بغير شك فإنه لا شك في أنهم يظهرون تعظيم المصاحف إيهاما أن فيها القرآن ويعتقدون في الباطن أنه ليس فيها إلا الورق والمداد ويظهرون تعظيم القرآن ويجتمعون لقراءته في المحافل والأعرية ويعتقدون أنه من تأليف جبريل وعبارته ويظهرون أن موسى سمع كلام الله من الله ثم يقولون ليس بصوت ويقولون في أذانهم وصلواتهم أشهد ان محمدا رسول الله ويعتقدون أنه انقطعت رسالته ونبوته بموته وأنه لم يبق رسول الله وإنما كان رسول الله في حياته وحقيقة مذهبهم أنه ليس في السماء إله ولا في الأرض قرآن ولا أن محمدا رسول الله وليس في أهل البدع كلهم من يتظاهر بخلاف ما يعتقده غيرهم وغير من أشبههم من الزنادقة.
ومن العجب أن إمامهم الذي أنشأ هذه البدعة رجل لم يعرف بدين ولا ورع ولا شيء من علوم الشريعة البتة ولا ينسب إليه من العلم إلا علم الكلام المذموم وهم يعترفون بأنه أقام على الاعتزال أربعين عاما ثم أظهر الرجوع عنه فلم يظهر منه بعد التوبة سوى هذه البدعة فكيف تصور في عقولهم أن الله لا يوفق لمعرفة الحق إلا عدوه ولا يجعل الهدى إلا مع من ليس له في علم الاسلام نصيب ولا في الدين حظ ثم إن هذه البدعة مع ظهور فسادها وزيادة قبحها قد انتشرت انتشارا كثيرا وظهرت ظهورا عظيما وأظنها آخر البدع وأخبثها وعليها تقوم الساعة وأنها لا تزداد إلا كثرة وانتشارا؛ فإن نبينا ﷺ أخبرنا أن في آخر الزمان تكثر البدع وتموت السنن ويغرب الدين وأن الدنيا لا تزداد إلا إدبارا وأنه يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وأنه يقل أهل الحق إلا أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وأنه يعظم ثوابهم ويكثر أجرهم وشبه النبي ﷺ الدين في آخره بأول ابتدائه في غربته وقلة أهله فقال ﷺ: (بدأ الدين غريبا وسيعود كما بدأ ثم جمع بينهم في أن لهم طوبى فقال فطوبى للغرباء) ثم فضل المتأخرين في بعض الأخبار فقال في حديث (يأتي على الناس زمان يكون للقائمين بالكتاب والسنة مثل اجر خمسين شهيدا قالوا يا رسول الله منا أو منهم قال منكم) وهذا فضل عظيم وذلك والله أعلم لعظم نفعهم وصعوبة الأمر عليهم وكثرة أعدائهم وتألبهم عليهم وقلة أنصارهم وقد جاء في خبر (يأتي على الناس زمان يكون المتمسك بدينه كالقابض على الجمر) فهذه الصعوبة هي الموجبة لذلك الأجر ثبتنا الله على الإسلام والسنة وأحيانا عليها وأماتنا عليها وحشرنا عليها.
ومن العجب أن أهل البدع يستدلون على كونهم أهل الحق بكثرتهم وكثرة أموالهم وجاههم وظهورهم ويستدلون على بطلان السنة بقلة أهلها وغربتهم وضعفهم فيجعلون ما جعله النبي ﷺ دليل الحق وعلامة السنة دليل الباطل فإن النبي ﷺ أخبرنا بقلة أهل الحق في آخر الزمان وغربتهم وظهور أهل البدع وكثرتهم ولكنهم سلكوا سبيل الأمم في استدلالهم على أنبيائهم وأصحاب أنبيائهم بكثرة أموالهم وأولادهم وضعف أهل الحق فقال قوم نوح له {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} [هود 27] وقال قوم صالح فيما أخبر الله عنهم بقوله {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما ارسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون} [الأعراف 75-76] وقال قوم نبينا ﷺ {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبأ 35] وقال الله تعالى {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} [الأنعام 53] {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه} [الأحقاف 11] ونسوا قول الله تعالى {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} [الرعد 26] وقوله سبحانه {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا} [الكهف 28] وقوله سبحانه {واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} الآيات كلها [الكهف 32-40] وقوله {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} [الحجر 88] وقال تعالى {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} [الزخرف 33-35].
وقد كان قيصر ملك الروم وهو كافر أهدى منهم فإنه حين بلغه كتاب النبي ﷺ سأل عنه ابا سفيان فقال (يتبعه ضعفاء الناس أو أقوياؤهم فقال بل ضعفاؤهم) فكان هذا مما استدل به على أنه رسول الله ﷺ فقال (إنهم أتباع الرسل في كل عصر وزمان) وفي الآثار أن موسى عليه السلام لما كلمه ربه تعالى قال له (يا موسى لا يغرنكما زينة فرعون ولا ما متع به فإنني لو شئت أن أزينكما بزينة يعلم فرعون أن مقدرته تعجز عن أقل ما أوتيتما لفعلت ولكنني أضن بكما عن ذلك وأزويه عنكما وكذلك أفعل بأوليائي وقديما ما خرت لهم إني لأذودهم عن الدنيا كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وإني لأجنبهم سلوتها ونعيمها كما يجنب الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من الآخرة سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطغه الهوى) وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه (دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بمشربة له فرفع رأسه في البيت فلم ير فيه إلا اهبة ثلاثة والنبي ﷺ متكىء على رمال حصير وما بينه وبينه شيء قد اثر في جنبه فقلت يا رسول الله وأنت على هذه الحال وفارس والروم وهم لا يعبدون الله لهم الدنيا فجلس النبي صلى الله عليه وسلم محمرا وجهه ثم قال افي شك أنت يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) هذا معنى الخبر ثبتنا الله وإياكم على الإسلام والسنة وجنبنا الكفر والبدعة وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وجعلنا من الراشدين.
وقد أنشد ابو الحسن علي بن ابي بكر الطرازي فيهم:
دعوني من حديث بني اللتيا ....... ومن قوم بضاعتهم كلام
تفاريق العصا من كل أوب ....... إذا ذكروا وليس لهم إمام
إذا سئلوا عن الجبار مالوا ....... إلى التعطيل وافتضح اللئام
وإن سئلوا عن القرآن قالوا ....... يقول بخلقه بشر كرام
كلام الله ليس له حروف ....... ولا في قوله الف ولام
ولو قيل النبوة كيف صارت ....... لقالوا تلك طار بها الحمام
إذا قبض النبي فكيف تبقى ....... نبوته فديتك والسلام
فهذا دينهم فاعلم يقينا ....... وليس على مهجنهم ملام
لهم زجل وتوحيد جديد ....... أبى الإسلام ذلك والأنام
وزمزمة وهينمة وطيش ....... كأنهم دجاج أو حمام
وإزراء بأهل الحق ظلما ....... وتلقيب وتشنيع مدام
وقول الملحدين وإن تعاووا ....... عواء البين ليس له نظام
فصبرا يا بني الأحرار صبرا ....... فإن الظلم ليس له دوام
وأن الحق أبلج لا يضام ....... وقول الزور آخره غرام
آخره. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.
هامش
متفق عليه
متفق عليه بلفظ (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه).
صحيح البخاري.
"السنن الصغير" للبيهقي، و"سنن النسائي" وصححه الألباني.