أحمد خيري سعيد - حياتنا العـقلية: في النقـــــد

نهضت عقيب فترة الراحة التي أختلستها من بين متاعب الصحافة والاطلاع والبحث ثم التفكير وإمعان الروية إلى كتابة كلمة عن قاعدة ذهبية في النقد قرأتها في خطبة للأستاذ "علي عبد الرازق" كأنه عبر بها عما اختلج في خاطري زماناً ورقد مع الفكرات التي نهنأ بها أو نشقى ونودعها تلك المنطقة العقلية التي يسميها العلماء الحافظة أو الذاكرة أو ما شاءوا من مصطلحات لا تبين تماماً عن المقصود ولا تفسر شيئاً واضحاً محدوداً.
قال الأستاذ بورك له في شجاعته فلخص حالة يؤسف لها وأومأ إلى نقص علاجه مرغوب فيه من جانب أنصار حرية الفكر ودعاة التسامح وشخص أعراض داء يفشو في الجماعات في بدء تكوينها وإبان طفولتها فما أودى بها وما وفقت في كفاحه باستئصاله. لقد استرسلت كثيراً. فماذا قال الأستاذ الجرئ؟!

قال في خطبة ألقاها في اجتماع عقدته جمعية "الرابطة الشرقية" احتفالاً بصدور أول عدد من مجلتها الذي وزع على المدعوين ويؤلمني أنني لم أكن بينهم:
"إذا كان ذلك هو إحساسنا الذي نشعر به إزاء ما يبدو في مجلتنا من مواضع العيب والنقص فلا غرو أنكم ستجدون منا صدوراً أرحب ما تكون لنقد الناقدين وأرضى ما تكون بالنصيحة الخالصة يجود بها علينا الناصحون. أجل، إننا نطلب الكمال لمجلتنا ونرجوه، وإن الذي يكشف لنا عن عيوبنا وينبهنا إلى مواضع النقص فينا لهو خير نصير لنا على بلوغ ذلك الكمال الذي نطلبه ونسعى إليه.
أيها السادة: لجنة المجلة تتشرف بأن تضع بين أيديكم العدد الأول وهي ترجوكم ملحفة في الرجاء أن تنتقدوه وتنتقدوه بشدة ليس فيها هوادة وأن تلاحظوا على كل ما تجدونه موضعاً للملاحظة، فبذلك وحده تستطيعون أن تعاونوننا على الغاية المشتركة التي نسعى لها من الكمال والنجاح".

وما أن شرعت في الكتابة حتى فاجأني صديق بالسلام وباغتني بالتحية فرددت كما أرد على المتطفل أو الضيف الثقيل في برود وركبني ضيق وأوشكت أن أصارح صديقي بتبرمي من زيارته، فعاودتني خلة الحلم وقلت وما ذنبه أنه ألف زيارتي وألفت الأنس به. وأقبلت عليه أحدثه، ولعله لحظ على صفحة وجهي أثر المجهود الباطني الذي بذلته لكبت نفعالي والخروج بإحساسي من حالة إلى أخرى مناقضة. ولله لقد كانت مفاجأة تياترية. وماذا في الحياة لا يشبه أن يكون مباغتة غير منتظرة؟. أنهى إلي صديقي أمراً يتعلق بموضوع كلمتي ألفيته مادة وغنيت به زاداً، أعانني على التعليق والشرح وأني لأجد في الوقائع المنتزعة من الحياة أصدق برهان وأحفل الحجج بالإقناع.

قال: لقد كنت أمس مندوباً عن مجلة "..." في شهود حفلة الرابطة الشرقية فوقع ما شدهت له. فطار خيالي إلى الصبيانيات التي عهدناها في الحفلات طوال الحقبة الأخيرة وتوقعت في صديقي أخبار سوء عما تعبر عنه الصحف "بأنه حدث مايؤسف" وما تختلف الرويات اتهاماً ودفاعاً.
قلت: ماذا؟
قال: كنت إلى جانب نفر من الصحفيين والأدباء فوفد "فلان" فسلم عليهم جميعاً وتخطاني غير معترف بوجودي، وتعرف أنت أنني نقدت له كتاباً نقداً مراً. فبعث يعاتبني ورددت عليه بما أعتقد أنه يضع حداً بين الخصومة الفكرية والمشاحنات التي تتناول كل شيء حتى صلات المودة. وذهب بنا الحديث بعد ذلك مذاهب شتى حول النقد في مصر وكيف أنه لا يرتفع عن الشخصيات وأنه لا يقوم على أساس التقدير النزيه من جهة وكيف أنه إذا قام على هذا الأساس لا يقابل بالتسامح والتواضع. وأعرف أن الكتاب والمفكرين في مصر شيعاً متنافرة، وهذه الفرق لاتربطها غاية مشتركة تشذ عن الشخصيات. فالذي يؤلف - أكثر من غيره - بين هذه الجماعات ويقارب بينها ليس اعتناق مبدأ أو نشدان غاية عليا.

واستعراض الماضي القريب يؤيد هذا ويقدم لنا بعض أسباب جمود القرائح عن الابتكار واسترخاء الهمم والجبن عن الإدلاء بالآراء كما هي وكما يريدها صاحبها. والنقد ضروري لتنشيط كل نهضة ولم يجن على الثقافة شيء مثل ما جنى عليها انعدام النقد والهوادة في التقدير عن إخلاص وعن علم ومعرفة وعن خبرة ودراية. من النقد مايراد به الهدم ومنه ما يراد به البناء، ولن يهدم النقد - بالحق أو بالباطل- إلا ما كتب له الموت وما يجب أن يدك ويتلاشى. والواثق بنفسه الذي يبغى الكمال لايخشى نقداً بل برحب بالنقد ويدعو الناس إليه. فهل نرجو أن تفوز قاعدة الأستاذ "علي عبد الرازق" بين البيئات المفكرة بما فاءت به لدي في احترام وإجلال وأنا الذي قسوت في نقده مرة كما قسوت على الكثيرين من أصدقائي عند نشر مقالة "محمد" في العام الفائت يوم المولد النبوي الشريف.

هكذا مذهبي في النقد، ولخير أن تكون قاسياً من ألا تفكر في نقدٍ، ويخيل لي أن القسوة هنا ليست سوى الحساب العسير والقياس إلى أقسية عالمية. ومتى كان النقد كذلك أربى في الثمر وجاء بأنفس النتائج.

(الجديد، ع 29، 29 اكتوبر 1928)
أعلى