- شَمْسي سَتَغرُبُ والنَّدَى يَتَلاشَى
وَتَنامُ أَزْهارُ الْحُروفِ عِطاشَى
- وَيَؤُمُّها الصُّبْحُ النَّدِيُّ وشَمْسُهُ
وَتَرَى السَّنا في الخافِقَيْنِ غُباشا
هنا مسحَةٌ صوفِيَّةٌ تردادُ عُمْقًا كُلَّما استرسلْنا في قراءَةِ القصيدَةِ. أطالَ اللّهُ في عُمُرِ شاعِرَتِنا، وَمَنْ مِنَّا سَوْفَ لا تغرُبُ شَمْسُه؟ ولكنّ دِقَّةَ التَّصْويرِ، وشِدَّةِ الخيال اللّذين أتَتْ بِهِمَا الشّاعِرَةُ جَعَلا صورَةَ ما وراءَ الغروب معجزَةً تعبيريَّةً تدُلُّ على عبقريَّةٍ نوعيَّة: انظروا تعابير:
تَلاشَى النَّدَى: بدلَ تبخَّرَ، صورَةُ التلاشي يعجزُ أيُّ تعبيرٍ أن يأتي بهذه الصّورَةَ.
نومُ أزهارُ الْحُروفِ عطْشى: صورَةٌ تبيِّنُ مجازِيًّا فقدان هذه الْحُروفِ الكئيبة رَيَّها بعد أنْ كانت مضيئَةً. وهذا ما عبَّرَتْ عنه كلمةُ "عطشى" البسيطةُ ذاتُ الدَّلالَةُ العاليَة.
هذا الصُّبْحُ الذي طلَعَ بعدَ أُفولِ الشَّمسِ قد شارَكَ في الموقفِ المحزنِ لما جرى للقصيدَةِ، حتّى لم يَبْقَ في الخافقين (الشرْقِ والغرْبِ) إِلَّا نورٌ كالْغَبَشِ لا تَأْتِي به القصيدَة.
- مِنْ سِحْرِ قَلْبِي كانَ يَرْويها الْهَوَى
وَيُذيقُها عِنْدَ الرِّواءِ رُعاشا
- وَتَظَلُّ تَغْفُو والطُّيوفُ تَحُفُّها
عِشْقًا وَنَبْسُطُ بِالغرامِ فِراشا
مَنْ يقرأِ البيتينِ السّابقين يَحْسَبْ أنَّهُما رثاءٌ لِلْقصيدة التي مصدرها خَمْرُ الْهَوَى، لِسِحْرِها تَعْمَلُ في ذِهْنِ القارِئِ ما تعملُهُ الخَمرُ من الرَّعْشَةِ في جَسَدِ شارِبِها. فالحقيقَةُ أَنَّها واهبَةُ الحياة.
ما تمتازُ به شاعرَتُنا الكبيرةُ مقبولَةُ تفنُّنُها في الصُّوَرِ الشِّعْرِيَّةِ التي هي أساسُ الشِّعْرِ.
فالقصيدةُ طِفْلٌ يَغْفُو في أحضانِ أمِّهِ، لِشِدَّةِ الْعِشْقِ، تحيطُ به أو بها أطيافُ الخيال على بُسُطِ الغرام وفَرْشِهِ.
- وَتَرَى الأمانِيَ في مَدَى أحْلامِها
فَجْرًا وَأَرْواحُ الحنينِ فَراشَا
الأماني مقرونَةٌ بالأحلام، ففي الأحلام تتحقَّقُ الأماني والرَّغباتُ المكبوتَةُ، وأجمَلُ الأحلامِ ما كانَ فجرًا، وكثيرونَ هُمُ الشُّعراء الذينَ تعترضُهم قافيَةٌ معيَّنَة فيراها في الحُلمِ، وعندما يصحو يُثبِتُها في القصيدة.
وخيرُ نَظْمٍ للقريضِ ما كان فَجْرًا، فالأفكارُ تطوفُ في ذهنِ الشّاعِرِ كالفراشات.
وتنتقلُ بِنَا الشّاعرَةُ إلى قضيَّةٍ جِدًّا مهمَّةٍ تناقشُها في القصيدَةِ، وهي أنَّ القصيدَةَ هي الخالدةُ بعدَ غروبِ شَمْسِ الشّاعِرِ:
- روحي ستمضي والقصيدَةُ بَصْمَتِي
حاشا سَتَغْرُبُ بِارْتِحاليَ حاشا
- ما زِلْتُ رَغْمَ النّائِباتِ قَوِيَّةً
وَمَعَ الْحَياةِ وَبُؤْسِها أتَماشَى
لا شاعِرَتنا الأولى. العَلاقَةُ بَيْنَ الشّاعِرِ وقصيدَتِهِ عَلاقَةٌ تبادُلِيَّةٌ، فالقصيدَةُ تُخَلِّدُ الشّاعِرَ، والشّاعِرُ المُفْلِقُ يُخَلِّدُ القصيدَةَ، فكم من شاعِرٍ خلَّدَتْهُ قصيدَةٌ واحِدَةٌ، وحتَّى بيتُ شِعْرٍ واحِدٍ.
وأنتِ شاعرَةَ فلسطينَ الأولى شعرُكِ خالدٌ، وأنتِ خالِدَةٌ به، وإلّا لما امتشقْنا سِنانَ القلَمِ لنقرأَ ونُحَلِّلَ هذا الشِّعْرَ الأبِيَّ السّاحِرَ.
فَلْتَبْقَيْ قويَّةً كالصَخْرِ الأصَمِّ أمامَ النّائِباتِ والْخُطوبِ، وّلا مانِعَ أنْ تتماشَيْ مَعَ عَوارِي الزَّمنِ الذي نَحْنُ فيه كالعارِيَة.وكما قَالَ أحَدُ زملائِكِ الأقدمينَ: مجزوء الرَّمَل
إنَّما الدُّنْيا هِباتٌ وَعَوارٍ مُسْتَرَدَّةْ
شِدَّةٌ بَعْدَ رَخاء وَرَخاءٌ بعدَ شِدَّة
- رَغْمَ الظُّروفِ وَعُنْفِها لي خافِقٌ
لا يَعْرِفُ الْخِذْلانَ والإجْهاشا
- لي بَسْمَةٌ فَتّانَةٌ لا تَنْطَفي
مِنْ مَبْسِمِي، أَوْ نورُها يَتَلاشَى
- مِنْ سِحْرِها ثَمِلَ الْقَريضُ مُوَلَّهًا
طَرَبًا على كُلِّ الْمشاعِرِ حاشا
نعم. هكذا هو الشّاعِرُ الأصيلُ، هُوَ ضميرُ قَوْمِ ومَثَلُهُم الأعلى، لا يُقَعْقَعُ له بالشِّنانْ (الجلد اليابس)، ولا تُغْمَزُ له قناةْ، ولا تنحني له قامةٌ إِلَّا لِلَّهْ، إن أصابه ألمٌ لا يعرِفُ النَّحيبَ، وكما قَالَ الأخطل في بني أُمَيَّةَ:
حُشْدٌ عَلَى الْحَقِّ عَيّافوا الْخَنا أُنُفٌ
إذا أصابتْهُمْ مَكْروهَةٌ صَبَرُوا
وهذا عهدُنا بكِ أيَّتُها الصَّبور!
ثمّ نَأتي إلى بَيْتِ القصيد:
لي بسمَةٌ. لقد ضَرَبِتِ مَثَلًا يحتذَى لقرّائك، ومُحِبِّي شعرِكِ، فَقَدْ تعاليْتِ على جراحِ الوطنِ ونوائِبِهِ، والعنفِ المستشري في جنباتهِ من الخارِجِ والدّاخل، وبالرغمِ النَّزيفِ الذي يجتاحُ الوطنَ لا تزالُ البسمةُ ترسمينَها على ثغرِكِ، لأنها غَرْسُ الأَمَلِ، وحتميّةُ قهرِ الظلمِ والفوزِ بحياةٍ أفْضلَ في وطَنِ الآباءِ والأجداد.
فطوبَى لكِ هذا الموقفُِ الرّائع.
ابتسامَةٌ مُشْرِقَةٌ تفيضُ بها الحياةُ، لولاها لما اْكتسى هذا القريضُ لباسَ الجمالِ والبهجةِ، وجاشَ بهذه الأحاسيسِ التي تنفثُ فينا الحياة.
وبَعْدُ،
لقد أبدَعْتِ شاعرَتنا الكبرى كلَّ الإبداع، وهذا يؤكِّدُ ما قلتُهُ إنّ شعرَكِ شلّالٌ دافقٌ متجدِّدٌ كماء النَّهَرِ هَلْ تعودُ إلى الوراء؟
وَتَنامُ أَزْهارُ الْحُروفِ عِطاشَى
- وَيَؤُمُّها الصُّبْحُ النَّدِيُّ وشَمْسُهُ
وَتَرَى السَّنا في الخافِقَيْنِ غُباشا
هنا مسحَةٌ صوفِيَّةٌ تردادُ عُمْقًا كُلَّما استرسلْنا في قراءَةِ القصيدَةِ. أطالَ اللّهُ في عُمُرِ شاعِرَتِنا، وَمَنْ مِنَّا سَوْفَ لا تغرُبُ شَمْسُه؟ ولكنّ دِقَّةَ التَّصْويرِ، وشِدَّةِ الخيال اللّذين أتَتْ بِهِمَا الشّاعِرَةُ جَعَلا صورَةَ ما وراءَ الغروب معجزَةً تعبيريَّةً تدُلُّ على عبقريَّةٍ نوعيَّة: انظروا تعابير:
تَلاشَى النَّدَى: بدلَ تبخَّرَ، صورَةُ التلاشي يعجزُ أيُّ تعبيرٍ أن يأتي بهذه الصّورَةَ.
نومُ أزهارُ الْحُروفِ عطْشى: صورَةٌ تبيِّنُ مجازِيًّا فقدان هذه الْحُروفِ الكئيبة رَيَّها بعد أنْ كانت مضيئَةً. وهذا ما عبَّرَتْ عنه كلمةُ "عطشى" البسيطةُ ذاتُ الدَّلالَةُ العاليَة.
هذا الصُّبْحُ الذي طلَعَ بعدَ أُفولِ الشَّمسِ قد شارَكَ في الموقفِ المحزنِ لما جرى للقصيدَةِ، حتّى لم يَبْقَ في الخافقين (الشرْقِ والغرْبِ) إِلَّا نورٌ كالْغَبَشِ لا تَأْتِي به القصيدَة.
- مِنْ سِحْرِ قَلْبِي كانَ يَرْويها الْهَوَى
وَيُذيقُها عِنْدَ الرِّواءِ رُعاشا
- وَتَظَلُّ تَغْفُو والطُّيوفُ تَحُفُّها
عِشْقًا وَنَبْسُطُ بِالغرامِ فِراشا
مَنْ يقرأِ البيتينِ السّابقين يَحْسَبْ أنَّهُما رثاءٌ لِلْقصيدة التي مصدرها خَمْرُ الْهَوَى، لِسِحْرِها تَعْمَلُ في ذِهْنِ القارِئِ ما تعملُهُ الخَمرُ من الرَّعْشَةِ في جَسَدِ شارِبِها. فالحقيقَةُ أَنَّها واهبَةُ الحياة.
ما تمتازُ به شاعرَتُنا الكبيرةُ مقبولَةُ تفنُّنُها في الصُّوَرِ الشِّعْرِيَّةِ التي هي أساسُ الشِّعْرِ.
فالقصيدةُ طِفْلٌ يَغْفُو في أحضانِ أمِّهِ، لِشِدَّةِ الْعِشْقِ، تحيطُ به أو بها أطيافُ الخيال على بُسُطِ الغرام وفَرْشِهِ.
- وَتَرَى الأمانِيَ في مَدَى أحْلامِها
فَجْرًا وَأَرْواحُ الحنينِ فَراشَا
الأماني مقرونَةٌ بالأحلام، ففي الأحلام تتحقَّقُ الأماني والرَّغباتُ المكبوتَةُ، وأجمَلُ الأحلامِ ما كانَ فجرًا، وكثيرونَ هُمُ الشُّعراء الذينَ تعترضُهم قافيَةٌ معيَّنَة فيراها في الحُلمِ، وعندما يصحو يُثبِتُها في القصيدة.
وخيرُ نَظْمٍ للقريضِ ما كان فَجْرًا، فالأفكارُ تطوفُ في ذهنِ الشّاعِرِ كالفراشات.
وتنتقلُ بِنَا الشّاعرَةُ إلى قضيَّةٍ جِدًّا مهمَّةٍ تناقشُها في القصيدَةِ، وهي أنَّ القصيدَةَ هي الخالدةُ بعدَ غروبِ شَمْسِ الشّاعِرِ:
- روحي ستمضي والقصيدَةُ بَصْمَتِي
حاشا سَتَغْرُبُ بِارْتِحاليَ حاشا
- ما زِلْتُ رَغْمَ النّائِباتِ قَوِيَّةً
وَمَعَ الْحَياةِ وَبُؤْسِها أتَماشَى
لا شاعِرَتنا الأولى. العَلاقَةُ بَيْنَ الشّاعِرِ وقصيدَتِهِ عَلاقَةٌ تبادُلِيَّةٌ، فالقصيدَةُ تُخَلِّدُ الشّاعِرَ، والشّاعِرُ المُفْلِقُ يُخَلِّدُ القصيدَةَ، فكم من شاعِرٍ خلَّدَتْهُ قصيدَةٌ واحِدَةٌ، وحتَّى بيتُ شِعْرٍ واحِدٍ.
وأنتِ شاعرَةَ فلسطينَ الأولى شعرُكِ خالدٌ، وأنتِ خالِدَةٌ به، وإلّا لما امتشقْنا سِنانَ القلَمِ لنقرأَ ونُحَلِّلَ هذا الشِّعْرَ الأبِيَّ السّاحِرَ.
فَلْتَبْقَيْ قويَّةً كالصَخْرِ الأصَمِّ أمامَ النّائِباتِ والْخُطوبِ، وّلا مانِعَ أنْ تتماشَيْ مَعَ عَوارِي الزَّمنِ الذي نَحْنُ فيه كالعارِيَة.وكما قَالَ أحَدُ زملائِكِ الأقدمينَ: مجزوء الرَّمَل
إنَّما الدُّنْيا هِباتٌ وَعَوارٍ مُسْتَرَدَّةْ
شِدَّةٌ بَعْدَ رَخاء وَرَخاءٌ بعدَ شِدَّة
- رَغْمَ الظُّروفِ وَعُنْفِها لي خافِقٌ
لا يَعْرِفُ الْخِذْلانَ والإجْهاشا
- لي بَسْمَةٌ فَتّانَةٌ لا تَنْطَفي
مِنْ مَبْسِمِي، أَوْ نورُها يَتَلاشَى
- مِنْ سِحْرِها ثَمِلَ الْقَريضُ مُوَلَّهًا
طَرَبًا على كُلِّ الْمشاعِرِ حاشا
نعم. هكذا هو الشّاعِرُ الأصيلُ، هُوَ ضميرُ قَوْمِ ومَثَلُهُم الأعلى، لا يُقَعْقَعُ له بالشِّنانْ (الجلد اليابس)، ولا تُغْمَزُ له قناةْ، ولا تنحني له قامةٌ إِلَّا لِلَّهْ، إن أصابه ألمٌ لا يعرِفُ النَّحيبَ، وكما قَالَ الأخطل في بني أُمَيَّةَ:
حُشْدٌ عَلَى الْحَقِّ عَيّافوا الْخَنا أُنُفٌ
إذا أصابتْهُمْ مَكْروهَةٌ صَبَرُوا
وهذا عهدُنا بكِ أيَّتُها الصَّبور!
ثمّ نَأتي إلى بَيْتِ القصيد:
لي بسمَةٌ. لقد ضَرَبِتِ مَثَلًا يحتذَى لقرّائك، ومُحِبِّي شعرِكِ، فَقَدْ تعاليْتِ على جراحِ الوطنِ ونوائِبِهِ، والعنفِ المستشري في جنباتهِ من الخارِجِ والدّاخل، وبالرغمِ النَّزيفِ الذي يجتاحُ الوطنَ لا تزالُ البسمةُ ترسمينَها على ثغرِكِ، لأنها غَرْسُ الأَمَلِ، وحتميّةُ قهرِ الظلمِ والفوزِ بحياةٍ أفْضلَ في وطَنِ الآباءِ والأجداد.
فطوبَى لكِ هذا الموقفُِ الرّائع.
ابتسامَةٌ مُشْرِقَةٌ تفيضُ بها الحياةُ، لولاها لما اْكتسى هذا القريضُ لباسَ الجمالِ والبهجةِ، وجاشَ بهذه الأحاسيسِ التي تنفثُ فينا الحياة.
وبَعْدُ،
لقد أبدَعْتِ شاعرَتنا الكبرى كلَّ الإبداع، وهذا يؤكِّدُ ما قلتُهُ إنّ شعرَكِ شلّالٌ دافقٌ متجدِّدٌ كماء النَّهَرِ هَلْ تعودُ إلى الوراء؟