أيمن دراوشة - الغزو الثقافي وأثره على الشخصية الإسلامية العربية

لعل ( الشخصية الإسلامية العربية ) لم تكن في يوم من الأيام بحاجة إلى كشف جوهرها واستجلاء أصالتها بقدر حاجتها اليوم . لقد تجمَّعت على تشويه كيانها وحجب صورتها محاور , دفعتها إلى مهاوي الردى والضياع , وذل الهزيمة في كل بقعة من بقاع الوطن العربي والعالم الإسلامي . حدث كل ذلك والشخصية الإسلامية تعيش في غيبوبة وهي المعروفة بقيمها القدسية وأصولها الثابتة وتقاليدها العزيزة المترفِّعة عن كل ذل , والأبية عن كل صغير .
لقد كان العرب والمسلمون أعزاء كل العزة , ضاربين في الحياة العقلية والفكرية والسياسية إلى أعماق بعيدة , أئمة برجالهم وعلمائهم وقادتهم , أساتذة بأدبهم وفكرهم وثقافتهم , سادة بعزائمهم وتقاليدهم وجيوشهم . كانوا يعيشون في نطاق شخصيتهم المنطلقة من جوهر عقيدتهم حيث الأمن والسلام محوطان بسياج من رياض الروح والفكر .
وعندما زالت هذه المعاني , وتبددت هذه القيم استأسد عليهم مَنْ استأسد , واستهان بهم الأذلاء , وظنَّ الأعداء بالعرب والمسلمين الظنون , وأخذت النقائص تنسب للعرب والمسلمين في جرأة ووقاحة , والإسلام والعرب من كل ذلك براء .حسبما يعلمون .
لقد تجمَّعت مؤامرات الأعداء على حجب الشخصية ( الإسلامية العربية ) وقابل ذلك من جانب المسلمون المعاصرين تخاذل وغفلة , وفي هذه الغفلة وركام ذلك التخاذل أعطى المسلمون والعرب ظهورهم لكل المعاني الرفيعة الكامنة في جوهر شخصيتهم , وركضوا وراء كل فكر رخيص حمله إليهم الغرب تارة , أو ألقتْ به أمامهم عواصف الشرق تارة أخرى , فتخلوا عن هويتهم وأصبحوا بلا هوية , وفقدوا شخصيتهم المتميزة فَضّلُّوا طريق الصواب (1) .
إنَّ سباق التقدم محكوم بالقيم المادية , وصراع البقاء لا يعرف الآن غير الأسلحة النووية , وبغير الإنسان قوة السلاح , وفي وطننا الكبير أقطار يتيح لها ثراؤها المالي أنْ تستورد أحدث ما توصَّل إليه العلم , وما تخرجه مصانع العصر , مع ذلك تبقى في مكانها لا تتقدم .
إِنَّ موضوع الشخصية الإسلامية يمكن أن يستقطب كثيراً مما يشغلنا من قضايا أمتنا في صراع البقاء والمصير . إنَّنا نلقى في المجتمع الواحد من مجتمعاتنا أنماطاً شتى من الشخصيات الإسلامية , لا ندري أيها أقرب إلى الجوهر الأصيل , وطبيعي أن تختلف ملامح شخصياتنا . فأنماط شتى متغايرة متناقضة ومتنافرة .
إنَّنا أبناء أمة واحدة أعطتنا ميراثاً واحداً حتى صنعنا تاريخها المشترك ونمَّتنا جذور وعناصر متماثلة , ومهما اختلفت بنا البيئات والأوضاع والمذاهب , فإنَّنا نبقى أمة واحدة , وتظل عقيدة الأمة راسخة فينا , فعلى أربعة عشر قرناً ما زلنا نتلو كتاباً واحداً فهو السلطان النافد على ضمير أمته , والمؤثر على وجدانها العام , كما لا يعرف التاريخ شخصية فرضت سلوكها وسنتها على الأجيال من أبناء أمته كشخصية المبعوث فينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد شهد لنا التاريخ ــ العرب والمسلمون ــ بأننا رفعنا راية الإسلام مناراً لحضارة رائدة هَدَتْ مسيرة البشر عبر العصور المظلمة . ومن عطاء تلك الحضارة تلقى الغرب الأجنبي نور فجره لعصر الأحياء والنهضة , ثُمَّ انتقل إليه الدور القيادي للحضارة ودخلنا ــ نحن العرب والمسلمين ــ في مهاوي التخلف بفعل عوامل تاريخية , وعندما تمت الصحوة وجدنا أنَّ الشمل قد مُزِّق , وشغلتنا معارك التحرير , والاستعمار جاثم على أقطارنا , فما كدنا نفرغ منها حتى انكشف لنا ما أحدثه العدو ومسخ لصورتنا , فكان أول ما واجهنا بعد النهضة هذا التصدُّع العام للأمة الذي استغله العدو أبشع استغلال فقال أنَّ الإسلام لم يلب احتياجات الشباب , ولم يملأ عليهم حياتهم (2) .
نحن أبناء هذا الجيل ننتمي بأقرب ميراثنا إلى عصر الاحتلال الأجنبي , وفيه فُتِحَتْ كل الأبواب والثغور للبعثات التبشيرية , والإرساليات الأجنبية من كل جنس وملة ؛ للتغلغل في صميم الوجود المعنوي للأمة , وترسخ مقولة أنَّ اتصالنا بقديمنا ظاهرة تخلُّف وجمود , ويوجد من أبناء أمَّتنا مّنْ وقع في الفتنة فتخرج من مدارس العدو داع ٍ ينتمي إلى غير أبيه, ويباهي بالولاء الفكري لغير أمته , وفي الطرف المقابل الآخر المعاهد الدينية تصنع من جيلنا صنفاً آخر من الطلاب , حُصِّنُوا ضد بدعة التجديد , وزيغ الحضارة الحديثة الأجنبية .هذا كله أدَّى إلى صِدام جديد فتاهت الشخصية الإسلامية العربية فما عدنا نُميِّز بين الجمود والأصالة , ونلتقي في البلد الواحد كالغرباء ، ثم تزداد الأزمة تعقيداً مع تيارات الإعلام , وتسخير التكنولوجيا في سباق قوى العصر الماردة على مناطق النفوذ , وصراع المذاهب للسيطرة على مجال التأثير والتوجيه , وسيطرة الدول الغربية على معظم شبكات المعلومات في العالم من خلال الأقمار الصناعية , وشبكات التلفزة , والإنترنت , والصحافة , ودور النشر , وغير ذلك ...
إنَّ هذا الواقع يفرض على الأمة العربية أنْ تبذل قصارى جهدها للمحافظة على هويتها الثقافية , وإلاَّ تعرضت للفناء , لأنَّ الأمم لا تفنى عن طريق الموت وإنَّما عن طريق تحلل ثقافتها , وتلاشي شخصيتها , واندماج أبنائها في ثقافات الأمم الأخرى .
إنَّ الهوية العربية الإسلامية أي الهوية الثقافية قد ظهرت بأكمل صورها مع ظهور الإسلام ونجاحه في توحيد العرب من النواحي الثقافية والاجتماعية والسياسية في إطار أمة واحدة , وهكذا اندمجت معطيات العرب الأدبية والثقافية في معطيات الرسالة الإسلامية العامة , فنشأـ الحاضرة العربية الإسلامية التي فسحت المجال للأقوام الإسلامية الأخرى في استلهام قيمها , والأخذ بمعطياتها على مر التاريخ وحتى العصر الحديث .
إنَّ أعظم تحد ٍ يواجه الشخصية العربية الإسلامية وحضارتها الراقية هو تحدي الحضارة الغربية التي عبَّرتْ عنه دول الاستعمار الأوروبي في القرن الماضي بحركة التوسع الاستعماري والغزو الثقافي , وتعبِّر عنه الآن الولايات المتحدة الأمريكية بمحاولة فرض طريقة حياتها على العالم أجمع , فهل من سبيل لمواجهة هذا التحدي بطريقة حضارية تحفظ للأمة هويتها وشخصيتها , وتضمن لها البقاء (3) .
إنّ على مفكري الأمة وقادتها أن يقدِّموا الجواب بالقول والعمل . فالحوار الثقافي والحضاري بين الأمم من موقع المساواة والاحترام المتبادل وليس من موقع الضعف والتبعية يُعَد ضرورة إنسانية لأننا نعيش في عالم لا يسمح بالعزلة ، فكل وسائل الاتصال والتبادل الثقافي والحضاري تدعونا إلى التواصل والحوار , كما أنَّ مصالح الشعوب تدعو إلى ذلك وخير مَنْ يضطلع بهذه المهمة هم رجال الفكر والثقافة بالدرجة الأولى , ثم يأتي بعدهم دور رجال السياسة ليختاروا ويقرِّرُوا السياسات العامة لتنمية المجتمع مع المحافظة على هويته العربية الإسلامية .



المراجع :
د. محمد علي وآخرون/ " المجتمع والثقافة والشخصية "/ مدخل إلى علم الاجتماع/ دار المعرفة الجامعية / القاهرة 1984ص 495.
د. بنت الشاطئ "/ الشخصية الإسلامية "/ جامعة بيروت / دار الملايين/ 1972ص10.
د. هاشم الملاح/ " الثقافة الشاملة تساعد على تكوين الأمة" / مجلة عمّان / عمّان / العدد (43) 1999 ص 43.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى