د. نجاح إبراهيم - لن أكون نسخة عن الكُسعي

بالأمس فكرتُ،
أو بالأحرى أعدتُ التفكير للمرّة ال...
وربّما فكرَ الكثيرُ من الكتّاب مثلي.
وتساءلتُ:
" ما الذي يجعلني أرهنُ العمرَ للكتابة؟"
هذه التي سلبتْ منّي سنوات طويلة، قدّمتها لها على طبق من قشٍّ حطباً لتبقى مستعرة.
فمنذ عقود وأنا أعكفُ عليها؛ أمسك بالقلم ، وأجنّدُ النفسَ لبياضِ الورق، أُحني الظهرَ ، أغرزُ النظرَ، وأتلو ببطءٍ أفكاري ، مستمرئة نزيفي.
ما الغاية من الكتابة التي تجعلُ من الكاتبِ عبداً لها؟ ومع ذلك يعيشُ حياةً سعيدة ، حرّة . كلما أنجزَ نصّاً ، أو أصدرَ كتاباً ، تجده يرفعُ رأسه عالياً ، نافخاً صدره ، مزهّواً كأنما حرّر العالمَ بما كتبَ من غزوٍ ما، أو جائحة !
على الرّغم من أنني طويتُ الحالة الاجتماعية إلى غير رجعة ، واكتسبتُ صفة صُبّتْ في أذني مراراً وليس في ظهري" مغرورة" ومع ذلك فرضت عليَّ جلوساً طويلاً على الأريكة ، وأجبرتني على العزلة والانفصال والتفكير " كيف أصوغ فكرتي؟" آخذة برأي الكاتبِ الأميركي " ستيفن كينغ" :"على الكاتب ألا يجلس وينتظر الإلهام ، عليه أن يدرّبَ نفسه على الكتابة يومياً وبشكلٍ منتظم.."
إذاً الكتابة كلَّ يوم..
هذا الفعلُ اليومي القاتل، والمحرج للغاية!
الذي يأخذنا من حياة طبيعية ؛ من أسرةٍ وفرحٍ ومشاركاتٍ اجتماعية ، ويدخلنا في انسلاخ من وعودٍ ومسرّات لنجبر على نفي طوعيٍّ، نصبُّ في مداه عواطفنا وانفعالاتنا على شكلِ كتابة .
فلا يجوز أن نكتبَ دون أن تكون ثمة عاطفة مشبوبة تحرّكنا. وهذا ما نصح به الشاعر " روبرت فروست" إذ قال : على الكاتب أن يكتب ما يحرّك عواطفه لدرجة أن يجعل القارئ يشعر بدموعه داخل العمل ، بل ويشاركه البكاء.."
هذا الانفصال الذي يجيءُ من جرّاء الكتابة ، والذي كما قلتُ، يجبرنا على الانزواء وصبِّ النظرِ على مسافة قصيرة للغاية ، مداها بين سبابة وإبهام. إذ يؤكد يوماً بعد يوم أنه انفصالٌ عن العالم ، والأدهى أنه ليس انفصالاً فردياً فحسب، وإنما يمتدُّ إلى الأولاد، فتشعر بانفصالك عنهم مدّة طويلة في اليوم الواحد ، فكيف على مدى عمر برمته؟! هذا يعدُّ في قمة الحيفِ الذي مارسته عليهم حين كانوا صغاراً ويافعين.
بينما الكاتب ج. م كويتزي، يرى أنَّ الشعورَ المتزايدَ بالانفصال عن العالم أمرٌ يحدثُ طبيعياً بالنسبة للكثيرِ من الكتاب وهو عملية يمكنُ تفسيرها على أنها تحرّرٌ، كما هو الشأن بالنسبة لاكتساب المزيد من الصفاء الذهني الذي يسمح لنا بمواجهة الأمور الأكثر أهمية.
إذاً هذا القبرُ المجازيُّ الذي دفنتُ نفسي فيه ما هو إلاّ تحررٌ من واقعٍ يحيط بي ، واقع لا أرضى به ، سواء احتوى على أشخاصٍ، أو أحداثٍ أو كان مكاناً.
لهذا رحتُ أشكّله كما يروق لي ، وكم تمنيتُ أنْ أجيزَ لنفسي مكاناً آخر ، أي أنتقل بقبري هذا إلى بقعةٍ أخرى ، بمعنى أن أستطيعَ الكتابة خارجَ البيت كما يفعلُ بعضُ الكتّاب، ومنهم نجيب محفوظ الذي كان يكتبُ في المقهى ، فيستلهم من المارين الأفكار والأحداث والشخصيات، وكذلك الكاتب الفرنسي " غيوم ميسو" الذي قال : " أكتبُ في أيِّ مكانٍ ما عدا البيت ، لأنني أخصص وقتي مائة بالمائة لأسرتي.."
بينما أنا أمعنُ في جريمتي ، واقتفاء أثرِ ذنبي ، ولا أحيد ، فهل هذه لعنة تواكبني طيلة العمر، أم مغامرة؟!
وأية مغامرة أقترفها من خلالِ اللغة ؟!
تكون صامتة من الخارج، عاصفة من الدّاخل، لها طعم التمرّد الباهتِ، والسيطرة المخفية.
إنها حلمٌ في الحقيقة..
نحققه كلَّ يوم ، نسربله بروحِ الانتصارِ ، ولشدَّ ما أخشى أنْ يكونَ هزيمة ، كما قال " جبرا إبراهيم جبرا" في كتابه " الفن والحلم والفعل" : إنَّ الحلمَ هزيمة بقدر ماهو انتصارٌ ، فهو سقوط على العالم اللامتحرك في الداخل، ولكن له أن يكون أيضاً امتداداً نحو اللانهائي والمستحيل.."
لن أعضَّ على أصابعي مهما ندمتُ كي لا أكون نسخةً ثانية من " الكسعي" وقتها من يُحصي خساراتي؟!.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى