أدب السجون جلال مقلد . حبسة 73 - إنتفاضة الطلبة المصريين 1972 - 1973

حبسة 73 - الحلقة رقم (1)
إنتفاضة الطلبة المصريين 1972 - 1973

تمهيد :

اتصل بي مساء الاتنين 22 / 2 / 2021 الصديق السكندري القديم طارق يوسف تليفونيا من خلال شبكة الانترنت و جرت بيننا دردشة طويلة تبادلنا فيها ذكريات مشتركة من أيام زمالتنا في كلية هندسة الأسكندرية و اشتراكنا في النشاط السياسي في تلك الفترة و الذي تمثل في تحريرنا لمجلات الحائط و نشرها على استندات خشبية معدة لذلك في أشهر مكان بالكلية و هو المسمى بـ "صالة إعدادي" . كان النشاط السياسي في جميع جامعات مصر وقتها علي درجة عالية من السخونة ، بدأ في مظاهرات فبراير 1968 في جامعة القاهرة احتجاجا على أحكام الطيران التي صدرت ضد قادة الطيران و على رأسهم الفريق محمد صدقي محمود قائد الطيران عند حدوث هزيمة يونية 1967 و التي رأها الطلبة و قطاع كبير من الرأي العام بأنها أحكام مخففة لا ترقى إلى حجم ما تسببوا فيه من قصور أدى للهزيمة. كانت بعدها أحداث الاسكندرية في نوفمبر 1968و التي انتهت الى الاعتصام المدوي في كلية الهندسة و التي كانت أيضا نتيجة لهزيمة 1967. توفي عبد الناصر في سبتمبر 1970 ، و جرت الأيام ، و بعد فترة حزن عميق سادت البلاد عادت الجامعة إلى النشاط مرة أخرى. كان جوهر النشاط و سمته الأساسية هو الإحتجاج على حالة اللا سلم و اللا حرب و وعد الرئيس السادات بأنه سيحارب في عام 1971 فيما أسماه "عام الحسم" . و لكن هذا الوعد لم يتحقق و قدم في سبيل تبرير ذلك أسباب لم يقبلها الرأي العام و لا طلبة الجامعات مثل الضباب و الحرب الهندية الباكستانية إلخ.
و قد أدى هذا النشاط ألى أن تم القبض علينا من بيوتنا في فجر 29 ديسمبر 1972 من ضمن 48 طالب من جميع جامعات مصر ، و كنت طالبا في السنة الثانية و كان طارق طالبا في سنة البكالوريوس. إتفقنا في نهاية هذا الحوار أن ننشئ صفحة بإسم "حبسة 73" تمييزا لها عن حبسات سابقة و لاحقة لها (لم أكن فيها) ، و أن ندعو فيها كل الأصدقاء الذين شاركوا في النشاط في تلك الفترة للإدلاء بشهاداتهم عن هذه التجربة تشمل الجوانب السياسية و الانسانية و الشخصية ذات العلاقة.
و قد بدأناها فعلا و بدأنا في كتابة بعض الذكريات و نشرناها في الصفحة ، إلا أنني إرتأيت أنه من المفيد أن أنشرها على صفحتى في الفيس بوك حتى تعم الفائدة سواء لأبناء جيلنا أو أجيال أبنائنا لمعرفة ماذا جرى في تلك الأيام . و بناء عليه سأبدأ تباعاً بنشر شهادتى و ذكرياتي عن تلك الفترة في بوستات لاحقة. مع تحياتي


===



حبسة 73 - الحلقة رقم 2
إنتفاضة الطلبة المصريين 1972 - 1973
2- واقعة القبض عليّ في المنزل ..
حضر مجموعة من ضباط مباحث أمن الدولة فجر يوم 29 ديسمبر و طرقوا الباب بشدة و كنت نايم و فتح لهم أحمد أخويا الطالب في السنة الاعداية بهندسة الاسكندرية و كان سهران بيذاكر. دخلوا الشقة و حتى غرفة النوم و أنا كنت صحيت لكن فضلت في السرير أحاول أسمع و أستوعب الموقف ، و لما دخلوا الحجرة عملت نايم كده و كده لمزيد من محاولة استيعاب الموقف ، فصحونى و قالوا لي تعالى معانا مشوار صغير و هترجع تاني ، بعد ما صحيت و قمت من السرير قلت لهم انتم مين فقالوا أمن الدولة فرديت و إيه ضمننى إنكم أمن الدولة ما يمكن انتوا بتدعوا كدة و خصوصا أن فيه تمثيلية في اذاعة اسكندرية وقتها عن رية و سكينة و العصابة كانت بتخطف الرجالة و الستات ، أحد الضباط رد علىّ متظاهرا بالغضب و قال لي عيب كدة ما يصحش الكلام اللي بتقوله ده. و أصريت أشوف كارنيهاتهم فوراني واحد فيهم الكارنيه و كان الرائد رشاد عبد الرحيم. تحركت بتثاقل و رخامة بدأت بأنى عملت تمارين الصباح ، ثم غسلت أسناني بالفرشة في الحمام ، و بعدين لبست هدومي . أثناء ذلك قاموا بتفتيش الشقة و لقوا ما إعتبروه كنز و هي مجموعة مجلات حائط كنا قد أحضرناها من الكلية علشان كانت المباحث بتسرقها مساءا و كنا بناخدها البيت على أساس أن نعيد تعليقها في اليوم التالي . حدث شجار مع أكبرهم و هو المقدم مصطفى سمك عندما صعد بجذمته و كانت غير نظيفة بتأثير مياه المطرة المتراكمة في الشارع ، صعد على أحد السراير لينزع مجلة حائط كانت محطوطة على حائط فاصل بين حجرة نوم أحمد و الحمام بسبب نشع رطوبة على هذا الحائط. و لما احتجينا عليه زغد أحمد في كتفه فتجمعنا حوله أنا و أحمد و ابن خالتنا عبد الفتاح مطاوع الطالب أيضا في هندسة ( فيما بعد دكتور مهندس و رئيس قطاع مياه النيل) و أخى الأكبر سيف ( فيما بعد مدير البنك الأهلي سوسيته جنرال بالاسكندرية) و زقيناه زي ما زق أحمد فانفعل و علا صوته و أصواتنا أيضا و كادت تحدث معركة شديدة بيننا و بينه لولا تدخل الرائد رشاد و الضابط الثالث النقيب مجدي زهران و أخدوه لخارج الشقة و بقيوا هم معنا لحين استكمال ملابسي . أصريت على أن يعيدوا المجلات إلا أنهم رفضوا فخرجت الى البلكونة و كنا نسكن في الدور الأول علوى في شقة بمنطقة الشاطبي تقاطع شارع طيبة في نهايته مع شارع المدرسة السويسرية. قعدت على سور البلكونة و هددتهم بالقفز في الشارع ، طبعا كان تهويش علشان يرجعوا المجلات . انتهى الموقف المتوتر ده بعد محايلات من الضباط و دخول أحمد لي في البلكونة و رجاني بالنزول معاهم علشان الوالدة بدأت تبكي و تتوتر و خاصة أن كان فيه مجلات أخرى في حجرة تانية لم يكتشفوها . إصطحبني الرائد رشاد في سيارة ملاكي تابع للمباحث الى مبني إدارة أمن الدولة في منطقة الفراعنة القريبة من باب شرقي و توجه بقية أفراد الحملة للقبض على الزملاء الآخرين و كان أقربهم لبيتي منزل الزميل تيمور الملواني، أيضا من هندسة الاسكندرية ، و كان يسكن في حي كليوباترا في شقة من شقق الطلبة حيث أنه من طنطا أصلاً.
علمت بعد ذلك أن جارنا و كان مقدم في البحرية كان راجع من جولة رياضة جري على الكورنيش كان معتاد عليها فجر كل يوم ، اشتبك معهم عندما وجدهم يطرقون على الباب بعنف فتشكك في أمرهم و سألهم بتعملوا إيه ؟ فضربه مصطفى سمك في صدره و ماكانش عارف انه ظابط بحرية لأنه كان لابس تريننج سوت ، و رد جارنا الضربة بأعنف منها في صدر مصطفى سمك و انتهى الأمر بأن الضباط التانيين سلكوهم من بعض و اعتذروا لضابط البحرية على طريقة اللي ما يعرفك يجهلك و ذلك بعد ما أفصح عن هويته
🙂
. و الحقيقة خلال لحظات القبض عليّ كان عندي توتر داخلي مكبوت حاولت أخفيه و لكنه انفجر في الخناقة مع المقدم مصطفى سمك في البيت و استكمال الخناقة في مبنى مباحث أمن الدولة بعدها بقليل كما سأروى في الحلقة القادمة.
يتبع .. إذا كان في العمر بقية

***



حبسة 73 - الحلقة رقم (3)
إنتفاضة الطلبة المصريين 1972 - 1973
خناقة داخل مبنى مباحث أمن الدولة بالاسكندرية:
وصلت إلى المبنى الذي تتخذه إدارة مباحث أمن الدولة بالاسكندرية مقراً لها بصحبة الرائد رشاد عبد الرحيم ، و كان يقع في منطقة الفراعنة القريبة من محطة الرمل و المحصورة بين أجمل شارعين بالاسكندرية ، شارع السلطان حسين و شارع فؤاد و كان عبارة عن فيللا من الطراز القديم تتكون من عدة أدوار تحيط بها حديقة جميلة ، و يحيط بالحديقة سور عالي من الأعمدة الحديدية الكريتال بتشكيلته الفنية البديعة ، ذلك حسب ما تمكنت عيني من إلتقاطه بسرعة وقتها . دخلنا البوابة الحديدية الخارجية و عبرنا الحديقة و صعدنا سلالم إلى الدور فوق الأرضي داخل المبنى ، وجدت الرائد رشاد يسبقنى بمسافة حيث أنه أسرع و خطوته أطول و وصل أعلى السلالم و أنا مازلت في منتصفها . استمرارا لتصرفات الشقاوة ، توقفت في منتصف السلم متطلعا إلى لوحة كانت مثبتة على الحائط تحتوى على آية قرآنية و تظاهرت بأنى أقرأها بتأمل ، و فجأة اكتشف الظابط انني لست وراءه و رآني أتأمل في اللوحة فقال لي يا سلام يا سي جلال، التدين واخد حده معاك للدرجة دي !! . رددت بأنني بأقرأ الآية لأنها جميلة ، ( أظنها كانت عن العدالة أو عن الأمن و الأمان ) ، فقال : اطلع يا خويا احنا مش فاضيين ورانا شغل كتير . ابتسمت و كملت صعود السلالم و دخلنا في طرقة طويلة تنتهي الى باب حجرة يقف أمامه ثلاثة ضباط شبان . كنت أهم بأن أقول لهم صباح الخير و بعدين لقيتها مش مناسبة ، "خير" إيه و أنا مقبوض عليا ؟ ، فلقيت نفسي بأقول العوافي . رد واحد منهم ضاحكا و قال الله يعافييكي
🙂
، ابتسمت و ابتسم الضابطين الأخرين. دخلت الحجرة و قعّدوا معايا مخبر و قفلوا الباب علينا حتى لا أرى ما يجري خارجها و كانت هناك حركة و جلبة مسموعة. الحجرة كانت مخصصة مكتب لأحد كبار الضباط لم يكن قد وصل بعد ، إذ أننا كنا قرب الفجر. بعد فترة و بسبب بعض التوتر و القلق الداخلي توجهت ناحية أحد شبابيك الحجرة في الحائط المواجه لباب الحجرة و كان يطل على الحديقة، كان للحجرة ثلاثة شبابيك . حاول المخبر بلياقة و أدب ان يثنيني عن الوقوف أمام الشباك و النظر للحديقة إلا أنه لم يفلح . بعد بضعة دقائق فتح أحدهم الباب خلفنا و صاح بصوت عالي لا يخلوا من وقاحة بأن نبتعد عن الشباك ، نظرت إليه من فوق كتفي فوجدته المقدم مصطفى سمك . لم أأبه به و عدت أنظر من الشباك فأندفع ناحيتي بغضب و هو في حالة هياج و شدنى بعنف من الجاكت إلى الخلف فحدفت نفسي عليه موجها قوة جذبه لي تجاهه فإختل توازنه بعض الشيئ فشتمني و قال خش يا ابن الكلب جوة فرفست ترابيزة صغيرة بقدمى فقلبتها و صرخت فيه انت اللي ابن كلب . في ثواني إمتلأ المكتب بضباط من مختلف الرتب على الصياح اللي طالع من الحجرة ، سلكونا من بعض و أخذوه خارج الحجرة ، بعض الضباط كان تدخلهم في فض الخناقة برفق و الأخر أظهر بعض الخشونة في دفعى للخلف و إن لم يكن فيها تجاوز أو إهانة . جلست على كنبة جلد في المكتب فترة ليست قصيرة و معي المخبر و حضر بعد فترة الضابط صاحب المكتب ، حياني و جلس على مقعده في نهاية الحجرة أنظر اليه من تحت لتحت بين وقت و الآخر ، و هو كان أيضا يفعل ذلك و هو منشغل في الاطلاع على أوراق مكتبه و لكن لم نتبادل أي حديث .و أحسست خلال ذلك من بين همهمات الضباط و همساتهم بأنهم شمتانين في اللي حصل لمصطفى سمك سواء عندنا في البيت معنا أو مع ضابط البحرية أمام باب شقتنا أو منذ لحظات في المكتب و لو أنهم حاولوا أني ما أخدتش بالي من همساتهم.
حضر بعد ذلك النقيب مجدي زهران الذي كان من ضمن المجموعة التي قبضت عليّ في البيت ، كان قصيرا بعض الشيئ و أصلع الرأس و كان مسؤولا عن ملف الطلبة و سبق أن ذكره تيمور الملواني قبل ذلك ، و نحن من بعده ، في مجلات الحائط بسخرية مشيرا اليه باسم "الفتى زهران" . جلس بجواري و عرفنى بنفسه و قال لي اللي أنتم كنتم بتقولوا عليه الفتى زهران في مجلات الحائط . حاول تهدئتي و تلطيف الجو و كان معه ورقة مطبوعة مكتوب أعلاها استمارة بيان أو تعارف و بدأ يكتب فيها . سألني عن اسمي هل هو جلال محمود رمضان مقلد أم جلال محمود مقلد رمضان فرديت و قلت له الاسم التاني ، و هو الغلط طبعا. سألني عن سنى فقلت له 27 سنة و كان عمرى وقتها 20 سنة و شهور ، فنظر لي بدهشة و قال لي لأ طبعا مش ممكن ، عموما أنا عارف سنك و كتب في الورقة 20 سنة. سألني عن طولي فقلت له 190 سم فضحك وقال لي يعني طولي مرة و نص ( كان قصير شوية) ، قرأت الخانة التالية في الورقة فلقيتها عن لون العين و طبعا مش هيسألنى عن دى و لما بص لي علشان يشوفها لقاني مخبي عينيا بأيديا الاتنين فضحكنا احنا الاتنين على شغل المصغرة اللي أنا بأعمله معاه ، و بعدها كتب شيئ في خانة لون العينين و لم أتبينه . إنتهى من ملأ الاستمارة و غادر الحجرة و قد تلاشى بعض الانفعال و التوتر من عندي و الحقيقة هو كان مهذب و ذوق و ترك عندى إنطباع ودى جدا تجاهه.
طلبت بعدها الذهاب لدورة المياه و لم يسمحوا لي إلا بعد ان تخلو حيث أبلغهم الضابط الذي يقوم بالتنسيق بأن الحمام مشغول ، و لما سمحوا خرجت و لمحت في الطرقة الزميل تيمور الملواني على بعد ياردات ، فحيينا بعض و قال لي هو انت اللي كنت بتجعر من شوية ، قلت له آه و ضحكنا و بسرعة أبعدونا الضباط عن بعض ، قال يعني علشان ما نفطمش بعض نقول إيه و ما نقولش إيه.
بعد فترة و قبل مغادرتنا المبنى و التوجه مع الظابط المكلف من القاهرة لاصطحابنا إلى هناك أخذنى أحد الضباط و سرنا في ممر طويل و في نهايته أدخلنى حجرة كبيرة جدا و بها مجموعة من الظباط بجوار الباب من الداخل و في نهايتها مكتب خشبي فخم و ضخم و يجلس عليه من خارجه نصف جلسة شخص طويل و ضخم و ذا هيبة تبين أنه اللواء فوزى معاز مفتش مباحث أمن الدولة في الأسكندرية يتحدث مع ضابط آخر يقف بجانبه . أوقفونى في أول الحجرة من الداخل و أحاط بي بعض الضباط على يميني و على يساري . وقفت حاطط ايدي في جيوب الجاكت الاسبور ، و كان لونه أحمر و زرايره معدنية دهبي و كانت فاتحة جيوبه من الجنب و ليست لأسفل، و لفيت رجلي على بعضها في وضع استرخاء. وقفت هكذا في مواجهة فوزى معاز الذي بادر و وجه لي عتاب لا يخلوا من خشونة عما حدث مني من مشاكل في البيت أثناء القبض عليا و إزاي أتعامل مع ضيوف لي بالشكل اللي حصل ، و أيضا عتاب و استنكار لما بدر منى داخل المبنى. أجبت بأن هم السبب في المشاكل دي سواء هنا أو هناك . حينها صاح فيّ المقدم مصطفى سمك ،و كان يقف إلي ناحية يميني و بيننا كان شخص آخر،صاح بأن أقف عدل و أتكلم كويس قدام البيه. فرديت عليه و قلت له انت سبب كل المشاكل و كلامي مش موجه لك و مالكش انك تتكلم دلوقت. ردي ما عجبش فوزى معاز و أصر أني أعدل رجلي و أطلع إيدي من جيوبي . عدلت رجلى بعد ما تسآل مستنكرا : انت ممكن تقف كدة قدام والدك ، و كمان بعد كل الضباط ما قالوا بما يشبه الكورال أنه ما يصحش كدة يا جلال . لكني رفضت اني اطلع ايدي بدعوى ان الدنيا برد ، ك فلم يعجب ذلك فوزى معاز فتوجه ناحيتى و هو متجهم و عندما اقترب منى أخرج يده من جيب البنطلون و توقعت أن يضربني بالقلم و تأهبت بأن أنحني لأسفل علشان أتفاداه و ييجي القلم في الهوا . لما وصل عندى وقف أمامي للحظات أحسستها طويلة جدا و كانت عيني ليست موجهة لعينيه و لكن على كف إيده اليمين و كانت بحجم المطرحة ، و كان طويل لدرجة ان رأسي كانت يا دوب قصاد بطنه. فجأة أصدر أوامره إلى ضابط القاهرة بأن يأخذني و يذهب. خرجت و أنا مش مصدق أنها عدت على خير .
ركبنا السيارة و كان زميلي في الرحلة الى القاهرة هو الصديق طارق يوسف و كان طالب في بكالوريوس هندسة كهرباء اتصالات و له تاريخ في العمل السياسي و يكبرنى بحوالي خمسة سنوات. كانوا مقعدينا في العربية على الكنبة اللي ورا و الضابط بجوار السواق و ايدي الشمال مكلبشة بالكلبشات في الأيد اليمين بتاعة طارق. و احنا لسة يا دوب طالعين من مبني المباحث شاهدت الناس بدأت تمشي في الشارع تروح أشغالها و كل ما أشوف حد أرفع ايدي المتكلبشة و طبعا معاها ايد طارق علشان أورى الكلبشات للي ماشيين في الشارع. طارق كان مندهش من شغل العيال اللي أنا بأعمله ده . لغاية لما السواق شافنا في المراية و بلغ الظابط فالتفت لي و هددنى بأنه مش زي بتوع اسكندرية و لما نوصل هأشوف حاجة تانية غير اللي هنا . قبل العربية ما تطلع من المدينة طلب الظابط من السواق انه يقف أمام أي مطعم فول و فلافل علشان يشتري سندوتشات للفطار و قال لنا طبعا أنتم ما فطرتوش ، عايزين تفطروا إيه ؟ . كل واحد طلب ساندوتش فول و ساندوتش طعمية و أشترى لنا معاه و أصر أنه يعزمنا على حسابه و ما رضاش يخلينا ندفع فلوس اطلاقا ، و في الطريق وقف العربية تاني و شربنا مياه غازية علشان نبلّع الفطار ، كان معنا ودودا حتى نهاية الرحلة و حتى وصولنا للقلعة في القاهرة.
ملحوظة:
قد يندهش البعض من رد فعل الضباط الغير عنيف على استفزازاتنا لهم السابق الاشارة اليها ، تفسير ذلك أنهم كان عندهم تعليمات من القاهرة بالتعامل معنا برفق و بدون عنف حيث أن الرئيس السادات بعد إنقلاب القصر الذي قام به ضد ما أسماهم مراكز القوى في مايو 1971 أعلن انتهاء زوار الفجر و الدولة البوليسية فلا يستقيم أن يستخدموا الأساليب التي سبق و أن انتقدوها منذ فترة قليلة . هذا فضلا عن أننا كان عندنا درجة كبيرة من الثقة بالنفس لأنه كان لنا شعبية كبيرة و أنصار كثر داخل الجامعة و أيضا تأييد واسع و تضامن من الرأي العام و النقابات الهامة مثل نقابة المحاميين و نقابة الصحفيين.
و إلى لقاء الحلقة التالية في سجن القلعة .. إن كان للعمر بقية

***



حبسة 73 - الحلقة رقم (4)
إنتفاضة الطلبة المصريين 1972 - 1973
وصلنا القلعة:
في طريقنا للقاهرة إتخذت السيارة مسار الطريق الزراعي ، و لم يكن مزدحما كما هو الآن و مناظر الغيطان الزراعية الجميلة تحيطه من الجانبين . استغرقنا أنا و طارق يوسف كل وقت السفر في حالة تفكير فيما هو قادم و أحيانا في تأمل جمال الخضرة على جانبي الطريق ، طبعا لم نتحدث سويا طول الوقت . حاول الضابط المرافق الدردشة معانا في السياسة و لما لقانا مش متجاوبين معاه فضل قضاء الوقت في نومة عميقة. في ذلك الوقت كان الطريق الزراعي أحسن كثيرا من الصحراوي اللي كان فردة واحدة فقط و موحش و يفتقد للخدمات و كان السفر من خلال الصحراوي يعتبر مغامرة غير محمودة العواقب لو تعطلت السيارة المسافرة عليه.
وصلنا القلعة عند عصر اليوم تقريبا ، دخلنا من البوابة الخارجية إلى مكتب استقبال السجن حيث أخذوا بياناتنا و أخذوا كل ما في جيوبنا و وضعوا أشياء كل واحد في صندوق مخصص لحفظ مقتنيات المسجونين . أخذونى إلى مكان يشبه عنبر كبير إضاءته خافتة جدا و يبدو أنهم كانوا يستخدمونه كمخزن لمهمات السجن من سراير و بطاطين و خلافه. لمحت في الظلام بعض الأشخاص عددهم حوالي ثلاثة مضجعين على سراير . أشار المخبر المرافق إلى سرير و قالي أقعد هنا . سجن القلعة لا يتبع مصلحة السجون مثل السجون العمومية الأخرى و لكنه مكان معتقل تابع لمباحث أمن الدولة. تأملت في الأشخاص الموجودين وجدتهم في عمر طلبة الجامعة و لكن لأننا لا نعرف بعض فقد كان هناك قدر كبير من التحفظ في الكلام،بمرور الوقت بدأ التحفظ يقل شوية شوية فعرّف كل واحد نفسه للآخرين . أتذكر منهم محمد نبيل سعد الدين صبري الطالب في هندسة عين شمس (و فيما بعد الدكتور مهندس الأستاذ في كلية هندسة المنصورة) . و الآخر كان طالب في طب عين شمس و إسمه محمد حمدي بشير الذي كانت عائلته من أصول سودانية من مناطق الجنوب إستقر أجداده في مصر منذ سنوات بعيدة و كانت بشرته شديدة السواد لدرجة أنه في الضوء الخافت للزنزانة لا يظهر منه إلا عينيه و أسنانه البيضا عندما يتكلم. بعد ما خدنا على بعض شوية حكى لي نبيل صبري ما تم قبل أن أصل بفترة وجيزة عندما أدخلوا طالب هندسة القاهرة عصام الغزالي إليهم و عندما شاهد بشير في الظلام انتابته حالة هياج و صريخ تصورا منه إن ده العسكري الاسود اللي هيعمل فيه كذا و كذا و أصر أن يخرجوه من هذا المكان و إضطر المسؤولين عن المعتقل لوضعه في مكان آخر . عصام كان الوحيد من المقبوض عليهم الذي ينتمي إلى الجماعات الاسلامية في الجامعة و كان شاعر و أديب تلك الجماعات.
بعد وقت ليس قصير و في نفس اليوم تم توزيعنا في زنازين أصغر ، كل تلاتة أو أربعة في زنزانة على ألا يوجد في أي زنزانة فردين من جامعة واحدة. الزنزانة حوالي 4 * 3 متر و تتسع لعدد أربعة أسرة حديدية فرداني من النوع إيديال ضهره الأمامي أعلى من ضهره الخلفي مثل التي كانت منتشرة في المستشفيات و البيوت وقتها. لفت إنتباهنا أن الحائط المواجه لباب الزنزانة مثبت في أعلاه هيكل معدني يشبه الرف الذي كان يوضع عليه الراديوهات في البيوت زمان و لكنه أكبر و مثبت بدعامات و زوايا حديدية قوية في أعلى الحائط قريبا من السقف. تحيرنا في أمره كثيرا و لكن بعد ما قعدنا كام اسبوع و مع نهاية مرحلة تحقيقات النيابة و أخدنا على المخبرين و الضباط فهمنا منهم بأن هذه التعليقة كانت مخصصة لتعليق المعتقلين السياسيين و غير السياسيين من أيديهم لضربهم بالكرابيج أو العصيان على ظهورهم حتى يقروا بالاعترافات اللي كانوا عايزين يطلعوها منهم ، و هي موجودة من أيام الملكية مرورا بالعهود التالية. كانت الزنازين عبارة عن صفين كل صف حوالي 10 زنازين و بينهما ممر منه للسما على طول. و يوجد في الحائط المجاور للباب شباك في مستوى قريب من السقف و مغلق بقضبان حديدية بينها فتحات مربعة للتهوية و يمكننا النظر من خلاله لو وقفنا على ضهر السرير العالي فنرى الزنازين اللي في الجانب المقابل و كذلك الممر بينهما. و الزنازين كلها كانت من دور أرضى واحد و أبوابها من الخشب المصفح و يوجد في الباب عين يمكن لمن في خارجها إزاحة الغطاء بتاعها و يبص يشوف ما هو داخل الزنزانة.
قضيت الليلة الأولى في زنزانة في بداية الممر و كان معي فيها نبيل صبري هندسة عين شمس و أشرف صادق طب القاهرة . كانت مأساة أشرف في هذه الليلة أن البطاطين التى وزعوها علينا كانت ممتلئة بالتراب و يبدو أنها كانت على وش البطاطين اللي كانت متخزنة في مخزن السجن، و عبثا حاولنا تغييرها إلا إن محدش سأل فينا لأنهم كلهم كان مشغولين بهذا العدد الكبير من المسجونين الطلبة . أثناء دردشة ، برضه متحفظة، بيننا طوال الليل تبين أن أشرف كان صديقا لأخى الأكبر سيف الذي يكبرني بسنتين و حضر معه دورات منظمة الشباب الاشتراكي و هم في الثانوى في أواخر الستينات و كم كانت سعادته و سعادتى بمعرفة ذلك مما أضفى جو من الألفة و الاطمئنان داخل الزنزانة. بعد هذا اليوم المرهق نمت نوما عميقا برغم رائحة التراب التي كانت تملأ البطانية.
في اليوم التالي قدموا لنا فطور جايبينه من متعهد خارجي فول سخن و طعمية سخنة و جبنة و بيضة مسلوقة و عيش بلدي محترم و شاي في كبايات بلاستك أو ورق. و كان الأكل في هذا السجن جيد جدا في الوجبات الثلاثة. و تم إعادة توزيعنا في الزنازين فكان نصيبي مع نبيل صبري برضه و محمد الجميعي الطالب في طب بيطري القاهرة و الشاعر الكبير أحمد فؤاد قاعود. في المساء تشجع المسجونين و بدأوا التحدث من فتحات شبابيك الزنزانات ، و كل زنزانة يعرّف كل نزيل بإسمه و الجامعة التي ينتمى إليها و ذلك بصوت عالي حتى يصل الصوت إلى أبعد زنزازنة . و كان في كل زنزانة من يبلغ الآخرين و يدعوهم لعمل لتوكيل للأستاذ أحمد نبيل الهلالي المحامى للدفاع عننا ، كأن يقول أنا فلان الفلاني من كلية كذا جامعة كذا و سأطلب أن يكون الأستاذ أحمد نبيل الهلالي محامى لي ، و بعد عدة زنازين قدم أحد نازليها نفسه و قال بصوت هادئ وقور أنا أحمد نبيل الهلالي المحامي !! ، فسادت داخل كل الزنازين حالة من الصدمة و الدهشة و الابتسام في نفس الوقت من هذه المفارقة.
عندما جاء الدور على زنزانتنا قدم كل واحد منا نفسه و كان آخرنا فؤاد قاعود و بعد أن إنتهى سمعنا صوت من بعيد بينادى عليه ، تبين إنه صوت الشاعر الكبير أيضا أحمد فؤاد نجم و بيقول : "يا فؤاد يا قاعود أمك تشخ و هي واقفة !! " و انفجر العنبر كله بالضحك و أصابتني صدمة إزاي الناس الكبارة المحترمين دول يقولوا كدة ، بس طبعا ضحكت جدا على عبارة نجم و على حالة الهلس الجماعية التى سرت في المكان كله خاصة أن فؤاد قاعود نفسه فطس على روحه من الضحك.

***


حبسة 73 - الحلقة رقم (5)
إنتفاضة الطلبة المصريين 1972 - 1973
في القلعة: 1
في صباح اليوم التالي سمحت إدارة السجن بالخروج إلى الحمامات ، كل زنزانة 10 دقائق فقط . و تكرر ذلك مرة أخرى في المساء . و من خلال شبابيك الزنازين تم استكمال التعارف و الابلاغ عن أي وافد جديد و إرسال رسائل التحية بين كل الزملاء بعضهم ببعض خاصة من هم أبناء كلية واحدة أو جامعة واحدة للاطمئنان و شد الأزر ، حيث أنهم كانوا مشتتين و متفرقين بين الزنازين عن قصد. في مساء اليوم الأول ألقى علينا الشاعر أحمد فؤاد نجم قصيدة بعنوان "شيد قصورك" و يقول فيها :
شيد قصورك ع المزارع ... من كدنا وعمل إدينا
والخمارات جنب المصانع ... والسجن مطرح الجنينه
واطلق كلابك في الشوارع ... واقفل زنازينك علينا
و قِل نومنا في المضاجع ... ادي احنا نمنا ما اشتهينا
واتقل علينا بالمواجع ... احنا اتوجعنا واكتفينا
وعرفنا مين سبب جراحنا ... وعرفنا روحنا والتقينا
عمال وفلاحين وطلبه ... دقت ساعتنا وابتدينا
نسلك طريق ما لهش راجع ... والنصر قرب من عينينا
النصر قرب من عينينا
ملاحظة عارضة :
"لما تركنا سجن القلعة بعد حوالي شهر و زعونا على سجن القناطر و الاستئناف كان من نصيبي أن أقيم مع نجم و زملاء آخرين في زنزانة واحدة في سجن القناطر ، فسألته حينها كيف كتبت هذه القصيدة و إحنا كنا لسة واصلين القلعة و فتشونا في مكتب الاستقبال و خدوا مننا كل حاجة كانت معانا ، إنت جبت القلم اللي كتبت بيه منين ؟ . لقيته رفع جاكتة البيجاما و الفانلة الداخلية لفوق و نزل بنطلون البيجاما لتحت و طلع أنبوبة قلم جاف حاططها في تكة اللباس و قال لي هو ده سلاحى ، و لما ييجوا البعدا يقبضوا عليا أروح دافسه في تكة اللباس و لا يمكن يحسوا بيه لما يفتشوني . طيب و بتكتب على إيه يا عم نجم ؟ . رد و قال على أي حاجة في الزنزانة إنشالله على مرتبة السرير ، لكن في الغالب بأكتب على علب السجاير خاصة الكليوباترا و البلمونت اللي كان بيبقى فيها 10 سجاير لأن كانت لها غلاف كرتون خارجى و غلاف داخلي ممكن يتسحب منه و ينكتب على الضهر الأبيض اللي مافيهوش رسومات." .. إنتهت الملاحظة
نعود إلى استكمال الكلام عن فترة القلعة . بعد أيام بدأت تحقيقات النيابة و كانوا بياخدوا كل يوم مجموعة يتم التحقيق معها بواسطة وكلاء أمن الدولة في مبنى مباحث أمن الدولة في لاظوغلي على ما أعتقد . كان يتم نقل كل واحد فينا إلى هناك في سيارة ملاكي و معه ضابط من إدارة أمن الدولة مرافق له. كنا قد اتفقنا من خلال شبابيك الزنازين على ألا نقبل أن يحقق معنا إلا في وجود محامي نختاره حتى يكون سندا قانونيا أثناء التحقيق. مرت عدة أيام و كل مجموعة تروح و ترجع و تؤكد إنها سجلت في محضر التحقيق رفضها للتحقيق في عدم وجود محامى. بعد ذلك تفتق إلى ذهننا أن نرسل نداءات في المساء بعد الساعة العاشرة حيث تكون منطقة القلعة في سكون و تهدأ جلبة النهار و ضوضائه و تكون هناك فرصة لأن يسمعنا أهالي منطقة القلعة المقيمين بالقرب من السجن . كان النداء يقوله واحد مننا و الباقي يرد وراه . إخترنا أكتر واحد صوته عالي و مسرسع و هو الزميل محمود هاشم النادي من كلية تجارة الاسكندرية. النداء كان يقول : من الطلبة المعتقلين بسجن القلعة إلى الشعب المصري .. نرفض التحقيق .. نطالب بمحامي .. سنضرب عن الطعام. حاولت إدارة السجن أن تسخر مما نفعل و تستهين به قائلة لنا إن مفيش حد هيسمعكم و لا هيحس بيكم . و لكن بعد بضعة أيام و فجأة أصابتهم لوثة من هذا النداء ، ففي أحد الأيام و أثناء ما كنا بنقول النداء دخل ظابط السجن و كان برتبة ملازم أول (لا أتذكر إسمه) إلى الزنزانة المقابلة لزنزانتنا و كان فيها قائد النداء محمود هاشم النادي ، الظابط شده من أمام الشباك و نزله من على ضهر السرير . كل ذلك كان في لحظة ما كانت المجموعة بتقوم بدورها في ترديد العبارة الي كان عليها الدور في النداء . النداء كان في منتصفه و إحنا زنزانتنا كانت في المواجهة تماما و أنا و نبيل صبري شوفنا المنظر ده من الشباك و احنا واقفين على ضهر السرير ، و بسرعة خاطر و حتى لا يتوقف النداء حليت محل المنادي الأول و كملت النداء بدلا منه و الزملاء ردوا ورايا ، فإندفع الظابط و معاه المخبرين إلى زنزانتنا و شدني من البنطلون يحاول ينزلنى و لكنى تمسكت بالشباك لغاية لما كملت النداء و كنت في آخر جملة منه. خرج الظابط و المخبرين من الزنزانة و أحس بقية الزملاء بتغير في صوت المنادى و تساءلوا إيه اللي حصل فلما أجبناهم تأكد لنا جميعا أن النداء كان مسبب مشاكل للأمن و عرفنا بعد ذلك من الطلبة سكان المنطقة اللي اتقبض عليهم بعد كدة إن الناس كانت بتتجمع بالليل مخصوص في مكان يقدروا يسمعوا منه نداءات الطلبة بوضوح، فنمنا يومها نومة سعيدة على نية استكمال النداءات في مساء الغد و هو ما لم نتمكن منه. إذ أننا رحنا جميعا في نوم عميق لمدة ساعات طويلة بعد وجبة العشاء و استيقظنا متخدرين كلنا لأنهم حطوا منوم في الأكل و مش قادرين نقوم من السراير. ردا على ذلك قررنا الاضراب عن الطعام و واصلنا في اليوم التالي اطلاق النداء بنجاح. إلا أنهم أعدوا لنا مفاجأة لم تكن في الحسبان ، فعندما بدأنا في النداء شغلوا مكبرات صوت عالية جدا جدا بأغاني موسيقتها صاخبة لدرجة إننا داخل الزنزانة ما كناش عارفين نسمع بعض و أضطررنا نسد آذاننا بإيدينا . لم نتمكن من ارسال النداءات في ذلك اليوم و لا في الأيام التالية ، فكانوا بيشغلوا المكبرات لحظة بدايتنا للنداء و يطفوها لما يلاقونا سكتنا ، استمر الحال على هذا المنوال إلى أن قررنا التوقف عن النداء و أيضا التوقف عن الاضراب عن الطعام في مقابل عدم استخدامهم لمكبرات الصوت و زيادة مدة الخروج للحمامات و إضافة مدة للتريض في فناء السجن و زيادة عدد الزنزانات التي تفتح في وقت واحد بدلا من زنزانة زنزانة تكون مثلا اتنين اتنين أو تلاتة تلاتة مما يتيح وقت أطول لكل مجموعة . كان يمثلنا في المفاوضات مع إدارة السجن الزملاء الأكبرمننا في السن و الأكثر خبرة في التعامل مع هذه الأمور و كان معنا من سبق حبسه من كتاب و صحفيين و محاميين و شعراء و طبعا الطلبة الذين سبق سجنهم في حبسة يناير 72 بعد الإعتصام الشهير الذي جرى في جامعة القاهرة وقتها.

***


حبسة 73 – الحلقة رقم ( 6 )
إنتفاضة الطلبة المصريين 1972 – 1973
بلاغات مباحث أمن الدولة
تمت عملية القبض علينا بناءأ على بلاغات قدمتها مباحث أمن الدولة إلى نيابة أمن الدولة
البلاغ الأول :
صدر بتاريخ 29 / 12 / 1972 و تقدم به مدير مباحث أمن الدولة السيد فهمى ( وزير الداخلية فيما بعد) إلى رئيس نيابة أمن الدولة أفاد فيه بأنه تجمعت لدى الادارة معلومات تفيد أن بعض العناصر المثيرة للشغب ( حسب تعبيره ) قد بدأت منذ العام الدراسي 72 / 73 في إستغلال الظروف التي تمر بها البلاد و التحرك داخل القطاع الطلابي في الكليات و المعاهد العليا المختلفة بهدف إثارة القاعدة الطلابية و تفتيت الوحدة الوطنية و إثارة الشغب . كما أضاف في بلاغه أن هذه العناصر لم تكتفي بإثارة القاعدة الطلابية بل لجأت إلى محاولة الاتصال ببعض النقابات و قاموا بتوزيع المنشورات و البيانات على بعض أعضاء النقابات المهنية لتحقيق هذا الهدف ، و توجيه الدعوة لبعض العناصر المتعاطفة مع هذه الاتجاهات الطلابية المناهضة و التي ظهر نشاطها في حضور الندوات التي تعقدها هذه العناصر بالجامعة و تبني مشاكل الطلبة و الدفاع عنها في محيط النقابات و تأليف الأشعار و الأزجال المناهضة و إلقائها في الندوات بهدف إثارة القاعدة الطلابية و السماح بنشرها في مجلات الحائط. و في نهاية بلاغه قرر مدير مدير مباحث أمن الدولة أنه مرفق بهذا البلاغ كشف بأسماء 67 شخصا من المتزعمين لهذا التحرك ، و طلب صدور الأمر بضبطهم و تفتيش مساكنهم لضبط ما يوجد لديهم من أوراق و مضبوطات أو أي ممنوعات أخرى. و في الساعة الرابعة من صباح يوم 29 / 12 / 1972 أصدر الأستاذ محمد حلمي راغب رئيس نيابة أمن الدولة العليا و هو بمنزله أمره بضبط و تفتيش المتهمين الواردة أسمائهم بالكشف المرفق بالبلاغ .
كان الكشف يحتوى على عدد 50 طالب ، منهم 22 من جامعة القاهرة ، 15 من جامعة عين شمس ، 7 من جامعة الاسكندرية (منهم 5 من كلية الهندسة) ، 2 من كلية طب المنصورة ، 1 من من المعهد العالي للخدمة الاجتماعية بالاسكندرية ، 1 من المعهد العالي للتعاون الزراعي بشبرا الخيمة ، 1 من كلية زراعة الزقازيق ، 1 من الجامعة الأمريكية . بالاضافة إلى 2 من خريجي كلية هندسة القاهرة و هم المهندس أحمد هشام عبد القادر و عصام الغزالي . أما باقي ال 67 شخصا و عددهم 12 فقد كانوا من غير طلبة الجامعة و و كان من ضمنهم الأستاذ أحمد نبيل الهلالي المحامي القدير و الشعراء أحمد فؤاد نجم و أحمد فؤاد قاعود و محمد سيف و زكي عمر و صابر زرد و الكاتب الصحفي محمد نبيل قاسم و الكاتب و المترجم إبراهيم فتحي و كان يعتبر الأب الروحي لتيار يساري راديكالي كان له وجود ملحوظ في جامعتى القاهرة و عين شمس.
البلاغ الثاني :
بتاريخ 30 / 12 / 1972 خاطب اللواء السيد فهمي مدير مباحث أمن الدولة رئيس نيابة أمن الدولة يفيده بأنه قد تم تنفيذ أمر الضبط بالنسبة لعدد 52 شخصا و لم يتم ضبط 15 شخصا ، كما تم ضبط محمد عبد الحميد عفيفي الطالب بكلية هندسة الاسكندرية و كان متواجدا أثناء ضبط و تفتيش عصام الدين البرعي الطالب بنفس الكلية . كما تم ضبط أحمد محمد فتيح ( طالب ) و قد كان متواجدا بمنزل شقيقه المأذون بضبطه و تفتيشه. كما أرفق بخطابه مذكرة بأهم مظاهر نشاط العناصر المثيرة للشغب بالجامعات و المعاهد العليا.
البلاغ الثالث :
تضمن البلاغ بأنه في الساعات الأولى من صباح 1/1/1973 تم القبض على ثلاثة أشخاص في سيارة فولكس حمراء يقومون بتوزيع منشورات على المارة و هم محمد حسني الجمل و زينب سعيد الهلالي و منى سعيد الهلالي الأول و الثالثة من طلبة الجامعة الأمريكية و كان معهم منشورات تطالب بالافراج عن زملائهم الذين أعتقلوا بإسم حرية الكلمة كما جاء في تلك المنشورات.و قد أحالت مباحث أمن الدولة المقبوض عليهم و المنشورات المضبوطة إلى نيابة أمن الدولة و قام وكيل النيابة الأستاذ صهيب حافظ بالتحقيق معهم في الساعة الثامنة من مساء 1 / 1 / 1973
البلاغ الرابع :
في يوم 2 / 1 / 1973 تقدم اللواء السيد فهمى مدير مباحث أمن الدولة ببلاغه إلى رئيس نيابة أمن الدولة جاء فيه أنه عقب القبض على بعض الطلاب مثيري الشغب بالجامعات المختلفة بناء على إذن النيابة الصادر يوم 29 / 12 / 1972 ، قامت بعض العناصر الطلابية بإستغلال هذا الأمر لإثارة قطاعات عريضة من الطلاب و دعوتها للإعتصام و التظاهر و بث الشائعات الكاذبة المغرضة ، كما عمدت بعض هذه العناصر بعد أن استجابت لدعوتها قطاعات من الطلاب من مختلف كليات جامعة القاهرة و اعتصمت بقاعة جمال عبد الناصر منذ مساء السبت 30 / 12/ 1972 و عمدت للتصاعد بنشاطها داخل القاعة و استغلال هذا التجمع لتنفيذ مخططها الرامي إلى تجريح القيادة السياسية و محاولة تعريتها أمام القاعدة الطلابية ( هكذا قال البلاغ) كما تعمل على تحريض القاعدة الطلابية على الانتقال بنشاطها إلى خارج الجامعة و الاتصال بالنقابات المهنية و قطاعات الشعب المختلفة لربطها بالحركة الطلابية أو الحصول على تأييدها و ذلك بكتابة المنشورات و المقالات التي تتضمن التشكيك في القيادة السياسية و كافة الأوضاع السائدة بالدولة .. إلخ. و قد تضمن البلاغ أسماء الطلبة متزعمى الاثارة في قاعة جمال عبد الناصر و عددهم 15 طالب و طالبة ، من بينهم الطالبة سهام سعد الدين صبري و كمال خليل خليل و طلعت فهمى من هندسة القاهرة ، و هاني شكر الله من كلية الاقتصاد و العلوم السياسية و أروى صالح و حياة الشيمي من كلية آداب القاهرة و أحمد شرف الدين من حقوق القاهرة و غيرهم .
و توالت البلاغات مع تصاعد الاحتجاجات الطلابية و توالى القبض على مزيد من الطلبة و الطالبات إلى أن فوجئنا في أحد الأيام بإحضارهم طالب ثانوى مقبوضا عليه و إيداعه في إحدى الزنزانات معنا في سجن القلعة و كانت له حكاية سأرويها في الحلقة القادمة
ملحوظة :
مصدر جميع المعلومات السابقة هو كتاب انتفاضة الطلبة المصريين 1972 – 1973 للاستاذ عادل أمين المحامي الصادر عام 2003

***



حبسة 73 – الحلقة رقم ( 7 )
إنتفاضة الطلبة المصريين 1972 – 1973
أحمد فؤاد نجم و طالب الثانوى في القلعة
فوجئنا بعد عدة أيام من وجودنا في سجن القلعة بوصول طالب في المرحلة الثانوية و إيداعه في أحد الزنازين ، و قد تبين فيما بعد بأن مدير مباحث أمن الدولة قد أصدر بلاغا وجهه إلى رئيس نيابة أمن الدولة بخصوص ملابسات القبض على الطالب. و هو البلاغ الخامس الذي كان نصه كالآتي :
في يوم 2 /1 / 1973 أرسل اللواء السيد فهمي مدير مباحث أمن الدولة بلاغه إلى رئيس نيابة أمن الدولة العليا المحضر الذي حرر بمعرفة مأمور قسم الدقي بتاريخ ذلك اليوم و معه الطالب سامي محمود محمد إبراهيم الفضالي الذي ضبط بمدرسة قصر النيل الخاصة بالدقي أثناء محاولته التحدث إلى طلبة المدرسة مؤيدا لموقف طلبة الجامعة و محاولته إثارتهم و ضبطت ورقتين خطيتين كانت معه تتضمن استنكار اعتقال طلاب الجامعات و تأييد موقفهم ، كما ضبط معه منشور مكتوب على الالة الكاتبة تتضمن قرارات 31/12/1972 بكلية الصيدلة جامعة القاهرة و تتضمن عدة مطالب 1- استنكار مبدأ الاعتقال بدون تهمة 2- الدعوة الى الافراج الفوري عن الطلبة المعتقلين 3- الدعوة الى الديمقراطية و الحرية في الجامعات و رفض كل أشكال الارهاب من تمزيق المجلات إلى الاعتقالات 4- دعوة القوى الوطنية و الديمقراطية و النقابات المهنية في الوطن إلى بحث قضية الديمقراطية و قضية إعتقال الطلبة و اتخاذ موقف ايجابي منها 5- دعوة الدولة الى الالتزام لاعداد البلاد للحرب . و موَّقع عاشت الحركة الطلابية عاشت مصر حرة ديمقراطية.
تأثرنا جميعا للقبض على طالب الثانوى و ايداعه في هذا السجن ذا السمعة السيئة ، و انفعل الشاعر أحمد فؤاد نجم و ألقى علينا في مساء اليوم التالي هذه القصيدة و هي بعنوان " صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر" :
صباح الخير علي الورد اللى فتح فى جناين مصر
صباح العندليب يشــــدي بألحان السبوع يا مصر
صــبـاح الداية واللفة ورش الملح فى الزفة
صباح يطلع بأعلامنا من القلعة لباب النصر
سلامتك يامة يا مهرة
يـــــا حبالة يا ولادة يا سـت الكل يا طاهرة
سلامتك من آلام الحيض من الحرمان من القهرة
سلامة نهدك المرضع سلامة بطنك الخضرا
هناكي وفرخة الوالدة تضمي الولد يا والدة
يصونهم لك ويحميهم يكترهم يخليهم
يجمع شــملهم بيكي يتمم فرحتك بيهم
صباح الخير علي ولادك ، صباح الياسمين والفل
تعيشي ويفنوا حسادك ، ويسقوهم كاسات الذل
وبلغ يا ســـــــمير غطاس يا ضيف المعتقل سنوي
بصوتك دا اللى كله نحاس صباح الخير على الثانوي
وأهلا بيكو فى القلعه وباللي فى الطريق جايين
ما دامت مصر ولادة
وفيها الطلق والعادة
حتفضل شمسها طالعة برغم القلعة والزنازين
أما سمير غطاس الذي جاء ذكره في القصيدة فكان طالب في بكالوريوس كلية طب أسنان القاهرة و سبق له الاشتراك في إعتصام قاعة جمال عبد الناصر في العام السابق و كان من قيادات الاعتصام كممثل لكلية طب الاسنان في اللجنة الوطنية العليا للطلبة التي شكلها الطلبة المعتصمون بالقاعة . كان سمير أكثرنا حماسا في التحدث من خلال شبابيك الزنازين و حتى يبعث جو من الحرارة في ليل طوبة البارد كان يقف على ضهر السرير في زنزانته و يغني لنا الأغاني الشعبية الفلكلورية بتاعة أهل السويس و هو أصلا من أهل هذه المدينة البطلة أو عاش فيها فترة من حياته . تلك الأغاني التي عادة ما تغنى بالأفراح أو المناسبات الشعبية هناك ، و لم تكن تخلو تلك الأغاني الفلكلورية أحيانا من بعض العبارات أو الكلمات التي لها إيحاءات جنسية و لكن بدون ألفاظ فجة أو خارجة. تساءل سمير في أحد الليالي عن مين اللي حافظ أغاني فرقة أولاد الأرض و لما عرف اني حافظها عرض أن نقوم بغنائها سويا ، هو يقوم دور المغني الفردى و أنا أردد وهو معى كوبليهات المجموعة و معنا نبيل صبري على قدر ما يفتكر من كلمات الأغاني ، و كانت هذه الأغنية الرائعة و التي عنوانها " فات الكتير يا بلدنا ما بقاش الا القليل "
فات الكتير يا بلدنا ما بقاش الا القليل .. ما بقاش إلا القليل
و احنا ولادك يا مصر و عينيكي السهرانين
و مصر أصبح ناشيدنا و اللي يعاديكي مين .. اللي يعاديكي مين
القوة يا شبابنا .. الهمة يا جنودنا
هنشق الليل بسلاحنا نفحت فجرنا بسلاحنا
و نجيب النصر .. هدية لمصر
نكتب عليه أسامينا
بينا يلا بينا .. نحرر أراضينا
وعضم اخواتنا .. نلمه نلمه
نسنه نسنه
ونعمل منه مدافع
وندافع
ونجيب النصر .. هديه لمصر
وتحكي الدنيا علينا
بكره يا بلدنا .. هنعوض اللي فاتنا
هنكبر المصانع .. و نخضر المزارع
و نجيب النصر .. هدية لمصر
و نسعد بيه أجيالنا
يا رب إشهد علينا .. يا مصر يا ضي عينينا
نفديها بكل أرواحنا .. نطلع بشبابها صباحنا
و نجيب النصر .. هدية لمصر
و نرجع مجد ماضينا
و الأغنية التانية بعنوان يا ريس البحرية يا مصري و بتقول :
يا ريس البحرية يا مصري .. يا ابو العرق مصري يا ابو الكفاح مصري
هات الدراع .. هاتي لي دراعك هات
دا بحرنا بحرنا .. و ابن البلد صياد
قول للقمر ... قول للقمر لو فات
إيد للبُنا للبُنا .. و ايد ع الزناد تصطاد
قول للقمر .. قول للقمر لو فات
هانعدي و نحارب .. هانعدي و نحارب
نفرش رمال ... الصحراء بالحنة
و نحني قلب الأم .. أم الشهيد غنوة .. و الغنوة دي سلاحى ، و الغنوة دي كفاحى و مدفعي الصاحى على الكنال سهران
يا سهرانين لاجل ما تعيد كل العباد .. كل العباد
يا حلفانين بالدم ما تناموا عدوا الولاد .. عدوا الولاد
و آدي العلم مصري و آدي الكفاح مصري
و آدى العرق مصري و آدى الكفاح مصري

***




تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
550
آخر تحديث
أعلى