سمير عطا الله - المشرد المذهل

ما أزال افتح كتباً جديدة وأرى فيها شيئاً «جديداً» عن يونس بحري. واعتقد ان قصته لن تموت. كما اعتقد انها لم تُروَ حتى الآن. لأن يونس بحري لم يكن قصة واحدة ولا حكاية واحدة ولا طرفة واحدة. كان مجموعة اشخاص يشبهون حكايات جحا ونوادره ولكن من دون حماره. فلم يركب يونس بحري الحمير إلا في مجاهل الملايو. وعدا ذلك جاب «السائح العراقي» الأرض في البواخر والقطارات والطائرات، حيث كان الصحفي والدبلوماسي وإمام جامع باريس، ومستشار ملك ليبيا ومذيع راديو برلين في الحرب العالمية الثانية، وصاحب «العرب» و«حي العرب»، الرجل الذي يتقن 16 لغة وعبر مضيق جبل طارق سباحة وزامل غوبلز وزير اعلام ألمانيا الرايخ الثالث وتحدث الى هتلر وموسوليني، وقام بجولة حول العالم باسم «السائح العراقي»؟
هل هذا فقط؟ لا. فقد ذكر انه تزوج في كل بلد زاره، ومجموع الزيارات والزوجات مائة وعشرون، له منهن اولاد وبنات واحفاد وحفيدات. ولم يكن يونس إمام جامع باريس فحسب بل كان في الليل يغني في المقهى الليلي القريب من المسجد. ثم اصدر في المدينة جريدة «العرب». وأصدر في الثلاثينات صحيفة «العقاب» في بغداد. وفي الستينات فتح في العاصمة العراقية مطعما دعا الى افتتاحه الزعيم عبد الكريم قاسم الذي اخرجه من السجن بعدما اطلق عليه اللقب الشهير «ماكو زعيم إلا كريم».
كتب الكثير المتفرق عن يونس بحري ولم تكتب سيرة كاملة لهذا المشرد المذهل. وها أنا اقرأ الآن بحثا فياضا عنه في كتاب الدكتور عبد الرحمن الشبيلي «تاريخ الاعلام في الجزيرة العربية». وفي هذا البحث نرى يونس في الحجاز يريد عبور الربع الخالي. إلا انه قام برحلة بلغ فيها صنعاء وقابل الإمام يحيى ثم اتجه من اليمن بحرا الى سنغافورة. وجاء ذكر هذا الرجل الصاخب في مذكرات الرجل البالغ الجدية الدكتور عبد الرحمن بدوي الذي التقاه في باريس العام 1946. وكان بحري قد هرب من ألمانيا بعد هزيمة النازيين. وذكر الدكتور بدوي ان يونس اصدر العام 1947 جريدة «العرب» لشن الهجمات اللاذعة على بعض الشخصيات السياسية العربية قصد الابتزاز والاسترزاق. وأصدر بحري عددا كبيرا من الكتب، معظمها دعائي، وبعضها رصين.
التقيت يونس بحري العام 1964 أو 1965 في ردهة فندق كارلتون في الكويت، التي كانت ملتقى الصحافيين، وقد قضى أيامه الأخيرة فيها ثم سافر الى العراق ومات فقيرا. وكان قد بدأ حياته العملية في الكويت ايضا عندما زارها العام 1930 وقيلت فيه قصيدة تكريمية من 64 بيتاً مطلعها:
سرى يقطع الدنيا ويذرع أرضها
تقاذفه وديانها ووعورها
وسافر مع الداعية عبد العزيز الرشيد الى اندونيسيا وبلاد الملايو وأصدرا معاً مجلة «الكويتي والعراقي». وكان الهدف منها وقف المعارك المذهبية في الصحف العربية الصادرة هناك والتي كانت غالبية اصحابها من الحضارمة. وبعد صدور عشرة اعداد من المجلة عاد الى العراق ثم سافر الى اندونيسيا من جديد وانشأ منفردا مجلة «الحق» ثم اختفى تماما ليظهر في برلين صارخا «هنا برلين حي العرب. بلاد العرب للعرب». مات يونس بحري وهو يبحث عن كاتب يدوِّن حكاية أول مشرد عربي في ديار الله. نصفه اسطورة ونصفه الآخر حقيقة اصعب تصديقا. «سائح في تهامة قبل تسعين عاما»، كما يقول الدكتور الشبيلي.



أعلى