( ثانيا )
قصة كتابة ونشر مجموعة ( همسة في زمن الضجيج ) القصصية .
ــــــــــــــــــــــــــــ محمد عارف مشه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
((( المجموعة من إصدار عام 1988 عن دار نشر الأفق الجديد / عمان ـ الأردن . كتب مقدمة المجموعة القاص والصحفي المرحوم بدر عبد الحق / كتب على غلافها الشاعر محمد عرموش والفنان التشكيلي المرحوم عدنان الحلو ، ولوحة الغلاف للفنان الحلو أيضا .
تمّ العثور على نسخة المجموعة الوحيدة منذ شهر ، بعد فترة ضياع زادت عن العشرين عاما بحثا وتنقيبا عنها ، إلى أن عثرت على هذه النسخة الوحيدة في أرشيف كتب بيت أختي التي كانت تقيم في الكويت ، شكرا يا ابنة أمي وأبي على احتفاظك بنسختي الوحيدة واليتيمة ــ همسة في زمن الضجيج ))) .
هبطت الطائرةُ على تمام الساعة العاشرة ليلا في أرض المطار ، بعد التنقل بأكثر من طائرة وأكثر من مطار ، ولمّا لم يكن هناك فنادق متاحة ، وكنتُ برفقة زوجتي وابني بشار في عمر الستة أشهر ، فقد نزلت في بيت صديق برفقة زوجته .
ذهبنا في صباح اليوم التالي ، لمراجعة مديرية المعارف للبنين ، أو ما يُعرف بمديرية التربية والتعليم ، فبدأت مرحلة المعاناة والتنقل بين غرف مكاتب المديرية ، لإتمام اجراءات تحديد موقع المدرسة التي سأعمل فيها معارا من وزارة التربية والتعليم الأردنية . تمتّ الاجراءات وتم تسمية المدرسة في قرية تدعى ( الحيمة ) ، وتم تحديد موقعها بواسطة سكان المنطقة ، بعد أن قمت برفقة صديقي بشراء أثاث البيت كاملا ، وبطبيعة الحال لم أكن أمتلك تكاليف شراء الأثاث ، فكانت أولى المرات في حياتي ، أن اضطرت للاستدانة من أحد وكانت المرة الأخيرة التي استدنتُ فيها من أحد ، بحمد الله ، وأنا الذي كنت في وطني معززا مكرما ، دخلي يكفي نفقاتي . لكن ـ سامح الله الروائي المرحوم يوسف ابو العز ـ ، فقد أغواني قبل سفري ، كونه كان يعمل في مجلة تصدر في جدة ، كي أعمل كاتب مقال ، إضافة لعملي في التدريس ، وتحسين الوضع المعيشي . لكن مشروع العمل في المجلة قد فشل بسبب بعد المسافة ، وعدم توفر فرص التواصل السريع بوسائل البريد التقليدية آنذاك ، والتي كانت محكومة بمزاجية ساعي البريد ، والذي قد يغيب شهرا فأكثر ، دون أن يأتي للقرية لأخذ الرسائل القادمة وتسليم الرسائل الواردة لأصحابها المغتربين، وكان شرط رئاسة تحرير المجلة الانتظام في العمل الرسمي يوميا ، والمسافة بين أبها وجدة مسافة تزيد عن ألف كيلومترا .
قطعت السيارةُ الشارع الاسفلتي بسهولة ، إلى أن وصلت بنا لمنطقة تسمى ( وادي بن هشبل ) ، فبدأت معاناة الطريق الصحراوي الرملي غير المعبّد ، برفقة الظمأ والتعب وارتفاع الحرارة .
إلى أن وصل بنا ترحالنا ، لبيت كنا قد استأجرناه بمبلغ ثلاثمائة ريال شهريا . البيت كان معقولا ، كان اسمنتيا مسقوفا ، فيه كهرباء ، ولا ماء فيه ، يقع على تلة في طرف القرية ، ولا يوجد جار لي سوى صاحب البيت ، يعيش في بيت طيني ولديه أغنام .
في صبيحة اليوم التالي ، ذهبت للمدرسة سيرا على الأقدام ، لمسافة لا تقل عن 2 كم ذهابا وإيابا .. دخلتُ المدرسة ، فقابلت شابا مبتسما ، رحب بي وعرّف بنفسه نصر حمدي باشا من مصر الشقيقة ، ثم على معلم من سوريا ، وآخر من مدينة إربد الحبيبة ، فتعانقت مع ابن اربد وأعتقد كان اسمه نايف ، دون سابقة معرفة أحدنا للآخر إلا أنه ابن وطني .
شربنا الشاي في المدرسة والذي كان معدّا في سخانات لمن يشاء تناول الشاي وقتما يشاء ، ثم دخلنا لغرفة الإدارة المدرسية ، وقاما بالتعريف بي لمدير المدرسة ، الذي عرّف بنفسه أنه ابن القرية ، واسمه عبد الله أبو راشد ، ومساعده من القرية أيضا واسمه عبد الرحمن .سلمته كتاب التعيين ثم جلست .
قضيتُ اليوم الأول واليوم الثاني بسلاسة ، وفي اليوم الثالث أو الرابع ، انتهى ماء الشرب من البيت ، الذي كنا قد أحضرناه معنا من المدينة في ( جراكل ) ـ سطول ماء مغلقة ـ ، فكانت أصعب المهمات وأكثرها قسوة ، الحصول على ماء الشرب عن طريقين : ـــ إما عن طريق شراء صهريج ماء كاملا بقيمة مائة وخمسين ريالا ، وهو مبلغ مرتفع ولا قدرة لي على دفعه ، خاصة وأن الراتب الشهري لن أستلمه قبل شهرين . أما الطريقة الثانية ، فهي أكثر تعقيدا ، إذ يجب الحصول على رخصة قيادة سيارة وليس قبل شهرين أو ثلاثة أيضا ، ويجب أن يكون لديك سيارة خاصة ، لتتمكن من السير بها في الصحراء ، لمدة ليس أقل من ساعة ذهابا وأخرى إيابا ، للحصول على الماء الصالح للشرب ، أو يسمح لك أحدهم بإحضار ( جركل أو اثنين ) لك في سيارته ، حين يذهب لشراء ماء الشرب له ولأسرته، فيسّرها الله سبحانه في البداية . وبقي الماء المالح أو غير الصالح للشرب متوفرا ، ومن السهل الحصول عليه من بئر صاحب البيت .
مضى الاسبوع الأول من وصولنا القرية على خير ، وفي ليلة الأربعاء على صباح الخميس ، حيث كانت عطلة نهاية الاسبوع يومي الخميس والجمعة ، ارتفعت فيها درجة حرارة بشّار ، وأصيب بإسهال شديد . لم يكن لدينا أدوية لطفل رضيع ، فكان في القرية طبيب من السودان الشقيق يسكن في المركز الصحي ، وعليّ السير على الأقدام في ليلة مظلمة ، بين الأشجار حينا ، وبين طريق رملي صحراوي حينا آخر ، وسط ظلام ، وكلاب ضالة مفترسة حينا، وأفاع وعقارب وزواحف أخرى كالضب حينا آخر ، ففي وسط هذا الذعر والخوف ، لم يمنعني حبي وعطفي على ابني ، من الوصول إلى المركز الصحي لإحضار الطبيب ، لكن الطبيب خاف من الخروج ليلا ، اعتذر وطلب مني إحضار طفلي ، أو الانتظار للصباح .
عدتُ منكسرا مهزوما راكضا ثانية مصمما على حمل ابني الرضيع للمركز الصحي للقرية . وعندما وصلت البيت ، أصبتُ بحيرة ، هل اخاطر بابني وزوجتي ليلا والعودة للمركز الصحي ، أم الانتظار لصباح اليوم التالي ؟ ...
قصة كتابة ونشر مجموعة ( همسة في زمن الضجيج ) القصصية .
ــــــــــــــــــــــــــــ محمد عارف مشه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
((( المجموعة من إصدار عام 1988 عن دار نشر الأفق الجديد / عمان ـ الأردن . كتب مقدمة المجموعة القاص والصحفي المرحوم بدر عبد الحق / كتب على غلافها الشاعر محمد عرموش والفنان التشكيلي المرحوم عدنان الحلو ، ولوحة الغلاف للفنان الحلو أيضا .
تمّ العثور على نسخة المجموعة الوحيدة منذ شهر ، بعد فترة ضياع زادت عن العشرين عاما بحثا وتنقيبا عنها ، إلى أن عثرت على هذه النسخة الوحيدة في أرشيف كتب بيت أختي التي كانت تقيم في الكويت ، شكرا يا ابنة أمي وأبي على احتفاظك بنسختي الوحيدة واليتيمة ــ همسة في زمن الضجيج ))) .
هبطت الطائرةُ على تمام الساعة العاشرة ليلا في أرض المطار ، بعد التنقل بأكثر من طائرة وأكثر من مطار ، ولمّا لم يكن هناك فنادق متاحة ، وكنتُ برفقة زوجتي وابني بشار في عمر الستة أشهر ، فقد نزلت في بيت صديق برفقة زوجته .
ذهبنا في صباح اليوم التالي ، لمراجعة مديرية المعارف للبنين ، أو ما يُعرف بمديرية التربية والتعليم ، فبدأت مرحلة المعاناة والتنقل بين غرف مكاتب المديرية ، لإتمام اجراءات تحديد موقع المدرسة التي سأعمل فيها معارا من وزارة التربية والتعليم الأردنية . تمتّ الاجراءات وتم تسمية المدرسة في قرية تدعى ( الحيمة ) ، وتم تحديد موقعها بواسطة سكان المنطقة ، بعد أن قمت برفقة صديقي بشراء أثاث البيت كاملا ، وبطبيعة الحال لم أكن أمتلك تكاليف شراء الأثاث ، فكانت أولى المرات في حياتي ، أن اضطرت للاستدانة من أحد وكانت المرة الأخيرة التي استدنتُ فيها من أحد ، بحمد الله ، وأنا الذي كنت في وطني معززا مكرما ، دخلي يكفي نفقاتي . لكن ـ سامح الله الروائي المرحوم يوسف ابو العز ـ ، فقد أغواني قبل سفري ، كونه كان يعمل في مجلة تصدر في جدة ، كي أعمل كاتب مقال ، إضافة لعملي في التدريس ، وتحسين الوضع المعيشي . لكن مشروع العمل في المجلة قد فشل بسبب بعد المسافة ، وعدم توفر فرص التواصل السريع بوسائل البريد التقليدية آنذاك ، والتي كانت محكومة بمزاجية ساعي البريد ، والذي قد يغيب شهرا فأكثر ، دون أن يأتي للقرية لأخذ الرسائل القادمة وتسليم الرسائل الواردة لأصحابها المغتربين، وكان شرط رئاسة تحرير المجلة الانتظام في العمل الرسمي يوميا ، والمسافة بين أبها وجدة مسافة تزيد عن ألف كيلومترا .
قطعت السيارةُ الشارع الاسفلتي بسهولة ، إلى أن وصلت بنا لمنطقة تسمى ( وادي بن هشبل ) ، فبدأت معاناة الطريق الصحراوي الرملي غير المعبّد ، برفقة الظمأ والتعب وارتفاع الحرارة .
إلى أن وصل بنا ترحالنا ، لبيت كنا قد استأجرناه بمبلغ ثلاثمائة ريال شهريا . البيت كان معقولا ، كان اسمنتيا مسقوفا ، فيه كهرباء ، ولا ماء فيه ، يقع على تلة في طرف القرية ، ولا يوجد جار لي سوى صاحب البيت ، يعيش في بيت طيني ولديه أغنام .
في صبيحة اليوم التالي ، ذهبت للمدرسة سيرا على الأقدام ، لمسافة لا تقل عن 2 كم ذهابا وإيابا .. دخلتُ المدرسة ، فقابلت شابا مبتسما ، رحب بي وعرّف بنفسه نصر حمدي باشا من مصر الشقيقة ، ثم على معلم من سوريا ، وآخر من مدينة إربد الحبيبة ، فتعانقت مع ابن اربد وأعتقد كان اسمه نايف ، دون سابقة معرفة أحدنا للآخر إلا أنه ابن وطني .
شربنا الشاي في المدرسة والذي كان معدّا في سخانات لمن يشاء تناول الشاي وقتما يشاء ، ثم دخلنا لغرفة الإدارة المدرسية ، وقاما بالتعريف بي لمدير المدرسة ، الذي عرّف بنفسه أنه ابن القرية ، واسمه عبد الله أبو راشد ، ومساعده من القرية أيضا واسمه عبد الرحمن .سلمته كتاب التعيين ثم جلست .
قضيتُ اليوم الأول واليوم الثاني بسلاسة ، وفي اليوم الثالث أو الرابع ، انتهى ماء الشرب من البيت ، الذي كنا قد أحضرناه معنا من المدينة في ( جراكل ) ـ سطول ماء مغلقة ـ ، فكانت أصعب المهمات وأكثرها قسوة ، الحصول على ماء الشرب عن طريقين : ـــ إما عن طريق شراء صهريج ماء كاملا بقيمة مائة وخمسين ريالا ، وهو مبلغ مرتفع ولا قدرة لي على دفعه ، خاصة وأن الراتب الشهري لن أستلمه قبل شهرين . أما الطريقة الثانية ، فهي أكثر تعقيدا ، إذ يجب الحصول على رخصة قيادة سيارة وليس قبل شهرين أو ثلاثة أيضا ، ويجب أن يكون لديك سيارة خاصة ، لتتمكن من السير بها في الصحراء ، لمدة ليس أقل من ساعة ذهابا وأخرى إيابا ، للحصول على الماء الصالح للشرب ، أو يسمح لك أحدهم بإحضار ( جركل أو اثنين ) لك في سيارته ، حين يذهب لشراء ماء الشرب له ولأسرته، فيسّرها الله سبحانه في البداية . وبقي الماء المالح أو غير الصالح للشرب متوفرا ، ومن السهل الحصول عليه من بئر صاحب البيت .
مضى الاسبوع الأول من وصولنا القرية على خير ، وفي ليلة الأربعاء على صباح الخميس ، حيث كانت عطلة نهاية الاسبوع يومي الخميس والجمعة ، ارتفعت فيها درجة حرارة بشّار ، وأصيب بإسهال شديد . لم يكن لدينا أدوية لطفل رضيع ، فكان في القرية طبيب من السودان الشقيق يسكن في المركز الصحي ، وعليّ السير على الأقدام في ليلة مظلمة ، بين الأشجار حينا ، وبين طريق رملي صحراوي حينا آخر ، وسط ظلام ، وكلاب ضالة مفترسة حينا، وأفاع وعقارب وزواحف أخرى كالضب حينا آخر ، ففي وسط هذا الذعر والخوف ، لم يمنعني حبي وعطفي على ابني ، من الوصول إلى المركز الصحي لإحضار الطبيب ، لكن الطبيب خاف من الخروج ليلا ، اعتذر وطلب مني إحضار طفلي ، أو الانتظار للصباح .
عدتُ منكسرا مهزوما راكضا ثانية مصمما على حمل ابني الرضيع للمركز الصحي للقرية . وعندما وصلت البيت ، أصبتُ بحيرة ، هل اخاطر بابني وزوجتي ليلا والعودة للمركز الصحي ، أم الانتظار لصباح اليوم التالي ؟ ...