أحسبه كان في عام 1962 إن صدقتني الذاكرة. وبداية القصة أن الأستاذ العقاد رحمه الله في إحدى ندواته التي اعتاد أن يعقدها يوم الجمعة -ولم أكن من روادها- تحدث عن كتاب أصدره الدكتور محمد كامل حسين -وهو أستاذ شهير في طب العظام، وعضو في مجمع اللغة العربية- بعنوان "وحدة المعرفة"، وضَمَّنَ كتابه هذا مذهبا فلسفيا نسبه إلى نفسه. وذكر الأستاذ العقاد أن هذا المذهب ليس خالصا للدكتور محمد كامل حسين، وأن صاحبه الأصيل هو فيلسوف بريطاني اسمه صمويل ألكسندر. ويبدو أن بعض رواد الندوة آثر أن ينقل القضية إلى الرأي العام، فبعث للأستاذ بسؤال في الموضوع، وظهر رأي العقاد في الكتاب منشورا في يوميات صحيفة الأخبار.
غضب الدكتور حسين مما كان، ونشرت له "الأخبار" ردا على الأستاذ العقاد قاسي اللهجة أذكر منه قوله -والصياغة لي معتمدا على ما تحتفظ به الذاكرة-: إن العقاد مثقف كبير ولكن تقديره لثقافته مبالغ فيه جدا، وأنه لا يُعرَف له اختصاص؛ فهو يكتب في كل شيء، ويفتي في كل شيء؛ ومن هنا كثيرا ما يجد الخطأ إلى ما يكتبه سبيلا. بيد أن أخطر ما جاء في الرد هو أن الدكتور حسين قرر جازما أنه لا يعرف فيلسوفا اسمه صمويل ألكسندر ، وأنه قلّب دائرة المعارف البريطانية في آخر طبعاتها فلم يعثر على فيلسوف بهذا الاسم، فمن أين جاء العقاد بهذا الاسم وبالمذهب الذي ينسبه إليه!
ومن المتوقع بداهة أن يكون للعقاد رد كاسح نشرته الصحيفة أيضا، وفي رده ذَكَّر الدكتور حسين بأنه لا حقَّ له في الحديث عن الاختصاص؛ إذ إنه طبيب عظام أو "مجبراتي" ويتحدث في الفلسفة، وهذا خرق لقاعدة التزام الاختصاص. غير أن أخطر ما جاء في رد العقاد هو قوله إن ثمة مقالا ضافيا عن صمويل ألكسندر وفلسفته بدائرة المعارف البريطانية خلافا لما زعمه الدكتور، وقد جاء فيه عن مذهبه في وحدة المعرفة ما ترجمته كذا وكذا، وأنه لا تفسير لذلك إلا أن الدكتور حسين لا يعرف كيف يكون البحث في دائرة المعارف، أو أنه يكذب على قرائه.
والحق أن الرد كان حاسما وصادما في بابه، بل إنه -في ما أظن- أوقع الدكتور حسين في حرج حريج ، وهو كما ذكرت أستاذ طب مرموق وزميل للعقاد بالعضوية في المجمع اللغوي وصاحب عمل إبداعي يحتل مكانه في تاريخ الرواية العربية هو "قرية ظالمة". لقد بدا الأمر للقراء لغزا يعتاص على طالب الحل، لكن كان من حظي أن أعرف تأويل ما لم يستطع القرّاء عليه صبرا، وإليكم خالصة ما شَهِدْتُ وشاهَدْت.
كنت -يوم ظهور رد العقاد- في ضيافة صديقي الأستاذ شوقي علي هيكل رحمه الله وهو شاعر وزميل دراسة بدار العلوم، وكان واحدا من حواريي الأستاذ العقاد وتلاميذه المقربين، وتذاكرنا الأمر فإذا شوقي يعرض عليّ أن نذهب في التوّ إلى منزل الأستاذ ، وكانا شبه جارين في ضاحية مصر الجديدة. وقال لي شوقي -وهو من أعرف الناس بعادات العقاد- إن من عادة الأستاذ إذا كان مشتبكا في معركة فكرية أن يحضر إلى الشقة المقابلة لسكنه الخاص؛ تلك التي يلقى فيها تلاميذه وإن كان اليوم غير جمعة؛ ليستطلع ردود الأفعال ويبسط القول في التفاصيل، أما أنا فأخذتني المهابة وحملتني على التردد، على حين فعلت اللهفة فعلها لرؤية هذا الرجل العظيم والجلوس إليه، وكانت لها النصرة فانطلقنا. استقبلنا الأستاذ عامر العقاد وجلسنا نحتسي الشاي، وإن هي إلا دقائق حتى دخل علينا الأستاذ بسمته المهيب قائلا في لهجة منتشية: السلام عليكم؛ ما رأيكم دام فضلكم؟ لقد هشمتُ عظام طبيب العظام.
في الجلسة التي ضمتنا -نحن الثلاثة- في حضرة الأستاذ تحدث في ما كان بينه وبين الدكتور حسين، وفي أمور أخرى أذكر منها حديثه عن حرب اليمن؛ تلك التي تورط فيها الجيش المصري وكانت في شباب شبوبها، إذ تنبأ فيها الأستاذ -شهد الله- بخسائر عسكرية واقتصادية فادحة، وذكر أن الرابح الأول منها هو إسرائيل، وقد حصل. وأيًّا ما كان فقد واتت الجرأة شوقي هيكل فسأل الأستاذ عن سر السقطة التي حاقت بالدكتور حسين، فكشف لنا الأستاذ عن السر؛ قال: إن من تقاليد دائرة المعارف البريطانية ألا تشمل بالترجمة من كان حيًّا، وأن صمويل ألكسندر مات بعد صدور الطبعة الأخيرة، ومن ثَمَّ ظهرت ترجمته في ملحق من ملاحق الدائرة، سيجري ضمه إلى الطبعة التي لم تصدر بعد. وكان الملحق في حوزة العقاد ولم يطلع عليه الدكتور محمد كامل حسين.
فانظر -أيها القارئ رحمني الله وإياك- كيف سقط الرجل الكبير في شَرَك العقاد، وما جاوزه الصدق ولا جاوز العقاد. نعم فقد كان كلاهما صادقا، ولكن اختلفت العاقبة.
وهكذا كان!
غضب الدكتور حسين مما كان، ونشرت له "الأخبار" ردا على الأستاذ العقاد قاسي اللهجة أذكر منه قوله -والصياغة لي معتمدا على ما تحتفظ به الذاكرة-: إن العقاد مثقف كبير ولكن تقديره لثقافته مبالغ فيه جدا، وأنه لا يُعرَف له اختصاص؛ فهو يكتب في كل شيء، ويفتي في كل شيء؛ ومن هنا كثيرا ما يجد الخطأ إلى ما يكتبه سبيلا. بيد أن أخطر ما جاء في الرد هو أن الدكتور حسين قرر جازما أنه لا يعرف فيلسوفا اسمه صمويل ألكسندر ، وأنه قلّب دائرة المعارف البريطانية في آخر طبعاتها فلم يعثر على فيلسوف بهذا الاسم، فمن أين جاء العقاد بهذا الاسم وبالمذهب الذي ينسبه إليه!
ومن المتوقع بداهة أن يكون للعقاد رد كاسح نشرته الصحيفة أيضا، وفي رده ذَكَّر الدكتور حسين بأنه لا حقَّ له في الحديث عن الاختصاص؛ إذ إنه طبيب عظام أو "مجبراتي" ويتحدث في الفلسفة، وهذا خرق لقاعدة التزام الاختصاص. غير أن أخطر ما جاء في رد العقاد هو قوله إن ثمة مقالا ضافيا عن صمويل ألكسندر وفلسفته بدائرة المعارف البريطانية خلافا لما زعمه الدكتور، وقد جاء فيه عن مذهبه في وحدة المعرفة ما ترجمته كذا وكذا، وأنه لا تفسير لذلك إلا أن الدكتور حسين لا يعرف كيف يكون البحث في دائرة المعارف، أو أنه يكذب على قرائه.
والحق أن الرد كان حاسما وصادما في بابه، بل إنه -في ما أظن- أوقع الدكتور حسين في حرج حريج ، وهو كما ذكرت أستاذ طب مرموق وزميل للعقاد بالعضوية في المجمع اللغوي وصاحب عمل إبداعي يحتل مكانه في تاريخ الرواية العربية هو "قرية ظالمة". لقد بدا الأمر للقراء لغزا يعتاص على طالب الحل، لكن كان من حظي أن أعرف تأويل ما لم يستطع القرّاء عليه صبرا، وإليكم خالصة ما شَهِدْتُ وشاهَدْت.
كنت -يوم ظهور رد العقاد- في ضيافة صديقي الأستاذ شوقي علي هيكل رحمه الله وهو شاعر وزميل دراسة بدار العلوم، وكان واحدا من حواريي الأستاذ العقاد وتلاميذه المقربين، وتذاكرنا الأمر فإذا شوقي يعرض عليّ أن نذهب في التوّ إلى منزل الأستاذ ، وكانا شبه جارين في ضاحية مصر الجديدة. وقال لي شوقي -وهو من أعرف الناس بعادات العقاد- إن من عادة الأستاذ إذا كان مشتبكا في معركة فكرية أن يحضر إلى الشقة المقابلة لسكنه الخاص؛ تلك التي يلقى فيها تلاميذه وإن كان اليوم غير جمعة؛ ليستطلع ردود الأفعال ويبسط القول في التفاصيل، أما أنا فأخذتني المهابة وحملتني على التردد، على حين فعلت اللهفة فعلها لرؤية هذا الرجل العظيم والجلوس إليه، وكانت لها النصرة فانطلقنا. استقبلنا الأستاذ عامر العقاد وجلسنا نحتسي الشاي، وإن هي إلا دقائق حتى دخل علينا الأستاذ بسمته المهيب قائلا في لهجة منتشية: السلام عليكم؛ ما رأيكم دام فضلكم؟ لقد هشمتُ عظام طبيب العظام.
في الجلسة التي ضمتنا -نحن الثلاثة- في حضرة الأستاذ تحدث في ما كان بينه وبين الدكتور حسين، وفي أمور أخرى أذكر منها حديثه عن حرب اليمن؛ تلك التي تورط فيها الجيش المصري وكانت في شباب شبوبها، إذ تنبأ فيها الأستاذ -شهد الله- بخسائر عسكرية واقتصادية فادحة، وذكر أن الرابح الأول منها هو إسرائيل، وقد حصل. وأيًّا ما كان فقد واتت الجرأة شوقي هيكل فسأل الأستاذ عن سر السقطة التي حاقت بالدكتور حسين، فكشف لنا الأستاذ عن السر؛ قال: إن من تقاليد دائرة المعارف البريطانية ألا تشمل بالترجمة من كان حيًّا، وأن صمويل ألكسندر مات بعد صدور الطبعة الأخيرة، ومن ثَمَّ ظهرت ترجمته في ملحق من ملاحق الدائرة، سيجري ضمه إلى الطبعة التي لم تصدر بعد. وكان الملحق في حوزة العقاد ولم يطلع عليه الدكتور محمد كامل حسين.
فانظر -أيها القارئ رحمني الله وإياك- كيف سقط الرجل الكبير في شَرَك العقاد، وما جاوزه الصدق ولا جاوز العقاد. نعم فقد كان كلاهما صادقا، ولكن اختلفت العاقبة.
وهكذا كان!