الكيمياء وأصولها التاريخية.
تعريف الكيمياء:
يقصد بالكيمياء الدراسة العلمية لخصائص المادة وتركيبها وبنيتها، والتغيرات التي تحدث في بنية المادة وتكوينها، والتغيرات المصاحبة في الطاقة. ( )
أصل كلمة (كيمياء)
اختلف مؤرخو العلم حول أصل كلمة كيمياء. فمنهم من ردها إلى الفعل اليوناني chio الذي يفيد السبك والصهر، ومنهم من أرجعها إلى أصول عبرية من اللفظة العبرية "شامان" وتعني الغموض والسر، أو أنها مأخوذة من كلمة شم أو (chem) ويقصد بها الأرض السوداء أو الحرق.
ويقال أن قدماء المصريين كانوا يسمون بلادهم "كمت" ومعناها الأرض السوداء، وهي كلمة مأخوذة من الفعل "كم" بمعنى يسود لونه، وفي الكلمة إشارة إلى أن تربة مصر خصبة وغنية في عطائها، وقد حورت في عهد البطالمة فأصبحت (chemis) وكان مدلولها على الصنعة أو السيمياء التي اشتهر بها المصريون. ( )
ومنهم من يعزي اشتقاقها إلى كلمة مصرية قديمة (سيميا) معناها السواد، وقد أولها مؤرخو الكيمياء شتى التآويل، فمنهم من قال إن معناها الأرض السوداء إشارة إلى الخصب والبركة، ومنهم من جعل السواد رمزاً إلى السر والخفاء.( )
"ومنهم من يرى أنها مشتقة من كلمة كمى العربية أي ستر وخفى. ويقال، كمى الشهادة يكميها، إذا كتمها."( )
مرادفات كلمة كيمياء في المراجع القديمة:
اذا تتبعنا مختلف المراجع القديمة نجد أن هذا العلم كانت تطلق عليه أسماء كثيرة منها: الكيمياء، السيمياء، الخيمياء، الصنعة، علم الصنعة، علم الحجر، علم التدبير، علم الميزان، صنعة الكيمياء، صنعة الأكسير، الصنعة الالهية، الحجر المكتوم، السر المكتوم، السر الأعظم، وحجر الفلاسفة.
وتدلنا كثرة الأسماء التى كانت تطلق على هذا العلم قديما على عدم نضجه قبل الإسلام.
أما علماء الكيمياء المسلمون فقد أطلقوا على هذا العلم أسماء كثيرة منها: علم الصنعة- صنعة الكيمياء- صنعة الأكسير- الحكمة- علم الحجر- علم التدبير- وعلم الميزان. ( )
بدايات علم الكيمياء أو ما يعرف ب(الخيمياء) أو (السيمياء):
الخيمياء أو السيمياء مزيج من الزَّيف والسحر والفلسفة الباطنية. اكتسبت شعبيتها منذ بداية النصرانية حتى القرن الثامن عشر الميلادي. حاول الخيميائيون تحويل المعادن الخسيسة إلى فضة وذهب، كما حاولوا إيجاد إكسير الحياة وهي مادة تشفي الأمراض، لكنهم انتهوا إلى الفشل. غير أن جهودهم في تحضير ودراسة المواد الكيميائية ساعد في تطوير علم الكيمياء.
كان بعض هؤلاء الخيميائيين دجَّالين، لكن بعضهم الآخر كانوا علماء. وكانت وجهتهم فلسفية أكثر منها كيميائية. فقد شعروا أنهم إذا تعلموا كيف يتحصلون على الذهب من المعادن الخسيسة سيكون باستطاعتهم إتقان أشياء أخرى. واعتبروا أن الذهب هو المعدن الكامل لجمال بريقه ولمقاومته للصدأ.
دُرست الخيمياء في الصين والهند قبل ميلاد المسيح. لكنها تطورت كنظام رئيسي في مصر خلال الأعوام الثلاثمائة اللاحقة. فقد استخدمها العلماء الناطقون بالإغريقية في الإسكندرية في محاولة تفسير الكيفية التي تمكَّن بها الحرفيون المصريون من صنع الأشياء. انتشرت الخيمياء الإغريقية المصرية من سوريا وبلاد الفرس إلى العرب الذين كان لهم الفضل الأكبر في الانتقال من مرحلة الخيمياء إلى علم الكيمياء في نهاية القرن الثالث الهجري، بداية العاشر الميلادي، وانتقلت إلى أوروبا الغربية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.
استمد الخيميائيون نظرياتهم حول المادة من قدامى الإغريق. واعتقدوا أن المادة كلها مكونة من مادة وحيدة عديمة الشكل. كما اعتقدوا أن هذه المادة أساس العناصر الأربعة: الأرض والهواء والنار والماء عند اتحادها بالحرارة والبرودة، أو بفعل البلل أو الجفاف.
واعتقدوا أيضًا بإمكانية تغيير مادة ما إلى مادة أخرى بتغيير توازن هذه العناصر. سميت هذه العملية بالتحول، أدت بهم هذه النظرية إلى محاولة إنتاج الذهب من المعادن الأخرى. وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي، حاول العالم السويسري باراسيلسس إحلال ثلاثة عناصر، الكبريت، الزئبق، الملح محل الأرض والنار والماء. وبحث الخيميائيون أيضًا عن حجر الفلاسفة، وهي مادة سحرية يُعتقد بقدرتها على تسهيل عملية التحول.
أدت ديمومة جودة الذهب إلى اعتقاد بعض الناس بإمكانية اكتشاف سر طول الحياة أو حتى الخلود، وذلك في حالة اكتشافهم كيفية صنع الذهب من المواد الخسيسة. وكان الصينيون يعتقدون أن تناول الطعام في أطباق ذهبية يطيل العمر.
ارتبطت الخيمياء بالعديد من المعتقدات الدينية. ويُعتقد أن طرق صنع الذهب كانت تتصل رمزيا بالموت والتحلُّل والتجدد والنشور. ارتبطت الخيمياء برباط وثيق مع التنجيم، بسبب الاعتقاد القائل إن كل جسم سماوي يمثل ويسيطر على معدن محدد.
ظن بعض الناس أن الشمس تمثل الذهب، والقمر يمثل الفضة، والمريخ يمثل الحديد، والزهرة يمثل النحاس، والمشتري يمثل القصدير، وزحل يمثل الرصاص، وعطارد يمثل الزئبق. ( )
الفصل الثاني
الكيمياء في الحضارات القديمة
حاول الإنسان عبر العصور أن يبحث في طبيعة العالم الذي حوله، وذلك بدافع غريزة حب المعرفة، ومن خلال ذلك، تم الكثير من الاكتشافات المهمة التي ساعدت على تطوير العلوم والتكنولوجيا ومن ضمنها علم الكيمياء وهو علم يعنى بطبيعة المادة ومكوناتها، وكذلك بكيفية تفاعل المواد المختلفة مع بعضها بعضاً، وعلى هذا تكون وظيفة العالم الكيميائي الأساسية هي معرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات عن طبيعة المادة التي أوجدها الله في هذا الكون.
منشأ علم الكيمياء:
تعود بدايات علم الكيمياء إلى زمن موغل في القدم،فلقد أختلف في مكان نشأته، قيل أن بداياته كانت في القرن الثالث قبل الميلاد، كما أن الحضارات القديمة التي سادة كلاً من الصين والهند كانت تعتبر المعالجة الكيميائية (تغيير المواد بالسوائل الكيميائية) من بين ما يتقنونه مهارة وحذقاً وأن هذه المعرفة والبراعة انتشرتا غربا إلى إمبراطوريتي فارس ومصر القديمة. ( )
الكيمياء في الحضارة الصينية القديمة:
يرى بعض المؤرخين أن من الممكن اعتبار الصين الموطن الحقيقي الذي نبتت فيه الكيمياء. فمنذ القرن الثالث وما قبل ذلك بكثير ظهرت كتابات كيميائية ذات ملامح خاصة عند جماعة "الطاو". والتي تعتبر الكون كله مظهرا لجوهر حي تحكمه روح شاملة. وهذه الروح تتجلى في القوى الثنائية لمبدأي "الين" و "اليانج", فالمعادن كلها طبقا لهذه النظرية أصلها واحد واختلافها راجع إلى النسبة التي تقترب بها من عنصري "الين" و "اليانج" وعلى هذا الأساس عد الصينيون تحويل المعادن بعضها إلى البعض الآخر ممكنا تماماً.
وقد سجل تاريخ الصين محاولات في الكيمياء لتحويل المعادن بوسائل صناعية زمن الإمبراطور الشهير "ووتي" (140-86 ق.م).
واهم موضوعات الكيمياء التي شغل بها الصينيون في تلك الفترة هو تدبير "إكسير الحياة المقدس" الذي أسموه " التان " (Tan).
وقد اختلفت الآراء حول حقيقة الكيمياء الصينية فهنالك شبه كبير بين كيمياء الصين والكيمياء العربية الأمر الذي يظهر معه أنهما إما أن يكونا قد نبعا من مصدر واحد أو أن يكون احدهما أصلا للآخر. ( )
ولا يزال السؤال غامضاً عن صلة الوصل بين الكيمياء الصينية والكيمياء المصرية القديمة، وهذا ما ح أول الباحث جونسون Jhonson أن يبرهن عليه، حيث ذكر عن كاتب صيني قديم يرجع عهده إلى سنة 330 ق. م أنه حرّر عن الفلسفة التاتوئية والسيمياء، والأخيرة تحتوي على كيفية تحويل المعادن إلى معادن ثمينة، وكيفية الحصول على إكسير الحياة. ( )
استعملت بعض المعادن الثقيلة والسامة في بعض المستحضرات الصينية بناء على اعتقادهم أن السموم قد تشفي، ومنها الذهب وقد أكد هذه النظرية الاختصاصي الكيميائي "وي بوينغ" سنة 144م. حيث صرح أن الذهب غير قابل للفساد وكذا يعتبر من أثمن الأشياء... ويساعد على إمداد الحياة وحفظ سواد الشعر وسلامة الأسنان واستعادة الشباب.. ويقي من "بؤس هذا العالم".. وقد وصف هؤلاء الأخصائيون في الكيمياء مستحضراتهم بطريقة مبهمة حسب المفهوم الحديث وقد شددوا على أهميتها في الحصول على الخلود والمحافظة على الصحة واستعادة الشباب الضائع. ( )
الصينيون وصناعة الورق: الورق المعروف حالياً، يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي. ففي عام 105 بعد الميلاد صنع الصيني تسي آي لون ورقا من لحاء الشجر وشباك الأسماك. ثم توصل الصينيون إلى صنع الورق من عجائن لباب الشجر، فحلت بذلك مكان الحرير غالي الثمن، والغاب ثقيل الوزن اللذين قنع بهما الصينيون زمناً طويلاً.
بعد ذلك طور الصينيون هذه الصنعة باستخدام مادة ماسكة من الغراء أو الجيلاتين مخلوطة بعجينة نشوية ليقووا بها الألياف ويجعلوا الورق سريع الامتصاص للحبر. ( )
واستفاد الصينيون القدماء من العناصر الطبيعية الثلاثة: النبات والحيوان والمعادن في الوصفات الطبية التي استعملوها، وجمعت الوصفات في أضخم كتاب يسمى (بن تساو) وهو (ألفار ماكوبيا الكبيرة)، والذي يقع في اثنين وخمسين جزءاً وتحتوي على أكثر من ألفي دواء وطرق تحضير ما يقارب من ثمانية آلاف وصفة طبية، إلى جانب استخدام بعض المعادن كالزئبق واليود في بعض الوصفات. ( )
كما أنه من الثابت تاريخياً أن الصينيين هم الذين اخترعوا البارود.. ولكنهم لم يسخروه للاستفادة منه في استعماله كقوة دافعة في الأسلحة النارية. ( )
ويرى البعض أن الحضارة الصينية عرفت البارود قبل المسلمين، واستعملوه في الألعاب النارية والأغراض الدينية. والذي استعمل في حقيقة الأمر لدى الصينيين هو ملح البارود وتركيبه الكيميائي (نترات البوتاسيوم)، وهو ما يعرف باسم (البارود الأسود الخام)، وسُمِّي بالبارود؛ لأنه قابل للاشتعال عند التسخين أو إذا لامسته النار.. فهذه المادة الخام هي التي عرفها الصينيون واستعملوها كما هي في الطبيعة دون تركيب أو تحضير، وكان معروفًا في مصر وسماه أهلها "الثلج الصيني" ، فيقول نيدهام في مؤلفه "العلم والحضارة في الصين": إن المسلمين قد عرفوا ملح البارود "Salt peter" عن الصينيين وكانوا يسمونه "الملح الصيني"، وكان هذا الملح يؤخذ من الحجارة أي من الموارد الطبيعية في أواسط وشرقي آسيا". أما بارود المدافع Gun powder فهو تركيبة كيميائية اخترعها المسلمون في معاملهم، وتتركب من (نترات البوتاسيوم بنسبة 75% + كبريت بنسبة 10% + فحم بنسبة 15%). ( )
الكيمياء في الحضارة الإغريقية:
بدأ العلم عند اليونانيين القدامي بشكل حكايات وأساطير، ومن بين هذه الأساطير أسطورة الحكماء السبعة، وأول هؤلاء الحكماء هو طاليس (624-548 ق.م) وهو مؤسسي المذهب الأيوني، وفيه المحاولة لتفسير الكون وتحليل نشأته، وخلاصة هذا المذهب: "إن الماء هو الأساس في قوام جميع الموجودات واختلافها يرجع إلى اختلاف حالة الماء وكميته فيها، وأن الأرض قرص من ماء جامد، ومن الماء نشأت كل العناصر.."، ثم جاء الفيلسوف "أناكسيمنس" (585-528 ق.م) ونادى بنظرية أن الكون أصله من الهواء، ثم نادى أحد فلاسفة المدرسة الأيونية وهو "هيراقلايتوس" (567-480 ق.م) بنظرية أن النار هي الأصل في تكوين المادة. وأخيراً ظهر الفيلسوف "امبيدوقلس) (483-430 ق.م)، وقال: إن أصل الكون يتكون من أربعة عناصر وهي: الماء والهواء والنار والتراب.
لقد شاعت هذه النظرية وتقبلها الفلاسفة، وكان على رأسهم "أفلاطون" (428-347 ق.م)، فسر أفلاطون منشأ الطبيعة بأنه حادث وكل حادث إنما يحدث بعلة، والجسم مركب من العناصر الأربعة، وكان العالم في البدء مادة رخوة غامضة قابلة للتغير والتحول، وكانت تتحرك اتفاقاً في الجهات الست، ثم انحدرت ذرات هذه المادة بحسب أشكالها، ومن اتحادها نشأت العناصر الأربعة وهي: النار والتراب والهواء والماء، وأضاف عنصراً خامساً سماه: "الهيولي" أي المادة.
أخذ أرسطو بنظرية العناصر الأربعة، وذهب إلى أن هذه العناصر تحوي في الحقيقة أسساً تكسب المادة المكونة منها خصائص مميزة، ومن هذه الأسس اختار الحرارة والبرودة والسيولة واليبوسة، وأن كل عنصر من العناصر الأربعة ينتج من اتحاد زوجين من هذه الأسس، فمثلاً الأجسام التي من خصائصها السيولة أو البرودة يكون عنصرها الماء، والأجسام التي من خصائصها الحرارة واليبوسة يكون عنصرها النار، وهكذا.. ( )
كان للإغريق اجتهاد في الكيمياء.. فوضعوا نظرية إمكانية تحويل المعادن الخسيسة كالرصاص والنحاس والزئبق الي معادن نفيسة كالذهب والفضة. وتقول هذه النظرية أن جميع المواد على ظهر الأرض إنما نشأت من عناصر أربعة هي النار والتراب والهواء والماء. وان لكل عنصر منها طبيعتين يشترك في احدها مع عنصر آخر.. فالنار جافة حارة والتراب جاف بارد والماء بارد رطب والهواء رطب جاف، وعلى ذلك فمن المحتم انه يمكن تحويل العناصر إلى بعضها.. وكان من رأي أرسطو أن جميع العناصر عندما تتفاعل في باطن الأرض وتحت ضغط معين وحرارة فانه ينشأ عنها الفلزات، وتجمع آراء الباحثين على ان جهود الإغريق في الكيمياء " كانت ضئيلة ومحدودة لأنهم درسوا العلوم من النواحي النظرية والفلسفية. ( )
الكيمياء عند قدماء المصريين (الفراعنة):
وعرفت مصر في عهد الأسرات الأولى كيف تصنع البرنز بمزج النحاس بالقصدير، وصنعت منه أو الأمر أسلحة برنزية كالسيوف، والخوذات والدروع؛ ثم صنعت منه بعدئذ أدوات برنزية كالعجلات، والهراسات، والرافعات، والبكرات، وآلات رفع الأثقال، والأوتاد، والمخارط، واللوالب، والمثاقب التي تثقب أقسى أحجار الديوريت، والمناشر التي تقطع ألواح الحجارة الضخمة لصنع التوابيت. وكان العمال المصريون يصنعون الآجر والأسمنت والمصيص، ويطلون الفخار بطبقة زجاجية، ويصنعون الزجاج وينقشونه هو والفخار بمختلف الألوان. وقد برعوا في حفر الخشب يصنعون منه كل ما يصلح لصنعه من قوارب وعربات وكراسي، وأسرة، وتوابيت جميلة تكاد تغري الأحياء بالموت. واتخذوا من جلود الأنعام ملابس وكنانات، ودروعاً، ومقاعد. وقد صورت على جدران المقابر كل الفنون المتصلة بدبغ الجلود، ولا يزال الأساكفة إلى الآن يستخدمون السكاكين المقوسة المصقولة على تلك الجدران في أيدي دابغي الجلود. وصنع المصريون من نبات البردي الحبال والحصر والأخفاف والورق. وابتدعوا فن الطلاء بالميناء والورنيش واستخدموا الكيمياء في الصناعة. ومن الصناع من كان يعمل في نسج القماش من أدق الخيوط المعروفة في تاريخ النسج كله. وقد عثر المنقبون على نماذج من الكتان منسوجة من أربعة آلاف عام، وعلى الرغم من عوادي الأيام فإن "خيوطها قد بلغت من الدقة حداً لا يستطيع الإنسان معه أن يميزها من خيوط الحرير إلا بمجهر. وإن أحسن ما أخرجته المناسج الآلية في هذه الأيام ليعد خشنا إذا قيس إلى هذا النسيج الذي كان يصنعه المصريون الأقدمون بأنوالهم اليدوية. وفي هذا يقول بسكل: "إذا فاضلنا بين قدرة المصريين الفنية وقدرتنا نحن، تبين لنا أننا كنا قبل اختراع الآلة البخارية لا نكاد نفوقهم في شيء". ( )
واستخدم القدماء المصريين الرصاص في صناعة العملات ووحدات الموازين ومواد الزخرفة والأواني المنزلية وأسطح السيراميك وسبائك اللحام.( )
كيمياء التحنيط عند الفراعنة: أظهرت دراسة علمية جديدة أن قدماء المصريين كانوا يستخدمون خلطات معقدة من المستخرجات النباتية والحيوانية لتحنيط موتاهم. تجري بطرق تتفق والمركز الاجتماعي للميت، فالفرعون يحنط بطريقة تختلف عن حاشيته، وهي بصورة عامة تتطلب حفظ الجسم في درجة حرارة مناسبة ويحقن الجسم بمواد مطهرة أو معقمة لكي تنتشر في أنحاء الجسم ثم يجري تجفيف الجسم ويحفظ في معزل عن الرطوبة وتستعمل لذلك مواد كيمياوية مثل الجير وبعض الأملاح والنطرون.إن عملية التحنيط تدل على مدى تقدم حضارة وادي النيل خصوصاً في مجال الكيمياء والتشريح. ( ) وقد أجرى باحثون بريطانيون تحاليل لثلاث عشرة عينة من المواد التي استخدمها قدماء المصريين في تحنيط مومياواتهم. وأظهرت التحاليل وجود مجموعة كبيرة جداً من المكونات من بينها أنواع من الدهون الحيوانية والزيوت النباتية وشمع العسل والأصماغ النباتية. وقد اكتشف الباحثون أن مواد التحنيط التي ابتكرها الفراعنة كانت عبارة عن مزيج من مواد رخيصة الثمن، وأخرى ثمينة ونادرة في ذلك الوقت مثل زيت الأرز والعرعر اللذين كانا يستوردان من خارج مصر. ( )
كان دبغ الجلود وصناعة الأصباغ ومستحضرات التجميل من بين الفنون التي مارسها المصريون، وتعتبر الإسكندرية المركز الأول للكيمياء القديمة حيث تأثرت بفلسفة الإغريق بعد قيام الإسكندر الأكبر بفتح مصر (322ق.م)،حيث جذب إليها الكثير من الإغريق فارتبطت مهارة المصريين مع نظريات الإغريق مما أدى إلى ظهور أولئك الذين يمارسون الكيمياء، ونسب إليها أنها موطن البحث لهذا العلم الذي يحيل المعادن العادية إلى معادن ثمينة ويعيد الشباب إلى الإنسان، وتزامن مع ظهور الكيمياء القديمة ظهور التنجيم واختلط بها السحر كما سيطرة الرمزية على هذه الكيمياء في العصور الوسطى وأغرقها الغموض. ( )
وقد استخدم المصريون الزجاج للتزجيج منذ الأزمنة الحجرية الحديثة، وفي البداية كان الحرفيون يصنعون الزجاج من الرمل أو الكروارتز (ثاني أكسيد السيليكون)ن وكربونات الصوديوم الخام، والتي كانت توجد في مصر في طبقات تحت البحيرات القريبة من الإسكندرية، ومن دون كربونات الصوديوم فإن الأمر يحتاج إلى لهب درجة حرارته عالية إلى 1700 مئوية لصهر الرمل، ويذوب الزجام المنتج بالصوديوم إلى حد ما في الماء وهو الأمر الذي كثيراً ما استخدم في الفن، ومع ذلك فقد كانت الأوعية الزجاجية تنتج لتخزين المراهم وقد وجد الحرفيون حوالي سنة 1300 ق.م أن إدخال أكسيد الكالسيوم وهو مركب كيميائي آخر كان معروفاً للقدماء يقلل من ذوبانية الزجاج، ويتكون من تسخين كربونات الكالسيوم الموجودة في الأصداف أو بتسخين الرواسب الطبيعية للحجر الجيري أو الطباشير، وبمجرد اكتشاف هذه التقنية بدأت على الفور مصانع الزجاج في مصر القديمة، وكان الزجاج يصب صباً ولا ينفخ، وكان أزرق اللون (ملوناً بمركبات النحاس وأحيانا الكوبلت) مع بعض الألوان الأخرى التي يكتسبها الزجاج. ( )
مدرسة الإسكندرية:
كان بطليموس مولعاً بالعلوم والفلسفة، فأنشاً في الإسكندرية معهداً للعلوم سماه الموسيون، وقد عرف هذا المعهد فيما بعد بأسماء كثيرة: أكاديمية الإسكندرية، جامعة الإسكندرية، مدرسة الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، وكل هذه الأسماء تشير إلى نفس المضمون، وضمت مدرسة الإسكندرية جميع أنواع الفكر والمعرفة، وخصص لكل علم جناح خاص به، وكان نصيب (الصنعة) أو (السيمياء) الطابق السفلي من المدرسة، باعتبارها أوطأ أنواع المعرفة لأنه القصد منها جمع المال والثروة. وكان من أشهر العلماء في هذه المدرسة:
هرمز: ويطلق عليه اسم هرمز المثلث العظمة، ويسميه ابن أبي أصيبعة، صاحب كتاب طبقات الأطباء: "هرمس الهرامسة، المثلث بالحكمة"، وينسب إلى هرمز "الكتاب الموسوم هرمتك" الذي جمعه "منيتوس" سنة 275 ق.م، وقد ذكر فيه 36.525 وصفة تتعلق بالصنعة والمعادن وكيفية تحويلها من نوع إلى آخر، وكان وصفات هرمز محاطة بالسرية التامة والغموض المبهم، فلا يستطيع أحد حل الرموز إلا هرمز نفسه، وبقي اسم هرمز في الكيمياء والصيدلة لحد الآن، فيقال "الفن الهرمزي ومختوم بختم هرمز أي محكم السداد". ويذكر أن أول من عثر على مؤلفات هرمز هو "الإسكندر المقدوني" فقد اكتشف قبره وأمر بفتحه، فوجد "حجر الزمرد" فيه، وقد دونت على الحجر جميع أصناف الصنعة والمعرفة، ومن بين ذلك ستمائة اسم لأنواع مختلفة من الأحجار الكريمة.
زوسيموس: وهو مؤرخ يوناني عاش في القرن الثالث بعد الميلاد وقد ورد اسمه في كتاب "الفهرست" لابن النديم: "ذيسموس"، وله من الكتب "كتاب المفاتيح في الصنعة"، وهذا الكتاب أشبه ما يكون بدائرة معارف أو موسوعة علمية وفيه كثير من القصص والأساطير الخيالية، كما جاءت أحاديث ووصفات لشرح الأدوات والآلات والأفران التي كانت تستعمل في "الصنعة"، ولقد استعان زوسيموس برموز ومصطلحات أطلق عليها فيما بعد اسم الرموز السلطانية وهذه تعتبر أول إشارة استعمال الرموز في الكيمياء.( )
الكيمياء في الهند:
وتقدمت الكيمياء بادئة طريقها من مصدرين: الطب والصناعة؛ وكانت براعتهم الكيماوية في صب الحديد في الهند القديمة، وفي الرقي الصناعي العظيم في عصور "جوبتا" ، حينما كان ُينظر إلى الهند- حتى من روما القيصرية- على أنها أمهر الأمم جميعاً في صناعات كيماوية مثل الصباغة والدبغ وصناعة الصابون والزجاج والأسمنت؛ وبلغ من القدم القرن الثاني قبل الميلاد، خصص "ناجارجونا" كتاباً بأكمله للبحث في الزئبق؛ فلما أن كان القرن السادس كان الهنود أسبق بشوط طويل من أوربا في الكيمياء الصناعية، فكانوا أساتذة في التكليس والتقطير والتصفية والتبخير واللحام وإنتاج الضوء بغير حرارة، وخلط المساحيق المنومة والمخدرة، وتحضير الأملاح المعدنية، والمركبات والمخلوطات من مختلف المعادن؛ وبلغ طرق الصلب في الهند القديمة حداً من الكمال لم تعرفه أوربا إلا في أيامنا هذه، ويقال أن الملك يورس، قد اختار هدية نفسية نادرة يقدمها للإسكندر ثلاثين رطلاً من الصلب، إذا آثرها على هدية من الذهب أو الفضة؛ ونقل المسلمون كثيراً مما كان للهنود من علم الكيمياء والصناعة الكيماوية إلى الشرق الأدنى وأوربا؛ فمثلاً نقل العرب عن الفرس، وكان الفرس قد نقلوا بدروهم عن الهند سر صناعة السيوف "الدمشقية".
وكان التشريح وعلم الوظائف الأعضاء- مثل بعض الجوانب الكيمياء- نتيجتين عرضيتين للطب الهندي؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد- رغم أنه عهد يغوص في القدم، كان الأطباء الهنود يعرفون خصائص الأربطة العضلية ورتق العظام والجهاز اللمفاوي، والضفائر العصبية واللفائف والأنسجة. ( )
وذكر البيروني عن علم الهنود بالكيمياء قائلاً: "ولم يختص الهند بالخوض في أمر الكيمياء فليس يخلو منه أمة ... وأصحاب هذه الصناعة مجتهدون في إخفائها ومنقبضون عمن ليس من أهلها، فلذلك لم يتفق لي من جهة الهند الوقوف على طرقهم فيها، وإلى أي أصل يرجعون منها: المعدنيات أو الحيوان أو النبات، إلا أني كنت أسمع منهم "التصعيد"، و"التكليس"، و"التحليل"، و"تشميع الطلق" وهو بلغتهم "تالك"، فأتفرس فيها أنهم يميلون إلى الطريق المعدني، ولهم منه شبيه بهذا الباب، قد اختص الهند به يسمونه "رساين" وهو اسم مشتق من الذهب فإنه "رَسُ" وهو لصناعة مقصورة على تدابير ومعاجين وتراكيب أدوية أكثرها من النبات .." ( )
الكيمياء في بلاد الرافدين:
أول ما استخدم الزجاج لأغراض محدودة كان في بلاد الرافدين سنة (3000-2000 ق.م)، واستخدم الأشوريون أكسيد القصدير وأنتيمونات الرصاص لتلوين زجاج الزينة باللون الأبيض والأصفر على التوالي، وساد الاعتقاد بأن الأشوريون كانوا يعرفون كيف يصنعون الماء الملكي (مزيج من حمض النيتريك والهيدروكلوريك) لأنهم استخدموا أملاح الذهب لإضفاء اللون الأحمر على زجاجهم وكان الماء الملكي ضرورياً لإذابة الذهب.( )
وعرف الأشوريون فلزاً يسمونه (الكبالتو) اشتق منه اسم الكوبالت المعروف اليوم، والذي كانوا يستعملونه قديماً في صبغ الخزف والزجاج باللون الأزرق اللازودي. ( )
الكيمياء في بلاد فارس:
كانت صناعة الزجاج رائجة في بلاد فارس، حيث "أخذ صناع الزجاج المسلمون الأساليب الفارسية القديمة في صناعة الزجاج من حيث تقطيعه وتشكيله، حيث أنتج المسلمون آنية ذات بروز عالية وكان الكثير من هذه البروز تصور موضوعات تتعلق بالحيوانات". ( )
الكيمياء عند الرومان:
يرجع استخدام العديد من مواد الصابون والمنظفات إلى العصور السحيقة. ففي القرن الأول الميلادي تعرض المؤرخ الروماني بلايني الكبير لوصف أنواع مختلفة من الصابون الذي يحتوي على أصباغ وقد كانت النساء تستعمله في تنظيف شعورهن وإضفاء ألوان براقة عليه.
كما كانت صناعة الزجاج منتشرة في مناطق متعددة من الإمبراطورية الرومانية، وقبل اختراع أنبوبة نفخ الزجاج، كانت هناك عدة طرق لتشكيل وتزيين الأشياء المصنوعة من الزجاج الملون سواء الزجاج النصف شفاف أو المعتم، حيث تم تقطيع وتشكيل بعض الأشياء من كتل الزجاج الصلبة. ومن صانعي الآنية والمواد المعدنية، اقتبس صناع الزجاج عمليات السبك حيث كان يتم صب الزجاج المصهور في قوالب لإنتاج الحشو والتماثيل الصغيرة والآنية المفتوحة مثل الأكواب والأوعية. وكان يتم تسخين قضبان الزجاج المشكلة مسبقا وصهرها معا في قالب للحصول على "شريط" زجاجي. وتم عمل نماذج معقدة جدا باستخدام تقنية الفسيفساء حيث يتم صهر العناصر في قضيب ثم تؤخذ هذه العناصر لتعطي تصميما على شكل متقاطع. كما كان يتم ترتيب شرائح من هذه القضبان في قالب لتشكيل وعاء أو لوحة ثم تسخن حتى تنصهر.
واستخدم الرومان قديما الرصاص في صناعة مواسير المياه حيث كانت عبارة عن مزيج من الرصاص الملحوم مع القصدير. وقد كان العبيد الرومان يقومون باستخلاص وتجهيز الرصاص، وأصيب هؤلاء العبيد بالتسمم بسبب الرصاص. ( )
النار الإغريقية: يطلق مصطلح نار الاغريق Greek fire على سائل محرق أستعمل كسلاح من قبل البيزنطيين في حروبهم البحرية منذ 674 ميلادية. تسمى النار الاغريقية باللغة اليونانية "ايغرون بير" أي النار الرطبة. ولم تعرف بعد طبيعة هذه المادة، و لكن يرجح أنها كانت مزيجا مركبا من عدة مواد سريعة الاشتعال كالنفط و ملح الصخور و الكبريت و القار. و كانت لهذه المادة خاصية الاحتراق حتى على سطح الماء، لذلك سميت أيضا بالنار السائلة أو البحرية. يذكر المؤرخ البيزنطي ثيوفانس Theophanes، أن اختراع النار الإغريقية يرجع للمهندس الفينيقي كالّينيكوس Callinicus من بعلبك و ذلك سنة 670 ميلادية (3). ويعتقد المؤرخون أنها من نتاج التأثيرات العلمية للحضارة الهيلينية، و خاصة مدرسة الاسكندرية في مجال الكيمياء.
استعملت النار الإغريقية عدة مرات للدفاع عن مدينة قسطنطينية وفك الحصار عنها في 674 وكذلك في معركة سيلايوم البحرية سنة 677، ضد الأسطول الأموي، و كذلك ضد البلغار سنة 941 ميلادية. و يوصف استعمالها بالطريقة التالية: كان المزيج المحرق يعبأ في قدور كبيرة، على متن سفن حربية سريعة تسمى بالـ"درومون" (باليونانية تعني العداء)، و عند الاستعمال يسخن و يضخ في سيفون من النحاس ينتهي بمحقن مركب في مقدمة المركب (يعرف بالـ"سيفوناريوس" siphònariòs) ينفث المادة السائلة على سفن الأعداء، و التي تلتهب بصفة تلقائية. ( )
الفصل الثالث
علم الكيمياء عند العرب والمسلمين:
البداية:
كان العرب يطلقون على هذا العلم أسماء كثيرة بعضها يشير إلى طبيعة العلم، والآخر يشير إلى منهج البحث لديهم، ومن ذلك علم الصنعة، وعلم التدبير، وعلم الحجر، وعلم الميزان، وهناك رأي يقول: إن الكيمياء كانت نقلة تلت الصنعة، وحدث ذلك لأن الكيمياء العربية تأثرت في طورها المبكر بالخيمياء اليونانية والسريانية التي لم تكن ذات قيمة. حيث اعتمد الإغريق والسريان آنذاك على الفرضيات والتحليلات الفكرية، إذ إن الخيمياء تلجأ إلى الرؤية الوجدانية في تعليل الظواهر والخوارق في التفسير، وترتبط بالسحر وهو ما سمّاه العرب علم الصنعة الذي كان يسعى منذ قديم الزمن إلى بلوغ هدفين بعيدين: أولاً تحويل المعادن الخسيسة كالحديد والنحاس والرصاص والقصدير إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة من خلال التوصل إلى حجر الفلاسفة. وثانيًا: تحضير إكسير الحياة ليكون بمثابة علاج يقضي على متاعب الإنسان وما يصيبه من آفات وأمراض، ويطيل حياته وحياة الكائنات الحية الأخرى. ولذلك نستطيع القول إن الكيمياء بدأت مع علوم السحر والوهميات المبهمة لارتباط ذلك بالتنجيم؛ فعلى سبيل المثال كانت الشمس تمثل الذهب، والفضة تمثل القمر، والزئبق عطارد، والحديد المريخ، والقصدير هرميز، والنحاس الزهرة. وكان هذا هو الاعتقاد السائد في أوروبا إبان القرون الوسطى، حيث كان علماؤها يدَّعون أن علم الكيمياء جزء لا يتجزأ من علم السحر.
وصلت الصنعة إلى العرب بوساطة الإسكندرانيين عندما استقدم خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ، 704م) بعض الأقباط المتحدثين بالعربية مثل مريانوس، وشمعون، وإصطفان الإسكندري، وطلب إليهم نقل علوم الصنعة إلى العربية. وتعلم خالد بن يزيد هذه الصنعة بهدف تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وبذا يكون أول من نقل الكيمياء واشتغل بها. وهكذا نجد أن هذه الصنعة وصلت إلى العرب. وقد تخلل ما كُتب فيها كثير من الأضاليل والطلاسم والأوهام، وكان هدفها تحقيق غايات وهمية لا تمت إلى الكيمياء الحقيقية بصلة؛ إذ إن الأخيرة ترتكز على قواعد وقوانين علمية.
الكيمياء العربية. في بادئ الأمر انتقلت الخيمياء بمفهومها الخاطئ إلى العلم العربي، فاعتقد المشتغلون بها من العلماء المسلمين مثل اعتقاد اليونان والسريان النسطوريين أن أصل جميع المعادن واحد: الماء، والهواء والنّار، والتراب. وأن طبائعها قابلة للتحويل ويعود سبب اختلافها فيما بينها إلى اختلاف نسب العناصر المكونة لها، وما على من يرغب في الحصول على الذهب مثلاً إلا أن يعيد تركيب هذه العناصر من جديد بنسب صحيحة بعد تحليل المعدن إلى عناصره الأساسية. وعلى الرغم من أنه لم يتوصل أحد لذلك، سواء من العرب أو من سبقهم، إلا أن سعي العلماء المسلمين للوصول إلى هذا الهدف جعلهم يكتشفون مواد جديدة ـ عن طريق المصادفة ـ ويتوصلون إلى قوانين جديدة عديدة؛ مما مكنهم في النهاية من الانتقال من الخيمياء إلى الكيمياء. ( )
وكان أن انطلق العرب في ميدان الكيمياء واستخدموها في تركيب الأدوية، وبعض الصناعات العطور، وصبغ الملابس، ودبغ الجلود، وصناعة الورق، وعرفوا من خلال عملهم فيها التقطير والترشيح، والتبلور، وتوصلوا إلى الأحماض الكيميائية وساروا بهذا العلم خطوات كبيرة لم يسبقوا إليه. ( )
أثر الكيميائيين العرب والمسلمين في الحضارة الغربية:
يعتبر دور المسلمين في التدشين لعلم الكيمياء دوراً بالغ الأهمية، بل لم يكن للعالم غنى عنه خاصة في أوروبا، فقد استفاد الأوربيون من نظريات المسلمين وخبراتهم وتجاربهم في الكيمياء، وقاموا بترجمة كل كتب الكيمياء العربية إلى اللاتينية؛ ذلك أن المسلمين هم أول من وضع الأسس العلمية للكيمياء المبنية على التجارب، وكان لجابر بن حيان اليد الطولى في نشأة علم الكيمياء، وهو الذي نظم كثيرا من طرق البحث والتحليل، وركب عددا من المواد الكيماوية، وكانت أبحاثه هي المراجع الأولى في أوربا حتى القرن الثامن عشر.
ويشهد على هذا التأثير الأستاذ (مييرهوف) فيقول: إن تأثير جابر بن حيان قد طبع تاريخ الكيمياء الأوروبية في العصور الوسطى وحتى العصر الحديث بطابع يمكن تتبعه، فقد كان اسم جابر بن حيان واحداً من أوائل الأسماء التي مجدها الغرب منذ أول عهده بالاتصال بعلوم العرب، فكانت كتبه تترجم إلى اللاتينية فور الحصول عليها، وكان كتابه "التراكيب" من أول الكتب العربية التي ترجمت إلى اللاتينية؛ إذ ترجمه روبرت الشستري في سنة (1144م) وترجم جيرار الكريموني كتاب "السبعين".
ولقد استمر تأثير جابر في أوروبا والغرب بعد ذلك حتى ترجم له ريتشارد رسل الإنجليزي بعض أعماله من اللاتينية إلى الإنجليزية في سنة (1678م) تحت عنوان: "أعمال جابر أشهر الأمراء والفلاسفة العرب" مترجمة بأمانة بواسطة ريتشارد رسل من محبي الكيمياء.
كما أن ألبرت الكبير نقل أعمال جابر الكيماوية وغيره من الكيميائيين العرب في كتابه، ولم يبتكر ألبرت شيئاً ولم يُضِفْ بإجماع الباحثين، وصار الكتاب مرجعاً للعالم فيما بعد.
وتأثير العرب المسلمين في مجال الكيمياء واضح في موسوعة "فانسيت دي بوقيه"، يقول الأستاذ مييرهوف: "إن المقالات المنسوبة إلى دي بوفيه مليئة بشواهد عن جابر"، ولا أحد ينكر مدى أهمية هذه الموسوعة لدى الغرب.
وهذا هنري كافندش عالم كيميائي كبير تأثر تأثراً شديداً بإحدى نظريات جابر في القرن الثامن عشر، يقول هوليمار: تكمن إحدى الإضافات الأساسية للنظرية الكيماوية المتعلقة بتكوين المعادن في آرائه (أي جابر)، قبل جابر على أية حال نظرية أرسطو في تكوين المعادن، ولكنه يلوح بأنه نظر فيها على أنها مبهمة بطريقة كبيرة تجعلها عاجزة عن أن تفسر الحقائق الملاحظة، ولا يمكن أن تنير السبيل إلى الوسائل العلمية للتحويل (أي التحويل من معادن رخيصة إلى ذهب) ولذلك عدلها بطريقة ما ليجعلها أقل إبهاماً وعاشت النظرية التي اقترحها بعد إضافة بعض التعديلات والإضافات حتى بداية عصر الكيمياء الحديثة في القرن الثامن عشر، فنظرية الفلوجستون نفسها بالرغم من قصورها قد وصفت بأنها الدليل والمصباح المنير للكيماويين في القرن الثامن عشر، هذه النظرية التي وصفها البعض بأنها درة العصر ما هي إلا مولود مباشر لنظرية ابن حيان في تكوين المعادن..
هذه هي شهادة أحد الأساتذة الغربيين، توضح إلى أي مدى أسهمت الحضارة الإسلامية وأثرت في الحضارة الغربية في مجال الكيمياء.
أما مبحث مسلمة المدريدي في الأندلس الذي وصف أكسيد الزئبق وقدم بياناً بطريقة تحضيره، يشهد هوليمار على أن هذه المادة لم يستفد منها أحد مثلما استفاد منها بريستلي ولافوازييه.
وهناك تصريح ورد بالموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشرة يقول: عرفت أول صناعة لملح النشادر في مصر، ومنها تزودت أوروبا سنين طويلة بهذا الملح، وكان أهل البندقية ثم الهولنديون من بعدهم أول من حمل هذه التجارة من مصر إلى أوروبا، وأما الطريقة التي كان يصنع بها المصريون ملح النشادر فلم تكن معروفة في أوروبا حتى سنة (1719م)، حين أرسل د.ليمير القنصل الفرنسي في القاهرة إلى الأكاديمية الفرنسية الطريقة التي يصنع بها هذا الملح في مصر.
يقول المستشرق دوستاولوبان: "إنه لولا ما وصل إليه العرب من نتائج واكتشافات ما استطاع لافوازييه أبو الكيمياء الحديثة أن ينتهي إلى اكتشافاته". ( )
ولا ننسى أن العرب المسلمون هم أول من استعمل البارود، إذ أن العالم المسلم حسن الرماح هو الرائد الأول لذلك فأقدم إشارة لتركيب البارود في أوربا ترجع إلى كتاب مارك الإغريقي نحو سنة 1300م فقد نسب إليه هذا الفضل. أما بالنسبة لحسن الرماح فهو قد ظهر قبل مارك الإغريقي أي قبل سنة 1300 فوصف المواد التي يتكون منها البارود واستعمالها في أحد كتبه بالإضافة إلى أن وصف حسن الرماح واضح الشبه بما ذكره مارك مما يدل بما لا يدع مجالاً للشك تأثر مارك بالرماح. ( )
فجوستاف لوبون وسارتون وزيجريد هونكه وغيرهم كثيرون أجمعوا على أن الأوروبيين قد عرفوا البارود عن طريق العرب ونقلوه عنهم، وفي ذلك يقول جوستاف لوبون: "وعزي الاختراع إلى روجر بيكون زمنًا طويلاً.. مع أن روجر بيكون لم يفعل غير ما فعله ألبرت الكبير من اقتباس المركبات القديمة، فقد عرف العرب الأسلحة النارية قبل النصارى بزمن طويل"، وتقرر المستشرقة هونكه "أن الخليط العربي العجيب الذي يحدث رعدًا وبرقًا قد وصل إلى بعض علماء أوروبا أمثال روجر بيكون وفون بولشتدن"، وتضيف: "ثم حدث أن انتقلت النظرية إلى التجارب العلمية - لدى العرب - التي هزت كيان العالم، فالعرب في الأندلس هم أول من استخدمه في أوروبا".
ويستشهد أصحاب الرأي السابق بما وجدوه في المخطوطات الإسلامية التي تعود إلى القرن 4هـ/ 10م (أي قبل بيكون بثلاثة قرون، فقد جاء في وصف صناعة البارود: "تؤخذ عشرة دراهم من ملح البارود ودرهمان من الفحم ودرهم ونصف من الكبريت وتسحق حتى تصبح كالغبار، ويملأ بها ثلث المدفع فقط خوفًا من انفجاره، ويصنع الخراط من أجل ذلك مدفعًا من خشب تتناسب فتحته مع جسامة فوهته، وتدك الذخيرة بشدة ويضاف إليها البندق (كرات الحديد)، ثم يشعل ويكون قياس المدفع مناسبًا لثقله". وفي كتاب حسن نجم الدين الرماح "الفروسية والمناصب الحربية" والذي يرجع للقرن 7هـ/ 13م، شرح وتفصيل لصناعة البارود في العالم الإسلامي، عن طريق استخلاص ملح البارود من الطبيعة وتنقيته في المختبرات الكيميائية، فهذا الكتاب يدلنا على أن تلك الصناعة كانت قد بلغت في العالم الإسلامي شأنًا كبيرًا من التطور. ( )
بعض الألفاظ العربية المتداولة في حقل الكيمياء: ( )
اللفظ العربي مقابله اللفظ العربي مقابله
الإكسير Alixir قرمز Kermes
الأنبيق Alanbic القلقطار Colcothar
الأنيلين(النيل/النيلة) Aniline القلوي Alkali
البورق Borax القلي Alcali
التوتياء Tutty قيراط Carat
الخيمياء Alchemy الكافور Camphor
الرهج القار Realgar كبريت Kibrit
الزرنيخ Arsenic الكحل Kohl
الزعفر (الصفُّر) Zaffre الكحول Alcohol
زعفران Saffran كيمياء Chemistry
الزنجفر Cinnabar اللك Lacquer
الرُّب Rab المركزيت Marcasite
السكر Sugar المعجون Majoon
الصابون Sapon الملغم Amalgam
الطلق، تلك Tale النطرون Natron
عطر Attar النطفة Naphta
العنبر Amber النيل Anil
غرافة Carafe
الفصل الرابع
أشهر العلماء المسلمين في الكيمياء:
كما أسلفنا في الفصل السابق كيف أبدع المسلمون في مجال الكيمياء، ولهذا كان لزاماً علينا ذكر بعض علماء الكيمياء المبدعين من العرب المسلمين الذين قدموا للعالم خدمات جليلة في هذا المجال، وما زالت المدنية الحديثة تدين بالشكر لاكتشافاتهم واختراعاتهم في مجالات علم الكيمياء. ومن هؤلاء العلماء:
جابر بن حيان:
هو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي. ولد في طوس (خراسان ) وسكن الكوفة، حيث كان يعمل صيدلانياً. وكان أبوه عطاراً. بنسبته الطوسي أو الطرطوسي، وينحدر من قبيلة الأزد. ويقدّر الزمن الذي ولد فيه جابر بين 721 م - 722 م، أما تاريخ وفاته فغير معروف تماما. ويقال أنه توفي سنة 200 هـ أو ما يوافق 815 م.
رحل إلى الجزيرة العربية وأتقن العربية وتعلّم القرآن والحساب وعلوماً أخرى على يد رجل عرف باسم (حربي الحميري) وقد يكون هو الراهب الذي ذكره في مصنفاته وتلقّن عنه بعض التجارب.
اتصل بالإمام جعفر الصادق (الإمام الخامس بعد علي بن أبي طالب ) ت 148 هـ، ويقال إنه أخذ علم الصنعة عنه، وتتلمذ على يديه، وعن طريقه دخل بلاط هارون الرشيد بحفاوة.
اختلف الرواة في أمر جابر، فقد أنكر قوم أمر وجوده، بينما أكد آخرون أنه رائد الكيمياء، لكن جابر، وقد أيّد هذه الحقيقة أبو بكر الرازي، عندما كان يشير إلى جابر في كتبه فيقول "أستاذنا". وتتجلى عبقرية جابر أنه درس الكتب ذات المحتوى السري جداً مثل كتب أبولينوس التيتاني. ( )
وترجع شهرة جابر إلى أنه أول من أخرج علم الكيمياء من أوهام الشعوذة إلى الحقيقة العلمية القائمة على التجربة والملاحظة والاستنباط، واستخدام العقل والاعتماد على الأدلة العقلية والتجارب العملية، وخالف أرسطو في نظريته الخاصة بتكوين الفلزات حين رآها لا تساعد في تفسير بعض التجارب. ( )
قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبل فطوَّره، وأدخل عمليات جديدة. من الوسائل التي استخدمها: التّبخّر، والتكليس، والتقطير، والتبلر، والتصعيد، والترشيح، والصهر، والتكثيف، والإذابة. ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة؛ فتعرف على أيون الفضة النشادري المعقد. كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية؛ فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك التقطير من الشب. وحضّر أكسيد الزئبق، وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة، وكان يسميه الماء المحلل أو ماء النار، وحضر حمض الكلوريدريك المسمّى بروح الملح. وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق (السليماني)، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن. وهو أول من لاحظ رواسب كلوريد الفضة عند إضافة ملح الطعام إلى نترات الفضة. كما استخدم الشب في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ وهذه المواد هي أملاح الألومنيوم المشتقة من الأحماض العضوية ذات الأجزاء الهيدروكربونية. ومن استنتاجاته أن اللهب يكسب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر. وهو أول من فصل الذهب عن الفضة بالحل بوساطة الحمض، وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، والإثمد (الأنتيمون)، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة، ويعزى إلى جابر أنه أول من استعمل الميزان الحساس والأوزان المتناهية الدقة في تجاربه المخبرية؛ وقد وزن مقادير يقل وزنها عن1/100 من الرطل. وينسب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي والإثمد (الأنتيمون)، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج. كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها. ومثّل على ذلك بكل من الزئبق والكبريت عندما يتحدان ويكونان مادة جديدة.
تدل العمليات الكيميائية التي أوردها جابر في مؤلفاته على براعته في الكيمياء وإبداعه في تصميم الأفران والبوتقات، ولا شك أنه لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل تجاربه المخبرية. وقد كان يجري معظم هذه التجارب في مختبر خاص اكتشف في أنقاض مدينة الكوفة في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي؛ وهو أشبه بالقبو في مكان منعزل بعيدًا عن أعين الفضوليين، وبه من الأثاث: منضدة وقوارير، وأفران، وموقد، وهاون، وبعض الأدوات مثل الماشق (الماسك)، والمقرض، والملعقة، والمبرد، والقمع، والراووق (المصفاة)، وأحواض، وإسفنجة، وآلة تكليس، وقطّارة، ومعدات للتقطير، وميزان وإنبيق وغيرها.
ولجابر بن حيان مؤلفات ورسائل كثيرة في الكيمياء. وأشهر هذه المؤلفات كتاب السموم ودفع مضارها، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية، ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم؛ وكتاب التدابير؛ وتعني التدابير في ذلك الوقت العمل القائم على التجربة، وكتاب الموازين وكتاب الحديد؛ وفيه يصف جابر عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى. كما يصف كيفية صنع الفولاذ بوساطة الصهر بالبواتق، ومن كتبه كذلك نهاية الإتقان، و رسالة في الأفران. وتُشكل مجموعة الكتب التي تحمل اسم جابر بن حيان موسوعة تحتوي على خلاصة ما توصل إليه علم الكيمياء حتى عصره. وقد تَرْجم معظم كتبه إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي روبرت الشستري (ت 539هـ، 1144م) وجيرار الكريموني (ت 583هـ، 1187م) وغيرهما. ومثّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم. ( )
أبو بكر الرازي (ت 311هـ، 923م)
كانت لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي إسهامات كبيرة في الكيمياء، ويعود له الفضل في تحويل الكيمياء القديمة (كيمياء جابر) إلى علم الكيمياء الحديث، وكانت مصنفاته أول المصنفات الكيميائية في تاريخ هذا العلم. وعلى الرغم من أن أستاذه جابر بن حيان كان أول من بشَّر بالمنهج التجريبي؛ إلا أنه كان يخلط ذلك بأوهام الرمزية والتنجيم. أما الرازي فقد تجرّد عن الغموض والإيهام وعالج المواد الطبيعية من منظور حقيقتها الشكلية الخارجية دون مدلولها الرمزي. ولذا كان الرازي بطبيعة الأمر أوسع علمًا وأكثر تجربة وأدق تصنيفًا للمواد من أستاذه. ونستطيع أن نقول : إنه الرائد الأول في هذا العلم، وذلك في ضوء اتجاهه العلمي، وحرصه على التحليل وترتيب العمل المخبري، وكذلك في ضوء ما وصف من عقاقير وآلات وأدوات.
عكف الرازي ـ إلى جانب عمله التطبيقي في الطب والصيدلة والكيمياء ـ على التأليف؛ وصنَّف ما يربو على 220 مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة. وأشهر مصنفاته في حقل الكيمياء سر الأسرار نقله جيرار الكريموني إلى اللاتينية، وبقيت أوروبا تعتمده في مدارسها وجامعاتها زمنًا طويلاً. بيًَّن في هذا الكتاب المنهج الذي يتبعه في إجراء تجاربه؛ فكان يبتدئ على الدوام بوصف المواد التي يعالجها ويطلق عليها المعرفة، ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعين بها في تجاربه؛ وسماها معرفة الآلات، ثم يشرح بالتفصيل أساليبه في التجربة وسماها معرفة التدابير. ولعل براعة الرازي في حقل الطب جعلته ينبغ في حقل الكيمياء والصيدلة؛ إذ كان لابد للطبيب البارع آنذاك أن يقوم بتحضير الأدوية المركبة، ولا يمكن تحضير هذه المركبات إلا عن طريق التجربة المعملية. ويبين سر الأسرار ميل الرازي الكبير واهتمامه العميق بالكيمياء العملية، وترجيح الجانب التطبيقي على التأمل النظري، ولا يورد فيه سوى النتائج المستفادة من التجربة. وقسَّم المواد الكيميائية إلى أربعة : معدنية، ونباتية، وحيوانية ومشتقة.
كان الرازي من أوائل من طبقوا معارفهم الكيميائية في مجال الطب والعلاج، وكان ينسب الشفاء إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض؛ فهو أول من استعمل الكحول في تطهير الجروح، وابتكر طريقة جديدة لتحضير الكحول الجيد من المواد النشوية والسكرية المتخمرة. كما كان أول من أدخل الزئبق في المراهم. ( )
الكندي (185-252 هـ / 801-866م):
هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، من قبيلة كندة العربية، ولد في الكوفة وتوفي ببغداد، تعلم الكندي في البصرة وبغداد وأقام في بلاط العباسيين، ترجم كثيراً من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية، وقد ذكر "ابن النديم" في كتابه " الفهرست" حوالي مائتين وثلاثون كتاباً ورسالة ألفها الكندي، ومن أشهر رسائله في الكيمياء: "كتاب الجواهر الثمينة، وكتاب رسالة فيما يصبغ فيعطي لوناً، ورسالة فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تنثلم ولا تكل ( )، وكتاب كيمياء العطر والتصعيدات، طبعت في ليبزغ سنة 1948م مع ترجمتها، وكتاب رسالة في العطر وأنواعه، وكتاب التنبيه إلى خدع الكيميائيين ( ) وكتاب تلويح الزجاج.
وقد وضح رأيه في الصنعة فقال: "إن الاشتغال في الكيمياء (أي الحصول على الذهب) يذهب العقل والجهود، وقد وضع رسالة سماها "بطلان" دعا فيها المدعين ترك صنعة الذهب والفضة وخدعهم. ( )
حضّر الكندي أنواعًا من الحديد الفولاذ بأسلوب المزج والصهر؛ وهي طريقة لا زالت تستخدم حتى وقتنا الحاضر بنجاح. يتلخص هذا الأسلوب في مزج كميتين معلومتين من الحديد النرماهن (المطاوع) والحديد الشبرقان (الحديد الصلب). ويصهران معًا ثم يسخنان إلى درجة حرارة معلومة وخلال مدة زمنية مناسبة بحيث يكون الحديد الناتج محتويًا على نسبة من الكربون لا تقل عن 0,5% ولا تزيد كثيرًا على 1,5%. واستخدم الكندي أشهر السموم المعدنية المعروفة في وقتنا الراهن؛ وهي التي تتكون من أيون السيانيد الموجود في ورق نبات الدفلي، وكذلك الزرنيخ الأصفر. فقد ذكر الكندي وصفة لتلوين حديد السيوف والسكاكين يدخل في تركيبها بعض المواد العضوية والأعشاب، من بينها نبات الدفلي الذي ثبت أن السم فيه عالي التركيز لاحتوائه على مقدار كبير نسبياً من سيانيد الصوديوم أو البوتاسيوم، ويكسب الحديد لونًا أحمر يضرب إلى الزرقة.
قام كل من أرنالدوس وجيرار الكريموني بترجمة كتب الكندي في مجال الكيمياء والصيدلة إلى اللغة اللاتينية، وقال عنه الأخير إنه كان "خصب القريحة، وإنه فريد عصره في معرفة العلوم بأسرها". ( )
أبو الريحان البيروني: (973-1050 هـ):
ولد أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني بضاحية من ضواحي خوارزم بأوزباكستان وكان صديقاً لابن سينا، لم يؤمن البيروني بتحويل المعادن وهو من القائلين ببطلان الصنعة، وقد كان يؤمن في وحدة الاتجاه العلمي في العالمين الإسلامي والعربي، وكان البيروني يستند في أبحاثه على تجاربه الشخصية، وهو بهذا أكد مبدأ التجربة في البحث العلمي، وهو المبدأ القويم في الحضارة العربية والإسلامية الخالدة.
وقام البيروني بشرح عملية استخراج المعادن وتحديد أوزانها النوعية في الهواء والماء، والتي جاءت قيمتها مطابقة للقيم المعروفة اليوم كالزئبق والحديد والقصدير والرصاص والزمرد، وكذلك تعداده للمعادن والغازات المعروفة في عصره وأماكن خاماتها، وطرق استخراجها من الخام. ( )
وأعرض نموذجاً صغيراً من العناصر التي استنتج البيروني ثقلها النوعي، ومقارنتها بما توصل إليه العلم الحديث: مثال:
العنصر ثقله النوعي عند البيروني ثقله النوعي في العلم الحديث
الزئبق 13.59 13.59
الذهب 19.05 19.26
النحاس 8.83 8.85
وقد حضّر البيروني ملغم الزئبق مع الذهب وصنع الفولاذ، وحضر كربونات الرصاص القاعدية، وهي الطريقة المعروفة الآن بالطريقة الهولندية. ( )
الجلدكي (....-1342م )
هو عز الدين أيدمر علي الجلدكي وينسب إلى قرية جلدك من قرى خرسان (إيران) قرب مدينة مشهد. وهو من علماء القرن الثامن الهجري (والرابع عشر ميلادي)، من العلماء المشهورين في الكيمياء وكان يحب نشر العلم، لذا نجد أن بيته مفتوح لطلاب العلم وصدره واسع لمن يستفتيه بمسألة تتعلق بعلم الكيمياء أو بأي فرع من فروع المعرفة. أشتهر بسعة إطلاعه لأنه لم يترك كتاباً في حقل الكيمياء إلا درسه وعلق عليه.
استنتج من كل دراساته وأبحاثه أن المواد الكيميائية لا تتفاعل مع بعضها البعض إلا بأوزان معينة. ومما لا يقبل الجدل أن هذه الفكرة هي بحد ذاتها أساس ابتكار قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيماوي الذي ادعى ابتكاره جوزيف براوست وقد جاء بعد الجلدكي بخمسة قرون.
أعطى الجلدكي وصفاً مفصلاً لطريقة الوقاية والاحتياطات اللازمة من خطر استنشاق الغازات الناتجة عن التفاعلات الكيميائية، فهو بذلك أول من فكر في ابتكار واستخدام الكمامات في معامل الكيمياء، كما درس القلويات والحمضيات وخواص الزئبق. وتطرق لصناعة الصابون وأهميته في التنظيف وكان أول من فصل الذهب عن الفضة. ( )
وقد وصف الجلدكي بالتفصيل الأنواع المختلفة للتقطير، وشرح طريقة التقطير التي تسـتعمل حاليـا مثـل أوراق الترشـيح والتقطير تحت الحمام المائي والتقطير المزدوج. وفـي وصفـه للمـواد الكيميائية لا يترك خاصية للمادة إلا ذكرها وأوضحها، بل إنه يعتـبر أول عـالم تمكـن مـن معرفة أن كل مادة يتولد منها بالاحتراق ألوان خاصة. واسـتنتج مـن دراسـته المكثفة أن المواد الكيمياوية لا تتفاعل مع بعضها إلا بأوزان معينة، فوضع بذلك أساس قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيماوي.
وتطـرق الجـلدكي أيضـا إلـى دراسـة خواص الزئبق معتقدا أن هذا المعدن هو أصل جميع الأحجار. كما درس خواص المعادن المكونة في الطبيعة وله أقوال في خواص معدن الرصاص .
ولـم تقتصـر بحوث الجلدكي على علم الكيمياء فحسب ، وإنما تطرقت إلى معارف شـتى فبحـث فـي الميكانيكـا وعلـم الصـوت والتمـوج المائي والهوائي. وكان في دراسـته للظواهر الطبيعية معتمدا على ما قرأه عن أساتذته ابن الهيثم ، و الطوسي ، و الشـيرازي وغـيرهم. كمـا اشـتغل بعلمي الطب والصيدلة وله في هذين العلمين نتاج جيد.
تـرك الجلدكي عدداً كبيراً من المؤلفات معظمها في الكيمياء من أشهرها كتاب التقـريب في أسرار تركيب الكيمياء، وهو موسوعة علمية تضمنت الكثير من المبـادئ والنظريـات والبحوث الكيميائية، واحتوى على وصف للعمليات المستخدمة فيهـا كـالتقطير والتصعيد والتكليس، وفيـه اقتباسـات عديـدة مـن جـابر بـن حيـان. وكتـاب كـنز الاختصـاص ودرة الغـواص في معرفة الخواص، وهو في قسمين، قسم في الحيوان وقسـم ثـان فـي الجمـاد. ( )
وكتاب المصباح في أسرار علم المفتاح، وكتاب نتائج الفكر في علم (أو أحوال) الحجر (حجر الفلاسفة)، وكتاب بغية الخبير في قانون طلب الإكسير، وكتاب البدر المنير في أسرار الإكسير، وكتاب البرهان في أسرار علم الميزان، وكتاب غاية الشذور (شرح شذور الذهب في الإكسير لأبي الحسن علي بن موسى الحكيم الأندلسي المتوفي سنة 593هـ)، وكتاب نهاية الطلب (شرح المكتسب في صناعة الذهب لأبي القاسم العراقي). ( )
يقول عنه أحمد شوكت الشطي في كتابه مجموعة أبحاث عن تاريخ العلوم الطبيعة في الحضارة الإسلامية: «إن الجلدكى من العلماء المشهورين في علم الكيمياء ليس فقط بين علماء الغرب والمسلمين ولكن بين علماء الكيمياء بوجه عام».
ويقول عنه أ. ج. هولميارد في كتابه صانعو الكيمياء: «إن الجلدكي الذى قضى جزءا من حياته في القاهرة يعتبر بحق من العلماء الذين لهم دور عظيم في علم الكيمياء. واهتم الجلدكي اهتماما بالغا بقراءة ما كتب عن علم الكيمياء، فاتخذ من قراءاته وتحليله طريقة لبناء مسلك علمي في علم الكيمياء، وهذا ما يسمى بآداب علم الكيمياء العربية والإسلامية، وقام الجلدكى بتجارب علمية في حقل الكيمياء، وإن كان معظم عمله تحليليا، إلا أنه من العلماء الذين يدين لهم علماء العصر الحديث بالكثير». ( )
جدول يظهر أشهر الكيميائيين العرب وأهم مؤلفاتهم: ( )
م الكيميائي تاريخ وفاته أهم مؤلفاته
1 خالد يزيد بن معاوية 85هـ، 704م كتاب الحرارات؛ الصحيفة الكبيرة؛ الصحيفة الصغيرة.
2 جابر بن حيان 200هـ، 815م التدابير؛ السّموم ودفع مضارها؛ الموازين.
3 ذو النون المصري 245هـ، 859م الركن الأكبر؛ الثقة في الصنعة.
4 الكندي، يعقوب بن إسحاق 260هـ، 873م التنبيه على خدع الكيميائيين؛ كيمياء العطر والتصعيدات.
5 ابن وحشية، أبوبكر أحمد بن علي 296هـ، 908م كتاب الأصول الكبير؛ الأصول الصغير؛ المذاكرة.
6 أبو قران النصيبيني بعد سنة 296هـ ،908م الخمائر والبلوغ؛ التمويه؛ شرح الأثير.
7 عثمان بن سويد الأخميمي 298هـ،910م الكبريت الأحمر؛ التصعيد والتقطير؛ الجحيم الأعظم.
8 الرازي، أبوبكر محمد بن زكريا 311هـ، 923 الأسرار؛ سر الأسرار؛ الحجر الأصفر
9 المجريطي، أحمد بن مسلمة 398هـ، 1007م رتبة الحكيم.
10 الزهراوي، أبو القاسم خلف بن عباس بعد سنة 400هـ، 1009م التصريف لمن عجز عن التأليف (يتضمن أبوابًا عن الكيمياء)
11 الصالحي، محمد بن عبدالملك الخوارزمي بعد سنة 426هـ، 1034م عين الصنعة وعون الصناع.
12 ابن سينا، أبو علي الحسين بن عبدالله 428هـ، 1036م الشفاء في المنطق والرياضيات (يتضمن فصولاً في الكيمياء)؛ رسالة في علم الإكسير.
13 السايح، أبوبكر على الخراساني 438هـ، 1046م الحجر الطاهر؛ الحقير النافع؛ الأصول.
14 البيروني، أبو الريحان محمد بن أحمد 440هـ، 1048م الجماهر في معرفة الجواهر؛ مفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة.
15 أبو العباس القيسي التيفاشي 661هـ، 1263م أزهار الأفكار في جواهر الأحجار.
16 ابن كمونة، سعد بن منصور 676هـ، 1277م التذكرة في الكيمياء.
17 السيماوي، محمد بن أحمد بعد سنة 743هـ، 1342م المكتسب في زراعة الذهب.
18 الجلدكي، أيدمر بن علي 743هـ، 1342م بغية الخبير في قانون طلب الإكسير؛ التقريب في أسباب التركيب؛ درة الغواص في معرفة الخواص.
19 ابن الأكفاني محمد بن إبراهيم الأنصاري 749هـ، 1348م نخب الذخائر في أحوال الجواهر.
20 محمد المغوش المغربي التونسي 974هـ، 1566م رسالة في الكيمياء.
المصادر والمراجع:
أولاً: الكتب:
1. ناجي بسباس: التحول من السيمياء إلى الكيمياء في أوج الحضارة العربية والإسلامية: ، تونس، مركز النشر الجامعي، سنة 2002 .
2. نعمة الله عنيسى: الإنسان والكيمياء: دار المنهل اللبناني مكتبة رأس النبع، ط1، سنة 2003م.
3. تحسين أحمد جهاد: الموجز في تأريخ الصيدلة: دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان.
4. قصة الحضارة:
5. البيروني، أبو الريحان محمد بن أحمد (ت440هـ-1048م): في تحقيق ما للهند من مقولة في العقل أو مرذولة. طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد - الهند، 1377هـ - 1058م.
6. محمد عطية الإبراشي، أبو الفتوح محمد التونسي: سلسلة تراجم أعلام الثقافة العربية ونوابغ الفكر العربي، مكتبة نهضة مصر.
7. جامعة القدس المفتوحة: كتاب تاريخ الدولة العباسية.
8. عمر الطباع: الكندي فيلسوف العرب والإسلام، سلسلة المشاهير من علماء العرب والإسلام، مؤسسة المعارف، بيروت.
9. رجب عكاوي: أعلام الفكر العربي (الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية وأبحاثه وأراؤه الفلسفية)، دار الفكر العربي بيروت، ط1، سنة 2000.
10. عمر الطباع، عبد المنعم الهاشمي: المشاهير من علماء العرب والإسلام، أبو الريحان البيروني (موسوعة العرب)، مؤسسة المعارف، بيروت، ط1، 1413-1993م.
11. عمر فروخ: تاريخ العلوم عند العرب، ص256، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1980.
ثانياً: كتب وبحوث ومقالات من شبكة الإنترنت:
1. الموسوعة العربية العالمية - النسخة الإعلامية Global Arabic Encyclopedia. http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.mawsoah.net/
2. السكاكي: مفاتيح العلوم ج1 ص48، موقع الوراق الالكتروني.
3. شبكة العلوم العربية - المنتديات العلمية http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://ar.wikipedia.org/
4. منتدى طلاب وطالبات جامعة أم القرى http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.uqu1.com/.
5. موقع المنتديات العلمية http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://olom.info/
6. مقالة: الطبابة الصينية فعالية أم خرافة؟ جريدة الرياض السعودية: الأحد 8 جمادى الثانية 1425 العدد 13183 السنة 40 موقع الجريدة: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.alriyadh.com/
7. موقع الكيمياء : http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://chemical.arabhs.com/
8. عن مجلة "آفاق عربية" مقالة: البارود، علم الاجتماع، القارة الأمريكية..نصيب المسلمين من اكتشافها: صبيح صادق. من موقع:http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.balagh.com/
9. خالد عزب: مقالة البارود والمدافع في الحضارة الإسلامية ، موقع إسلام إون لاين.
10. موقع بيوتات الكيمياء التعليمية http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.bytocom.com/
11. موقع منتديات ستوب http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.stop55.com/
12. ويكيبيديا الموسوعة الحرة: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://ar.wikipedia.org/
13. موقع قصة الإسلام: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.islamstory.com/
14. خالد عزب: مقالة البارود والمدافع في الحضارة الإسلامية ، موقع إسلام إون لاين.
15. عبد الناصر كعدان، شذى قاوجي: بحث: جابر بن حيان وعلم الخيمياء (علم الصنعة)، الجمعية الدولية لتاريخ الطب الإسلامي. من موقع: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.ishim.net/
16. موقع إعدادية علال الفاسي: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.allalalfassi.free.fr/sc04.htm
17. شبكة الفجر الثقافية http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://shaharin.net/
داود الماجدي
تعريف الكيمياء:
يقصد بالكيمياء الدراسة العلمية لخصائص المادة وتركيبها وبنيتها، والتغيرات التي تحدث في بنية المادة وتكوينها، والتغيرات المصاحبة في الطاقة. ( )
أصل كلمة (كيمياء)
اختلف مؤرخو العلم حول أصل كلمة كيمياء. فمنهم من ردها إلى الفعل اليوناني chio الذي يفيد السبك والصهر، ومنهم من أرجعها إلى أصول عبرية من اللفظة العبرية "شامان" وتعني الغموض والسر، أو أنها مأخوذة من كلمة شم أو (chem) ويقصد بها الأرض السوداء أو الحرق.
ويقال أن قدماء المصريين كانوا يسمون بلادهم "كمت" ومعناها الأرض السوداء، وهي كلمة مأخوذة من الفعل "كم" بمعنى يسود لونه، وفي الكلمة إشارة إلى أن تربة مصر خصبة وغنية في عطائها، وقد حورت في عهد البطالمة فأصبحت (chemis) وكان مدلولها على الصنعة أو السيمياء التي اشتهر بها المصريون. ( )
ومنهم من يعزي اشتقاقها إلى كلمة مصرية قديمة (سيميا) معناها السواد، وقد أولها مؤرخو الكيمياء شتى التآويل، فمنهم من قال إن معناها الأرض السوداء إشارة إلى الخصب والبركة، ومنهم من جعل السواد رمزاً إلى السر والخفاء.( )
"ومنهم من يرى أنها مشتقة من كلمة كمى العربية أي ستر وخفى. ويقال، كمى الشهادة يكميها، إذا كتمها."( )
مرادفات كلمة كيمياء في المراجع القديمة:
اذا تتبعنا مختلف المراجع القديمة نجد أن هذا العلم كانت تطلق عليه أسماء كثيرة منها: الكيمياء، السيمياء، الخيمياء، الصنعة، علم الصنعة، علم الحجر، علم التدبير، علم الميزان، صنعة الكيمياء، صنعة الأكسير، الصنعة الالهية، الحجر المكتوم، السر المكتوم، السر الأعظم، وحجر الفلاسفة.
وتدلنا كثرة الأسماء التى كانت تطلق على هذا العلم قديما على عدم نضجه قبل الإسلام.
أما علماء الكيمياء المسلمون فقد أطلقوا على هذا العلم أسماء كثيرة منها: علم الصنعة- صنعة الكيمياء- صنعة الأكسير- الحكمة- علم الحجر- علم التدبير- وعلم الميزان. ( )
بدايات علم الكيمياء أو ما يعرف ب(الخيمياء) أو (السيمياء):
الخيمياء أو السيمياء مزيج من الزَّيف والسحر والفلسفة الباطنية. اكتسبت شعبيتها منذ بداية النصرانية حتى القرن الثامن عشر الميلادي. حاول الخيميائيون تحويل المعادن الخسيسة إلى فضة وذهب، كما حاولوا إيجاد إكسير الحياة وهي مادة تشفي الأمراض، لكنهم انتهوا إلى الفشل. غير أن جهودهم في تحضير ودراسة المواد الكيميائية ساعد في تطوير علم الكيمياء.
كان بعض هؤلاء الخيميائيين دجَّالين، لكن بعضهم الآخر كانوا علماء. وكانت وجهتهم فلسفية أكثر منها كيميائية. فقد شعروا أنهم إذا تعلموا كيف يتحصلون على الذهب من المعادن الخسيسة سيكون باستطاعتهم إتقان أشياء أخرى. واعتبروا أن الذهب هو المعدن الكامل لجمال بريقه ولمقاومته للصدأ.
دُرست الخيمياء في الصين والهند قبل ميلاد المسيح. لكنها تطورت كنظام رئيسي في مصر خلال الأعوام الثلاثمائة اللاحقة. فقد استخدمها العلماء الناطقون بالإغريقية في الإسكندرية في محاولة تفسير الكيفية التي تمكَّن بها الحرفيون المصريون من صنع الأشياء. انتشرت الخيمياء الإغريقية المصرية من سوريا وبلاد الفرس إلى العرب الذين كان لهم الفضل الأكبر في الانتقال من مرحلة الخيمياء إلى علم الكيمياء في نهاية القرن الثالث الهجري، بداية العاشر الميلادي، وانتقلت إلى أوروبا الغربية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.
استمد الخيميائيون نظرياتهم حول المادة من قدامى الإغريق. واعتقدوا أن المادة كلها مكونة من مادة وحيدة عديمة الشكل. كما اعتقدوا أن هذه المادة أساس العناصر الأربعة: الأرض والهواء والنار والماء عند اتحادها بالحرارة والبرودة، أو بفعل البلل أو الجفاف.
واعتقدوا أيضًا بإمكانية تغيير مادة ما إلى مادة أخرى بتغيير توازن هذه العناصر. سميت هذه العملية بالتحول، أدت بهم هذه النظرية إلى محاولة إنتاج الذهب من المعادن الأخرى. وفي بداية القرن السادس عشر الميلادي، حاول العالم السويسري باراسيلسس إحلال ثلاثة عناصر، الكبريت، الزئبق، الملح محل الأرض والنار والماء. وبحث الخيميائيون أيضًا عن حجر الفلاسفة، وهي مادة سحرية يُعتقد بقدرتها على تسهيل عملية التحول.
أدت ديمومة جودة الذهب إلى اعتقاد بعض الناس بإمكانية اكتشاف سر طول الحياة أو حتى الخلود، وذلك في حالة اكتشافهم كيفية صنع الذهب من المواد الخسيسة. وكان الصينيون يعتقدون أن تناول الطعام في أطباق ذهبية يطيل العمر.
ارتبطت الخيمياء بالعديد من المعتقدات الدينية. ويُعتقد أن طرق صنع الذهب كانت تتصل رمزيا بالموت والتحلُّل والتجدد والنشور. ارتبطت الخيمياء برباط وثيق مع التنجيم، بسبب الاعتقاد القائل إن كل جسم سماوي يمثل ويسيطر على معدن محدد.
ظن بعض الناس أن الشمس تمثل الذهب، والقمر يمثل الفضة، والمريخ يمثل الحديد، والزهرة يمثل النحاس، والمشتري يمثل القصدير، وزحل يمثل الرصاص، وعطارد يمثل الزئبق. ( )
الفصل الثاني
الكيمياء في الحضارات القديمة
حاول الإنسان عبر العصور أن يبحث في طبيعة العالم الذي حوله، وذلك بدافع غريزة حب المعرفة، ومن خلال ذلك، تم الكثير من الاكتشافات المهمة التي ساعدت على تطوير العلوم والتكنولوجيا ومن ضمنها علم الكيمياء وهو علم يعنى بطبيعة المادة ومكوناتها، وكذلك بكيفية تفاعل المواد المختلفة مع بعضها بعضاً، وعلى هذا تكون وظيفة العالم الكيميائي الأساسية هي معرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات عن طبيعة المادة التي أوجدها الله في هذا الكون.
منشأ علم الكيمياء:
تعود بدايات علم الكيمياء إلى زمن موغل في القدم،فلقد أختلف في مكان نشأته، قيل أن بداياته كانت في القرن الثالث قبل الميلاد، كما أن الحضارات القديمة التي سادة كلاً من الصين والهند كانت تعتبر المعالجة الكيميائية (تغيير المواد بالسوائل الكيميائية) من بين ما يتقنونه مهارة وحذقاً وأن هذه المعرفة والبراعة انتشرتا غربا إلى إمبراطوريتي فارس ومصر القديمة. ( )
الكيمياء في الحضارة الصينية القديمة:
يرى بعض المؤرخين أن من الممكن اعتبار الصين الموطن الحقيقي الذي نبتت فيه الكيمياء. فمنذ القرن الثالث وما قبل ذلك بكثير ظهرت كتابات كيميائية ذات ملامح خاصة عند جماعة "الطاو". والتي تعتبر الكون كله مظهرا لجوهر حي تحكمه روح شاملة. وهذه الروح تتجلى في القوى الثنائية لمبدأي "الين" و "اليانج", فالمعادن كلها طبقا لهذه النظرية أصلها واحد واختلافها راجع إلى النسبة التي تقترب بها من عنصري "الين" و "اليانج" وعلى هذا الأساس عد الصينيون تحويل المعادن بعضها إلى البعض الآخر ممكنا تماماً.
وقد سجل تاريخ الصين محاولات في الكيمياء لتحويل المعادن بوسائل صناعية زمن الإمبراطور الشهير "ووتي" (140-86 ق.م).
واهم موضوعات الكيمياء التي شغل بها الصينيون في تلك الفترة هو تدبير "إكسير الحياة المقدس" الذي أسموه " التان " (Tan).
وقد اختلفت الآراء حول حقيقة الكيمياء الصينية فهنالك شبه كبير بين كيمياء الصين والكيمياء العربية الأمر الذي يظهر معه أنهما إما أن يكونا قد نبعا من مصدر واحد أو أن يكون احدهما أصلا للآخر. ( )
ولا يزال السؤال غامضاً عن صلة الوصل بين الكيمياء الصينية والكيمياء المصرية القديمة، وهذا ما ح أول الباحث جونسون Jhonson أن يبرهن عليه، حيث ذكر عن كاتب صيني قديم يرجع عهده إلى سنة 330 ق. م أنه حرّر عن الفلسفة التاتوئية والسيمياء، والأخيرة تحتوي على كيفية تحويل المعادن إلى معادن ثمينة، وكيفية الحصول على إكسير الحياة. ( )
استعملت بعض المعادن الثقيلة والسامة في بعض المستحضرات الصينية بناء على اعتقادهم أن السموم قد تشفي، ومنها الذهب وقد أكد هذه النظرية الاختصاصي الكيميائي "وي بوينغ" سنة 144م. حيث صرح أن الذهب غير قابل للفساد وكذا يعتبر من أثمن الأشياء... ويساعد على إمداد الحياة وحفظ سواد الشعر وسلامة الأسنان واستعادة الشباب.. ويقي من "بؤس هذا العالم".. وقد وصف هؤلاء الأخصائيون في الكيمياء مستحضراتهم بطريقة مبهمة حسب المفهوم الحديث وقد شددوا على أهميتها في الحصول على الخلود والمحافظة على الصحة واستعادة الشباب الضائع. ( )
الصينيون وصناعة الورق: الورق المعروف حالياً، يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي. ففي عام 105 بعد الميلاد صنع الصيني تسي آي لون ورقا من لحاء الشجر وشباك الأسماك. ثم توصل الصينيون إلى صنع الورق من عجائن لباب الشجر، فحلت بذلك مكان الحرير غالي الثمن، والغاب ثقيل الوزن اللذين قنع بهما الصينيون زمناً طويلاً.
بعد ذلك طور الصينيون هذه الصنعة باستخدام مادة ماسكة من الغراء أو الجيلاتين مخلوطة بعجينة نشوية ليقووا بها الألياف ويجعلوا الورق سريع الامتصاص للحبر. ( )
واستفاد الصينيون القدماء من العناصر الطبيعية الثلاثة: النبات والحيوان والمعادن في الوصفات الطبية التي استعملوها، وجمعت الوصفات في أضخم كتاب يسمى (بن تساو) وهو (ألفار ماكوبيا الكبيرة)، والذي يقع في اثنين وخمسين جزءاً وتحتوي على أكثر من ألفي دواء وطرق تحضير ما يقارب من ثمانية آلاف وصفة طبية، إلى جانب استخدام بعض المعادن كالزئبق واليود في بعض الوصفات. ( )
كما أنه من الثابت تاريخياً أن الصينيين هم الذين اخترعوا البارود.. ولكنهم لم يسخروه للاستفادة منه في استعماله كقوة دافعة في الأسلحة النارية. ( )
ويرى البعض أن الحضارة الصينية عرفت البارود قبل المسلمين، واستعملوه في الألعاب النارية والأغراض الدينية. والذي استعمل في حقيقة الأمر لدى الصينيين هو ملح البارود وتركيبه الكيميائي (نترات البوتاسيوم)، وهو ما يعرف باسم (البارود الأسود الخام)، وسُمِّي بالبارود؛ لأنه قابل للاشتعال عند التسخين أو إذا لامسته النار.. فهذه المادة الخام هي التي عرفها الصينيون واستعملوها كما هي في الطبيعة دون تركيب أو تحضير، وكان معروفًا في مصر وسماه أهلها "الثلج الصيني" ، فيقول نيدهام في مؤلفه "العلم والحضارة في الصين": إن المسلمين قد عرفوا ملح البارود "Salt peter" عن الصينيين وكانوا يسمونه "الملح الصيني"، وكان هذا الملح يؤخذ من الحجارة أي من الموارد الطبيعية في أواسط وشرقي آسيا". أما بارود المدافع Gun powder فهو تركيبة كيميائية اخترعها المسلمون في معاملهم، وتتركب من (نترات البوتاسيوم بنسبة 75% + كبريت بنسبة 10% + فحم بنسبة 15%). ( )
الكيمياء في الحضارة الإغريقية:
بدأ العلم عند اليونانيين القدامي بشكل حكايات وأساطير، ومن بين هذه الأساطير أسطورة الحكماء السبعة، وأول هؤلاء الحكماء هو طاليس (624-548 ق.م) وهو مؤسسي المذهب الأيوني، وفيه المحاولة لتفسير الكون وتحليل نشأته، وخلاصة هذا المذهب: "إن الماء هو الأساس في قوام جميع الموجودات واختلافها يرجع إلى اختلاف حالة الماء وكميته فيها، وأن الأرض قرص من ماء جامد، ومن الماء نشأت كل العناصر.."، ثم جاء الفيلسوف "أناكسيمنس" (585-528 ق.م) ونادى بنظرية أن الكون أصله من الهواء، ثم نادى أحد فلاسفة المدرسة الأيونية وهو "هيراقلايتوس" (567-480 ق.م) بنظرية أن النار هي الأصل في تكوين المادة. وأخيراً ظهر الفيلسوف "امبيدوقلس) (483-430 ق.م)، وقال: إن أصل الكون يتكون من أربعة عناصر وهي: الماء والهواء والنار والتراب.
لقد شاعت هذه النظرية وتقبلها الفلاسفة، وكان على رأسهم "أفلاطون" (428-347 ق.م)، فسر أفلاطون منشأ الطبيعة بأنه حادث وكل حادث إنما يحدث بعلة، والجسم مركب من العناصر الأربعة، وكان العالم في البدء مادة رخوة غامضة قابلة للتغير والتحول، وكانت تتحرك اتفاقاً في الجهات الست، ثم انحدرت ذرات هذه المادة بحسب أشكالها، ومن اتحادها نشأت العناصر الأربعة وهي: النار والتراب والهواء والماء، وأضاف عنصراً خامساً سماه: "الهيولي" أي المادة.
أخذ أرسطو بنظرية العناصر الأربعة، وذهب إلى أن هذه العناصر تحوي في الحقيقة أسساً تكسب المادة المكونة منها خصائص مميزة، ومن هذه الأسس اختار الحرارة والبرودة والسيولة واليبوسة، وأن كل عنصر من العناصر الأربعة ينتج من اتحاد زوجين من هذه الأسس، فمثلاً الأجسام التي من خصائصها السيولة أو البرودة يكون عنصرها الماء، والأجسام التي من خصائصها الحرارة واليبوسة يكون عنصرها النار، وهكذا.. ( )
كان للإغريق اجتهاد في الكيمياء.. فوضعوا نظرية إمكانية تحويل المعادن الخسيسة كالرصاص والنحاس والزئبق الي معادن نفيسة كالذهب والفضة. وتقول هذه النظرية أن جميع المواد على ظهر الأرض إنما نشأت من عناصر أربعة هي النار والتراب والهواء والماء. وان لكل عنصر منها طبيعتين يشترك في احدها مع عنصر آخر.. فالنار جافة حارة والتراب جاف بارد والماء بارد رطب والهواء رطب جاف، وعلى ذلك فمن المحتم انه يمكن تحويل العناصر إلى بعضها.. وكان من رأي أرسطو أن جميع العناصر عندما تتفاعل في باطن الأرض وتحت ضغط معين وحرارة فانه ينشأ عنها الفلزات، وتجمع آراء الباحثين على ان جهود الإغريق في الكيمياء " كانت ضئيلة ومحدودة لأنهم درسوا العلوم من النواحي النظرية والفلسفية. ( )
الكيمياء عند قدماء المصريين (الفراعنة):
وعرفت مصر في عهد الأسرات الأولى كيف تصنع البرنز بمزج النحاس بالقصدير، وصنعت منه أو الأمر أسلحة برنزية كالسيوف، والخوذات والدروع؛ ثم صنعت منه بعدئذ أدوات برنزية كالعجلات، والهراسات، والرافعات، والبكرات، وآلات رفع الأثقال، والأوتاد، والمخارط، واللوالب، والمثاقب التي تثقب أقسى أحجار الديوريت، والمناشر التي تقطع ألواح الحجارة الضخمة لصنع التوابيت. وكان العمال المصريون يصنعون الآجر والأسمنت والمصيص، ويطلون الفخار بطبقة زجاجية، ويصنعون الزجاج وينقشونه هو والفخار بمختلف الألوان. وقد برعوا في حفر الخشب يصنعون منه كل ما يصلح لصنعه من قوارب وعربات وكراسي، وأسرة، وتوابيت جميلة تكاد تغري الأحياء بالموت. واتخذوا من جلود الأنعام ملابس وكنانات، ودروعاً، ومقاعد. وقد صورت على جدران المقابر كل الفنون المتصلة بدبغ الجلود، ولا يزال الأساكفة إلى الآن يستخدمون السكاكين المقوسة المصقولة على تلك الجدران في أيدي دابغي الجلود. وصنع المصريون من نبات البردي الحبال والحصر والأخفاف والورق. وابتدعوا فن الطلاء بالميناء والورنيش واستخدموا الكيمياء في الصناعة. ومن الصناع من كان يعمل في نسج القماش من أدق الخيوط المعروفة في تاريخ النسج كله. وقد عثر المنقبون على نماذج من الكتان منسوجة من أربعة آلاف عام، وعلى الرغم من عوادي الأيام فإن "خيوطها قد بلغت من الدقة حداً لا يستطيع الإنسان معه أن يميزها من خيوط الحرير إلا بمجهر. وإن أحسن ما أخرجته المناسج الآلية في هذه الأيام ليعد خشنا إذا قيس إلى هذا النسيج الذي كان يصنعه المصريون الأقدمون بأنوالهم اليدوية. وفي هذا يقول بسكل: "إذا فاضلنا بين قدرة المصريين الفنية وقدرتنا نحن، تبين لنا أننا كنا قبل اختراع الآلة البخارية لا نكاد نفوقهم في شيء". ( )
واستخدم القدماء المصريين الرصاص في صناعة العملات ووحدات الموازين ومواد الزخرفة والأواني المنزلية وأسطح السيراميك وسبائك اللحام.( )
كيمياء التحنيط عند الفراعنة: أظهرت دراسة علمية جديدة أن قدماء المصريين كانوا يستخدمون خلطات معقدة من المستخرجات النباتية والحيوانية لتحنيط موتاهم. تجري بطرق تتفق والمركز الاجتماعي للميت، فالفرعون يحنط بطريقة تختلف عن حاشيته، وهي بصورة عامة تتطلب حفظ الجسم في درجة حرارة مناسبة ويحقن الجسم بمواد مطهرة أو معقمة لكي تنتشر في أنحاء الجسم ثم يجري تجفيف الجسم ويحفظ في معزل عن الرطوبة وتستعمل لذلك مواد كيمياوية مثل الجير وبعض الأملاح والنطرون.إن عملية التحنيط تدل على مدى تقدم حضارة وادي النيل خصوصاً في مجال الكيمياء والتشريح. ( ) وقد أجرى باحثون بريطانيون تحاليل لثلاث عشرة عينة من المواد التي استخدمها قدماء المصريين في تحنيط مومياواتهم. وأظهرت التحاليل وجود مجموعة كبيرة جداً من المكونات من بينها أنواع من الدهون الحيوانية والزيوت النباتية وشمع العسل والأصماغ النباتية. وقد اكتشف الباحثون أن مواد التحنيط التي ابتكرها الفراعنة كانت عبارة عن مزيج من مواد رخيصة الثمن، وأخرى ثمينة ونادرة في ذلك الوقت مثل زيت الأرز والعرعر اللذين كانا يستوردان من خارج مصر. ( )
كان دبغ الجلود وصناعة الأصباغ ومستحضرات التجميل من بين الفنون التي مارسها المصريون، وتعتبر الإسكندرية المركز الأول للكيمياء القديمة حيث تأثرت بفلسفة الإغريق بعد قيام الإسكندر الأكبر بفتح مصر (322ق.م)،حيث جذب إليها الكثير من الإغريق فارتبطت مهارة المصريين مع نظريات الإغريق مما أدى إلى ظهور أولئك الذين يمارسون الكيمياء، ونسب إليها أنها موطن البحث لهذا العلم الذي يحيل المعادن العادية إلى معادن ثمينة ويعيد الشباب إلى الإنسان، وتزامن مع ظهور الكيمياء القديمة ظهور التنجيم واختلط بها السحر كما سيطرة الرمزية على هذه الكيمياء في العصور الوسطى وأغرقها الغموض. ( )
وقد استخدم المصريون الزجاج للتزجيج منذ الأزمنة الحجرية الحديثة، وفي البداية كان الحرفيون يصنعون الزجاج من الرمل أو الكروارتز (ثاني أكسيد السيليكون)ن وكربونات الصوديوم الخام، والتي كانت توجد في مصر في طبقات تحت البحيرات القريبة من الإسكندرية، ومن دون كربونات الصوديوم فإن الأمر يحتاج إلى لهب درجة حرارته عالية إلى 1700 مئوية لصهر الرمل، ويذوب الزجام المنتج بالصوديوم إلى حد ما في الماء وهو الأمر الذي كثيراً ما استخدم في الفن، ومع ذلك فقد كانت الأوعية الزجاجية تنتج لتخزين المراهم وقد وجد الحرفيون حوالي سنة 1300 ق.م أن إدخال أكسيد الكالسيوم وهو مركب كيميائي آخر كان معروفاً للقدماء يقلل من ذوبانية الزجاج، ويتكون من تسخين كربونات الكالسيوم الموجودة في الأصداف أو بتسخين الرواسب الطبيعية للحجر الجيري أو الطباشير، وبمجرد اكتشاف هذه التقنية بدأت على الفور مصانع الزجاج في مصر القديمة، وكان الزجاج يصب صباً ولا ينفخ، وكان أزرق اللون (ملوناً بمركبات النحاس وأحيانا الكوبلت) مع بعض الألوان الأخرى التي يكتسبها الزجاج. ( )
مدرسة الإسكندرية:
كان بطليموس مولعاً بالعلوم والفلسفة، فأنشاً في الإسكندرية معهداً للعلوم سماه الموسيون، وقد عرف هذا المعهد فيما بعد بأسماء كثيرة: أكاديمية الإسكندرية، جامعة الإسكندرية، مدرسة الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، وكل هذه الأسماء تشير إلى نفس المضمون، وضمت مدرسة الإسكندرية جميع أنواع الفكر والمعرفة، وخصص لكل علم جناح خاص به، وكان نصيب (الصنعة) أو (السيمياء) الطابق السفلي من المدرسة، باعتبارها أوطأ أنواع المعرفة لأنه القصد منها جمع المال والثروة. وكان من أشهر العلماء في هذه المدرسة:
هرمز: ويطلق عليه اسم هرمز المثلث العظمة، ويسميه ابن أبي أصيبعة، صاحب كتاب طبقات الأطباء: "هرمس الهرامسة، المثلث بالحكمة"، وينسب إلى هرمز "الكتاب الموسوم هرمتك" الذي جمعه "منيتوس" سنة 275 ق.م، وقد ذكر فيه 36.525 وصفة تتعلق بالصنعة والمعادن وكيفية تحويلها من نوع إلى آخر، وكان وصفات هرمز محاطة بالسرية التامة والغموض المبهم، فلا يستطيع أحد حل الرموز إلا هرمز نفسه، وبقي اسم هرمز في الكيمياء والصيدلة لحد الآن، فيقال "الفن الهرمزي ومختوم بختم هرمز أي محكم السداد". ويذكر أن أول من عثر على مؤلفات هرمز هو "الإسكندر المقدوني" فقد اكتشف قبره وأمر بفتحه، فوجد "حجر الزمرد" فيه، وقد دونت على الحجر جميع أصناف الصنعة والمعرفة، ومن بين ذلك ستمائة اسم لأنواع مختلفة من الأحجار الكريمة.
زوسيموس: وهو مؤرخ يوناني عاش في القرن الثالث بعد الميلاد وقد ورد اسمه في كتاب "الفهرست" لابن النديم: "ذيسموس"، وله من الكتب "كتاب المفاتيح في الصنعة"، وهذا الكتاب أشبه ما يكون بدائرة معارف أو موسوعة علمية وفيه كثير من القصص والأساطير الخيالية، كما جاءت أحاديث ووصفات لشرح الأدوات والآلات والأفران التي كانت تستعمل في "الصنعة"، ولقد استعان زوسيموس برموز ومصطلحات أطلق عليها فيما بعد اسم الرموز السلطانية وهذه تعتبر أول إشارة استعمال الرموز في الكيمياء.( )
الكيمياء في الهند:
وتقدمت الكيمياء بادئة طريقها من مصدرين: الطب والصناعة؛ وكانت براعتهم الكيماوية في صب الحديد في الهند القديمة، وفي الرقي الصناعي العظيم في عصور "جوبتا" ، حينما كان ُينظر إلى الهند- حتى من روما القيصرية- على أنها أمهر الأمم جميعاً في صناعات كيماوية مثل الصباغة والدبغ وصناعة الصابون والزجاج والأسمنت؛ وبلغ من القدم القرن الثاني قبل الميلاد، خصص "ناجارجونا" كتاباً بأكمله للبحث في الزئبق؛ فلما أن كان القرن السادس كان الهنود أسبق بشوط طويل من أوربا في الكيمياء الصناعية، فكانوا أساتذة في التكليس والتقطير والتصفية والتبخير واللحام وإنتاج الضوء بغير حرارة، وخلط المساحيق المنومة والمخدرة، وتحضير الأملاح المعدنية، والمركبات والمخلوطات من مختلف المعادن؛ وبلغ طرق الصلب في الهند القديمة حداً من الكمال لم تعرفه أوربا إلا في أيامنا هذه، ويقال أن الملك يورس، قد اختار هدية نفسية نادرة يقدمها للإسكندر ثلاثين رطلاً من الصلب، إذا آثرها على هدية من الذهب أو الفضة؛ ونقل المسلمون كثيراً مما كان للهنود من علم الكيمياء والصناعة الكيماوية إلى الشرق الأدنى وأوربا؛ فمثلاً نقل العرب عن الفرس، وكان الفرس قد نقلوا بدروهم عن الهند سر صناعة السيوف "الدمشقية".
وكان التشريح وعلم الوظائف الأعضاء- مثل بعض الجوانب الكيمياء- نتيجتين عرضيتين للطب الهندي؛ ففي القرن السادس قبل الميلاد- رغم أنه عهد يغوص في القدم، كان الأطباء الهنود يعرفون خصائص الأربطة العضلية ورتق العظام والجهاز اللمفاوي، والضفائر العصبية واللفائف والأنسجة. ( )
وذكر البيروني عن علم الهنود بالكيمياء قائلاً: "ولم يختص الهند بالخوض في أمر الكيمياء فليس يخلو منه أمة ... وأصحاب هذه الصناعة مجتهدون في إخفائها ومنقبضون عمن ليس من أهلها، فلذلك لم يتفق لي من جهة الهند الوقوف على طرقهم فيها، وإلى أي أصل يرجعون منها: المعدنيات أو الحيوان أو النبات، إلا أني كنت أسمع منهم "التصعيد"، و"التكليس"، و"التحليل"، و"تشميع الطلق" وهو بلغتهم "تالك"، فأتفرس فيها أنهم يميلون إلى الطريق المعدني، ولهم منه شبيه بهذا الباب، قد اختص الهند به يسمونه "رساين" وهو اسم مشتق من الذهب فإنه "رَسُ" وهو لصناعة مقصورة على تدابير ومعاجين وتراكيب أدوية أكثرها من النبات .." ( )
الكيمياء في بلاد الرافدين:
أول ما استخدم الزجاج لأغراض محدودة كان في بلاد الرافدين سنة (3000-2000 ق.م)، واستخدم الأشوريون أكسيد القصدير وأنتيمونات الرصاص لتلوين زجاج الزينة باللون الأبيض والأصفر على التوالي، وساد الاعتقاد بأن الأشوريون كانوا يعرفون كيف يصنعون الماء الملكي (مزيج من حمض النيتريك والهيدروكلوريك) لأنهم استخدموا أملاح الذهب لإضفاء اللون الأحمر على زجاجهم وكان الماء الملكي ضرورياً لإذابة الذهب.( )
وعرف الأشوريون فلزاً يسمونه (الكبالتو) اشتق منه اسم الكوبالت المعروف اليوم، والذي كانوا يستعملونه قديماً في صبغ الخزف والزجاج باللون الأزرق اللازودي. ( )
الكيمياء في بلاد فارس:
كانت صناعة الزجاج رائجة في بلاد فارس، حيث "أخذ صناع الزجاج المسلمون الأساليب الفارسية القديمة في صناعة الزجاج من حيث تقطيعه وتشكيله، حيث أنتج المسلمون آنية ذات بروز عالية وكان الكثير من هذه البروز تصور موضوعات تتعلق بالحيوانات". ( )
الكيمياء عند الرومان:
يرجع استخدام العديد من مواد الصابون والمنظفات إلى العصور السحيقة. ففي القرن الأول الميلادي تعرض المؤرخ الروماني بلايني الكبير لوصف أنواع مختلفة من الصابون الذي يحتوي على أصباغ وقد كانت النساء تستعمله في تنظيف شعورهن وإضفاء ألوان براقة عليه.
كما كانت صناعة الزجاج منتشرة في مناطق متعددة من الإمبراطورية الرومانية، وقبل اختراع أنبوبة نفخ الزجاج، كانت هناك عدة طرق لتشكيل وتزيين الأشياء المصنوعة من الزجاج الملون سواء الزجاج النصف شفاف أو المعتم، حيث تم تقطيع وتشكيل بعض الأشياء من كتل الزجاج الصلبة. ومن صانعي الآنية والمواد المعدنية، اقتبس صناع الزجاج عمليات السبك حيث كان يتم صب الزجاج المصهور في قوالب لإنتاج الحشو والتماثيل الصغيرة والآنية المفتوحة مثل الأكواب والأوعية. وكان يتم تسخين قضبان الزجاج المشكلة مسبقا وصهرها معا في قالب للحصول على "شريط" زجاجي. وتم عمل نماذج معقدة جدا باستخدام تقنية الفسيفساء حيث يتم صهر العناصر في قضيب ثم تؤخذ هذه العناصر لتعطي تصميما على شكل متقاطع. كما كان يتم ترتيب شرائح من هذه القضبان في قالب لتشكيل وعاء أو لوحة ثم تسخن حتى تنصهر.
واستخدم الرومان قديما الرصاص في صناعة مواسير المياه حيث كانت عبارة عن مزيج من الرصاص الملحوم مع القصدير. وقد كان العبيد الرومان يقومون باستخلاص وتجهيز الرصاص، وأصيب هؤلاء العبيد بالتسمم بسبب الرصاص. ( )
النار الإغريقية: يطلق مصطلح نار الاغريق Greek fire على سائل محرق أستعمل كسلاح من قبل البيزنطيين في حروبهم البحرية منذ 674 ميلادية. تسمى النار الاغريقية باللغة اليونانية "ايغرون بير" أي النار الرطبة. ولم تعرف بعد طبيعة هذه المادة، و لكن يرجح أنها كانت مزيجا مركبا من عدة مواد سريعة الاشتعال كالنفط و ملح الصخور و الكبريت و القار. و كانت لهذه المادة خاصية الاحتراق حتى على سطح الماء، لذلك سميت أيضا بالنار السائلة أو البحرية. يذكر المؤرخ البيزنطي ثيوفانس Theophanes، أن اختراع النار الإغريقية يرجع للمهندس الفينيقي كالّينيكوس Callinicus من بعلبك و ذلك سنة 670 ميلادية (3). ويعتقد المؤرخون أنها من نتاج التأثيرات العلمية للحضارة الهيلينية، و خاصة مدرسة الاسكندرية في مجال الكيمياء.
استعملت النار الإغريقية عدة مرات للدفاع عن مدينة قسطنطينية وفك الحصار عنها في 674 وكذلك في معركة سيلايوم البحرية سنة 677، ضد الأسطول الأموي، و كذلك ضد البلغار سنة 941 ميلادية. و يوصف استعمالها بالطريقة التالية: كان المزيج المحرق يعبأ في قدور كبيرة، على متن سفن حربية سريعة تسمى بالـ"درومون" (باليونانية تعني العداء)، و عند الاستعمال يسخن و يضخ في سيفون من النحاس ينتهي بمحقن مركب في مقدمة المركب (يعرف بالـ"سيفوناريوس" siphònariòs) ينفث المادة السائلة على سفن الأعداء، و التي تلتهب بصفة تلقائية. ( )
الفصل الثالث
علم الكيمياء عند العرب والمسلمين:
البداية:
كان العرب يطلقون على هذا العلم أسماء كثيرة بعضها يشير إلى طبيعة العلم، والآخر يشير إلى منهج البحث لديهم، ومن ذلك علم الصنعة، وعلم التدبير، وعلم الحجر، وعلم الميزان، وهناك رأي يقول: إن الكيمياء كانت نقلة تلت الصنعة، وحدث ذلك لأن الكيمياء العربية تأثرت في طورها المبكر بالخيمياء اليونانية والسريانية التي لم تكن ذات قيمة. حيث اعتمد الإغريق والسريان آنذاك على الفرضيات والتحليلات الفكرية، إذ إن الخيمياء تلجأ إلى الرؤية الوجدانية في تعليل الظواهر والخوارق في التفسير، وترتبط بالسحر وهو ما سمّاه العرب علم الصنعة الذي كان يسعى منذ قديم الزمن إلى بلوغ هدفين بعيدين: أولاً تحويل المعادن الخسيسة كالحديد والنحاس والرصاص والقصدير إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة من خلال التوصل إلى حجر الفلاسفة. وثانيًا: تحضير إكسير الحياة ليكون بمثابة علاج يقضي على متاعب الإنسان وما يصيبه من آفات وأمراض، ويطيل حياته وحياة الكائنات الحية الأخرى. ولذلك نستطيع القول إن الكيمياء بدأت مع علوم السحر والوهميات المبهمة لارتباط ذلك بالتنجيم؛ فعلى سبيل المثال كانت الشمس تمثل الذهب، والفضة تمثل القمر، والزئبق عطارد، والحديد المريخ، والقصدير هرميز، والنحاس الزهرة. وكان هذا هو الاعتقاد السائد في أوروبا إبان القرون الوسطى، حيث كان علماؤها يدَّعون أن علم الكيمياء جزء لا يتجزأ من علم السحر.
وصلت الصنعة إلى العرب بوساطة الإسكندرانيين عندما استقدم خالد بن يزيد بن معاوية (ت 85هـ، 704م) بعض الأقباط المتحدثين بالعربية مثل مريانوس، وشمعون، وإصطفان الإسكندري، وطلب إليهم نقل علوم الصنعة إلى العربية. وتعلم خالد بن يزيد هذه الصنعة بهدف تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وبذا يكون أول من نقل الكيمياء واشتغل بها. وهكذا نجد أن هذه الصنعة وصلت إلى العرب. وقد تخلل ما كُتب فيها كثير من الأضاليل والطلاسم والأوهام، وكان هدفها تحقيق غايات وهمية لا تمت إلى الكيمياء الحقيقية بصلة؛ إذ إن الأخيرة ترتكز على قواعد وقوانين علمية.
الكيمياء العربية. في بادئ الأمر انتقلت الخيمياء بمفهومها الخاطئ إلى العلم العربي، فاعتقد المشتغلون بها من العلماء المسلمين مثل اعتقاد اليونان والسريان النسطوريين أن أصل جميع المعادن واحد: الماء، والهواء والنّار، والتراب. وأن طبائعها قابلة للتحويل ويعود سبب اختلافها فيما بينها إلى اختلاف نسب العناصر المكونة لها، وما على من يرغب في الحصول على الذهب مثلاً إلا أن يعيد تركيب هذه العناصر من جديد بنسب صحيحة بعد تحليل المعدن إلى عناصره الأساسية. وعلى الرغم من أنه لم يتوصل أحد لذلك، سواء من العرب أو من سبقهم، إلا أن سعي العلماء المسلمين للوصول إلى هذا الهدف جعلهم يكتشفون مواد جديدة ـ عن طريق المصادفة ـ ويتوصلون إلى قوانين جديدة عديدة؛ مما مكنهم في النهاية من الانتقال من الخيمياء إلى الكيمياء. ( )
وكان أن انطلق العرب في ميدان الكيمياء واستخدموها في تركيب الأدوية، وبعض الصناعات العطور، وصبغ الملابس، ودبغ الجلود، وصناعة الورق، وعرفوا من خلال عملهم فيها التقطير والترشيح، والتبلور، وتوصلوا إلى الأحماض الكيميائية وساروا بهذا العلم خطوات كبيرة لم يسبقوا إليه. ( )
أثر الكيميائيين العرب والمسلمين في الحضارة الغربية:
يعتبر دور المسلمين في التدشين لعلم الكيمياء دوراً بالغ الأهمية، بل لم يكن للعالم غنى عنه خاصة في أوروبا، فقد استفاد الأوربيون من نظريات المسلمين وخبراتهم وتجاربهم في الكيمياء، وقاموا بترجمة كل كتب الكيمياء العربية إلى اللاتينية؛ ذلك أن المسلمين هم أول من وضع الأسس العلمية للكيمياء المبنية على التجارب، وكان لجابر بن حيان اليد الطولى في نشأة علم الكيمياء، وهو الذي نظم كثيرا من طرق البحث والتحليل، وركب عددا من المواد الكيماوية، وكانت أبحاثه هي المراجع الأولى في أوربا حتى القرن الثامن عشر.
ويشهد على هذا التأثير الأستاذ (مييرهوف) فيقول: إن تأثير جابر بن حيان قد طبع تاريخ الكيمياء الأوروبية في العصور الوسطى وحتى العصر الحديث بطابع يمكن تتبعه، فقد كان اسم جابر بن حيان واحداً من أوائل الأسماء التي مجدها الغرب منذ أول عهده بالاتصال بعلوم العرب، فكانت كتبه تترجم إلى اللاتينية فور الحصول عليها، وكان كتابه "التراكيب" من أول الكتب العربية التي ترجمت إلى اللاتينية؛ إذ ترجمه روبرت الشستري في سنة (1144م) وترجم جيرار الكريموني كتاب "السبعين".
ولقد استمر تأثير جابر في أوروبا والغرب بعد ذلك حتى ترجم له ريتشارد رسل الإنجليزي بعض أعماله من اللاتينية إلى الإنجليزية في سنة (1678م) تحت عنوان: "أعمال جابر أشهر الأمراء والفلاسفة العرب" مترجمة بأمانة بواسطة ريتشارد رسل من محبي الكيمياء.
كما أن ألبرت الكبير نقل أعمال جابر الكيماوية وغيره من الكيميائيين العرب في كتابه، ولم يبتكر ألبرت شيئاً ولم يُضِفْ بإجماع الباحثين، وصار الكتاب مرجعاً للعالم فيما بعد.
وتأثير العرب المسلمين في مجال الكيمياء واضح في موسوعة "فانسيت دي بوقيه"، يقول الأستاذ مييرهوف: "إن المقالات المنسوبة إلى دي بوفيه مليئة بشواهد عن جابر"، ولا أحد ينكر مدى أهمية هذه الموسوعة لدى الغرب.
وهذا هنري كافندش عالم كيميائي كبير تأثر تأثراً شديداً بإحدى نظريات جابر في القرن الثامن عشر، يقول هوليمار: تكمن إحدى الإضافات الأساسية للنظرية الكيماوية المتعلقة بتكوين المعادن في آرائه (أي جابر)، قبل جابر على أية حال نظرية أرسطو في تكوين المعادن، ولكنه يلوح بأنه نظر فيها على أنها مبهمة بطريقة كبيرة تجعلها عاجزة عن أن تفسر الحقائق الملاحظة، ولا يمكن أن تنير السبيل إلى الوسائل العلمية للتحويل (أي التحويل من معادن رخيصة إلى ذهب) ولذلك عدلها بطريقة ما ليجعلها أقل إبهاماً وعاشت النظرية التي اقترحها بعد إضافة بعض التعديلات والإضافات حتى بداية عصر الكيمياء الحديثة في القرن الثامن عشر، فنظرية الفلوجستون نفسها بالرغم من قصورها قد وصفت بأنها الدليل والمصباح المنير للكيماويين في القرن الثامن عشر، هذه النظرية التي وصفها البعض بأنها درة العصر ما هي إلا مولود مباشر لنظرية ابن حيان في تكوين المعادن..
هذه هي شهادة أحد الأساتذة الغربيين، توضح إلى أي مدى أسهمت الحضارة الإسلامية وأثرت في الحضارة الغربية في مجال الكيمياء.
أما مبحث مسلمة المدريدي في الأندلس الذي وصف أكسيد الزئبق وقدم بياناً بطريقة تحضيره، يشهد هوليمار على أن هذه المادة لم يستفد منها أحد مثلما استفاد منها بريستلي ولافوازييه.
وهناك تصريح ورد بالموسوعة البريطانية الطبعة الحادية عشرة يقول: عرفت أول صناعة لملح النشادر في مصر، ومنها تزودت أوروبا سنين طويلة بهذا الملح، وكان أهل البندقية ثم الهولنديون من بعدهم أول من حمل هذه التجارة من مصر إلى أوروبا، وأما الطريقة التي كان يصنع بها المصريون ملح النشادر فلم تكن معروفة في أوروبا حتى سنة (1719م)، حين أرسل د.ليمير القنصل الفرنسي في القاهرة إلى الأكاديمية الفرنسية الطريقة التي يصنع بها هذا الملح في مصر.
يقول المستشرق دوستاولوبان: "إنه لولا ما وصل إليه العرب من نتائج واكتشافات ما استطاع لافوازييه أبو الكيمياء الحديثة أن ينتهي إلى اكتشافاته". ( )
ولا ننسى أن العرب المسلمون هم أول من استعمل البارود، إذ أن العالم المسلم حسن الرماح هو الرائد الأول لذلك فأقدم إشارة لتركيب البارود في أوربا ترجع إلى كتاب مارك الإغريقي نحو سنة 1300م فقد نسب إليه هذا الفضل. أما بالنسبة لحسن الرماح فهو قد ظهر قبل مارك الإغريقي أي قبل سنة 1300 فوصف المواد التي يتكون منها البارود واستعمالها في أحد كتبه بالإضافة إلى أن وصف حسن الرماح واضح الشبه بما ذكره مارك مما يدل بما لا يدع مجالاً للشك تأثر مارك بالرماح. ( )
فجوستاف لوبون وسارتون وزيجريد هونكه وغيرهم كثيرون أجمعوا على أن الأوروبيين قد عرفوا البارود عن طريق العرب ونقلوه عنهم، وفي ذلك يقول جوستاف لوبون: "وعزي الاختراع إلى روجر بيكون زمنًا طويلاً.. مع أن روجر بيكون لم يفعل غير ما فعله ألبرت الكبير من اقتباس المركبات القديمة، فقد عرف العرب الأسلحة النارية قبل النصارى بزمن طويل"، وتقرر المستشرقة هونكه "أن الخليط العربي العجيب الذي يحدث رعدًا وبرقًا قد وصل إلى بعض علماء أوروبا أمثال روجر بيكون وفون بولشتدن"، وتضيف: "ثم حدث أن انتقلت النظرية إلى التجارب العلمية - لدى العرب - التي هزت كيان العالم، فالعرب في الأندلس هم أول من استخدمه في أوروبا".
ويستشهد أصحاب الرأي السابق بما وجدوه في المخطوطات الإسلامية التي تعود إلى القرن 4هـ/ 10م (أي قبل بيكون بثلاثة قرون، فقد جاء في وصف صناعة البارود: "تؤخذ عشرة دراهم من ملح البارود ودرهمان من الفحم ودرهم ونصف من الكبريت وتسحق حتى تصبح كالغبار، ويملأ بها ثلث المدفع فقط خوفًا من انفجاره، ويصنع الخراط من أجل ذلك مدفعًا من خشب تتناسب فتحته مع جسامة فوهته، وتدك الذخيرة بشدة ويضاف إليها البندق (كرات الحديد)، ثم يشعل ويكون قياس المدفع مناسبًا لثقله". وفي كتاب حسن نجم الدين الرماح "الفروسية والمناصب الحربية" والذي يرجع للقرن 7هـ/ 13م، شرح وتفصيل لصناعة البارود في العالم الإسلامي، عن طريق استخلاص ملح البارود من الطبيعة وتنقيته في المختبرات الكيميائية، فهذا الكتاب يدلنا على أن تلك الصناعة كانت قد بلغت في العالم الإسلامي شأنًا كبيرًا من التطور. ( )
بعض الألفاظ العربية المتداولة في حقل الكيمياء: ( )
اللفظ العربي مقابله اللفظ العربي مقابله
الإكسير Alixir قرمز Kermes
الأنبيق Alanbic القلقطار Colcothar
الأنيلين(النيل/النيلة) Aniline القلوي Alkali
البورق Borax القلي Alcali
التوتياء Tutty قيراط Carat
الخيمياء Alchemy الكافور Camphor
الرهج القار Realgar كبريت Kibrit
الزرنيخ Arsenic الكحل Kohl
الزعفر (الصفُّر) Zaffre الكحول Alcohol
زعفران Saffran كيمياء Chemistry
الزنجفر Cinnabar اللك Lacquer
الرُّب Rab المركزيت Marcasite
السكر Sugar المعجون Majoon
الصابون Sapon الملغم Amalgam
الطلق، تلك Tale النطرون Natron
عطر Attar النطفة Naphta
العنبر Amber النيل Anil
غرافة Carafe
الفصل الرابع
أشهر العلماء المسلمين في الكيمياء:
كما أسلفنا في الفصل السابق كيف أبدع المسلمون في مجال الكيمياء، ولهذا كان لزاماً علينا ذكر بعض علماء الكيمياء المبدعين من العرب المسلمين الذين قدموا للعالم خدمات جليلة في هذا المجال، وما زالت المدنية الحديثة تدين بالشكر لاكتشافاتهم واختراعاتهم في مجالات علم الكيمياء. ومن هؤلاء العلماء:
جابر بن حيان:
هو أبو عبد الله جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي المعروف بالصوفي. ولد في طوس (خراسان ) وسكن الكوفة، حيث كان يعمل صيدلانياً. وكان أبوه عطاراً. بنسبته الطوسي أو الطرطوسي، وينحدر من قبيلة الأزد. ويقدّر الزمن الذي ولد فيه جابر بين 721 م - 722 م، أما تاريخ وفاته فغير معروف تماما. ويقال أنه توفي سنة 200 هـ أو ما يوافق 815 م.
رحل إلى الجزيرة العربية وأتقن العربية وتعلّم القرآن والحساب وعلوماً أخرى على يد رجل عرف باسم (حربي الحميري) وقد يكون هو الراهب الذي ذكره في مصنفاته وتلقّن عنه بعض التجارب.
اتصل بالإمام جعفر الصادق (الإمام الخامس بعد علي بن أبي طالب ) ت 148 هـ، ويقال إنه أخذ علم الصنعة عنه، وتتلمذ على يديه، وعن طريقه دخل بلاط هارون الرشيد بحفاوة.
اختلف الرواة في أمر جابر، فقد أنكر قوم أمر وجوده، بينما أكد آخرون أنه رائد الكيمياء، لكن جابر، وقد أيّد هذه الحقيقة أبو بكر الرازي، عندما كان يشير إلى جابر في كتبه فيقول "أستاذنا". وتتجلى عبقرية جابر أنه درس الكتب ذات المحتوى السري جداً مثل كتب أبولينوس التيتاني. ( )
وترجع شهرة جابر إلى أنه أول من أخرج علم الكيمياء من أوهام الشعوذة إلى الحقيقة العلمية القائمة على التجربة والملاحظة والاستنباط، واستخدام العقل والاعتماد على الأدلة العقلية والتجارب العملية، وخالف أرسطو في نظريته الخاصة بتكوين الفلزات حين رآها لا تساعد في تفسير بعض التجارب. ( )
قام جابر بإجراء كثير من العمليات المخبرية، كان بعضها معروفًا من قبل فطوَّره، وأدخل عمليات جديدة. من الوسائل التي استخدمها: التّبخّر، والتكليس، والتقطير، والتبلر، والتصعيد، والترشيح، والصهر، والتكثيف، والإذابة. ودرس خواص بعض المواد دراسة دقيقة؛ فتعرف على أيون الفضة النشادري المعقد. كما قام بتحضير عدد كبير من المواد الكيميائية؛ فهو أول من حضَّر حمض الكبريتيك التقطير من الشب. وحضّر أكسيد الزئبق، وحمض النتريك؛ أي ماء الفضة، وكان يسميه الماء المحلل أو ماء النار، وحضر حمض الكلوريدريك المسمّى بروح الملح. وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة وقد سمّاها حجر جهنم، وثاني كلوريد الزئبق (السليماني)، وحمض النتروهيدروكلوريك (الماء الملكي)، وسمِّي كذلك لأنه يذيب الذهب ملك المعادن. وهو أول من لاحظ رواسب كلوريد الفضة عند إضافة ملح الطعام إلى نترات الفضة. كما استخدم الشب في تثبيت الأصباغ في الأقمشة، وحضّر بعض المواد التي تمنع الثياب من البلل؛ وهذه المواد هي أملاح الألومنيوم المشتقة من الأحماض العضوية ذات الأجزاء الهيدروكربونية. ومن استنتاجاته أن اللهب يكسب النحاس اللون الأزرق، بينما يكسب النحاس اللهب لونًا أخضر. وهو أول من فصل الذهب عن الفضة بالحل بوساطة الحمض، وشرح بالتفصيل عملية تحضير الزرنيخ، والإثمد (الأنتيمون)، وتنقية المعادن، وصبغ الأقمشة، ويعزى إلى جابر أنه أول من استعمل الميزان الحساس والأوزان المتناهية الدقة في تجاربه المخبرية؛ وقد وزن مقادير يقل وزنها عن1/100 من الرطل. وينسب إليه تحضير مركبات كل من كربونات البوتاسيوم والصوديوم والرصاص القاعدي والإثمد (الأنتيمون)، كما استخدم ثاني أكسيد المنجنيز لإزالة الألوان في صناعة الزجاج. كما بلور جابر النظرية التي مفادها أن الاتحاد الكيميائي يتم باتصال ذرات العناصر المتفاعلة مع بعضها. ومثّل على ذلك بكل من الزئبق والكبريت عندما يتحدان ويكونان مادة جديدة.
تدل العمليات الكيميائية التي أوردها جابر في مؤلفاته على براعته في الكيمياء وإبداعه في تصميم الأفران والبوتقات، ولا شك أنه لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه إلا بفضل تجاربه المخبرية. وقد كان يجري معظم هذه التجارب في مختبر خاص اكتشف في أنقاض مدينة الكوفة في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي؛ وهو أشبه بالقبو في مكان منعزل بعيدًا عن أعين الفضوليين، وبه من الأثاث: منضدة وقوارير، وأفران، وموقد، وهاون، وبعض الأدوات مثل الماشق (الماسك)، والمقرض، والملعقة، والمبرد، والقمع، والراووق (المصفاة)، وأحواض، وإسفنجة، وآلة تكليس، وقطّارة، ومعدات للتقطير، وميزان وإنبيق وغيرها.
ولجابر بن حيان مؤلفات ورسائل كثيرة في الكيمياء. وأشهر هذه المؤلفات كتاب السموم ودفع مضارها، وفيه قسَّم السموم إلى حيوانية، ونباتية وحجرية، وذكر الأدوية المضادة لها وتفاعلها في الجسم؛ وكتاب التدابير؛ وتعني التدابير في ذلك الوقت العمل القائم على التجربة، وكتاب الموازين وكتاب الحديد؛ وفيه يصف جابر عملية استخراج الحديد الصلب من خاماته الأولى. كما يصف كيفية صنع الفولاذ بوساطة الصهر بالبواتق، ومن كتبه كذلك نهاية الإتقان، و رسالة في الأفران. وتُشكل مجموعة الكتب التي تحمل اسم جابر بن حيان موسوعة تحتوي على خلاصة ما توصل إليه علم الكيمياء حتى عصره. وقد تَرْجم معظم كتبه إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي روبرت الشستري (ت 539هـ، 1144م) وجيرار الكريموني (ت 583هـ، 1187م) وغيرهما. ومثّلت مصنفاته المترجمة الركيزة التي انطلق منها علم الكيمياء الحديث في العالم. ( )
أبو بكر الرازي (ت 311هـ، 923م)
كانت لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي إسهامات كبيرة في الكيمياء، ويعود له الفضل في تحويل الكيمياء القديمة (كيمياء جابر) إلى علم الكيمياء الحديث، وكانت مصنفاته أول المصنفات الكيميائية في تاريخ هذا العلم. وعلى الرغم من أن أستاذه جابر بن حيان كان أول من بشَّر بالمنهج التجريبي؛ إلا أنه كان يخلط ذلك بأوهام الرمزية والتنجيم. أما الرازي فقد تجرّد عن الغموض والإيهام وعالج المواد الطبيعية من منظور حقيقتها الشكلية الخارجية دون مدلولها الرمزي. ولذا كان الرازي بطبيعة الأمر أوسع علمًا وأكثر تجربة وأدق تصنيفًا للمواد من أستاذه. ونستطيع أن نقول : إنه الرائد الأول في هذا العلم، وذلك في ضوء اتجاهه العلمي، وحرصه على التحليل وترتيب العمل المخبري، وكذلك في ضوء ما وصف من عقاقير وآلات وأدوات.
عكف الرازي ـ إلى جانب عمله التطبيقي في الطب والصيدلة والكيمياء ـ على التأليف؛ وصنَّف ما يربو على 220 مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة ومقالة. وأشهر مصنفاته في حقل الكيمياء سر الأسرار نقله جيرار الكريموني إلى اللاتينية، وبقيت أوروبا تعتمده في مدارسها وجامعاتها زمنًا طويلاً. بيًَّن في هذا الكتاب المنهج الذي يتبعه في إجراء تجاربه؛ فكان يبتدئ على الدوام بوصف المواد التي يعالجها ويطلق عليها المعرفة، ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعين بها في تجاربه؛ وسماها معرفة الآلات، ثم يشرح بالتفصيل أساليبه في التجربة وسماها معرفة التدابير. ولعل براعة الرازي في حقل الطب جعلته ينبغ في حقل الكيمياء والصيدلة؛ إذ كان لابد للطبيب البارع آنذاك أن يقوم بتحضير الأدوية المركبة، ولا يمكن تحضير هذه المركبات إلا عن طريق التجربة المعملية. ويبين سر الأسرار ميل الرازي الكبير واهتمامه العميق بالكيمياء العملية، وترجيح الجانب التطبيقي على التأمل النظري، ولا يورد فيه سوى النتائج المستفادة من التجربة. وقسَّم المواد الكيميائية إلى أربعة : معدنية، ونباتية، وحيوانية ومشتقة.
كان الرازي من أوائل من طبقوا معارفهم الكيميائية في مجال الطب والعلاج، وكان ينسب الشفاء إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض؛ فهو أول من استعمل الكحول في تطهير الجروح، وابتكر طريقة جديدة لتحضير الكحول الجيد من المواد النشوية والسكرية المتخمرة. كما كان أول من أدخل الزئبق في المراهم. ( )
الكندي (185-252 هـ / 801-866م):
هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، من قبيلة كندة العربية، ولد في الكوفة وتوفي ببغداد، تعلم الكندي في البصرة وبغداد وأقام في بلاط العباسيين، ترجم كثيراً من الكتب اليونانية إلى اللغة العربية، وقد ذكر "ابن النديم" في كتابه " الفهرست" حوالي مائتين وثلاثون كتاباً ورسالة ألفها الكندي، ومن أشهر رسائله في الكيمياء: "كتاب الجواهر الثمينة، وكتاب رسالة فيما يصبغ فيعطي لوناً، ورسالة فيما يطرح على الحديد والسيوف حتى لا تنثلم ولا تكل ( )، وكتاب كيمياء العطر والتصعيدات، طبعت في ليبزغ سنة 1948م مع ترجمتها، وكتاب رسالة في العطر وأنواعه، وكتاب التنبيه إلى خدع الكيميائيين ( ) وكتاب تلويح الزجاج.
وقد وضح رأيه في الصنعة فقال: "إن الاشتغال في الكيمياء (أي الحصول على الذهب) يذهب العقل والجهود، وقد وضع رسالة سماها "بطلان" دعا فيها المدعين ترك صنعة الذهب والفضة وخدعهم. ( )
حضّر الكندي أنواعًا من الحديد الفولاذ بأسلوب المزج والصهر؛ وهي طريقة لا زالت تستخدم حتى وقتنا الحاضر بنجاح. يتلخص هذا الأسلوب في مزج كميتين معلومتين من الحديد النرماهن (المطاوع) والحديد الشبرقان (الحديد الصلب). ويصهران معًا ثم يسخنان إلى درجة حرارة معلومة وخلال مدة زمنية مناسبة بحيث يكون الحديد الناتج محتويًا على نسبة من الكربون لا تقل عن 0,5% ولا تزيد كثيرًا على 1,5%. واستخدم الكندي أشهر السموم المعدنية المعروفة في وقتنا الراهن؛ وهي التي تتكون من أيون السيانيد الموجود في ورق نبات الدفلي، وكذلك الزرنيخ الأصفر. فقد ذكر الكندي وصفة لتلوين حديد السيوف والسكاكين يدخل في تركيبها بعض المواد العضوية والأعشاب، من بينها نبات الدفلي الذي ثبت أن السم فيه عالي التركيز لاحتوائه على مقدار كبير نسبياً من سيانيد الصوديوم أو البوتاسيوم، ويكسب الحديد لونًا أحمر يضرب إلى الزرقة.
قام كل من أرنالدوس وجيرار الكريموني بترجمة كتب الكندي في مجال الكيمياء والصيدلة إلى اللغة اللاتينية، وقال عنه الأخير إنه كان "خصب القريحة، وإنه فريد عصره في معرفة العلوم بأسرها". ( )
أبو الريحان البيروني: (973-1050 هـ):
ولد أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني بضاحية من ضواحي خوارزم بأوزباكستان وكان صديقاً لابن سينا، لم يؤمن البيروني بتحويل المعادن وهو من القائلين ببطلان الصنعة، وقد كان يؤمن في وحدة الاتجاه العلمي في العالمين الإسلامي والعربي، وكان البيروني يستند في أبحاثه على تجاربه الشخصية، وهو بهذا أكد مبدأ التجربة في البحث العلمي، وهو المبدأ القويم في الحضارة العربية والإسلامية الخالدة.
وقام البيروني بشرح عملية استخراج المعادن وتحديد أوزانها النوعية في الهواء والماء، والتي جاءت قيمتها مطابقة للقيم المعروفة اليوم كالزئبق والحديد والقصدير والرصاص والزمرد، وكذلك تعداده للمعادن والغازات المعروفة في عصره وأماكن خاماتها، وطرق استخراجها من الخام. ( )
وأعرض نموذجاً صغيراً من العناصر التي استنتج البيروني ثقلها النوعي، ومقارنتها بما توصل إليه العلم الحديث: مثال:
العنصر ثقله النوعي عند البيروني ثقله النوعي في العلم الحديث
الزئبق 13.59 13.59
الذهب 19.05 19.26
النحاس 8.83 8.85
وقد حضّر البيروني ملغم الزئبق مع الذهب وصنع الفولاذ، وحضر كربونات الرصاص القاعدية، وهي الطريقة المعروفة الآن بالطريقة الهولندية. ( )
الجلدكي (....-1342م )
هو عز الدين أيدمر علي الجلدكي وينسب إلى قرية جلدك من قرى خرسان (إيران) قرب مدينة مشهد. وهو من علماء القرن الثامن الهجري (والرابع عشر ميلادي)، من العلماء المشهورين في الكيمياء وكان يحب نشر العلم، لذا نجد أن بيته مفتوح لطلاب العلم وصدره واسع لمن يستفتيه بمسألة تتعلق بعلم الكيمياء أو بأي فرع من فروع المعرفة. أشتهر بسعة إطلاعه لأنه لم يترك كتاباً في حقل الكيمياء إلا درسه وعلق عليه.
استنتج من كل دراساته وأبحاثه أن المواد الكيميائية لا تتفاعل مع بعضها البعض إلا بأوزان معينة. ومما لا يقبل الجدل أن هذه الفكرة هي بحد ذاتها أساس ابتكار قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيماوي الذي ادعى ابتكاره جوزيف براوست وقد جاء بعد الجلدكي بخمسة قرون.
أعطى الجلدكي وصفاً مفصلاً لطريقة الوقاية والاحتياطات اللازمة من خطر استنشاق الغازات الناتجة عن التفاعلات الكيميائية، فهو بذلك أول من فكر في ابتكار واستخدام الكمامات في معامل الكيمياء، كما درس القلويات والحمضيات وخواص الزئبق. وتطرق لصناعة الصابون وأهميته في التنظيف وكان أول من فصل الذهب عن الفضة. ( )
وقد وصف الجلدكي بالتفصيل الأنواع المختلفة للتقطير، وشرح طريقة التقطير التي تسـتعمل حاليـا مثـل أوراق الترشـيح والتقطير تحت الحمام المائي والتقطير المزدوج. وفـي وصفـه للمـواد الكيميائية لا يترك خاصية للمادة إلا ذكرها وأوضحها، بل إنه يعتـبر أول عـالم تمكـن مـن معرفة أن كل مادة يتولد منها بالاحتراق ألوان خاصة. واسـتنتج مـن دراسـته المكثفة أن المواد الكيمياوية لا تتفاعل مع بعضها إلا بأوزان معينة، فوضع بذلك أساس قانون النسب الثابتة في الاتحاد الكيماوي.
وتطـرق الجـلدكي أيضـا إلـى دراسـة خواص الزئبق معتقدا أن هذا المعدن هو أصل جميع الأحجار. كما درس خواص المعادن المكونة في الطبيعة وله أقوال في خواص معدن الرصاص .
ولـم تقتصـر بحوث الجلدكي على علم الكيمياء فحسب ، وإنما تطرقت إلى معارف شـتى فبحـث فـي الميكانيكـا وعلـم الصـوت والتمـوج المائي والهوائي. وكان في دراسـته للظواهر الطبيعية معتمدا على ما قرأه عن أساتذته ابن الهيثم ، و الطوسي ، و الشـيرازي وغـيرهم. كمـا اشـتغل بعلمي الطب والصيدلة وله في هذين العلمين نتاج جيد.
تـرك الجلدكي عدداً كبيراً من المؤلفات معظمها في الكيمياء من أشهرها كتاب التقـريب في أسرار تركيب الكيمياء، وهو موسوعة علمية تضمنت الكثير من المبـادئ والنظريـات والبحوث الكيميائية، واحتوى على وصف للعمليات المستخدمة فيهـا كـالتقطير والتصعيد والتكليس، وفيـه اقتباسـات عديـدة مـن جـابر بـن حيـان. وكتـاب كـنز الاختصـاص ودرة الغـواص في معرفة الخواص، وهو في قسمين، قسم في الحيوان وقسـم ثـان فـي الجمـاد. ( )
وكتاب المصباح في أسرار علم المفتاح، وكتاب نتائج الفكر في علم (أو أحوال) الحجر (حجر الفلاسفة)، وكتاب بغية الخبير في قانون طلب الإكسير، وكتاب البدر المنير في أسرار الإكسير، وكتاب البرهان في أسرار علم الميزان، وكتاب غاية الشذور (شرح شذور الذهب في الإكسير لأبي الحسن علي بن موسى الحكيم الأندلسي المتوفي سنة 593هـ)، وكتاب نهاية الطلب (شرح المكتسب في صناعة الذهب لأبي القاسم العراقي). ( )
يقول عنه أحمد شوكت الشطي في كتابه مجموعة أبحاث عن تاريخ العلوم الطبيعة في الحضارة الإسلامية: «إن الجلدكى من العلماء المشهورين في علم الكيمياء ليس فقط بين علماء الغرب والمسلمين ولكن بين علماء الكيمياء بوجه عام».
ويقول عنه أ. ج. هولميارد في كتابه صانعو الكيمياء: «إن الجلدكي الذى قضى جزءا من حياته في القاهرة يعتبر بحق من العلماء الذين لهم دور عظيم في علم الكيمياء. واهتم الجلدكي اهتماما بالغا بقراءة ما كتب عن علم الكيمياء، فاتخذ من قراءاته وتحليله طريقة لبناء مسلك علمي في علم الكيمياء، وهذا ما يسمى بآداب علم الكيمياء العربية والإسلامية، وقام الجلدكى بتجارب علمية في حقل الكيمياء، وإن كان معظم عمله تحليليا، إلا أنه من العلماء الذين يدين لهم علماء العصر الحديث بالكثير». ( )
جدول يظهر أشهر الكيميائيين العرب وأهم مؤلفاتهم: ( )
م الكيميائي تاريخ وفاته أهم مؤلفاته
1 خالد يزيد بن معاوية 85هـ، 704م كتاب الحرارات؛ الصحيفة الكبيرة؛ الصحيفة الصغيرة.
2 جابر بن حيان 200هـ، 815م التدابير؛ السّموم ودفع مضارها؛ الموازين.
3 ذو النون المصري 245هـ، 859م الركن الأكبر؛ الثقة في الصنعة.
4 الكندي، يعقوب بن إسحاق 260هـ، 873م التنبيه على خدع الكيميائيين؛ كيمياء العطر والتصعيدات.
5 ابن وحشية، أبوبكر أحمد بن علي 296هـ، 908م كتاب الأصول الكبير؛ الأصول الصغير؛ المذاكرة.
6 أبو قران النصيبيني بعد سنة 296هـ ،908م الخمائر والبلوغ؛ التمويه؛ شرح الأثير.
7 عثمان بن سويد الأخميمي 298هـ،910م الكبريت الأحمر؛ التصعيد والتقطير؛ الجحيم الأعظم.
8 الرازي، أبوبكر محمد بن زكريا 311هـ، 923 الأسرار؛ سر الأسرار؛ الحجر الأصفر
9 المجريطي، أحمد بن مسلمة 398هـ، 1007م رتبة الحكيم.
10 الزهراوي، أبو القاسم خلف بن عباس بعد سنة 400هـ، 1009م التصريف لمن عجز عن التأليف (يتضمن أبوابًا عن الكيمياء)
11 الصالحي، محمد بن عبدالملك الخوارزمي بعد سنة 426هـ، 1034م عين الصنعة وعون الصناع.
12 ابن سينا، أبو علي الحسين بن عبدالله 428هـ، 1036م الشفاء في المنطق والرياضيات (يتضمن فصولاً في الكيمياء)؛ رسالة في علم الإكسير.
13 السايح، أبوبكر على الخراساني 438هـ، 1046م الحجر الطاهر؛ الحقير النافع؛ الأصول.
14 البيروني، أبو الريحان محمد بن أحمد 440هـ، 1048م الجماهر في معرفة الجواهر؛ مفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة.
15 أبو العباس القيسي التيفاشي 661هـ، 1263م أزهار الأفكار في جواهر الأحجار.
16 ابن كمونة، سعد بن منصور 676هـ، 1277م التذكرة في الكيمياء.
17 السيماوي، محمد بن أحمد بعد سنة 743هـ، 1342م المكتسب في زراعة الذهب.
18 الجلدكي، أيدمر بن علي 743هـ، 1342م بغية الخبير في قانون طلب الإكسير؛ التقريب في أسباب التركيب؛ درة الغواص في معرفة الخواص.
19 ابن الأكفاني محمد بن إبراهيم الأنصاري 749هـ، 1348م نخب الذخائر في أحوال الجواهر.
20 محمد المغوش المغربي التونسي 974هـ، 1566م رسالة في الكيمياء.
المصادر والمراجع:
أولاً: الكتب:
1. ناجي بسباس: التحول من السيمياء إلى الكيمياء في أوج الحضارة العربية والإسلامية: ، تونس، مركز النشر الجامعي، سنة 2002 .
2. نعمة الله عنيسى: الإنسان والكيمياء: دار المنهل اللبناني مكتبة رأس النبع، ط1، سنة 2003م.
3. تحسين أحمد جهاد: الموجز في تأريخ الصيدلة: دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان.
4. قصة الحضارة:
5. البيروني، أبو الريحان محمد بن أحمد (ت440هـ-1048م): في تحقيق ما للهند من مقولة في العقل أو مرذولة. طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد - الهند، 1377هـ - 1058م.
6. محمد عطية الإبراشي، أبو الفتوح محمد التونسي: سلسلة تراجم أعلام الثقافة العربية ونوابغ الفكر العربي، مكتبة نهضة مصر.
7. جامعة القدس المفتوحة: كتاب تاريخ الدولة العباسية.
8. عمر الطباع: الكندي فيلسوف العرب والإسلام، سلسلة المشاهير من علماء العرب والإسلام، مؤسسة المعارف، بيروت.
9. رجب عكاوي: أعلام الفكر العربي (الكندي أعظم الحكماء في تاريخ البشرية وأبحاثه وأراؤه الفلسفية)، دار الفكر العربي بيروت، ط1، سنة 2000.
10. عمر الطباع، عبد المنعم الهاشمي: المشاهير من علماء العرب والإسلام، أبو الريحان البيروني (موسوعة العرب)، مؤسسة المعارف، بيروت، ط1، 1413-1993م.
11. عمر فروخ: تاريخ العلوم عند العرب، ص256، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1980.
ثانياً: كتب وبحوث ومقالات من شبكة الإنترنت:
1. الموسوعة العربية العالمية - النسخة الإعلامية Global Arabic Encyclopedia. http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.mawsoah.net/
2. السكاكي: مفاتيح العلوم ج1 ص48، موقع الوراق الالكتروني.
3. شبكة العلوم العربية - المنتديات العلمية http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://ar.wikipedia.org/
4. منتدى طلاب وطالبات جامعة أم القرى http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.uqu1.com/.
5. موقع المنتديات العلمية http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://olom.info/
6. مقالة: الطبابة الصينية فعالية أم خرافة؟ جريدة الرياض السعودية: الأحد 8 جمادى الثانية 1425 العدد 13183 السنة 40 موقع الجريدة: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.alriyadh.com/
7. موقع الكيمياء : http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://chemical.arabhs.com/
8. عن مجلة "آفاق عربية" مقالة: البارود، علم الاجتماع، القارة الأمريكية..نصيب المسلمين من اكتشافها: صبيح صادق. من موقع:http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.balagh.com/
9. خالد عزب: مقالة البارود والمدافع في الحضارة الإسلامية ، موقع إسلام إون لاين.
10. موقع بيوتات الكيمياء التعليمية http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.bytocom.com/
11. موقع منتديات ستوب http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.stop55.com/
12. ويكيبيديا الموسوعة الحرة: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://ar.wikipedia.org/
13. موقع قصة الإسلام: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.islamstory.com/
14. خالد عزب: مقالة البارود والمدافع في الحضارة الإسلامية ، موقع إسلام إون لاين.
15. عبد الناصر كعدان، شذى قاوجي: بحث: جابر بن حيان وعلم الخيمياء (علم الصنعة)، الجمعية الدولية لتاريخ الطب الإسلامي. من موقع: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.ishim.net/
16. موقع إعدادية علال الفاسي: http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://www.allalalfassi.free.fr/sc04.htm
17. شبكة الفجر الثقافية http://exchange.alnoor.se/exchweb/bin/redir.asp?URL=http://shaharin.net/
داود الماجدي