رايفين فرجاني - ألوان الكذب

الكذب هو تغيير الحقيقة بعكسها أو تشويهها في القول عن قصد من القائل.
وبناء على هذا التعريف نعرض في هذا المقال أنواع الكذب حيث أن تغيير الحقيقة درجات وما بين درجة وأخرى تتباين تلك الأنواع. وكذا الأغراض تدخل كعامل في التنويع على الكذب. لنصل حتى إلى بعض الأنواع الذي يكون عن غير قصد من الكاذب.
نذكر أيضا أن هذا هو الجزء الأول من مقال ينشر على خمسة أجزاء يشمل مائة نوع من أنواع الكذب. وربما حتى نتطرق بالتفصيل إلى كل نوع في مقال منفصل لاحقا.


[1] الكذب

كما هو واضح من الإسم الذي يصف نوع الكذب الصريح بلا أي تلونات أخرى.
وقد روى رسول الله (ص) عن ثلاث أنواع من الكذب آيات للمنافق,أي دلالات عليه. في حديثين مشهورين.
الأول: آية المنافق ثلاث:إذا حدث كذب،وإذا وعد أخلف،وإذا اؤتمن خان.(1)
الثاني: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا،ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان,وإذا حدث كذب،وإذا عاهد غدر,وإذا خاصم فجر.(2)

من أنواع الكذب المذكورة في الحديث

1-الكذب
2-النكث
3-الخيانة
4-الغدر
5-الفجور

والكذب الصريح يقصد به عادة الكذب الخالص أو النقي أو الشامل. وهو الذي تتفرع منه كل الأنواع الأخرى ومشتقاتها
الكذب في الحديث والأخبار هما النوعان الأساسان اللذان يشتقان منه. كذب الحديث هو القول بغير ما في النفس. وكذب الأخبار هو القول بغير ما وقع. وهما النوعان اللذان نتناولهما في مواضع أخرى من المقال والمقالات اللاحقة.


[2] النكث

نكث الوعد هو العلامة الثانية على المنافق في حديث الرسول (ص) المسمى (آية المنافق ثلاث). وأتى التشبيه / التوصيف هنا بالكذب لأن الذي يعد ولا يوفي. لا يفعل لسبب من إثنين. فإما أنه لا يكون لديه علم بمقدرته على الإيفاء بما وعد به. وهنا يكون موضع الكذب لأن الذي يعد يشترط أن يكون لديه يقين بأنه قادر -يفترض بعد مشيئة الله- على تنفيذ وعده. لذا هو كذب بأن وعد,فذلك يعني إدعاء منه بأنه يعلم أن ما وعد به في حدود قدراته -رحم الله امرء عرف قدر نفسه- وأن ما طلب منه تصريحا أو تلميحا,قصدا أو جبرا من الطالب, يبقى ضمن المستطاع -إذا أردت أن تطاع فأطلب المستطاع. فإما أن لا يعد أصلا. وإما أن يضع في الاعتبار احتمالية عدم قدرته على الإيفاء بالوعد,وصدقه مع الموعود له بأن يضع شروطا. مثل إذا قبضت المال في يوم كذا سأعطيك قرضا. ولا تقول أعدك أن أعطيك قرضا في يوم كذا. أو سأجلب لك الهدية في يوم كذا. ثم تخلف وعدك. المشكلة أن بعض الاعتبارات تأتي بصورة تقديم المشيئة فحسب بصيغة تحتمل تأويلين متناقضين. فيقولها أحدهم "إن شاء الله سأهبك كذا" بصيغة الوعد,ثم يقول بما معناه أن الله لم يشأ. إن أزمة استخدام عبارة (إن شاء الله) الاعتباطية صارت مقاربة لأزمة عبارة (هل أنتم ممن يقولون قال الله وقال الرسول؟) التهكمية. الأولى تأتي كثيرا في صورة خداع للآخر,بينما الثانية تأتي كثيرا في صورة اتهام للآخر بأنه مخادع / منافق يدعي أنه يتبع قول الله وقول الرسول.



السبب الثاني هو أن الذي وعد لم يكن ينوي أصلا أن يفي بوعده,غير عابئ بالتأثير المرير لذلك على الآخر. وفي هذا السياق استذكر قصة خيالية تصلح كمثالا جيدا على ما يحيق بالطالب (الذي أخذ الوعد من الآخر) من أذى نفسي وربما حتى يكون جسدي بحسب ما يفترض أن يلبيه الوعد.



قيل أن هناك مدينة في قلعة,وللمدينة ملك قيل أنه عظيم,وعلى البوابة حارس جبار. يحرس البوابة منذ مائة عام,لم ينجح أي جيش أو سلاح أو ركب أو غيره في اختراق البوابة وتجاوز الحارس. صمد ضد حشود الأعداء وبرد الشتاء. صمد ضد حر الصيف ومضي الزمن. صمد ضد المرض والجراح. صمد ضد التعب والوحدة. صمد ضد المال والنساء. لم يغريه شيء ولم يقدر عليه شيء ولم يتزحزح يوما عن أداء مهمته في حين يتساقط كل من حوله موتى. وذات يوم سمع به ملك اليوم. فذهب إليه الملك وفرح الحارس العجوز بشرف زيارة الملك إليه وأتته غبطة كادت من تقضي عليه. وسأله الملك عما يطلب فأجاب أنه يكفيه شرف مجيئة. فوعده الملك بأن يزيده مجدا ويقيم حفلا على البوابة على شرف الحارس النبيل. امتن الحارس لذلك والحبور يملأ وجهه. وذهب الملك من أجل التجهيزات حسبما قال. وكان الموعد منتصف الليل,إلا أن الليلة كانت عاصفة والبرد شديد تزايدت حدته عن أي وقت مضى. فتكاسل الملك وهاله أن يخرج في هذا الصقيع. كأن الخارج صار جحيم زمهرير. وفي الصباح عثر على الحارس العجوز / الجبار ميتا. وقيل أنه في مثل عمره هذا لم يعد يتحمل برد ليلة أمس!.

[3] الخيانة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

خيانة الأمانة هي أن يؤتمن المرء على شيء فيضيعه أو يسرقه. وهنا تنقسم الخيانة بحسب السبب في الكذب إلى قسمين كما في النكث. فإما أنه كذب بادعاءه العلم أنه قادر على صون الأمانة,وهو كان يجهل مقدرته على فعل ذلك,فيضيعه لأنه أكثر غفلة / أقل يقظة من أن يحافظ عليها,أو يسرقها لأنه أضعف إيمانا من أن لا يطمع فيها. وإما أنه لم يكن ينوي أن يرد الأمانة أصلا. فيسرقها. هو ما سنتناوله في مقال آخر حول أنواع السرقة,مثل الاختلاس.



يقول الشاعر:-

اختـر قرينـك واصطفيه تفــاخرا *** إن القرين إلى المقارن ينسب

ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبا *** إن الكذوب يشين حرا يصحب

وزن الكلام إذا نطقت ولاتـــكن *** ثرثارة في كل ناد تخطب

وارع الأمانة والخيانة فاجتــنب *** واعدل ولا تظلم يطب لك مكسب

واحذر مصاحبة اللئيــــــم فإنه *** يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب

واحذر من المظلوم سهما صائبا *** واعلم بأن دعاءه لا يحجب



وهي قصيدة للشاعر العباسي صالح بن عبد القدوس,وتنسب خطأ لعلي بن أبى طالب,أو ربما العكس لا أذكر.



[4] الغدر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الغدر هو نقض العهد بين حليفين أو غريمين. فلا تهم صورة العلاقة بينهما طالما الرابط هنا هو العهد الذي إلتزما به. ويأتي الغدر مثل سابقيه (ولعل هذا ما جعل الرسول البليغ يجمعهما في مجموعة واحدة يخص بالذكر فيها أنواعا محددة من الكذب النفاقي) نتيجة سببين. فإما كذب عن جهل,أي إدعاء بالعلم أنه (الغادر) يدري بكل إمكانياته التي تؤهله بحسب ما يقول العهد الذي أبرمه كتابة أو شفاهية أو حتى إشارة,أنه سيلتزم به. أو جهل عن مقدرته على كبت غضبه وإزاحة غله تجاه غريم أقام معه مصالحة,ولكن يدعي أن ما مضى قد مضى بالنسبة له,وعفا الله عما سلف,وما فات مات وما آت آت. وغيره من الشعارات الكذابة التي قد يزين بها عقد المحبة المعلن عنه. وإما -وهذا السبب الثاني- أنه كان يضمر شرا منذ لحظة توقيعه (كتابة / شفاهية / إشارة) عقد الوفاق أو الإلتزام. وهنا يتجلى النفاق في صورة فجة -وفي أوضح معانيه- حيث يظهر الغادر عكس ما يبطن.



[5] الفجور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفجور هو تحول الخصام إلى قطيعة أو نفور أو عداء. ويشترط لكي يسمى التحول من الوفاق إلى ما خالفه خصام أن يكون بين المتخاصمين (المخاصمة مقبل الطرفين أو أحدهما) علاقة ود تربطهما؛قرابة,صداقة,زمالة,أخوية. لأن الفراق إذا تم بين مفترقين لا يسمى فراقا,كأن تلتقي شخصا في بجوارك في القطار وتتعرفا على بعضكما,ثم يفترق كل إلى حال سبيله. هنا لا يسمى هذا خصاما وربما حتى إذا تشاجرتما وقتل أحدكما الآخر -لا أدعوكم لفعل ذلك. وكذا إذا لم تكن العلاقة ودية,مثل العلاقة بين غريمين أو متحاربين. لا يسمى الافتراق بينهما خصاما -الخصام قائم بالفعل وربما نية القتل مبيتة. لذا فالخصام لا يطلق عليه خصاما إلا إذا حدث بين متحابين. على غرار العتاب للأحبة,والخصام هو المرحلة التالية على اللوم بعد العتاب. فإذا كان المرء لا يهتم بمن يحبه,لن يشغل نفسه بمعاتبته ,وسوف ينقطع عنه. وفي المرحلة التالية إذا ازدادت الوجيعة من من تحب. ازداد الحزن وتحول من عتاب إلى ملامة ثم خصام. أي أن الخصام هو حزن / غضب / ضيق ينتظر المصالحة. ولا يكون إلا للأحبة. فإذا تخاصم منافق مع عزيز عليه. وفجر في خصامه,أي انقطع عنه. فذلك معناه إما أنه لم يكن يحبه والعلاقة بينهما مبنية على كذب. أو أنه كذب بأنه سيتخاصم فقط,ثم تحول الخصام إلى قطيعة / نفور / عداء. سواء عن جهل أو عن نية كما وضحنا في الأمثلة السابقة.



أي أن الفجور هو المغالاة في الخصام.



وهناك صور أخرى للفجور,قيل الفجور هو التوسع / المغالاة في المعصية. تحديدا المعصية التي تستجلب الكذب. أي أن يحول الباطل إلى حق كي يبرر موقفه. فهو يزيد في العدوان ويتحول من مخاصم إلى خصم. ومن فجوره يطفح قلبه بالكراهية تجاه الآخر. وهناك ما هو أقبح من ذلك,أي أن لا يصرح بكراهيته أو خصامه للآخر,ويتعامل معه كما تقضي العادة, بينما يحيك له الدسائس والشرور. وهو ما ينقلنا إلى نوع أخبث من الكذب؛الخداع. ونتناوله في موضعه.



ومن صور الفجور أيضا العناد,والعند يولد الكفر.



[6] النفاق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقول سيدنا علي بن أبي طالب (ر) أن أبغض الشرور لديه هو الكذب,فالمنافق كذاب لأنه يظهر عكس ما يبطن,والمغرور كذاب لأنه ينسب لنفسه ما ليس فيه. وذكر مثالا ثالثا لا أذكره للأسف.



وفي ذم النفاق والمنافقين يقول تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ)(3)



وفي حديث الرسول عن آيات المنافق وخصاله,لم يذكر كل الخصال وإنما ذكر بعضا منها,مثلا لا حصرا. وخص بالذكر تلك الخصال لتشابهها كما ذكرنا,ولاحتواءها على كل الأنواع الأساسية للنفاق,فـ"وجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاثة أنها منبهة على ما عداها،إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول،والفعل،والنية. فنبَّه على فساد القول بالكذب،وعلى فساد الفعل بالخيانة،وعلى فساد النية بالخلف"(4)



وأيضا فإنها تكفي كعلامات دالة على المنافق (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ) (5)



المنافقين المذكورين في الآيات هم تحديدا من نقصدهم في تلك الفقرة,وهم يختلفون عن المنافقين المذكورين في الحديث ممن تناولناهم في الفقرات السابقة. والفرق بين الفريق الأول والثاني ثبات الإيمان أو الخروج عنه. الخارجين عن الملة ربما هم المذكورين في الآيات بينما من يتصفون بالخيانة / الغدر / الكذب / الفجور,رغم قبح تلك الصفات,لا يعني بالضرورة أنهم على غير الإيمان,وإن بدأوا في سلوك أول طريق الإنحراف عنه. و" ولكن ذلك لا يستلزم أن يكون هذا المسلم المتصف بالخيانة أو الكذب مثلا قد خرج عن الإيمان بالكلية؛لأن الإيمان يرفعه درجاتٍ عن النفاق،ولكنه يحاسب على هذه الأخلاق الذميمة،ولذلك يسمِّي العلماء هذه الآفات المهلكات بـ : "النفاق العملي "،يقصدون أن المتصف بها آثم مستحق للعقوبة،ولكنه ليس في درجة المنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر".(6)



"وقد اختلف العلماء في تأويلاتهم للحديث (آية المنافق ثلاث (أو خمس)) في أي نوع من المنافقين المقصود؛المؤمنين أم الكفار. وبين من يرى فيه تشبيها أو تحذيرا أو كشفا للمنافين من المؤمنين,ومن يراه تفصيلا لصفات النفاق في غير المؤمنين. (7)



[7] الغرور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في حديث علي (ر) ذكر الغرور بصفته اشتقاق من الكذب,وهو كذلك. وكما قال الصحابي البليغ لأن صاحبه ينسب لنفسه مكانة ليست فيه. كاذبا على نفسه (وهو أشد الغرور) وعلى من حوله. أما إذا كان غير مصدقا لنفسه ويحاول فقط الكذب على غيره,كان الغرور هنا مدرجا ضمن النفاق,وقد تناولناه,وضمن الخداع وهو ما سنتناوله في الآتي.



والغرور مصنف لدى المسيحية ضمن الخطايا السبع المميتة الملقبة بـ الذنوب الكاردينالية, وهو تصنيف لأكثر الشرور شرّا. ويشمل



1-الغرور

2-الغضب

3-الشهوة

4-الجشع

5-الشراهة

6-الكسل

7-الحسد



والغرور قد يكون أقبح من القتل,لأنه قتلاه أكثر,فهو غير محصور بعدد معين. لذا يقدر الغرور بنفس كبر القتل. وينتمي إلى الكفر. هتلر مثلا كان مغرورا,وتسبب قراراته في إندلاع الحرب العالمية الثانية.



[8] الإدعاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو نسبة شيء إلى شيء أو زعم شيء إلى شيء. بغير ما هو عليه أو بغير برهان أو تمييز أكان أحقا أم باطلا.



ومنه تنبثق كل ألاعيب الاحتيال,حيث يكون الإدعاء حول البضاعة / السلعة أو الظرف الذي يراد لأجله المال. أو يكون الإدعاء حول شخصه ليوحي أنه أرقى أو أقوى أو أخطر مما يبدوا. ومنه الغرور حيث إدعاء الشخص لنفسه ما هو ليس عليه,أو لمنتج يملكه محاولا أن يبديه كأنه من علامات الجاه أو الثراء "الساعة دي اشتراها لي زوجي من سويسرا" وهي من عند الساعاتي أسفل البيت.



ويستخدم توصيف الإدعاء في عديد من الإجراءات بصفة الشك في المدعي دون تكذيبه ودون تصديقه,بل فقط تعليقه حتى يتضح الأمر. كما يحدث في بعض التشخيصات الطبية أو التحقيقات النيابية.



ومن الأنواع البارزة للإدعاء نذكر



-إدعاء المرض (تمارض)

-إدعاء التدين (رياء)

-إدعاء المودة (نفاق)



[9] الرياء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الرياء هو إدعاء التدين. وعلى جانب آخر هو ادعاء الصلاح. أي أنه نوع فرعي من الإدعاء. وله استخدامات واسعة في المعاملات اليومية. وبخاصة في الجيرة والتجارة. فالغرض من هذا التظاهر هو إرضاء الناس أو التباهي أمامهم دون أن يقال عنه أنه متباهي. ولكن هذا التباهي يأتي على مستويات. منه التظاهر الصامت. ومنه ادعاء الورع فعلا وشفاهية. وفي أحيان أخرى تصل به الفجاجة أن يفخر بأنه رجل صالح تقي لا يفعل الخطأ ولا ينطق العيب. وتجد المرائون مخلصين في تصنع أو ممارسة العبادات (صلاة وصيام وتصدق وحسن المعاملة وذكر الله,وتلك أبرزها وليست كلها) أمام الناس لتلك الأغراض الخبيثة التي قد يراد من ورائها أغراض أكثر خبثا,وكل أعمالهم -التي تبدوا صالحة- في مهب الريح.



[10] الخداع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخداع هو تشويه الحقيقة على الآخر أو حتى الترويج للاعتقاد بشيء غير حقيقي أصلا,لنيل غرض لا يصب عادة في مصلحة ذلك الآخر,أو أقله يتم بغير رضاه.



والخداع يعد من الأنواع الكبرى للكذب,ومنه تتفرع عدة أنواع أخرى. فهو أساس النصب الذي يتفرع بدوره أقله لأكثر من عشرين احتيالا نتناولهم في مقال آخر.



الخداع من مرادفات الكذب والنفاق,فيعرف بأنه فلان أظهر لعلان خلاف ما يخفيه. ولكن يبقى الجدل حول الغرض من الخداع. والذي ينقسم إلى ثلاثة محاور؛الأول أن الغرض منه هو الأذى للآخر. الثاني وهو خداع نادر يكون الغرض منه فائدة تعود على الآخر. الثالث وهو غرض المصلحة منبعث من توجه حيادي لا يراد به الأذى للآخر,ولكنه أيضا لا يأبه إن وقع عليه ضرر.



والخداع يلعب على وترين بين الكذب المباشر والغير مباشر.



[11] التخييل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التخييل هو أكثر الأنواع الحميدة من الكذب,فقط في حالة أن المتلقي يعلم أن الكاذب يكذب عليه. بغض النظر عن نية الكاذب أن يصدقه الآخر أم يتماهى معه. رغم أن النية هنا تؤثر في جمالية الكذب,وقد ترجعه إلى صورته الأصلية كونه فعلا بغيضا. والتخييل هو من الأنواع الرئيسية في الكذب وينقسم إلى أنواع فرعية. التخييل الذاتي,والتخييل مع الآخر. الأخير ينقسم بدوره إلى نوعين بارزين؛



1-التزييف

2-التأليف



ويربط الفيلسوف الفرنسي الكبير بيير بيار بين النوعين في علاقة تأثير وتأثر,معترفا أن للنوع الأول ضررا كبيرا كونه يعتمعد على تزييف الحقائق وتصديق الآخر له. بينما الثاني يعني بمعالجة الحقائق ضمن رؤية خاصة مع تماهي (وليس تصديق) الآخر له. ولكن يرى أن حربنا مع التزيف تؤثر سلبا على ملكة التخييل "عندمـا نعترف بثـراء التخييـل،وبطابعـه الـذي لا يمكـن الاسـتغناء عنـه،فإنـه سـيكون مـن المناسـب ألا نرفضـه أو ندخـل معـه فـيٍ حـرب،هـي خاسـرة مسـبقا،بـل نمنحـه قيمـة،بـل نعمـل حتـى علـى تدريسـه" (8)



ومستشهدا بثلاثة عشر صانعا للحكايات,يستخرج بيار من التأليف -الذي انتقل إليه عبر التزيف- نوعا آخر من الكذب (رغم أنه ليس كذبا بالمعنى الكلاسيكي) ذو فائدة هامة وهي الإقناع.



والكاتبة الكويتية بثينة العيسى تتفق مع بيار في ذلك حين تقول "إن الحقيقة في العمل الفني هي الشيء الذي نحاول بلوغه بسرد الأكاذيب (القصص والروايات)". في إعادة صياغة لمقولة آن لاموت "الكاتب یبحث عن الحقیقة،ویروي الأكاذیب في كل خطوة على الطریق إلیھا". (9)



[12] التزييف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو تشويه الحقائق أو تغييرها على الآخر لغرض في نفس المزيف. وهو من الأنواع الكبرى التي تنبثق من الخداع. وعادة يأتي التزييف كذبا غير مباشر. فيعني بتزييف الحقائق باللعب في التسجيلات والوثائق والأدلة وربما حتى التلاعب بالشهود,عوض الكذب مباشرة قولا أو فعلا أمام الآخر.



والزيف يشتق منه الغش والنصب والتزوير والإفساد والتقليد ومسائل أخرى.



[13] التأليف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو اختلاق حقائق مزيفة مع علم الآخر بزيفه برغبة أو بدون رغبة من المؤلف. في الحالة الأولى (أي أن يكون المؤلف راغبا في أن يعرف المتلقي بأنه يكذب عليه) تسمى أدبا (بغض النظر عن صوره المختلفة,فحتى الفيلم يمكن اعتباره أدبا بحكم ما يستلزم من تأليف السيناريو السينمائي). وفي الحالة الثانية (أي أن يكون المؤلف راغبا في أن لا يعرف المتلقي بكذبه) تسمى تأليفا أو تزييفا.



والتأليف مرتبط عادة بالأدب,وهو نوعين بارتباط السرد,التأليف اللغوي وهو الأدب. والتأليف البصري مثل التمثيل والتصوير.



[14] الإيهام

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إذا كان الكذب بالأعلى هو فن تغيير الحقائق عن طريق تزييفها أو تشويهها,وغالبا يأتي بشكل مباشر من الكذاب. إلا أن الإيهام وهو ينطبق عليه ذات الوصف ولكن يعتمد على المراوغة والإلتفاف حول الحقيقة,مشيرا من بعيد إلى حقائق أخرى يقدمها للمتلقي كي يتبناها الأخير دون أن يظهر سمت التحريض من الكاذب.



الإيهام هي من درجات التزييف العليا (متجاورا مع الإعلام والتأريخ) حيث يصعب على المتلقي التمييز بين الصدق والكذب,الحقيقة والزيف.



وللإيهام طرائق عديدة,أبرزها إعطاء تصورات مسبقة تجاه أمر ما,ومنه سوء الفهم عن قصد من قبل الكاذب ليوقع فيه الآخر,ومنه لي عنق الحقيقة بشكل غير مباشر. ومنه النوع الأشد غلظة وهو إيقاع الآخر تماما في الوهم. مما يشبه أحد الأنواع الأشد خطورة من الكذب؛المؤامرة. ومنه نوع آخر شديد الخطورة,وهو غسيل العقول,أي إدخال أوهام في صورة أفكار واعتقادات إما تظهر كأنها آتية من متبنيها -الضحية الواقعة في الفخ كما قدم لنا كريستوفر نولان في تحفته استهلال- وإما تظهر على صورة نصائح -وليست ألاعيب- آتية من رفيقه.



[15] الإيحاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هو نمط آخر من الإيهام,يكون أكثر تركيزا من الإيهام,أنه طرقات على لا وعي المتلقي.



يتمسك الكاذب بلا مباشرية التلقين الكذبي,إلا أنه يكون مركزا ومكثفا ويتمحور حول نقطة معينة من أجل تحقيق غاية معينة. وهو مرادف للإيهام,ولا أعرف أيهما أحق بصفة التكثيف تلك. ولكن الإيحاء ليس أكثر كثافة فحسب بل هو على طرفي العصا. فمنها الشكل الأكثر بساطة لما يوحي صديق لصديقه بملله أو حزنه أو غضبه. وعلى الطرف الآخر هو أشده, حيث يعرف الإيحاء النفسي أو التنويم بالأيحاء (التنويم المغناطيسي) بأنه طريقة للتأثير النفسي في تفكير الآخرين بأساليب مصطنعة تؤدي إلى تنويمهم أو التحكم بهم. ومنه الوحي وهو بعث فكرة أو صورة أو شعور أو غيره تستقر في النفس بشكل غير مباشر. لذا سمي الوحي النبوي وحيا (وهو منزه عن صفة الكذب ونفصل المسألة في مقال آخر) لأنه يوصل الرسالة بشكل غير مباشر عن طريق وسيط / رسول هو جبريل عليه السلام لتبعث في نفس محمد وتستقر فيها.



[16] الإنكار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإنكار هو عدم تصديق الإنسان للحقيقة كاذبا على نفسه,أي أنه نوع معكوس من الكذب, حيث يتحول المتلقي إلى كذاب والحقيقة تصير بالنسبة له كذبا يستبدله بوهم يريد أن يصدقه. كأن يفقد أحدهم شخصا عزيزا عليه,أو يبتلى في سمعته أو ماله. وغير ذلك من المصائب.



والنوع الثاني منه,هو مبدأ (الكذب منجاة),حيث يزيد المجرم جرمه بكذبه منكرا ما يسدد له من اتهامات,مكذّبا من حوله,ولا كذاب غيره. والإنكار هو نوع من الكذب يكون معلوم فيه لدى المتلقي بكذب الكاذب,وذلك شرط تسميته إنكارا.



الإنكار هو نفي حادث قد حدث,أي أنه أمر واقع يرفضه المنكر,فإذا كانت واقعة سمي إنكارا,وإذا كان حقا سمي بطلانا,وإذا كان جميلا سمي نكرانا.



[17] المبالغة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبالغة هي المزايدة في تهويل أو تهميش حقيقة ما حتى تتشوه وتتحول إلى كذبة. أي أنه نوع خفيف من الكذب يستند بشكل كبير على حقائق يضخمها أو يقلصها,لكنه لا يخلقها آتيا بها من عدم. ورغم أنه نوع خفيف من الكذب لأنه لا يكذب بنسبة مائة في المائة,إلا أن له تأثير يزداد ثقلا حسب الاستخدام. والأنواع الأكثر حدة من المبالغة هي المغالاة والتهويل. المغالاة تنطبق في الناحيتين تكبيرا أو تصغيرا. أما التهويل فيقابله التهميش.



[18] المجاملة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المجاملة هو أن يقول الكاذب كذبا يرضي الطرف الآخر دون أي نية للأذى به أو الانتفاع منه (ولكن يعلق الانتفاع لوقت لاحق من باب النفاق). فإذا كان الكذب جميلا معه يسمى مجاملة,وإذا كان اتفاق في رأي له سمي مهاودة.



وقد أيدت جماعة من علماء المسلمين ثلاثة أنواع من الكذب اعتبرتها حلالا,هي



1-الكذب على العدو (للإنتصار علي)

2-الكذب على المتخاصمين (للصلح بين الطرفين)

3-الكذب على الزوجة (لإرضاءها وملاطفتها)



وهناك نوع ينبثق من المجاملة إسمه المجاملة أيضا يمكن أن نشير إليه بإسم الجميل. الجميل بكسر الجيم هو أن يفعل شخص فعلا جميلا تجاه شخص (مهما كانت بساطته كأن يعرض عليك سيجارة أو يدعوك للطعام) آخر وهو لا يريد حقا فعل ما يصرح بأنه سيفعله أو ما يفعله بالفعل. إنه لا يفعله بإرداته بل غصبا من جهة إجتماعية تفرض عليه ما يسمى بـ الواجب.



[19] الفتنة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفتنة هي نقل الإساءة من المسيء إلى المسيء إليه أو العكس من قبل الفاتن,والزيادة في الإساءة بما لم يحدث أو يقال (وهنا موضع الكذب) حتى يوقع / يفتن بين الطرفين. ومثلما قيل لو اجتمع رجل وإمرأة فثالثهم الشيطان,كذا صانع الفتن صنعته مثل صنيع الشيطان. وقيل الفتنة أشد من القتل لأنه تؤدي إلى سكب الدماء بما لا يحصى من عدد القتلى في فتنة توقع بين طوائف وجماعات كبيرة من البشر.



[20] المؤامرة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التآمر هو إخفاء معلومات بإدعاء الجهل أو تزييفها من أجل الإضرار بالآخر.



والمؤامرة هي خطة خفية (تحاك عادة من قبل عدة أفراد حتى لو كان المصدر واحد) للإيقاع بشحص ما أو جهة ما (عائلة – مؤسسة – دولة).



ونظرية المؤامرة (القول بأن الواقع -أو جوانب منه- الذي نراه ما هو إلا كذبة كبيرة ورائها أيادي خفية) من المسائل التي تحتاج تفصيلها في مقال مستقل لذاتها.



المصادر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1-حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه,ورواه البخاري (33) ومسلم (59).

2-حديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما,ورواه البخاري (34) ومسلم (58).

3-سورة النساء,142-143.

4-فتح الباري / الحافظ بن حجر. (1/90).

5-سورة محمد,30.

6-شرح حديث آية المنافق ثلاث على موقع الإسلام سؤال وجواب.

7-انظر شرح حديث آية المنافق ثلاث على موقع الإسلام سؤال وجواب.

8-كيف نتحدث عن وقائع لم يسبق لها أن وقعت (كتاب) / بيير بيار / ص 167. انظر ترجمة حسن المودن في تعريفه للكتاب,مجلة الدوحة,ع 159,ص 72.

9-الحقيقة والكتابة / بثينة العيسى / الحقيقة الروائية,ص 15.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى