من بين كل تجليّات الحبِّ ودرجاته التي يختبرُها الإنسان من الهوى فالصبوة والشَّغَف والوَجْد، وهكذا تورُّطاً مضطَّرِداً حتى بلوغ الدرجة القصوى: الهيام، فإن ثمّة حُبّاً تنصهرُ فيه كلُّ درجات الحبّ التي اخترعتها لغة العرب؛ هو حبٌّ يخطف القلب، يقبضُ على الجوارح، يُسيِّر الروحَ، وينقاد في أثره العقل مأخوذاً، مسحوراً، ذاهلاً، دائخاً، منغمساً فيه كُلاًّ كاملاً، مكتفياً به عالماً حُرّاً شاسعاً لا يساويه عالم، وحُبّاً ما بعده حبّ. وخلافاً لكل أنواع الحب، فهو حبٌّ لا يخذلنا، لا يخوننا، لا يكسر أفئدتنا، ولا يتخلى عنا؛ إنه حبّ الكتب؛ أعظم الحب، وأشقاه.
نعم هو أشقى أنواع الحب، ذلك أنه كلما امتلأنا به تعاظم توقُنا له، وكلما اعتقدنا أننا شبعنا منه تضاعف نهَمُنا، وكلما أضاء نفقاً في الذات انشقَّت أنفاقٌ أخرى في ظلماتنا، تتوخّى نورَ المعرفة، وتتحرّى الاشتعال بأسرار الحكمة وسحر القصص والتماعة القصائد، حتى لكأنّ كُتبَ البشرية كلّها لا تكفينا.
منذ أن أصبحت المعرفةُ حقّاً من حقوق الإنسان، وقيمةً جوهرية في متناول العامة بفضل أعظم اختراع عرفته البشرية، وهو "المطبعة"، في القرن الخامس عشر، باتت الكتب متوفرةً بكميات كبيرة وبأسعار معقولة نسبياً، ولم تعد معارف البشرية أسيرة المجلدات المذهبة والمخطوطات النادرة والصحائف الثمينة الموصدة في خزائن القصور والقلاع والكاتدرائيات ومكتبات النخبة.
وفي الوقت الذي قطع فيه الكتابُ رحلةً طويلةً ومضنية على مدى مئات السنين؛ فتنمَّق بكل هيئات الحروف، وارتدى كل أنواع الورق، وطوى كل أشكال العلوم والمعارف، تطور في الأثناء القارئ؛ القارئ العابر، والقارئ المكرَّس، القارئ الملول، والقارئ الشغوف، والقارئ الزائر، والقارئ المقيم في الكتاب، والقارئ الدارس المتأمل المتفحِّص المتعمِّق، والقارئ الخفيف الذي يكتفي بالتخويض في سطح الأشياء.
ومن وسط معشر القرّاء من كل المشارب والأمزجة والأهواء، يحق لنا أن نحتفي بأقلية مخلصة هي "مُحِبّو الكتب" الأصلاء، وأنا منهم.
في أوائل القرن التاسع عشر دخل مصطلح "بيبليوفايل" Bibliophile اللغة الإنجليزية (مستخدم أيضاً في لغات أخرى – وإن بتنويعات مختلفة). وهو مصطلح يوناني الأصل، يتألف من شقّين: "بيبليون" Biblion (أي كتب) و"فيلوس" philos (أي المحب)، ويعني "مُحِبّ الكتب". ومن هذا المصطلح تخلَّق مصطلح "بيبليوفيليا" أي "حّبّ الكتب"، وبات وصف "البيبليوفايل" لصيقاً بجماعة من القراء وجامعي الكتب، ممن سحرهم الكتاب.
وبما أني أعتبر نفسي من "البيبليوفايليين" المخلصين، فإن "مُحِبّ الكتب" الأصيل هو الذي يعشق كل ما له علاقة بالكتاب، قراءةً واقتناءً. هو يقرأ دون انقطاع، وغالباً ما ينحاز إلى قراءات بعينها أو قد يهوى جمع كتب ضمن مجالات واهتمامات خاصة. بالنسبة له، فإن عالم الكتب هو جنّته، التي لا يودُّ أن يغادرها مهما حصل. تراه ما إن يدخل مكتبة، حتى ترفرف روحه بين رفوف الكتب، وينتعش قلبه لرائحة أكداس المجلدات، فتتَّقد فيه تلك الرغبة لاكتشاف احتمالات العناوين، وتفقُّد عتبات النصوص، والإبحار في لُجّ المعارف.
ومُحَبُّ الكتب يغتبطُ حين يقع على كتاب يفتنه أيّما فتنة، فلا يتركه قبل أن يطوي الصفحةَ الأخيرةَ منه، مغالباً النعاس والإعياء، وقد يختلط عليه الليل والنهار، وتتخدّر أطرافه، ويفقد إحساسه بزمانه ومكانه، ذلك أن لا زمن يغلب زمن الكتاب، ولا عالم مهما كان كبيراً يمكن أن يكون أكبر من ذاك العالم القابع بين دفتي كتاب.
هناك من يميل إلى الخلط بين مصطلحي البيبليوفيليا والبيبليومانيا؛ فالأخير شكل من أشكال الاضطراب النفسي أو أحد أشكال "الوسواس القهري"، وهو يشير إلى الهوس المرضي بجمع لكتب؛ بل أن المهووس بالكتب يصل إلى مرحلة يجد نفسه فيها لاهثاً وراء أي كتاب حتى وإن لم ينطوِ على قيمة معرفية، ولا تعود القراءة هنا غاية بقدر مراكمة أكوام وأكوام من الكتب، يصبح الشخص أسيراً لها على نحو مرضي، فلا هو قادر على التوقف عن جمع الكتب، ولا هو قادر على التخلص من كتب لا قيمة لها، ولا هو قارئ.
ولا يعدُّ "البيبليومانيا" (الهوس بالكتب) ظاهرةً مرضيةً حديثة. ثمة مصادر تشير إلى أن المصطلح، بمعناه الذي يشي بشكل من أشكال الهوس أو الجنون قد رُصد أول مرة عام 1734، في مذكرات لجامع كتب إنجليزي شهير يُدعى توماس هيرن أقرّ بينه وبين نفسه بأنه ربما دفع مبلغاً طائلاً من المال في شراء كتب على نحو قد يجعله يبدو بأنه يعاني شكلاً من أشكال البيبليومانيا (بمعنى الهوس الخفيف). وتطاير مصطلح "بيبليومانيا" هنا وهناك دون تأطير واضح، قبل أن يكتسب في العام 1809 معناه المتداول اليوم رسمياً من خلال كتاب بعنوان "بيبليومانيا أو جنون الكتب" وضعه المؤلف البيبليوغرافي الإنجليزي توماس ديبدن، وصف فيه الهوس بالكتب كشكل من أشكال الاضطراب العصبي، مطلقاً عليه "مرض الكتب".
ولعلّ أشهر مجانين الكتب في التاريخ الحديث الأمريكي هو ستيفن بلومبيرغ، أو "لص الكتب" كما يعرف، حيث باتت حكايته مرجعاً في تصنيف أقصى درجات الهوس المرضي بالكتب. جمع بلومبيرغ أكثر من 23,600 كتاب، ليس من حرّ ماله وإنما من مال الآخرين! فقد سرق ثروته من الكتب من 327 مكتبة ومتحفاً. ونجح بلومبيرغ في الهرب من العدالة ومراوغة رجال الشرطة لسنوات، لدرجة أن وكالة التحقيقات الفيدرالية رصدت مكافأة سخيّة لمن يساعد في القبض عليه، فوشى به أقرب أصدقائه، واعتقلته الشرطة في العام 1990. وقد قُدرت قيمة الكتب التي سرقها يومها، من بينها مخطوطات نادرة، بأكثر من خمسة ملايين دولار. سُجن بلومبيرغ لبضع سنوات، وما إن أُطلق سراحه حتى عاد إلى هوسه غير القابل للشفاء!
قد يكون هناك خطٌّ واهٍ بين البيبليوفيليا والبيبليومانيا، بين الحب الجميل الأصيل وبين الهوس المرضي. فمُحِبّ الكتب قد يشتري أكثر من حاجته من الكتب، وما يفيض عن سعة وقته وبيته، وقد تتضخّم مكتبته مع الوقت، مدركاً بأنه قد لا يتمكن من قراءة محتواها كله من الكتب، لكنه مع ذلك يأنس بها وبوجودها حوله، تطوّقه، كأن بها تصونه وتعدُه بشغفٍ متواصل ومخزونٍ لا ينضب من الحب.
شخصياً، هذا حبٌّ لا أريد أن أبرأ منه.
نعم هو أشقى أنواع الحب، ذلك أنه كلما امتلأنا به تعاظم توقُنا له، وكلما اعتقدنا أننا شبعنا منه تضاعف نهَمُنا، وكلما أضاء نفقاً في الذات انشقَّت أنفاقٌ أخرى في ظلماتنا، تتوخّى نورَ المعرفة، وتتحرّى الاشتعال بأسرار الحكمة وسحر القصص والتماعة القصائد، حتى لكأنّ كُتبَ البشرية كلّها لا تكفينا.
منذ أن أصبحت المعرفةُ حقّاً من حقوق الإنسان، وقيمةً جوهرية في متناول العامة بفضل أعظم اختراع عرفته البشرية، وهو "المطبعة"، في القرن الخامس عشر، باتت الكتب متوفرةً بكميات كبيرة وبأسعار معقولة نسبياً، ولم تعد معارف البشرية أسيرة المجلدات المذهبة والمخطوطات النادرة والصحائف الثمينة الموصدة في خزائن القصور والقلاع والكاتدرائيات ومكتبات النخبة.
وفي الوقت الذي قطع فيه الكتابُ رحلةً طويلةً ومضنية على مدى مئات السنين؛ فتنمَّق بكل هيئات الحروف، وارتدى كل أنواع الورق، وطوى كل أشكال العلوم والمعارف، تطور في الأثناء القارئ؛ القارئ العابر، والقارئ المكرَّس، القارئ الملول، والقارئ الشغوف، والقارئ الزائر، والقارئ المقيم في الكتاب، والقارئ الدارس المتأمل المتفحِّص المتعمِّق، والقارئ الخفيف الذي يكتفي بالتخويض في سطح الأشياء.
ومن وسط معشر القرّاء من كل المشارب والأمزجة والأهواء، يحق لنا أن نحتفي بأقلية مخلصة هي "مُحِبّو الكتب" الأصلاء، وأنا منهم.
في أوائل القرن التاسع عشر دخل مصطلح "بيبليوفايل" Bibliophile اللغة الإنجليزية (مستخدم أيضاً في لغات أخرى – وإن بتنويعات مختلفة). وهو مصطلح يوناني الأصل، يتألف من شقّين: "بيبليون" Biblion (أي كتب) و"فيلوس" philos (أي المحب)، ويعني "مُحِبّ الكتب". ومن هذا المصطلح تخلَّق مصطلح "بيبليوفيليا" أي "حّبّ الكتب"، وبات وصف "البيبليوفايل" لصيقاً بجماعة من القراء وجامعي الكتب، ممن سحرهم الكتاب.
وبما أني أعتبر نفسي من "البيبليوفايليين" المخلصين، فإن "مُحِبّ الكتب" الأصيل هو الذي يعشق كل ما له علاقة بالكتاب، قراءةً واقتناءً. هو يقرأ دون انقطاع، وغالباً ما ينحاز إلى قراءات بعينها أو قد يهوى جمع كتب ضمن مجالات واهتمامات خاصة. بالنسبة له، فإن عالم الكتب هو جنّته، التي لا يودُّ أن يغادرها مهما حصل. تراه ما إن يدخل مكتبة، حتى ترفرف روحه بين رفوف الكتب، وينتعش قلبه لرائحة أكداس المجلدات، فتتَّقد فيه تلك الرغبة لاكتشاف احتمالات العناوين، وتفقُّد عتبات النصوص، والإبحار في لُجّ المعارف.
ومُحَبُّ الكتب يغتبطُ حين يقع على كتاب يفتنه أيّما فتنة، فلا يتركه قبل أن يطوي الصفحةَ الأخيرةَ منه، مغالباً النعاس والإعياء، وقد يختلط عليه الليل والنهار، وتتخدّر أطرافه، ويفقد إحساسه بزمانه ومكانه، ذلك أن لا زمن يغلب زمن الكتاب، ولا عالم مهما كان كبيراً يمكن أن يكون أكبر من ذاك العالم القابع بين دفتي كتاب.
هناك من يميل إلى الخلط بين مصطلحي البيبليوفيليا والبيبليومانيا؛ فالأخير شكل من أشكال الاضطراب النفسي أو أحد أشكال "الوسواس القهري"، وهو يشير إلى الهوس المرضي بجمع لكتب؛ بل أن المهووس بالكتب يصل إلى مرحلة يجد نفسه فيها لاهثاً وراء أي كتاب حتى وإن لم ينطوِ على قيمة معرفية، ولا تعود القراءة هنا غاية بقدر مراكمة أكوام وأكوام من الكتب، يصبح الشخص أسيراً لها على نحو مرضي، فلا هو قادر على التوقف عن جمع الكتب، ولا هو قادر على التخلص من كتب لا قيمة لها، ولا هو قارئ.
ولا يعدُّ "البيبليومانيا" (الهوس بالكتب) ظاهرةً مرضيةً حديثة. ثمة مصادر تشير إلى أن المصطلح، بمعناه الذي يشي بشكل من أشكال الهوس أو الجنون قد رُصد أول مرة عام 1734، في مذكرات لجامع كتب إنجليزي شهير يُدعى توماس هيرن أقرّ بينه وبين نفسه بأنه ربما دفع مبلغاً طائلاً من المال في شراء كتب على نحو قد يجعله يبدو بأنه يعاني شكلاً من أشكال البيبليومانيا (بمعنى الهوس الخفيف). وتطاير مصطلح "بيبليومانيا" هنا وهناك دون تأطير واضح، قبل أن يكتسب في العام 1809 معناه المتداول اليوم رسمياً من خلال كتاب بعنوان "بيبليومانيا أو جنون الكتب" وضعه المؤلف البيبليوغرافي الإنجليزي توماس ديبدن، وصف فيه الهوس بالكتب كشكل من أشكال الاضطراب العصبي، مطلقاً عليه "مرض الكتب".
ولعلّ أشهر مجانين الكتب في التاريخ الحديث الأمريكي هو ستيفن بلومبيرغ، أو "لص الكتب" كما يعرف، حيث باتت حكايته مرجعاً في تصنيف أقصى درجات الهوس المرضي بالكتب. جمع بلومبيرغ أكثر من 23,600 كتاب، ليس من حرّ ماله وإنما من مال الآخرين! فقد سرق ثروته من الكتب من 327 مكتبة ومتحفاً. ونجح بلومبيرغ في الهرب من العدالة ومراوغة رجال الشرطة لسنوات، لدرجة أن وكالة التحقيقات الفيدرالية رصدت مكافأة سخيّة لمن يساعد في القبض عليه، فوشى به أقرب أصدقائه، واعتقلته الشرطة في العام 1990. وقد قُدرت قيمة الكتب التي سرقها يومها، من بينها مخطوطات نادرة، بأكثر من خمسة ملايين دولار. سُجن بلومبيرغ لبضع سنوات، وما إن أُطلق سراحه حتى عاد إلى هوسه غير القابل للشفاء!
قد يكون هناك خطٌّ واهٍ بين البيبليوفيليا والبيبليومانيا، بين الحب الجميل الأصيل وبين الهوس المرضي. فمُحِبّ الكتب قد يشتري أكثر من حاجته من الكتب، وما يفيض عن سعة وقته وبيته، وقد تتضخّم مكتبته مع الوقت، مدركاً بأنه قد لا يتمكن من قراءة محتواها كله من الكتب، لكنه مع ذلك يأنس بها وبوجودها حوله، تطوّقه، كأن بها تصونه وتعدُه بشغفٍ متواصل ومخزونٍ لا ينضب من الحب.
شخصياً، هذا حبٌّ لا أريد أن أبرأ منه.
