(البُليْهيّة) نسبةً إلى الكاتبِ السعودي إبراهيم البليهي، الذي أَزعمُ أنه أنشأ نمطًا في التفكير اعتمد على صُنْعِ صورةٍ ذهنية للحضارة الغربية، ومن ثمّ الانغلاق فيها، فتقمُصِ صورتها (أي صارَ متمثلا الصورة المتخيلة) ثم إعطاء صورة ذهنية موازية عن الحضارات الشرقية متخيلةً بناء على تخيل الصورة الغربية، ومن ثمّ تبنيها من قِبَلِه وقِبَل أفرادٍ كُثُر في السعودية، ودول الخليج. ومن علامات هذه الصورة المتخيلة؛ أنه يقول: " أعتقد أن كثيرين في أوروبا والغرب عموما، سيتفاجؤون بمضمون كتبي؛ لأنني تناولت الفكر الغربي برؤية حتى الغرب نفسه لم يتنبه لها". ((ينظر: التلقائية الإنسانية. حوارات مع البليهي وتعريف بفكره، ص23)) وطبعا لم يتنبه ولن يتنبه؛ لأنها في ذهن البليهي فحسب.
وأولُ حديثي لوصفِ هذه الظاهرة هو قول أصدره البليهي نفسه، في برنامجِ (إضاءات) عن الفترةِ التي كتبَ بها كتابَه (سيّد قُطب، وتراثه الأدبي والفكري) يقول: "كتبتُه عندما كنتُ مراهقًا". وبالتأكيد لا يقصدُ البليهي المراهقةَ في المرحلة العمرية البيولوجية، إذ هذا التأليفُ كانَ في الدراسات العليا، وإنما يعني -مما يعنيه- المرحلة العمرية الفكرية؛ أي أنَّ ثمة قطيعة معرفية بين مرحلتين من عُمرِه. ولكن حينَ نتتبّع كتاباته، ولقاءاته، هل نجدُ قطيعة فعلية؟
مشروعُ البليهي هو استيرادٌ لسؤالٍ قديم في النهضة العربية مفاده: لماذا تخلفنا، وتقدّم غيرنا؟ وهو في المرحلة الأولى (مرحلة سيد قطب) كانَ يسأل السؤالَ ذاتَه دون تغيير؛ لهذا ظُنَّ أنَّ هناك مرحلتين للبليهي، إذ في المرحلة الثانية كان سؤاله زمنيا بعد هزيمة 67م، فتحوّر السؤالُ إلى: لماذا بقي التطور الحضاري المذهل في العصور الحديثة محصورًا بمجتمعاتٍ قليلة؟. والتحور جاء بعد تقدم كثير من دول شرق آسيا، كماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية؛ فالسؤالان سؤال واحد في الجوهر، وما المختلف إلا أعراضه، إذ تقدُّم بعض دول شرق آسيا ما جاء إلا بعدَ أن احتذوا التطور الغربي كما يراه البليهي. ومن هُنا أوهمَ البليهيُّ نفسَه، بأنَّ ثمة قطيعة معرفية بين مرحلتيْن من عمره، أي أن يكون السؤال الأول منتميا لمرحلته الأولى؛ ومن ثم كانت إجابته التي اطمأن إليها هي من خلال طرح المودودي، وسيد قطب. ثم كانت المرحلة الثانية التي تحور فيها السؤال، فكانت الإجابة هي ما عليه فكرُه الآن. لهذا قال: " السؤال الذي رافقني منذ البداية وهو: لماذا بقي التطور الحضاري المذهل في العصور الحديثة محصورا بمجتمعات قليلة بينما طوفان التخلف مازال يغمر أكثر مجتمعات الدنيا؟ ولماذا ظللنا نحن المسلمين ضمن المجتمعات المتخلفة". ((يُنظر: كتاب: البليهي في حوارات الفكر والثقافة)) ولنتأمل الشطر الأخير من سؤاله، لنعرفَ أنَّ السؤالين سؤال واحد.
وسؤالُ: (لماذا تخلفنا، وتقدم غيرنا) أُخِذَ من قِبَل الثقافة العربية/الإسلامية في إطار التساؤل بثنائية: (نحن/هم) النابعة من المركزية الإسلامية. فجاءَ السؤالُ ضِمنَ مسارات ثلاثة: الأول: مسارٍ ليبرالي (الطهطاوي، طه حسين، أحمد لطفي السيد...وغيرهم) الثاني: مسار اشتراكي يتفرع إلى: أ/ اشتراكي في الجذور (سيد قطب، وأخوه محمد...وغيرهما)، ب/ اشتراكي في نمط إدارة البلاد، وعوائدها النسبية على الرعية. الثالث: مسار إصلاحي ويتفرع إلى أ/ مسار إصلاحي في الوعي أولا: (أرسلان، الأفغاني، محمد عبده). ب/ مسار إصلاحي في الجذور (الكواكبي...).
إذن سيّد قطب الذي ألّفَ عنه البليهي في مرحلته الفكرية أثناء الدراسات العليا، ينتمي للمسار الاشتراكي الجذري، الذي على ضوئه كتبَ كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام). ويظهر تأثر سيد بالفكر الاشتراكي كنظرية، أنه لما كتبَ كتابه الأخير (نحو مجتمع إسلامي) كان مستحضرًا الحركة الجدلية في تطور التاريخ، فهو يرى أنَّ ما بعد الشيوعية هو الإسلام، ولو لم يكن موجودا -أي الإسلام- لأوجده الناس كحتمية تاريخية. ومن ثمّ أخذَ يؤطر الإسلام كفلسفة شمولية، نابعة من الطبيعة لا ينفصل النظر فيها عن التطبيق بأي حالٍ، ومن ثمَّ فالقرآن -لدى سيد قطب- لتغيير التاريخ، وليس للتفسير أو الإلهام أو الهداية. وهذا المعنى استحضار للجدلية المادية التي رأت ضرورة الحتمية التاريخية كمنفذ أصيل للتغيير، ومن هنا تدخلت النظريات الشيوعية لتُغيّر التاريخ، بناءً على أنَّ الواقعَ الموضوعي وجهُ العملةِ للنظريّة/الوعي، إذ كُلّ ما فعله الفلاسفة هو فهم التاريخ، بينما المطلوب هو تغييره. بناءً على رؤية الماركسيين. ومن هنا قلتُ -في مقالة أخرى- إنَّ سيد قطب لم يكن أديبا ثم مفكرا إسلاميا كما يُقال، ويشاع، بل هو يرى أنَّ الأدب والفكر شيء واحد، إذ الأدبُ -عند سيد- " هو التفسير الشعوري للحياة، وأنه منبعث من المنبع الذي تصبُّ فيه جميعٌ الفلسفات، وأنه من أشد المؤثرات في تكوين فكرة وجدانية عن الحياة، وفي طبع النفس الإنسانية، بطابع خاص". إنَّ سيد -هنا- يقابل الأدب بالعلم التجريبي، وذلك ليصنعَ ثنائية العلم/ الأدب. ومن ثم يُدخل في الأدبِ كُلّ ماعدا العلم التجريبي، ثم لما جاءت المرحلةُ الإسلاميةُ ابتلع لفظُ الإسلام الأدبَ؛ لهذا نجد شِعْرَ سيّد وكتابَه (في ظلال القران) مثلا، يقومان -بالتوازي- على مفهومِه للأدب، بصفته تفسيرا شعوريا للحياة، الذي لا يعني إلا الإسلام في جانبه الشعوري، أي أنَّ سيّد -كما ذكرتُ- رأى أنَّ الإسلامَ تغييرٌ وليس رأيا وتفسيرا وهاديا، ومن ثمّ كانت مرحلته الإسلامية بأنْ جعلَ الأدبَ الوجه الآخر لتغيير التاريخ؛ وذلك بجعله خادمًا لفكرةِ التغيير من خلال المؤلفات التي تُنظّر للإسلام بصفته فلسفة، يقوم جذرها الأساس ماديًا، والأدب/الفكر وعيُه، والعلاقة بينهما علاقة جدلية، من هنا كان -سيد- يراه حتمية تاريخية قادمة. ولهذا أشار سيد منذ بداياته أنه لا ينظر للأدب كما هو مسطورا، بل يتعاطى مع ما وراء اللفظ والمعنى، فحينَ سألَه أبو الحسن الندْوي عام 1951 م عن سر تحوله؛ أجاب: "إن نفسه كانت تهفو دائما إلى الروح وما يتصل بها. وقال: " كنت في صغري شغوفا بقراءة أخبار الصالحين وكراماتهم. ولم تزل هذه العاطفة تنمو في نفسي مع الأيام". ثم بيّنَ: كيف ارتبطَ بالعقاد، ثم بعد صحبة طويلة لم يجد عنده المناهل الأخرى التي كان يبحث عنها، وهي مناهل أقرب إلى الروح. فمثلا نجد أنَّ قولَ سيد في شعره:
غريب، أجل، أنا في غربة/ وإن حفَّ بي الصحبُ والأقربون
غريب بنفسي وما تنطوي/ عـليـه حنايـا فـؤادي الـحنـون
هو الصورة الشعورية عن جاهليةِ القرن العشرين، أي أنَّه يُفسِّرُ الحياةَ شعوريا، تلك التي تجلت في كتبه فيما يُسمّى مرحلته الإسلامية.
انتمى البليهيُّ لهذه الفكرة القُطبية في مرحلته الأولى؛ لهذا ارتضى الإطارَ الشموليَّ للإجابة عن سؤال: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ يقول البليهي: " أما قصتي مع سيد قطب فقد كانت بدايتها منذ عام 1384هـ، حيث قرأتُ كتابَه السلام العالمي والإسلام، فتعلقتُ به تعلقا شديدا، وصرتُ أبحثُ عن مؤلفاته بشوق، وأقرؤها بنهم، وأتابعها باندفاع، وكنت كلما قرأت له كتابًا جديدا، تمنيتُ لو أستطيعُ أن أُقنعَ شباب الإسلام بما يحتويه..." ((ينظر: سيد قطب وتراثه الأدبي والفكري، ص12)). وفي مرحلته هذه؛ تَعيّن رئيسًا لإحدى البلديات، وظلّ يترقى حتى أصبحَ مسؤولًا عن بلديات منطقة حائل، ثم بلديات المنطقة الشرقية، ثم منطقة القصيم. ومن خلال تجربته الوظيفيّة، رأى الناسَ يتكالبون على المصالح الخاصّة، ويستخفّون بالمصالح العامة، ورأى الإهمالَ بين العاملين، وغيابَ الالتزام، وضعفَ الأداء الوظيفي، وانعدامَ الرؤية المهنية، وأن أكثر الناس يتأثرون بالمشاغبين، ولا يلتفتون إلى الحقائق مهما كانت شديدة الوضوح. ((يُنظر: البليهي في حوارات الفكر والثقافة ص 58)) وفي مقابلِ هذه التجربة رأى -أثناء زياراتٍ خاطفة- في الغرب ما يُبهره من إنتاجٍ، وإدارةٍ للحياة، وتحقيق العدل النسبي، فقال: "لا يمكن أن يحقق هذه إلا مجتمع متميز، لهذا أخذتُ أقرأ في الحضارة الغربية؛ لكي أرى ما يُميز هذا المجتمع" ((يُنظر: إضاءات، اللقاء الأول، لقاء تلفزيوني مع إبراهيم البليهي)). هذان الحدثان كانا سببا في تحول السؤال عند البليهي مع ما فيهما من تفاوت في دقّة الملاحظة من حيث إن الأول تجربة ذاتية ملاصقة للحدث، والثانية ملاحظة سائح عبر بعض دول أوربا، لكنَّ المشترك بينهما مفهوم (العمل)؛ وهذا المشترك يعطي مؤشرًا على الأسباب المؤدية لانبهار البليهي. كانَ هذان الحدثان سببًا في تحوّل السؤال من: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا، إلى: لماذا بقيَ التطورُ الحضاري المذهل في العصور الحديثة محصورًا بمجتمعاتٍ قليلة؟ فكانَ بداية الجواب بالدعوة إلى تأسيس علم الجهل، ومقالاته التي جُمعت في كتابٍ بعنوان (بنية التخلف)، إذ يرى البليهي أنَّ "تحليل هذه البنية لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطة علم الجهل،... لأنَّ الجهلَ المركب -جهل الإنسان لجهله، واغتباطه به- هو أقوى استحكامات بنية التخلف، فغبطة المجتمعات المتخلفة بثقافاتها... قد حالت بينها وبين أي تقدم...؛ وبذلك توصّلتُ إلى أنَّ العقلَ البشري يصوغه الأسبق إليه" ((يُنظر: البليهي في حوارات الفكر والثقافة، ص 60)). مشروع البليهي يُفترض أنه يدرس العقل البشري، بأمارة أنه يُشير إلى نتيجةٍ قائلًا: "العقل البشري يصوغه الأسبق إليه" -ومن المفارقة أنه يصف هذا القول في لقاء إضاءات بأنه قانون!.- لكن نرى البليهي أولا ينقض عنوانه بنفسه حين يقول في المرجع السابق ص 62: " وهنا لابد من الاستدراك حول مفهوم التخلف؛ فهذا المفهوم يوهم بأنَّ المتخلف يسعى للخروج من حالة الركود، لكنه لم يلحق بعد، وهذا عكس الواقع، فهذه المجتمعات تدورُ في المكانِ نفسه ولا تريدُ أن تتجاوزه..." وكانت حجته في هذا التراجع عن العنوان -حين سأله المحاورُ في برنامج إضاءات- قال: "لأن هذه اللفظة هي الدارجة في التعبير". إن هذا التراجع معبرٌ عن غياب العقل الناقد لدى البليهي، إذ حين يُشرّح البنية فإنه يتحدث عن مقوم أساس للعقل البشري على حدِ تعبيره، ومن ثم فإنَّ الحديث لن يكون عن المجتمعات العربية ومفارقاتها في أحداث التاريخ، إلا في سياق التحليل الذي يأتي لاحقًا بعد تأسيس الإشكال في بنية العقل البشري، ومن ثم العقل العربي. بافتراضٍ يتبناه هو لمفهوم العقل، ذلك الذي يحتله الأسبق إليه، ومن ثم العقل العربي وما يقابله -مقارنة- من العقول الأخرى؛ لهذا فإنَّ ما يكتبه البليهي ليس تنظيرا موضوعيا، بل رؤية ذاتية نابعة من ضيق شخصي على أحداث التاريخ العربي. وأدق وصف لكتابات البليهي هي (الاستغراب من أجل الاستشراق). أي أنَّ الاستغراب جاء من لاوعي البليهي ليخرج في وعيه استشراقًا. وبشكلٍ أوضح: إن البليهي صنعَ صورةً ذهنية للغرب، ثم تبنّى هذه الرؤية التي لا يتوافق فيها ما في الأعيان مع ما في الأذهان، فانطلقَ منها إلى صُنع صورةٍ عن الشرقِ ككل، والعرب بشكل خاص من خلال منظار الاستغراب المتخيل. ثم ظَنَّ -بعد هذا كله- أنّه يُشَرّح البنية ويُشخّص الداء، ويصف الدواء للعقل البشري، وللحضارات البشرية، وللثقافات العابرة...إلخ. لهذا نلحظ أنه لما تغير السؤال تغيرا شكليا، بقي الإطار الشمولي يُحيط بتفكير البليهي؛ إذ كان تفكيره في جميع مراحله العمرية شموليا، بل إنه لم يفهم المنهج النقدي إلا بإطارٍ شمولي، يقول: "لا ألتزم بمنهجٍ واحد، ولا أتقيّدُ باتجاهٍ مُعين، وإنما أستعينُ بكل ماهو متوفر من المناهج والرؤى..." ((يُنظر: البليهي في حوارات الفكر والثقافة، ص12)) أي أنَّ البليهي يُلفِّقُ جملة من الأفكار التي ابتكرها فلاسفة أو مفكرون، ثم يُظهرُ رأيًا قطعيا -يصفه بالقانون!- يتعلق بالإنسان، ومثال ذلك؛ مقولة التلقائية، وخلاصتها: أنَّ الإنسانَ يولد فارغا، فتتشكّل بنيته الذهنية في الطفولة، من خلال البيئة التي تُشَكِّل عقلَ أفرادها، بآليةٍ تجعلهم لا يتأثرون بأية حقائق علمية فيما بعد، إذ العقلُ يحتله الأسبق إليه. وهذا التلفيقُ متناسبٌ مع عشوائية البليهي، إذ إنَّ هذا الفِكر متوزّع ضمن سياقات فلسفية وفكرية؛ فجون لوك مثلًا انطلقَ للتدليلِ على المذهبِ التجريبي بأنَّ الإنسانَ يولد صفحةً بيضاء، والتجربة تعبئها. وإخوان الصفا اعتبروا أنَّ الأفكار كالقوالب، أي أنَّ الإنسانَ يولدُ بقوالب، وهي ورقة بيضاء، ومن ثم يُصَبّ فيها علم أو اعتقاد، يصعب محوه، لكونه الأسبق في الانصباب في تلك القوالب. ثم نجد تفريعاتٍ تكاد لا تحصى في علم الاجتماع، وعلم النفس، وكلها ضمن منهجية عالية ومتماسكة عند الغربيين، لكنّ البليهي عمل منها صحن سلطة تفوح رائحتها العفنة، والعفونة جاءت من ذلك التلفيق بلا منهج ورؤية متماسكة؛ إذ حتى التلفيق إن كان بمنهج ونظر كان مثمرا. لكنّ مقولات البليهي المعدودة، نجد أنها قائمة على التلفيق غير الممنهج، الذي يضمن خروجها كدليلٍ على ما أسميتُه الاستغراب من أجل الاستشراق. وكأنَّ الثابتَ في كلامه هو الاستغراب المتخيل من أجل الاستشراق المتخيل، وأما مضامين حديثه فهي متذبذبه، بحسب السياق اللحظي ما بين لقاء مكتوب أو لقاء تلفزيوني، فمثلًا لا يُستغرب أن تجده مرةً يقول: الأصل في العقلِ البشري، ثم يَبِيْنُ في باقي حديثه أنَّ المرادَ هو العقل العربي، ولا يستغرب أن تجده يقول: الأصل في الثقافات كذا وكذا، ثم تجده ينحرف بشكل مشتت عشوائي نحو التخصيص كقول: الأصل في الثقافات المحافظة...إلخ. ولا تستغرب أن تجده يقول: العقل يحتله الأسبق إليه، وفي مكان آخر يصوغه الأسبق. وبين الصياغة والاحتلال فرق شاسع.
من هنا فإنَّ مراحلَ البليهي ليست إلا مرحلة واحدة، فيها درجات؛ فالمرحلة الأولى هي نفسها مرحلة علم الجهل!، وبنية التخلف، وما بعدها؛ إذ السؤال: (لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا) كثنائية استمرّ بتغييرٍ في الدرجة من خلال الارتكاز لدى البليهي: فبعد أن كانَ النمطُ (نحن/هم) أصبح: (أقلية متطورة مذهلة/ أكثريّة متقهقرة).
إنَّ هذا الطرح البُليهي، بسيط من حيث إنَّه تحويل للكلام الغاضب -بلا منهج ونظرية- إلى كتابات مقالية، لهذا وجد صدى لدى متلقين تنبع لديهم الإشكاليات النفسية ذاتها من واقع العرب، في مقابل الإنجاز الغربي. إذ إنَّ النقدَ مركبٌ صعب، من حيث إنه يرفض تبسيط المضامين التاريخية في المسارات الفكرية والثقافية، بل يختار الطريق الأصعب الذي يبني النظرية المتماسكة في داخلها بعيدا عن أيِّ مؤثر في التكوين الثقافي النفسي، سواء كان ميتافيزيقيا، أم طبيعيا، ومن ثم يُخرج النتائج المتسقة مع هذه النظرية. لكنّ الذي نجده في خطاب البليهي تمثله -مما يمثله- الجملة الثقافية التالية: " الحضارة العربية لم تُقدم شيئًا للإنسانية، وهي حضارة دينية فقط، والعقل العربي عقل جامد، وكل من جاء بعقل مختلف في العالم العربي فهو منبوذ في مجتمعه، مما يؤكد أنهم لم يُشكلوا عنصرا فعالا في الحضارة العربية التي هي دينية في الأصل" ((يُنظر: البليهي في حوارات الفكر والثقافة)) كيف لهذه الجملة -مثلا- أن تكون فاضحة للمنهج الشمولي التلفيقي عند البليهي؟ قال البليهي في أحد حواراته عن انتقال الفلسفة والفكر اليوناني إلى الغرب في عصر النهضة من خلال العرب: "بضاعتهم رُدت إليهم". فإن كانَ الأمرُ كذلك فكيف جاؤوا بها دون محيطٍ عربي يحضنها، ويتفاعل معها، ويُؤسِسُ منظاره من خلالها؟ محيطٍ أنتج بذورا للعلم التجريبي عند العرب، كما هو عند ابن الهيثم ومن سار على نهجه كنصير الدين الطوسي، وقطب الدين الشيرازي. محيطٍ مَكَّن ابن الهيثم ليدعو لكشف الأغاليط والتناقضات في الفلسفات والمذاهب حتى يتجاوزها إلى ماهو أصلح منها. وفي الفلسفة قال بما يشابه ذلك ابنُ رشد. بل إنَّ المحيط الفلسفي والفكري لا يُعزل عن التفكير في فلسفة الدين، تلك الفلسفة التي أنتجت علم الكلام من جهة، وأنتجت مقولات لابن تيمية في نقض المنطق الأرسطي، ذلك النقض الذي مهد لتدشين العلم التجريبي. ومن ثمّ فإن قول البليهي "حضارة دينية فقط" تدلّ على سطحية الطرح، وغياب النقد.
إن هذا المحيط العربي هو الذي مَكّن القاضي علي الجرجاني أن يقول: "الدين بمعزل عن الشعر" ومن هنا انطلقَ النقدُ (الأدبي تحديدا) في مساحةٍ حُرة؛ ليقول ما يقول دون أن تصلهم يدٌ متسلطة. هذا النقدُ الأدبي تأسست أدواته ورسخَ كقوةٍ في النظر للنص، واستخراج عيوبه؛ ليتجاوزه إلى ما هو أعلى منه. وكل ذلك بمقاييس بيانية، لكنها بجذور برهانية، إذ أُمّ النقد الأدبي العربي القديم (بيولوجيا) هي الفلسفة، لكن أمه التي ربّته هي القوانين البلاغية. ومثال: عبدالقاهر الجرجاني/ صاحب المتن البياني، والهامش البرهاني. والسكّاكي/ صاحب المتن البرهاني، والهامش البياني؛ يُبرز شيئا من هذا المحيط وآثاره. لهذا لما دخلت الفلسفة الإغريقية كانت تسبح في محيط مسنونة أدواته، بل إنه يضيف عليها مخزونه الطويل في البيان من جهة، والرؤية الدينية في نظريات الإسناد من جهة أخرى.
في هذا المحيط اشتغلَ الفلاسفةُ العرب ومتكلموهم، على إضافةِ دلالاتٍ تتّسق مع الوافد الإغريقي: فأتى سؤال (ما وراء المادة) بدلا من سؤال (النص الأدبي) وأتى سؤال (المضمر) بدلا من سؤال (الدال)؛ إذ لما اعتُبر (الدال) في ظواهر النصوص الدينية طريقَ الفهم، كان (المضمر) يعني الانطلاق من القيد. أي أننا من خلال سؤال المضمر فككنا الربط الظاهري المكين بين الدال والمدلول. وهذا المضمر مفتوح الدلالة.
فالمعمل العربي الثقافي اشتغل في مسارب كثر؛ منها: 1. الحرية النقدية في الاشتغال النصّي. 2.الصراع السياسي في مجمله؛ مثلا: (ابن سينا/ الغزّالي/ ابن رشد= البويهيين/السلاجقة/ المشرق/ المغرب) (المعتزلة-المأمون/ المتوكل- الحنابلة).
من هُنا تأسَّسَ المحيط وتمكّن حتى وجدنا أن الفرق الإسلامية ما كانت لتكون لولا هذا المحيط الغني؛ أي أنَّ صناعة الفرق هي صناعة فلسفية فكرية. وليست دينية بالمفهوم التقليدي (الإسنادي) الذي يروج له البليهي بسطحية. هذا المحيط الذي أخذه الغرب كاملا ممزوجا = (الإرث الخام الإغريقي + الإنتاج العربي) وأضاف عليه، بل أسس الحضارة الحديثة التي نراها، ولم يكن مجرد ناقل للثقافة العربية والإغريقية، بل راكم إبداعه على ما أخذه فحوّلَ الإبداعَ إلى مُنتجٍ نوعي.
لهذا حين تُدرس الحضارات فإما أن يكون دارسُها ناقدا أو يكون متحيزا تحيّزا نفسيًا أو اجتماعيًا أو عرقيًا أو إيديولوجيا... إلخ. والنقد سيحتم عليه النظر المبني على الفرضيات والنظريات التي لا تؤمن بالتمركز، بل التي تصنع مقولاتها الواعية لإشكالية القطعية في الدراسات الدقيقة، فضلا عن كون الدراسة شمولية كدراسة البليهي الذي يعتمد على مقولات عامة عن الإنسان والثقافة المحيطة به، ويبحث عن شواهد متفرقة لتأكيد ما يريد أن يقوله؛ لهذا تحصل التناقضات في كلامه وكتاباته، والاضطراب الواضح لكل باحث دقيق. ومن هنا لما رأى البليهي النمط الاستبدادي في التاريخ العربي؛ ظنه هو الكلُّ، وإليه يعود التفسير، فأخذ المقولات العامة ليسقطها على التاريخ العربي، لأن شموليته لا تحتمل الدقة والغوص في تفاصيل صناعة الحضارة والثقافة، ولأن الافتقار للعقل الناقد لا يؤهل إلا إلى الحديثِ عن العموميات، والأحكام الشمولية التي تظهر بجرة قلم دون مقدمات دقيقة.
بل إنَّ البليهي كان جزءًا من تلك الثقافة التي رأى فيها الاستبداد، من حيث إن سؤال التخلف= لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا، متصاحبٌ مع ما سُّمي بــــ (النهضة العربية). والنهضة العربية تأسست على مفهوم (المستبدّ العادل) المقابل للمستبد الظالم. ونلحظ أن البليهي انتقل من قوله في كتابه عن سيد قطب: " وبعد فهذه لمحات عن عملاق الفكر الإسلامي المعاصر" إلى: تمجيدِ عملاق آخر وهو الحضارة الغربية بصورتها الحديثة. أي أننا أمام زعيم أوحد في كلتا الحالتين. والبحث عن عملاق هو في حقيقته البحث عن طمأنينة وراحة لمن يرعاه؛ فيحوّل كل ما يجري وسيجري إليه وعليه. وهذا ينقض فكرة النقد والتفكيك الدائمين. من هنا نلحظ أنَّ البليهي هو جزء من المشكلة؛ أي عود من حزمة هي سبب وعائق للإبداع، أي أنَّ البليهي متلبس كل السمات التي يظن أنه ينقدها. فالسمات التي انتقدها تقوم على (المركزية الثقافية التي طردت الآخر) فهو يرى أنَّ الثقافة العربية ثقافة دينية، ومن ثم رأت أنَّ الحياة تمركزت حولها، لهذا هي تطرد الآخر. والذي جرى أن البليهي انتقل إلى مركزية أخرى هي المركزية الغربية = من (نا) إلى (غير) في جملة السؤال: لماذا تخلفنا وتقدّم غيرنا.
أي أن سيرورة تحوله كالتالي: (الإسلام هو الحل/المستبد العادل/ الحضارة الغربية هي الحل) وهذا يوضِّحُ إشكالية التفكير لدى البليهي. فإن كانَ الاستشراق هو محاولة مطابقة ما في الأذهان الغربية لما في الأعيان في المشرق. فإننا وجدنا -مع إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق- أنَّ ما في الأذهان الغربية لا يطابق ما في الأعيان، بل هي صورة مختلقة في أذهان الغربيين عن الشرق. هنا البليهي لما وصل إلى حالة (الحضارة الغربية هي الحل) صنع صورة في ذهنه عن الغرب، وكبرت حتى تضخمت، فآمن بها إيمانا دوغمائيا، بأنَّ ما في الأذهان مطابقٌ لما في الأعيان؛ فقال قوله في حواره عن التلقائية: " أعتقدُ أنَّ كثيرين في أوروبا والغرب عموما، سوف يتفاجؤون بمضمون كتبي؛ لأنني تناولت الفكر الغربي برؤية حتى الغرب نفسه لم ينتبه لأهميتها" وهو -هنا- يؤكدُ دونَ أن يعي أنَّ ما في الأعيان لا يُطابقُ ما في ذهنِه.
وهذه الصورة الذهنية بدأ تشكّلها في الحديث عن التغيرات النوعية في الحضارة الغربية؛ إذ يقول البليهي: "إنَّ الحضارة مرت بفترتين؛ الأولى: منذ آلاف السنين وهي عبارة عن دوران أفقي بمسارات ثابتة؛ كل حضارة تبدأ في النشوء، ثم تنهار، ثم الحضارة الجديدة لا تبدأ من حيث انتهت الأولى، وإنما تبدأ من الصفر. والثانية: الحضارة الغربية وهي التي انتُقل فيها من مستوى إلى مستوى. فبين الحضارات والحضارة الغربية اختلاف نوعي وليس كميًا". أي أنَّ البليهي يرى -وعى أم لم يعِ- أنَّ الحضارة الغربية -كمنجز كامل- لم تأتِ من تراكم، بل هي قطيعة وكسر لمفاهيم الحضارات السابقة، ثم البدء بحضارة هي في واقع أمرها (صفريَّة)، أي كأنّها بدأت من الصفر، كمثلِ الحضاراتِ التي يرفُضها، ولكن (صفر) الحضارة الغربية مُغاير لـــ(صفر) الحضارات الأخرى؛ حيث إنَّ (صفر) الحضارات الأُخرى، تُعيدُ فيه كُلُّ حضارةٍ الكرةَ التي بدأت منها الحضارة السابقة عليها. أما الحضارة الغربية فصِفرها ليس إعادة، إنما (صفر) انبثق من العدم؛ ليؤسِسَ البذرة الأولى للمنجز الكامل (=الحضارة الغربية) وليس مجردَ مفهوم (اللوغوس) الذي سيَعْتَوره نقدا من قبل الغربيين أنفسهم.
البليهي -هُنا- آمنَ بهذه الصورة المتخيلة، فصارت نموذج الكمال في لاوعيه، بصفتها الحقيقة الموضوعية لذواتنا، فأطّر كتاباته بفكرة واحدة تقومُ صيغتُها على التّالي: (1. العقل البشري تلقائي سلبي 2. العقل الغربي صنع الحضارة الاستثنائية 3. إذن: العقل الغربي كسر التلقائية السلبية، فصنع الحضارة الغربية فهي الجديرة بأن يتأمل جمالها والبحث عن أسرار إنسانها، وكيف تقدم علينا)، لهذا ذهبَ يُسطِّرُ الصفحات للحديث عن هذه الحضارة -بصفتها الواقع الموضوعي لكل المفاهيم المطلقة التي أنشأها العقل-، لا إثبات بُناها الفلسفية، وأُسسها العلمية ثم إبراز ثغراتها كي ننطلق كلنا منها إلى ما هو أفضل. ولهذا فكُلُّ مقالاته الصحفية يبدأ فقرتها الأولى بالفكرة الرئيسة -التي هي تعود على إحدى المقولات المحصورة في ثنائية التخلف/التقدم- ثُمَّ في باقي المقالة نماذج فردية ليثبت صحة الفكرة الرئيسة. وهذا -ربما- ما جعل الكاتب علي العميم يقول: "لم أر في العالم العربي، من محيطة إلى خليجه، ومن رفاعة الطهطاوي إلى آخر موديل ثقافي في يومنا هذا، مثقفا جادا يكرر أفكاره بالقدر الذي يفعله المثقف السعودي الجاد إبراهيم البليهي" وهذا يؤكد الطابع الوعظي لدى البليهي، فليس للواعظ إلا أفكارا يجترها ليعظ بها. ومن دلالات مفهوم الاجترار من جهة، والوعظية التصنميّة من جهة أخرى أن البليهي يرى الصفريّة في الحضارة الغربية تبدأ من الإغريق، وأن اللحظة الحديثة التي سعت للقطيعة مع الماضي، لتحاول البدء من درجة الصفر، ما هي إلا وصل للصفرية الباهرة؛ لحظة الإغريق.
لكنّ الخلافَ بينَ النُقَّاد الغربيين لم يكن: هل الحضارة الغربية منجز كامل، وإنسانها كسرَ التلقائية السلبية -من العدم- من قِبل الإنسان الإغريقي قبل الميلاد وأخذَ بعواملِ التقدّم الكامل، أم لا؟ -لهذا البليهي -بغياب النقد لديه- يَظنُّ أنَّ الغربَ حين يعرفون ما كتب سينبهرون بما يقوله عن حضارتهم.
إنما خِلافهم الأوّلي المؤقت، حول اللوغوس وشرارته؛ هل ثمة أصول لتفسير العلم الفلسفي الإغريقي؟ هل يكفي أن نُشيرَ إلى عبقريةِ الإغريق، ووضعهم الحضاري؟ أم ثمة سياقات قبلية تتمثّل بفلسفةِ الشرق الهندي والشرق الفرعوني؟ إذ إنَّ الأوروبيين لما انطلقت النهضة؛ كان لزاما عليهم أن يُوصِلوا حبلهم بالإغريق، فكانت لعنة المنهج التاريخي تحتّم عليهم أن يعلنوا مركزيةً ينطلقوا منها لتأريخ العالم، وسواء كانت الأسباب المؤولة: عرقية أم ثقافية، فإنها -كما أراها- ستعودُ إلى لعنةِ المنهج التاريخي العام؛ ويمثل ذروته الفيلسوف هيجل حين قال في كتابه محاضرات في تاريخ الفلسفة:" يجب استبعاد ماهو شرقي من تاريخ الفلسفة". ولعنة المنهج عند هيجل تمثلت من خلال منهجه الجدلي؛ حين اضطرَّ هيجل لصناعة تاريخ للفلسفة بمنظار تطوري يستجيب لمنهجه الجدلي، بثلاثيّته: الأطروحة والنقيض والتركيب. ونجد لعنة المنهج ماثلة أيضا عند برتراند راسل الفيلسوف الإنجليزي؛ ففي كتابه حكمة الغرب حتّم عليه المنهج أن يُعَنْصِرَ الإغريق إلى: 1. عقل منظم، تنتمي له الفلسفة والعلم والفن. 2. عقل غريزي، ينتمي له الفعل البدائي في طقوس الخصوبة. ولكي أبين ما أقوله فإني سأستشهد بنيتشه، الفيلسوف الألماني، ذلك الذي وقع في لعنة المنهج في بدء اللوغوس، لكنه -في الآن نفسه- لعن الفلسفة منذ سقراط وأفلاطون إلى لحظة إنشائه للمنهج الجينيالوجي، وتحويل الإرادة من إرادة الحقيقة إلى إرادة الحياة. أي أننا أمام استشكال للفعل المنجز نفسه، المتمثل فيما فعله الإنسان في تاريخه، وليس تضخيم لحظة البدء لتكون هي الحقيقة الموضوعية نفسها، إذ البليهي لا ينتمي للأفلاطونية كفلسفةِ حقيقة ولا لنيتشه كرفض للحقيقة الموضوعية، بل إنه صدى لصوتٍ أعلن وجود حقيقة موضوعية فرآها ماثلة في الحضارة الغربية، وكأنه يقول للفلسفة منذ أفلاطون وحتى نهايات القرن التاسع عشر: ما يبحث عنه الفيلسوف، -بصفته مريدا للحقيقة- تمثّل في حضارتكم بذاتها. أي أن الحقيقة في ذاتها هي الحضارة الغربية.
ومن هُنا فإنَّ الحضارةَ الغربية -كما هي عند نقادها الغربيين- تراكم كمي تحوَّل إلى مستوى كيفي، والنقاد -هنا- على طرفين؛ إما أن يكونَ التراكم الكمي لحظة انبثاق موصول بفعلٍ تراكمي ميتافيزيقي، أو تراكم كمي موصول بفعل الحضارات السابقة بأشكالها الفردية، أي أنه ليس انبثاقًا من العدم. لكن الذي شغلهم فعليا -كنقادٍ- ليس العقل اليوناني في ذاته ومن ثمّ البحث في أسرار عبقريته!، بل حركة التاريخ في الفعل الفلسفي والعلمي على حدٍّ سواء، وهنا يأتي إيمانهم الضمني -جميعا- بالوصل الحضاري، أي أنَّ من يقول بأنَّ العقلَ اليوناني وحضارته منفصلة عما قبلها، وهي لحظة انبثاق ذاتي؛ فإنه ضمنيا يؤمن بالوصل؛ حين ينخرط في الفعل النقدي الفلسفي، ووجود إنسانه. وهذا ما افتقده البليهي، وظنَّ أنَّ ما يقوله سيبهر الغربيين!. والمفارقة أن البليهي -خضوعًا لبعض نتائج الأنثروبولوجيا- يُرجعُ أسباب التخلف والتقدم لأسبابٍ ثقافية مرتبطة بالفرد والجماعة، لا أسباب عرقية أو بيئية ...إلخ، وذلك لأنَّ مقالاته تنصبّ على الإنسان نفسه، لكنه يقع – من خلال منهجه التلفيقي العام- إلى القولِ بالعرقيّة الأوروبية، وأنها سبب التقدم في الأصل، مع أنّه لا يريد أن يقول هذا لكنها عشوائية الحديث لديه، والمنهج التلفيقي العام؛ وسأذكر مقولتين لبيان ذلك؛ وإلا فالأمثلة كثيرة، ولكن تفاديا للإطالة. والمقولتان هما:
أنس الرشيد
2020/12/1
الدمام
وأولُ حديثي لوصفِ هذه الظاهرة هو قول أصدره البليهي نفسه، في برنامجِ (إضاءات) عن الفترةِ التي كتبَ بها كتابَه (سيّد قُطب، وتراثه الأدبي والفكري) يقول: "كتبتُه عندما كنتُ مراهقًا". وبالتأكيد لا يقصدُ البليهي المراهقةَ في المرحلة العمرية البيولوجية، إذ هذا التأليفُ كانَ في الدراسات العليا، وإنما يعني -مما يعنيه- المرحلة العمرية الفكرية؛ أي أنَّ ثمة قطيعة معرفية بين مرحلتين من عُمرِه. ولكن حينَ نتتبّع كتاباته، ولقاءاته، هل نجدُ قطيعة فعلية؟
مشروعُ البليهي هو استيرادٌ لسؤالٍ قديم في النهضة العربية مفاده: لماذا تخلفنا، وتقدّم غيرنا؟ وهو في المرحلة الأولى (مرحلة سيد قطب) كانَ يسأل السؤالَ ذاتَه دون تغيير؛ لهذا ظُنَّ أنَّ هناك مرحلتين للبليهي، إذ في المرحلة الثانية كان سؤاله زمنيا بعد هزيمة 67م، فتحوّر السؤالُ إلى: لماذا بقي التطور الحضاري المذهل في العصور الحديثة محصورًا بمجتمعاتٍ قليلة؟. والتحور جاء بعد تقدم كثير من دول شرق آسيا، كماليزيا واليابان وكوريا الجنوبية؛ فالسؤالان سؤال واحد في الجوهر، وما المختلف إلا أعراضه، إذ تقدُّم بعض دول شرق آسيا ما جاء إلا بعدَ أن احتذوا التطور الغربي كما يراه البليهي. ومن هُنا أوهمَ البليهيُّ نفسَه، بأنَّ ثمة قطيعة معرفية بين مرحلتيْن من عمره، أي أن يكون السؤال الأول منتميا لمرحلته الأولى؛ ومن ثم كانت إجابته التي اطمأن إليها هي من خلال طرح المودودي، وسيد قطب. ثم كانت المرحلة الثانية التي تحور فيها السؤال، فكانت الإجابة هي ما عليه فكرُه الآن. لهذا قال: " السؤال الذي رافقني منذ البداية وهو: لماذا بقي التطور الحضاري المذهل في العصور الحديثة محصورا بمجتمعات قليلة بينما طوفان التخلف مازال يغمر أكثر مجتمعات الدنيا؟ ولماذا ظللنا نحن المسلمين ضمن المجتمعات المتخلفة". ((يُنظر: كتاب: البليهي في حوارات الفكر والثقافة)) ولنتأمل الشطر الأخير من سؤاله، لنعرفَ أنَّ السؤالين سؤال واحد.
وسؤالُ: (لماذا تخلفنا، وتقدم غيرنا) أُخِذَ من قِبَل الثقافة العربية/الإسلامية في إطار التساؤل بثنائية: (نحن/هم) النابعة من المركزية الإسلامية. فجاءَ السؤالُ ضِمنَ مسارات ثلاثة: الأول: مسارٍ ليبرالي (الطهطاوي، طه حسين، أحمد لطفي السيد...وغيرهم) الثاني: مسار اشتراكي يتفرع إلى: أ/ اشتراكي في الجذور (سيد قطب، وأخوه محمد...وغيرهما)، ب/ اشتراكي في نمط إدارة البلاد، وعوائدها النسبية على الرعية. الثالث: مسار إصلاحي ويتفرع إلى أ/ مسار إصلاحي في الوعي أولا: (أرسلان، الأفغاني، محمد عبده). ب/ مسار إصلاحي في الجذور (الكواكبي...).
إذن سيّد قطب الذي ألّفَ عنه البليهي في مرحلته الفكرية أثناء الدراسات العليا، ينتمي للمسار الاشتراكي الجذري، الذي على ضوئه كتبَ كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام). ويظهر تأثر سيد بالفكر الاشتراكي كنظرية، أنه لما كتبَ كتابه الأخير (نحو مجتمع إسلامي) كان مستحضرًا الحركة الجدلية في تطور التاريخ، فهو يرى أنَّ ما بعد الشيوعية هو الإسلام، ولو لم يكن موجودا -أي الإسلام- لأوجده الناس كحتمية تاريخية. ومن ثمّ أخذَ يؤطر الإسلام كفلسفة شمولية، نابعة من الطبيعة لا ينفصل النظر فيها عن التطبيق بأي حالٍ، ومن ثمَّ فالقرآن -لدى سيد قطب- لتغيير التاريخ، وليس للتفسير أو الإلهام أو الهداية. وهذا المعنى استحضار للجدلية المادية التي رأت ضرورة الحتمية التاريخية كمنفذ أصيل للتغيير، ومن هنا تدخلت النظريات الشيوعية لتُغيّر التاريخ، بناءً على أنَّ الواقعَ الموضوعي وجهُ العملةِ للنظريّة/الوعي، إذ كُلّ ما فعله الفلاسفة هو فهم التاريخ، بينما المطلوب هو تغييره. بناءً على رؤية الماركسيين. ومن هنا قلتُ -في مقالة أخرى- إنَّ سيد قطب لم يكن أديبا ثم مفكرا إسلاميا كما يُقال، ويشاع، بل هو يرى أنَّ الأدب والفكر شيء واحد، إذ الأدبُ -عند سيد- " هو التفسير الشعوري للحياة، وأنه منبعث من المنبع الذي تصبُّ فيه جميعٌ الفلسفات، وأنه من أشد المؤثرات في تكوين فكرة وجدانية عن الحياة، وفي طبع النفس الإنسانية، بطابع خاص". إنَّ سيد -هنا- يقابل الأدب بالعلم التجريبي، وذلك ليصنعَ ثنائية العلم/ الأدب. ومن ثم يُدخل في الأدبِ كُلّ ماعدا العلم التجريبي، ثم لما جاءت المرحلةُ الإسلاميةُ ابتلع لفظُ الإسلام الأدبَ؛ لهذا نجد شِعْرَ سيّد وكتابَه (في ظلال القران) مثلا، يقومان -بالتوازي- على مفهومِه للأدب، بصفته تفسيرا شعوريا للحياة، الذي لا يعني إلا الإسلام في جانبه الشعوري، أي أنَّ سيّد -كما ذكرتُ- رأى أنَّ الإسلامَ تغييرٌ وليس رأيا وتفسيرا وهاديا، ومن ثمّ كانت مرحلته الإسلامية بأنْ جعلَ الأدبَ الوجه الآخر لتغيير التاريخ؛ وذلك بجعله خادمًا لفكرةِ التغيير من خلال المؤلفات التي تُنظّر للإسلام بصفته فلسفة، يقوم جذرها الأساس ماديًا، والأدب/الفكر وعيُه، والعلاقة بينهما علاقة جدلية، من هنا كان -سيد- يراه حتمية تاريخية قادمة. ولهذا أشار سيد منذ بداياته أنه لا ينظر للأدب كما هو مسطورا، بل يتعاطى مع ما وراء اللفظ والمعنى، فحينَ سألَه أبو الحسن الندْوي عام 1951 م عن سر تحوله؛ أجاب: "إن نفسه كانت تهفو دائما إلى الروح وما يتصل بها. وقال: " كنت في صغري شغوفا بقراءة أخبار الصالحين وكراماتهم. ولم تزل هذه العاطفة تنمو في نفسي مع الأيام". ثم بيّنَ: كيف ارتبطَ بالعقاد، ثم بعد صحبة طويلة لم يجد عنده المناهل الأخرى التي كان يبحث عنها، وهي مناهل أقرب إلى الروح. فمثلا نجد أنَّ قولَ سيد في شعره:
غريب، أجل، أنا في غربة/ وإن حفَّ بي الصحبُ والأقربون
غريب بنفسي وما تنطوي/ عـليـه حنايـا فـؤادي الـحنـون
هو الصورة الشعورية عن جاهليةِ القرن العشرين، أي أنَّه يُفسِّرُ الحياةَ شعوريا، تلك التي تجلت في كتبه فيما يُسمّى مرحلته الإسلامية.
انتمى البليهيُّ لهذه الفكرة القُطبية في مرحلته الأولى؛ لهذا ارتضى الإطارَ الشموليَّ للإجابة عن سؤال: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ يقول البليهي: " أما قصتي مع سيد قطب فقد كانت بدايتها منذ عام 1384هـ، حيث قرأتُ كتابَه السلام العالمي والإسلام، فتعلقتُ به تعلقا شديدا، وصرتُ أبحثُ عن مؤلفاته بشوق، وأقرؤها بنهم، وأتابعها باندفاع، وكنت كلما قرأت له كتابًا جديدا، تمنيتُ لو أستطيعُ أن أُقنعَ شباب الإسلام بما يحتويه..." ((ينظر: سيد قطب وتراثه الأدبي والفكري، ص12)). وفي مرحلته هذه؛ تَعيّن رئيسًا لإحدى البلديات، وظلّ يترقى حتى أصبحَ مسؤولًا عن بلديات منطقة حائل، ثم بلديات المنطقة الشرقية، ثم منطقة القصيم. ومن خلال تجربته الوظيفيّة، رأى الناسَ يتكالبون على المصالح الخاصّة، ويستخفّون بالمصالح العامة، ورأى الإهمالَ بين العاملين، وغيابَ الالتزام، وضعفَ الأداء الوظيفي، وانعدامَ الرؤية المهنية، وأن أكثر الناس يتأثرون بالمشاغبين، ولا يلتفتون إلى الحقائق مهما كانت شديدة الوضوح. ((يُنظر: البليهي في حوارات الفكر والثقافة ص 58)) وفي مقابلِ هذه التجربة رأى -أثناء زياراتٍ خاطفة- في الغرب ما يُبهره من إنتاجٍ، وإدارةٍ للحياة، وتحقيق العدل النسبي، فقال: "لا يمكن أن يحقق هذه إلا مجتمع متميز، لهذا أخذتُ أقرأ في الحضارة الغربية؛ لكي أرى ما يُميز هذا المجتمع" ((يُنظر: إضاءات، اللقاء الأول، لقاء تلفزيوني مع إبراهيم البليهي)). هذان الحدثان كانا سببا في تحول السؤال عند البليهي مع ما فيهما من تفاوت في دقّة الملاحظة من حيث إن الأول تجربة ذاتية ملاصقة للحدث، والثانية ملاحظة سائح عبر بعض دول أوربا، لكنَّ المشترك بينهما مفهوم (العمل)؛ وهذا المشترك يعطي مؤشرًا على الأسباب المؤدية لانبهار البليهي. كانَ هذان الحدثان سببًا في تحوّل السؤال من: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا، إلى: لماذا بقيَ التطورُ الحضاري المذهل في العصور الحديثة محصورًا بمجتمعاتٍ قليلة؟ فكانَ بداية الجواب بالدعوة إلى تأسيس علم الجهل، ومقالاته التي جُمعت في كتابٍ بعنوان (بنية التخلف)، إذ يرى البليهي أنَّ "تحليل هذه البنية لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطة علم الجهل،... لأنَّ الجهلَ المركب -جهل الإنسان لجهله، واغتباطه به- هو أقوى استحكامات بنية التخلف، فغبطة المجتمعات المتخلفة بثقافاتها... قد حالت بينها وبين أي تقدم...؛ وبذلك توصّلتُ إلى أنَّ العقلَ البشري يصوغه الأسبق إليه" ((يُنظر: البليهي في حوارات الفكر والثقافة، ص 60)). مشروع البليهي يُفترض أنه يدرس العقل البشري، بأمارة أنه يُشير إلى نتيجةٍ قائلًا: "العقل البشري يصوغه الأسبق إليه" -ومن المفارقة أنه يصف هذا القول في لقاء إضاءات بأنه قانون!.- لكن نرى البليهي أولا ينقض عنوانه بنفسه حين يقول في المرجع السابق ص 62: " وهنا لابد من الاستدراك حول مفهوم التخلف؛ فهذا المفهوم يوهم بأنَّ المتخلف يسعى للخروج من حالة الركود، لكنه لم يلحق بعد، وهذا عكس الواقع، فهذه المجتمعات تدورُ في المكانِ نفسه ولا تريدُ أن تتجاوزه..." وكانت حجته في هذا التراجع عن العنوان -حين سأله المحاورُ في برنامج إضاءات- قال: "لأن هذه اللفظة هي الدارجة في التعبير". إن هذا التراجع معبرٌ عن غياب العقل الناقد لدى البليهي، إذ حين يُشرّح البنية فإنه يتحدث عن مقوم أساس للعقل البشري على حدِ تعبيره، ومن ثم فإنَّ الحديث لن يكون عن المجتمعات العربية ومفارقاتها في أحداث التاريخ، إلا في سياق التحليل الذي يأتي لاحقًا بعد تأسيس الإشكال في بنية العقل البشري، ومن ثم العقل العربي. بافتراضٍ يتبناه هو لمفهوم العقل، ذلك الذي يحتله الأسبق إليه، ومن ثم العقل العربي وما يقابله -مقارنة- من العقول الأخرى؛ لهذا فإنَّ ما يكتبه البليهي ليس تنظيرا موضوعيا، بل رؤية ذاتية نابعة من ضيق شخصي على أحداث التاريخ العربي. وأدق وصف لكتابات البليهي هي (الاستغراب من أجل الاستشراق). أي أنَّ الاستغراب جاء من لاوعي البليهي ليخرج في وعيه استشراقًا. وبشكلٍ أوضح: إن البليهي صنعَ صورةً ذهنية للغرب، ثم تبنّى هذه الرؤية التي لا يتوافق فيها ما في الأعيان مع ما في الأذهان، فانطلقَ منها إلى صُنع صورةٍ عن الشرقِ ككل، والعرب بشكل خاص من خلال منظار الاستغراب المتخيل. ثم ظَنَّ -بعد هذا كله- أنّه يُشَرّح البنية ويُشخّص الداء، ويصف الدواء للعقل البشري، وللحضارات البشرية، وللثقافات العابرة...إلخ. لهذا نلحظ أنه لما تغير السؤال تغيرا شكليا، بقي الإطار الشمولي يُحيط بتفكير البليهي؛ إذ كان تفكيره في جميع مراحله العمرية شموليا، بل إنه لم يفهم المنهج النقدي إلا بإطارٍ شمولي، يقول: "لا ألتزم بمنهجٍ واحد، ولا أتقيّدُ باتجاهٍ مُعين، وإنما أستعينُ بكل ماهو متوفر من المناهج والرؤى..." ((يُنظر: البليهي في حوارات الفكر والثقافة، ص12)) أي أنَّ البليهي يُلفِّقُ جملة من الأفكار التي ابتكرها فلاسفة أو مفكرون، ثم يُظهرُ رأيًا قطعيا -يصفه بالقانون!- يتعلق بالإنسان، ومثال ذلك؛ مقولة التلقائية، وخلاصتها: أنَّ الإنسانَ يولد فارغا، فتتشكّل بنيته الذهنية في الطفولة، من خلال البيئة التي تُشَكِّل عقلَ أفرادها، بآليةٍ تجعلهم لا يتأثرون بأية حقائق علمية فيما بعد، إذ العقلُ يحتله الأسبق إليه. وهذا التلفيقُ متناسبٌ مع عشوائية البليهي، إذ إنَّ هذا الفِكر متوزّع ضمن سياقات فلسفية وفكرية؛ فجون لوك مثلًا انطلقَ للتدليلِ على المذهبِ التجريبي بأنَّ الإنسانَ يولد صفحةً بيضاء، والتجربة تعبئها. وإخوان الصفا اعتبروا أنَّ الأفكار كالقوالب، أي أنَّ الإنسانَ يولدُ بقوالب، وهي ورقة بيضاء، ومن ثم يُصَبّ فيها علم أو اعتقاد، يصعب محوه، لكونه الأسبق في الانصباب في تلك القوالب. ثم نجد تفريعاتٍ تكاد لا تحصى في علم الاجتماع، وعلم النفس، وكلها ضمن منهجية عالية ومتماسكة عند الغربيين، لكنّ البليهي عمل منها صحن سلطة تفوح رائحتها العفنة، والعفونة جاءت من ذلك التلفيق بلا منهج ورؤية متماسكة؛ إذ حتى التلفيق إن كان بمنهج ونظر كان مثمرا. لكنّ مقولات البليهي المعدودة، نجد أنها قائمة على التلفيق غير الممنهج، الذي يضمن خروجها كدليلٍ على ما أسميتُه الاستغراب من أجل الاستشراق. وكأنَّ الثابتَ في كلامه هو الاستغراب المتخيل من أجل الاستشراق المتخيل، وأما مضامين حديثه فهي متذبذبه، بحسب السياق اللحظي ما بين لقاء مكتوب أو لقاء تلفزيوني، فمثلًا لا يُستغرب أن تجده مرةً يقول: الأصل في العقلِ البشري، ثم يَبِيْنُ في باقي حديثه أنَّ المرادَ هو العقل العربي، ولا يستغرب أن تجده يقول: الأصل في الثقافات كذا وكذا، ثم تجده ينحرف بشكل مشتت عشوائي نحو التخصيص كقول: الأصل في الثقافات المحافظة...إلخ. ولا تستغرب أن تجده يقول: العقل يحتله الأسبق إليه، وفي مكان آخر يصوغه الأسبق. وبين الصياغة والاحتلال فرق شاسع.
من هنا فإنَّ مراحلَ البليهي ليست إلا مرحلة واحدة، فيها درجات؛ فالمرحلة الأولى هي نفسها مرحلة علم الجهل!، وبنية التخلف، وما بعدها؛ إذ السؤال: (لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا) كثنائية استمرّ بتغييرٍ في الدرجة من خلال الارتكاز لدى البليهي: فبعد أن كانَ النمطُ (نحن/هم) أصبح: (أقلية متطورة مذهلة/ أكثريّة متقهقرة).
إنَّ هذا الطرح البُليهي، بسيط من حيث إنَّه تحويل للكلام الغاضب -بلا منهج ونظرية- إلى كتابات مقالية، لهذا وجد صدى لدى متلقين تنبع لديهم الإشكاليات النفسية ذاتها من واقع العرب، في مقابل الإنجاز الغربي. إذ إنَّ النقدَ مركبٌ صعب، من حيث إنه يرفض تبسيط المضامين التاريخية في المسارات الفكرية والثقافية، بل يختار الطريق الأصعب الذي يبني النظرية المتماسكة في داخلها بعيدا عن أيِّ مؤثر في التكوين الثقافي النفسي، سواء كان ميتافيزيقيا، أم طبيعيا، ومن ثم يُخرج النتائج المتسقة مع هذه النظرية. لكنّ الذي نجده في خطاب البليهي تمثله -مما يمثله- الجملة الثقافية التالية: " الحضارة العربية لم تُقدم شيئًا للإنسانية، وهي حضارة دينية فقط، والعقل العربي عقل جامد، وكل من جاء بعقل مختلف في العالم العربي فهو منبوذ في مجتمعه، مما يؤكد أنهم لم يُشكلوا عنصرا فعالا في الحضارة العربية التي هي دينية في الأصل" ((يُنظر: البليهي في حوارات الفكر والثقافة)) كيف لهذه الجملة -مثلا- أن تكون فاضحة للمنهج الشمولي التلفيقي عند البليهي؟ قال البليهي في أحد حواراته عن انتقال الفلسفة والفكر اليوناني إلى الغرب في عصر النهضة من خلال العرب: "بضاعتهم رُدت إليهم". فإن كانَ الأمرُ كذلك فكيف جاؤوا بها دون محيطٍ عربي يحضنها، ويتفاعل معها، ويُؤسِسُ منظاره من خلالها؟ محيطٍ أنتج بذورا للعلم التجريبي عند العرب، كما هو عند ابن الهيثم ومن سار على نهجه كنصير الدين الطوسي، وقطب الدين الشيرازي. محيطٍ مَكَّن ابن الهيثم ليدعو لكشف الأغاليط والتناقضات في الفلسفات والمذاهب حتى يتجاوزها إلى ماهو أصلح منها. وفي الفلسفة قال بما يشابه ذلك ابنُ رشد. بل إنَّ المحيط الفلسفي والفكري لا يُعزل عن التفكير في فلسفة الدين، تلك الفلسفة التي أنتجت علم الكلام من جهة، وأنتجت مقولات لابن تيمية في نقض المنطق الأرسطي، ذلك النقض الذي مهد لتدشين العلم التجريبي. ومن ثمّ فإن قول البليهي "حضارة دينية فقط" تدلّ على سطحية الطرح، وغياب النقد.
إن هذا المحيط العربي هو الذي مَكّن القاضي علي الجرجاني أن يقول: "الدين بمعزل عن الشعر" ومن هنا انطلقَ النقدُ (الأدبي تحديدا) في مساحةٍ حُرة؛ ليقول ما يقول دون أن تصلهم يدٌ متسلطة. هذا النقدُ الأدبي تأسست أدواته ورسخَ كقوةٍ في النظر للنص، واستخراج عيوبه؛ ليتجاوزه إلى ما هو أعلى منه. وكل ذلك بمقاييس بيانية، لكنها بجذور برهانية، إذ أُمّ النقد الأدبي العربي القديم (بيولوجيا) هي الفلسفة، لكن أمه التي ربّته هي القوانين البلاغية. ومثال: عبدالقاهر الجرجاني/ صاحب المتن البياني، والهامش البرهاني. والسكّاكي/ صاحب المتن البرهاني، والهامش البياني؛ يُبرز شيئا من هذا المحيط وآثاره. لهذا لما دخلت الفلسفة الإغريقية كانت تسبح في محيط مسنونة أدواته، بل إنه يضيف عليها مخزونه الطويل في البيان من جهة، والرؤية الدينية في نظريات الإسناد من جهة أخرى.
في هذا المحيط اشتغلَ الفلاسفةُ العرب ومتكلموهم، على إضافةِ دلالاتٍ تتّسق مع الوافد الإغريقي: فأتى سؤال (ما وراء المادة) بدلا من سؤال (النص الأدبي) وأتى سؤال (المضمر) بدلا من سؤال (الدال)؛ إذ لما اعتُبر (الدال) في ظواهر النصوص الدينية طريقَ الفهم، كان (المضمر) يعني الانطلاق من القيد. أي أننا من خلال سؤال المضمر فككنا الربط الظاهري المكين بين الدال والمدلول. وهذا المضمر مفتوح الدلالة.
فالمعمل العربي الثقافي اشتغل في مسارب كثر؛ منها: 1. الحرية النقدية في الاشتغال النصّي. 2.الصراع السياسي في مجمله؛ مثلا: (ابن سينا/ الغزّالي/ ابن رشد= البويهيين/السلاجقة/ المشرق/ المغرب) (المعتزلة-المأمون/ المتوكل- الحنابلة).
من هُنا تأسَّسَ المحيط وتمكّن حتى وجدنا أن الفرق الإسلامية ما كانت لتكون لولا هذا المحيط الغني؛ أي أنَّ صناعة الفرق هي صناعة فلسفية فكرية. وليست دينية بالمفهوم التقليدي (الإسنادي) الذي يروج له البليهي بسطحية. هذا المحيط الذي أخذه الغرب كاملا ممزوجا = (الإرث الخام الإغريقي + الإنتاج العربي) وأضاف عليه، بل أسس الحضارة الحديثة التي نراها، ولم يكن مجرد ناقل للثقافة العربية والإغريقية، بل راكم إبداعه على ما أخذه فحوّلَ الإبداعَ إلى مُنتجٍ نوعي.
لهذا حين تُدرس الحضارات فإما أن يكون دارسُها ناقدا أو يكون متحيزا تحيّزا نفسيًا أو اجتماعيًا أو عرقيًا أو إيديولوجيا... إلخ. والنقد سيحتم عليه النظر المبني على الفرضيات والنظريات التي لا تؤمن بالتمركز، بل التي تصنع مقولاتها الواعية لإشكالية القطعية في الدراسات الدقيقة، فضلا عن كون الدراسة شمولية كدراسة البليهي الذي يعتمد على مقولات عامة عن الإنسان والثقافة المحيطة به، ويبحث عن شواهد متفرقة لتأكيد ما يريد أن يقوله؛ لهذا تحصل التناقضات في كلامه وكتاباته، والاضطراب الواضح لكل باحث دقيق. ومن هنا لما رأى البليهي النمط الاستبدادي في التاريخ العربي؛ ظنه هو الكلُّ، وإليه يعود التفسير، فأخذ المقولات العامة ليسقطها على التاريخ العربي، لأن شموليته لا تحتمل الدقة والغوص في تفاصيل صناعة الحضارة والثقافة، ولأن الافتقار للعقل الناقد لا يؤهل إلا إلى الحديثِ عن العموميات، والأحكام الشمولية التي تظهر بجرة قلم دون مقدمات دقيقة.
بل إنَّ البليهي كان جزءًا من تلك الثقافة التي رأى فيها الاستبداد، من حيث إن سؤال التخلف= لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا، متصاحبٌ مع ما سُّمي بــــ (النهضة العربية). والنهضة العربية تأسست على مفهوم (المستبدّ العادل) المقابل للمستبد الظالم. ونلحظ أن البليهي انتقل من قوله في كتابه عن سيد قطب: " وبعد فهذه لمحات عن عملاق الفكر الإسلامي المعاصر" إلى: تمجيدِ عملاق آخر وهو الحضارة الغربية بصورتها الحديثة. أي أننا أمام زعيم أوحد في كلتا الحالتين. والبحث عن عملاق هو في حقيقته البحث عن طمأنينة وراحة لمن يرعاه؛ فيحوّل كل ما يجري وسيجري إليه وعليه. وهذا ينقض فكرة النقد والتفكيك الدائمين. من هنا نلحظ أنَّ البليهي هو جزء من المشكلة؛ أي عود من حزمة هي سبب وعائق للإبداع، أي أنَّ البليهي متلبس كل السمات التي يظن أنه ينقدها. فالسمات التي انتقدها تقوم على (المركزية الثقافية التي طردت الآخر) فهو يرى أنَّ الثقافة العربية ثقافة دينية، ومن ثم رأت أنَّ الحياة تمركزت حولها، لهذا هي تطرد الآخر. والذي جرى أن البليهي انتقل إلى مركزية أخرى هي المركزية الغربية = من (نا) إلى (غير) في جملة السؤال: لماذا تخلفنا وتقدّم غيرنا.
أي أن سيرورة تحوله كالتالي: (الإسلام هو الحل/المستبد العادل/ الحضارة الغربية هي الحل) وهذا يوضِّحُ إشكالية التفكير لدى البليهي. فإن كانَ الاستشراق هو محاولة مطابقة ما في الأذهان الغربية لما في الأعيان في المشرق. فإننا وجدنا -مع إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق- أنَّ ما في الأذهان الغربية لا يطابق ما في الأعيان، بل هي صورة مختلقة في أذهان الغربيين عن الشرق. هنا البليهي لما وصل إلى حالة (الحضارة الغربية هي الحل) صنع صورة في ذهنه عن الغرب، وكبرت حتى تضخمت، فآمن بها إيمانا دوغمائيا، بأنَّ ما في الأذهان مطابقٌ لما في الأعيان؛ فقال قوله في حواره عن التلقائية: " أعتقدُ أنَّ كثيرين في أوروبا والغرب عموما، سوف يتفاجؤون بمضمون كتبي؛ لأنني تناولت الفكر الغربي برؤية حتى الغرب نفسه لم ينتبه لأهميتها" وهو -هنا- يؤكدُ دونَ أن يعي أنَّ ما في الأعيان لا يُطابقُ ما في ذهنِه.
وهذه الصورة الذهنية بدأ تشكّلها في الحديث عن التغيرات النوعية في الحضارة الغربية؛ إذ يقول البليهي: "إنَّ الحضارة مرت بفترتين؛ الأولى: منذ آلاف السنين وهي عبارة عن دوران أفقي بمسارات ثابتة؛ كل حضارة تبدأ في النشوء، ثم تنهار، ثم الحضارة الجديدة لا تبدأ من حيث انتهت الأولى، وإنما تبدأ من الصفر. والثانية: الحضارة الغربية وهي التي انتُقل فيها من مستوى إلى مستوى. فبين الحضارات والحضارة الغربية اختلاف نوعي وليس كميًا". أي أنَّ البليهي يرى -وعى أم لم يعِ- أنَّ الحضارة الغربية -كمنجز كامل- لم تأتِ من تراكم، بل هي قطيعة وكسر لمفاهيم الحضارات السابقة، ثم البدء بحضارة هي في واقع أمرها (صفريَّة)، أي كأنّها بدأت من الصفر، كمثلِ الحضاراتِ التي يرفُضها، ولكن (صفر) الحضارة الغربية مُغاير لـــ(صفر) الحضارات الأخرى؛ حيث إنَّ (صفر) الحضارات الأُخرى، تُعيدُ فيه كُلُّ حضارةٍ الكرةَ التي بدأت منها الحضارة السابقة عليها. أما الحضارة الغربية فصِفرها ليس إعادة، إنما (صفر) انبثق من العدم؛ ليؤسِسَ البذرة الأولى للمنجز الكامل (=الحضارة الغربية) وليس مجردَ مفهوم (اللوغوس) الذي سيَعْتَوره نقدا من قبل الغربيين أنفسهم.
البليهي -هُنا- آمنَ بهذه الصورة المتخيلة، فصارت نموذج الكمال في لاوعيه، بصفتها الحقيقة الموضوعية لذواتنا، فأطّر كتاباته بفكرة واحدة تقومُ صيغتُها على التّالي: (1. العقل البشري تلقائي سلبي 2. العقل الغربي صنع الحضارة الاستثنائية 3. إذن: العقل الغربي كسر التلقائية السلبية، فصنع الحضارة الغربية فهي الجديرة بأن يتأمل جمالها والبحث عن أسرار إنسانها، وكيف تقدم علينا)، لهذا ذهبَ يُسطِّرُ الصفحات للحديث عن هذه الحضارة -بصفتها الواقع الموضوعي لكل المفاهيم المطلقة التي أنشأها العقل-، لا إثبات بُناها الفلسفية، وأُسسها العلمية ثم إبراز ثغراتها كي ننطلق كلنا منها إلى ما هو أفضل. ولهذا فكُلُّ مقالاته الصحفية يبدأ فقرتها الأولى بالفكرة الرئيسة -التي هي تعود على إحدى المقولات المحصورة في ثنائية التخلف/التقدم- ثُمَّ في باقي المقالة نماذج فردية ليثبت صحة الفكرة الرئيسة. وهذا -ربما- ما جعل الكاتب علي العميم يقول: "لم أر في العالم العربي، من محيطة إلى خليجه، ومن رفاعة الطهطاوي إلى آخر موديل ثقافي في يومنا هذا، مثقفا جادا يكرر أفكاره بالقدر الذي يفعله المثقف السعودي الجاد إبراهيم البليهي" وهذا يؤكد الطابع الوعظي لدى البليهي، فليس للواعظ إلا أفكارا يجترها ليعظ بها. ومن دلالات مفهوم الاجترار من جهة، والوعظية التصنميّة من جهة أخرى أن البليهي يرى الصفريّة في الحضارة الغربية تبدأ من الإغريق، وأن اللحظة الحديثة التي سعت للقطيعة مع الماضي، لتحاول البدء من درجة الصفر، ما هي إلا وصل للصفرية الباهرة؛ لحظة الإغريق.
لكنّ الخلافَ بينَ النُقَّاد الغربيين لم يكن: هل الحضارة الغربية منجز كامل، وإنسانها كسرَ التلقائية السلبية -من العدم- من قِبل الإنسان الإغريقي قبل الميلاد وأخذَ بعواملِ التقدّم الكامل، أم لا؟ -لهذا البليهي -بغياب النقد لديه- يَظنُّ أنَّ الغربَ حين يعرفون ما كتب سينبهرون بما يقوله عن حضارتهم.
إنما خِلافهم الأوّلي المؤقت، حول اللوغوس وشرارته؛ هل ثمة أصول لتفسير العلم الفلسفي الإغريقي؟ هل يكفي أن نُشيرَ إلى عبقريةِ الإغريق، ووضعهم الحضاري؟ أم ثمة سياقات قبلية تتمثّل بفلسفةِ الشرق الهندي والشرق الفرعوني؟ إذ إنَّ الأوروبيين لما انطلقت النهضة؛ كان لزاما عليهم أن يُوصِلوا حبلهم بالإغريق، فكانت لعنة المنهج التاريخي تحتّم عليهم أن يعلنوا مركزيةً ينطلقوا منها لتأريخ العالم، وسواء كانت الأسباب المؤولة: عرقية أم ثقافية، فإنها -كما أراها- ستعودُ إلى لعنةِ المنهج التاريخي العام؛ ويمثل ذروته الفيلسوف هيجل حين قال في كتابه محاضرات في تاريخ الفلسفة:" يجب استبعاد ماهو شرقي من تاريخ الفلسفة". ولعنة المنهج عند هيجل تمثلت من خلال منهجه الجدلي؛ حين اضطرَّ هيجل لصناعة تاريخ للفلسفة بمنظار تطوري يستجيب لمنهجه الجدلي، بثلاثيّته: الأطروحة والنقيض والتركيب. ونجد لعنة المنهج ماثلة أيضا عند برتراند راسل الفيلسوف الإنجليزي؛ ففي كتابه حكمة الغرب حتّم عليه المنهج أن يُعَنْصِرَ الإغريق إلى: 1. عقل منظم، تنتمي له الفلسفة والعلم والفن. 2. عقل غريزي، ينتمي له الفعل البدائي في طقوس الخصوبة. ولكي أبين ما أقوله فإني سأستشهد بنيتشه، الفيلسوف الألماني، ذلك الذي وقع في لعنة المنهج في بدء اللوغوس، لكنه -في الآن نفسه- لعن الفلسفة منذ سقراط وأفلاطون إلى لحظة إنشائه للمنهج الجينيالوجي، وتحويل الإرادة من إرادة الحقيقة إلى إرادة الحياة. أي أننا أمام استشكال للفعل المنجز نفسه، المتمثل فيما فعله الإنسان في تاريخه، وليس تضخيم لحظة البدء لتكون هي الحقيقة الموضوعية نفسها، إذ البليهي لا ينتمي للأفلاطونية كفلسفةِ حقيقة ولا لنيتشه كرفض للحقيقة الموضوعية، بل إنه صدى لصوتٍ أعلن وجود حقيقة موضوعية فرآها ماثلة في الحضارة الغربية، وكأنه يقول للفلسفة منذ أفلاطون وحتى نهايات القرن التاسع عشر: ما يبحث عنه الفيلسوف، -بصفته مريدا للحقيقة- تمثّل في حضارتكم بذاتها. أي أن الحقيقة في ذاتها هي الحضارة الغربية.
ومن هُنا فإنَّ الحضارةَ الغربية -كما هي عند نقادها الغربيين- تراكم كمي تحوَّل إلى مستوى كيفي، والنقاد -هنا- على طرفين؛ إما أن يكونَ التراكم الكمي لحظة انبثاق موصول بفعلٍ تراكمي ميتافيزيقي، أو تراكم كمي موصول بفعل الحضارات السابقة بأشكالها الفردية، أي أنه ليس انبثاقًا من العدم. لكن الذي شغلهم فعليا -كنقادٍ- ليس العقل اليوناني في ذاته ومن ثمّ البحث في أسرار عبقريته!، بل حركة التاريخ في الفعل الفلسفي والعلمي على حدٍّ سواء، وهنا يأتي إيمانهم الضمني -جميعا- بالوصل الحضاري، أي أنَّ من يقول بأنَّ العقلَ اليوناني وحضارته منفصلة عما قبلها، وهي لحظة انبثاق ذاتي؛ فإنه ضمنيا يؤمن بالوصل؛ حين ينخرط في الفعل النقدي الفلسفي، ووجود إنسانه. وهذا ما افتقده البليهي، وظنَّ أنَّ ما يقوله سيبهر الغربيين!. والمفارقة أن البليهي -خضوعًا لبعض نتائج الأنثروبولوجيا- يُرجعُ أسباب التخلف والتقدم لأسبابٍ ثقافية مرتبطة بالفرد والجماعة، لا أسباب عرقية أو بيئية ...إلخ، وذلك لأنَّ مقالاته تنصبّ على الإنسان نفسه، لكنه يقع – من خلال منهجه التلفيقي العام- إلى القولِ بالعرقيّة الأوروبية، وأنها سبب التقدم في الأصل، مع أنّه لا يريد أن يقول هذا لكنها عشوائية الحديث لديه، والمنهج التلفيقي العام؛ وسأذكر مقولتين لبيان ذلك؛ وإلا فالأمثلة كثيرة، ولكن تفاديا للإطالة. والمقولتان هما:
- التخلف هو الأصل والتقدم طارئ. جعل البليهي هذه القاعدة إطارا لقول إنَّ الحضارات كلها اعتمدت مبدأ الاستقرار والسكون =(التخلف/الأصل) وأنَّ الحضارة الغربية هي الوحيدة التي اعتمدت مبدأ التغير والتطور=(التقدم/الطارئ). وهو -هنا- يأخذ قانونا طبيعيا =(القصور الذاتي) الذي يحكم حركة المواد، ليُطبّقه على حركةِ المجتمعات ككُل، لكنَّ القانون بهذه الصورة -إن سلمنا بأنه سيختل- لا يمكن أن يختل في لحظة انبثاق من العدم عند الغرب وحسب؛ إلا حين نتحدث عن الإنسان بصفته الثقافية لا الإنسان بصفته العرقية، وأن تعاقب الإنسان في مجتمعات الحضارات ككل هو الذي حول السكون إلى حركة، فأنتج التغيير والتطور في لحظة الإغريق ومنه إلى لحظة العرب ثم إلى لحظة الغرب الحديثة. لكن كتابات البليهي في حواراته ومقالاته تنقض فكرة الإنسان الثقافي لتحوله إلى الإنسان العرقي. إذ لو كان البليهي يرى -فعلا أنَّ التقدمَ يعود لأسباب ثقافية، للحظ "أن (إيونيا) المهد الأول لنشأة الفلسفة اليونانية لم تكن منطقة صفاء عرقيّ بل منطقة اختلاط؛ فهذا المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت يتحدث عن إيونيا فيشير إلى أنه امتزج فيها مالا يقل عن عشرة أعراق"، أي أن البليهي لو لحظ هذا لما تحدث عن الحضارة الغربية لذاتها، وأنَّ أسباب التقدم نابعة من ذات الفرد الأوروبي، كلحظة انبثاق من العدم، إذ اختلاط الأعراق في (إيونيا)، يشير إلى الفعل التاريخي الحضاري المتنوع في انبثاق الفردية من جهة، وأنَّ المحيط العربي في القرون الوسطى بحسب التاريخ الغربي (عربي أصيل- فارسي بتنوعاته- روماني شرقي- أمازيغي/ مغاربي، كردي/ مشرقي، فارسي روماني/ تركي- عربي فرعوني/ مصري- شرقي/ هندي ...إلخ)، كان لحظة تراكمية -في مفهوم الفردية وانبثاق معانيها - لا يزيلها إلا مفهوم العرقية أو مفهوم المعجزة الميتافيزيقية في انبثاق الاستثناء لدى الفرد الإغريقي، وكلاهما سيعودان إلى لعنة المنهج في كتابة التاريخ العام. أما البليهي فلا يدري ما يؤول إليه كلامُه المشتت.
- الحضارة الغربية حضارة استثنائية. هُنا لنتأمّلَ قولَ البليهي في ص 29 من كتاب البليهي في حوارات الفكر والثقافة يقول: " لم يتعرف الفرد على ذاته ويستعيد حريته وخياراته إلا مع ذلك الإشعاع الفكري الفلسفي الباهر الذي تلألأ في اليونان في نهاية القرن السابع قبل الميلاد والذي بلغ ذروة سطوعه في القرن الخامس قبل الميلاد...". هنا البليهي يشير إلى لحظةِ تعرف الفرد على ذاته من خلال اللحظة الإغريقية، لكنه في الوقت نفسه يقول إنه استعاد حريته وخياراته. فما معنى هذا؟ إن كانَ ثمة سبق في الحرية الفردية على اليونان فما معنى استثناء الحضارة الغربية وكسرها لدوران الحضارات الأخرى؟ وإن لم يكن ثمة سبق فما معنى استعادة الحرية والخيارات؟ إنَّ هذا التخبط في الحديثِ عائد على ضبابية الرؤية المعتمدة -في لاوعيها- على العرقية الأوروبية، ولكنها في الظاهر تلتمس مقولات الإنسان الثقافي. إنَّ انبثاق اللحظة الإغريقية كمثل رجلٍ حر الإرادة -في مجتمع طابعه العام جمعي تسلطي- خرج من بيته في مدينة (أ) قاصدًا المكتبة في مدينة (ج) ليشتري كتابا في (نقد الحقيقة)، فوجد فتاةً في المكتبة جاءت من مدينة (ص) في نفس التوقيت، فتعارفا، من خلال اهتمامهما في البحث عن كتبٍ لنقد الحقيقة، فأخذ كل واحد منهما رقم هاتف الآخر، فالتقيا مرة... ومرة... ومرة...وألف ألف مرة حتى تحوّلت الصدفة المكتبية إلى عشقٍ معقد وصل إلى درجة الخُلّة غير المفسرة. إن النقد -هنا- يثبت اللحظات ومدى الفردية فيها، تلك التي شَكَّلت لحظة الخلّة، التي منها يشار إلى درجة التعقيد على أنها لحظة تراكمية. وفي الوقت نفسه لم تكن تلك اللحظات الفردية المنتجة قبل الخلة ضمن حضارة فردية متكاملة الجوانب. بل إنَّ الحاضن لها محيط متنوع؛ ولولاه لما أنتج الفرد بفردانيته ما أنتج. وأي حديث عن حصر حضارة وثقافة في جزئية واحدة -كما يفعل البليهي- فإنه يعود إلى غياب النقد، من حيث إنه مركب يرفض الأخذ بالسبب الواحد، أو الظاهرة الواحدة، أو المنتجات الواحدة...إلخ.
أنس الرشيد
2020/12/1
الدمام