الجزء الأول
-1-
بدأ الدكتور طه حسين حياته الأدبية بكتابة الشعر، ونشر كثيرا من القصائد والمقطوعات الشعرية بدءا من عام 1908 في العديد من الجرائد والمجلات التي كانت تصدر بالقاهرة آنذاك مثل: الجريدة والهداية والعلم ومصر الفتاة وغيرها، وتنوعت أغراض قصائده ومقطوعاته الشعرية شأنه شأن كل الشعراء في ذلك الزمن ما بين الغزل والرثاء والمديح والوصف والتهاني والتقريظات والوطنيات وكذلك الهجاء، وقد كان طه حسين الشاب يطمح إلى أن يصير شاعرا كبيرا يشار إليه بالبنان؛ وكان أحيانا يساوره شعور زائد بأنه يمتلك موهبة شعرية كبيرة تؤهله لمنافسة كبار شعراء عصره كحافظ وشوقي؛ وكان للشيخ عبد العزيز جاويش (1) في الواقع دور كبير في تضخيم هذا الشعور لديه من خلال مواقف عديدة، منها مثلا حين غاب حافظ إبراهيم عن الاحتفال بمطلع العام الهجري 1309 فقدم الشيخ جاويش تلميذه طه حسين بقوله: "إذا كان حافظ قد غاب فإن شاعرا كبيرا يتقدم إليكم وهو الشيخ طه حسين الكاتب القدير" ويحكي الدكتور طه حسين في كتابه الأشهر "الأيام" تلك الواقعة فيقول: "واستقبل الفتى بتصفيق شديد منحه جرأة وقوة فأنشد قصيدته في صوت ثابت ممتلئ ولكنه لم يكن يستقر في موقفه وإنما كان جسمه يرتعد ارتعادا، واستقبلت قصيدته أحسن استقبال وأروعه حتى خيل إلى الفتى أنه أصبح حافظا أو قريبا من حافظ .." (2).
ولكن الدكتور طه حسين راجع نفسه فتبرأ فيما بعد مما كتبه في مطلع حياته الأدبية من شعر فقال إنه: "أعرض عن الشعر كل الإعراض بعد أن استبان له أنه لم يكتب الشعر قط "ووصف ما تورط في كتابته إبان تلك المرحلة الباكرة من عمره بأنه كان "سخفا كثيرا" (3)، وأول من لفت الانتباه إلى هذا الجانب المجهول أو شبه المجهول من حياة الدكتور طه حسين هو الأستاذ محمد سيد كيلاني في مقالة نشرها بعنوان "طه حسين الشاعر" في مجلة الرسالة (عدد 8 يناير1951)، وفي العدد التالي من "الرسالة" (عدد 15 يناير 1951) علق الدكتور طه حسين على المقالة في رسالة بعث بها إلى أ. محمد سيد كيلاني فقال بعد الشكر: "ذكرتني شيئا كنت أنسيته حتى كنت أشعر أثناء قراءة المقال أنك تتحدث عن شخص غيري، عفا الله عما سلف فقد كانت تلك المحاولات في آخر الصبا وأول الشباب فجرا كاذبا لم يمح شكا ولم يجل يقينا، والحمد لله على الخير والشر والبراءة إليه من الكذب والغرور"، وتلت مقالة محمد سيد كيلاني مقالة للدكتور جمال الدين الرمادي بنفس العنوان "طه حسين الشاعر" نشرها بمجلة الهلال (عدد أكتوبر 1951)، وتوسع الأستاذ محمد سيد كيلاني في مقالته المذكورة فأخرج عام 1963 كتابه "طه حسين .. الشاعر الكاتب"، وقد ضم القسم الأول من الكتاب كثيرا من القصائد والمقطوعات الشعرية التي نشرت له ما بين عامي 1908 و 1916، وفي كتاب "طه حسين كما يعرفه كتاب عصره" الصادر عن دار الهلال عام 1960 كتب أنور الجندي موضوعا تحت عنوان "صفحات مجهولة من حياة طه حسين" استشهد فيه بعدة أمثلة من شعر طه حسين، وقد أعاد نشر الموضوع كما هو في مجلة الهلال (عدد فبراير 1966)، وأصدرت جماعة الأمناء بزعامة الشيخ أمين الخولي عددا خاصا من مجلتها "الأدب" (يناير 1963) عن طه حسين تضمن مختارات من شعره، وفي مجلة الهلال (عدد فبراير 1963) نشر الأستاذ طاهر الطناحي رئيس تحرير الهلال مقالة له بعنوان "الشاعر العاشق طه حسين" واستشهد فيها ببضعة أمثلة من شعره في الصبا والشباب، ثم نشر الأستاذ سامي الكيالي عام 1968 في سلسلة "اقرأ" التي تصدر عن مؤسسة دار المعارف الجزء الثاني من كتابه "مع طه حسين" (وكان الجزء الأول قد صدر في نفس السلسلة عام 1952)، وقد تضمن الجزء الثاني بعض أمثلة من شعر طه حسين، وقد جمع الأستاذ سامي الكيالي الجزءين ونشرهما في كتاب واحد بنفس العنوان في نفس السلسلة عقب وفاة الدكتور طه حسين بشهر تقريبا (أي في نوفمبر1973)، وفي نفس العام نشر الشاعر السكندري عبد العليم القباني بعدد ديسمبر من مجلة "الهلال" مقالة عنوانها "طه حسين شاعرا"، وقد توسع في المقالة ليخرجها عام 1976 في كتاب صغير من سلسلة "المكتبة الثقافية" التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان "طه حسين في الضحى من شبابه"، والمقالة ثم الكتاب يحتويان على الكثير من أشعار طه حسين، وفي مجلة الهلال أيضا (عدد فبراير 1976) كتب الدكتور يوسف نوفل مقالة بعنوان "طه حسين الشاعر" استشهد فيها بعدة نماذج من شعر الدكتور العميد، وفي عام 1978 أصدر الدكتور السيد تقي الدين الجزء الأول من كتابه "طه حسين .. آثاره وأفكاره" وقد استشهد فيه تحت عنوان (ديوان طه حسين) ببضع مقطوعات وقصائد للعميد، وقد نشر الشاعر فتحي سعيد في عدد أكتوبر 1980 من مجلة "الشعر" الفصلية ملفا عن شعر الدكتور طه حسين ضمنه مجموعة من القصائد والمقطوعات الشعرية، وأعاد نشر القليل منها في مقالته "شاعرية العميد" التي تضمنها كتابه "عن الشعر والشعراء" ط هيئة قصور الثقافة 1989، كما استشهد الدكتور محمد صادق الكاشف بأمثلة كثيرة من شعر طه حسين في كتابه "طه حسين بصيرا" الصادر عن مكتبة الخانجي بالقاهرة عام 1987.
وليس من المبالغة أو من قبيل المبالغة القول بأن الدكتور طه حسين بدأ حياته الفكرية والأدبية بالشعر، فقد جاء بالجزء الأول من "الأيام" الذي كتبه كسيرة ذاتية أنه كان ينفق الكثير من وقته في نظم القصائد الباكية يرثي بها أخاه الطالب بمدرسة الطب الذي مات في وباء الكوليرا (4) حين اجتاح البلاد عام 1902 ، يقول بالنص: "من ذلك اليوم عرف الصبي أرق الليل فكم أنفق سواد الليل يفكر في أخيه ... وينظم شعرا على نحو هذا الشعر الذي كان يقرؤه في كتب القصص يذكر فيه حزنه وألمه لفراق أخيه" (5)، وهذا الجانب من حياة الدكتور طه حسين ربما يكون مجهولا أو بتعبير أدق شبه مجهول بسبب أن ما كتبه من شعر في بواكير شبابه لم يجمع ولم يصدر في كتاب، لم يحاول هو ولم يحاول أحد غيره ذلك إلا بعد انصرافه عن كتابة الشعر بعدة عقود من الزمن.
ومن المؤكد أن الأشعار التي كتبها طه حسين ولم تنشر مثل تلك التي نظمها في رثاء أخيه أو تلك التي أنشأها استجابة لتكليف أستاذه الشيخ حسين المرصفي كموضوع تعبير وروى قصتها الأستاذ أحمد حسن الزيات في كلمته بحفل تكريم الدكتور طه حسين (6) الذي أقيم بمناسبة حصوله على الدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1914 قد ضاعت واندثرت مع الزمن أو هكذا نظن حتى الآن، وقد ساهم في أن يكون هذا الجزء من حياة طه حسين مجهولا أو شبه مجهول أنه أدار ظهره مبكرا لهذه الموهبة منشغلا أو قل منغمسا في البحث والدراسة والنقد والمحاضرة والنشاط الصحفي والسياسي على عكس بعض أقرانه وفي مقدمتهم الكاتب الكبير عباس محمود العقاد الذي ظل يكتب الشعر حتى سنوات قليلة قبل وفاته، ولذلك كان لا بد لمعين الموهبة في نفس طه حسين أن يغيض وينضب رغم أنه دلف إلى كل هذه العوالم الفكرية والأدبية ومجالات النشاط السياسي والصحفي التي صال فيها وجال وضرب في كل منها بسهم وافر من باب الشعر، وقد برر الدكتور طه حسين انصرافه عن كتابة الشعر بأن ما كتبه كان في حقيقة الأمر "سخفا كثيرا" كما سبق أن ذكرنا، وفي الواقع فإن بعض النقاد يشاركون الدكتور العميد رأيه السلبي فيما كتبه من شعر ومنهم الأستاذ فؤاد دوارة الذي يرى في كتابه "أيام طه حسين" (7) أن محاولات طه حسين الشعرية بالرغم من أنها "لم تكن محاولات هاو ينفس عن مشاعره الخاصة والعامة فحسب وإنما تمثل جهدا كبيرا بذل فيه كل طاقته ليتسنم أرفع مكانة بين شعراء العصر وإلا لما قرن نفسه بحافظ وشوقي في إحدى قصائده ولما قبل أن يقرنه أستاذه جاويش بحافظ في مناسبة عام" فإن تلك المحاولات "شعر تقليدي قليل القيمة .. تغلب فيه الصنعة والافتعال على الأصالة والابتكار .. ولا ينم عن شاعرية مطبوعة أو يبشر بميلاد شاعر كبير" ويعلل دوارة اهتمام بعض الكتاب بهذا الشعر على قلة قيمته الفنية بقوله: "ولو كان قائله غير طه حسين لما استحق أي اهتمام فكل قيمته مستمدة مما حققه قائله بعد ذلك في ميادين أخرى غير قول الشعر"، وفي كتابه "مع الشعر والشعراء" ( تناول الشاعر فتحي سعيد محاولات طه حسين الشعرية الباكرة بالتقييم فانتهى إلى قوله إن "طه حسين ليس بشاعر .. ولكنه في أعماقه شاعر" ويفسر التناقض الظاهري في جملته بأنه "ما من أديب أو فنان إلا بدأ شاعرا أو على الأقل عالج الشعر وجال في دروبه في التكوينات الأولى حتى يستقر على موهبته الميسرة له في فن من الفنون، وأضاف قائلا بأن طه حسين "خلع جلباب الشعر ولكنه لم يلق بريشته ولم يحطم قيثارته وإنما رسم بها وعزف على أوتارها ذلك العزف الشجي العميق الذي ميز أسلوبه وصبغه بتلك الشاعرية المرهفة الموسيقى العميقة النفاذ إلى القلوب والأسماع".
ولعل تقييم طه حسين السلبي المبكر لموهبته الشعرية ولشعره هو ما جعله لا يهتم بمواصلة كتابته ولا يهتم بجمع ما كتبه ونشره من قبل، ولكن أليس من اللافت للانتباه أن طه حسين لم يعترض أو ينكر عمل أولئك الذين فعلوا ذلك في حياته من الكتاب الذين ذكرناهم؟.
على أية حال فإن لم يكن لما كتبه طه حسين ونشره من شعر في مقتبل شبابه قيمة فنية كبيرة فهو على الأقل - بحسب تعبير الأستاذ فؤاد دوارة - "قد يساعد في إلقاء المزيد من الضوء على جوانب شخصيته وعلى الكشف عن بعض اهتماماته القديمة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الذكرى الثامنة والأربعين لرحيل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين
دراسة "طه حسين شاعرا" سبق نشرها مختصرة بعدد يناير 2019 من مجلة "العربي" الكويتية وسيتضمنها كتاب قيد الطبع "التحديق في الظلال .. حفريات في جوانب أدبية مهملة"،
-1-
بدأ الدكتور طه حسين حياته الأدبية بكتابة الشعر، ونشر كثيرا من القصائد والمقطوعات الشعرية بدءا من عام 1908 في العديد من الجرائد والمجلات التي كانت تصدر بالقاهرة آنذاك مثل: الجريدة والهداية والعلم ومصر الفتاة وغيرها، وتنوعت أغراض قصائده ومقطوعاته الشعرية شأنه شأن كل الشعراء في ذلك الزمن ما بين الغزل والرثاء والمديح والوصف والتهاني والتقريظات والوطنيات وكذلك الهجاء، وقد كان طه حسين الشاب يطمح إلى أن يصير شاعرا كبيرا يشار إليه بالبنان؛ وكان أحيانا يساوره شعور زائد بأنه يمتلك موهبة شعرية كبيرة تؤهله لمنافسة كبار شعراء عصره كحافظ وشوقي؛ وكان للشيخ عبد العزيز جاويش (1) في الواقع دور كبير في تضخيم هذا الشعور لديه من خلال مواقف عديدة، منها مثلا حين غاب حافظ إبراهيم عن الاحتفال بمطلع العام الهجري 1309 فقدم الشيخ جاويش تلميذه طه حسين بقوله: "إذا كان حافظ قد غاب فإن شاعرا كبيرا يتقدم إليكم وهو الشيخ طه حسين الكاتب القدير" ويحكي الدكتور طه حسين في كتابه الأشهر "الأيام" تلك الواقعة فيقول: "واستقبل الفتى بتصفيق شديد منحه جرأة وقوة فأنشد قصيدته في صوت ثابت ممتلئ ولكنه لم يكن يستقر في موقفه وإنما كان جسمه يرتعد ارتعادا، واستقبلت قصيدته أحسن استقبال وأروعه حتى خيل إلى الفتى أنه أصبح حافظا أو قريبا من حافظ .." (2).
ولكن الدكتور طه حسين راجع نفسه فتبرأ فيما بعد مما كتبه في مطلع حياته الأدبية من شعر فقال إنه: "أعرض عن الشعر كل الإعراض بعد أن استبان له أنه لم يكتب الشعر قط "ووصف ما تورط في كتابته إبان تلك المرحلة الباكرة من عمره بأنه كان "سخفا كثيرا" (3)، وأول من لفت الانتباه إلى هذا الجانب المجهول أو شبه المجهول من حياة الدكتور طه حسين هو الأستاذ محمد سيد كيلاني في مقالة نشرها بعنوان "طه حسين الشاعر" في مجلة الرسالة (عدد 8 يناير1951)، وفي العدد التالي من "الرسالة" (عدد 15 يناير 1951) علق الدكتور طه حسين على المقالة في رسالة بعث بها إلى أ. محمد سيد كيلاني فقال بعد الشكر: "ذكرتني شيئا كنت أنسيته حتى كنت أشعر أثناء قراءة المقال أنك تتحدث عن شخص غيري، عفا الله عما سلف فقد كانت تلك المحاولات في آخر الصبا وأول الشباب فجرا كاذبا لم يمح شكا ولم يجل يقينا، والحمد لله على الخير والشر والبراءة إليه من الكذب والغرور"، وتلت مقالة محمد سيد كيلاني مقالة للدكتور جمال الدين الرمادي بنفس العنوان "طه حسين الشاعر" نشرها بمجلة الهلال (عدد أكتوبر 1951)، وتوسع الأستاذ محمد سيد كيلاني في مقالته المذكورة فأخرج عام 1963 كتابه "طه حسين .. الشاعر الكاتب"، وقد ضم القسم الأول من الكتاب كثيرا من القصائد والمقطوعات الشعرية التي نشرت له ما بين عامي 1908 و 1916، وفي كتاب "طه حسين كما يعرفه كتاب عصره" الصادر عن دار الهلال عام 1960 كتب أنور الجندي موضوعا تحت عنوان "صفحات مجهولة من حياة طه حسين" استشهد فيه بعدة أمثلة من شعر طه حسين، وقد أعاد نشر الموضوع كما هو في مجلة الهلال (عدد فبراير 1966)، وأصدرت جماعة الأمناء بزعامة الشيخ أمين الخولي عددا خاصا من مجلتها "الأدب" (يناير 1963) عن طه حسين تضمن مختارات من شعره، وفي مجلة الهلال (عدد فبراير 1963) نشر الأستاذ طاهر الطناحي رئيس تحرير الهلال مقالة له بعنوان "الشاعر العاشق طه حسين" واستشهد فيها ببضعة أمثلة من شعره في الصبا والشباب، ثم نشر الأستاذ سامي الكيالي عام 1968 في سلسلة "اقرأ" التي تصدر عن مؤسسة دار المعارف الجزء الثاني من كتابه "مع طه حسين" (وكان الجزء الأول قد صدر في نفس السلسلة عام 1952)، وقد تضمن الجزء الثاني بعض أمثلة من شعر طه حسين، وقد جمع الأستاذ سامي الكيالي الجزءين ونشرهما في كتاب واحد بنفس العنوان في نفس السلسلة عقب وفاة الدكتور طه حسين بشهر تقريبا (أي في نوفمبر1973)، وفي نفس العام نشر الشاعر السكندري عبد العليم القباني بعدد ديسمبر من مجلة "الهلال" مقالة عنوانها "طه حسين شاعرا"، وقد توسع في المقالة ليخرجها عام 1976 في كتاب صغير من سلسلة "المكتبة الثقافية" التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان "طه حسين في الضحى من شبابه"، والمقالة ثم الكتاب يحتويان على الكثير من أشعار طه حسين، وفي مجلة الهلال أيضا (عدد فبراير 1976) كتب الدكتور يوسف نوفل مقالة بعنوان "طه حسين الشاعر" استشهد فيها بعدة نماذج من شعر الدكتور العميد، وفي عام 1978 أصدر الدكتور السيد تقي الدين الجزء الأول من كتابه "طه حسين .. آثاره وأفكاره" وقد استشهد فيه تحت عنوان (ديوان طه حسين) ببضع مقطوعات وقصائد للعميد، وقد نشر الشاعر فتحي سعيد في عدد أكتوبر 1980 من مجلة "الشعر" الفصلية ملفا عن شعر الدكتور طه حسين ضمنه مجموعة من القصائد والمقطوعات الشعرية، وأعاد نشر القليل منها في مقالته "شاعرية العميد" التي تضمنها كتابه "عن الشعر والشعراء" ط هيئة قصور الثقافة 1989، كما استشهد الدكتور محمد صادق الكاشف بأمثلة كثيرة من شعر طه حسين في كتابه "طه حسين بصيرا" الصادر عن مكتبة الخانجي بالقاهرة عام 1987.
وليس من المبالغة أو من قبيل المبالغة القول بأن الدكتور طه حسين بدأ حياته الفكرية والأدبية بالشعر، فقد جاء بالجزء الأول من "الأيام" الذي كتبه كسيرة ذاتية أنه كان ينفق الكثير من وقته في نظم القصائد الباكية يرثي بها أخاه الطالب بمدرسة الطب الذي مات في وباء الكوليرا (4) حين اجتاح البلاد عام 1902 ، يقول بالنص: "من ذلك اليوم عرف الصبي أرق الليل فكم أنفق سواد الليل يفكر في أخيه ... وينظم شعرا على نحو هذا الشعر الذي كان يقرؤه في كتب القصص يذكر فيه حزنه وألمه لفراق أخيه" (5)، وهذا الجانب من حياة الدكتور طه حسين ربما يكون مجهولا أو بتعبير أدق شبه مجهول بسبب أن ما كتبه من شعر في بواكير شبابه لم يجمع ولم يصدر في كتاب، لم يحاول هو ولم يحاول أحد غيره ذلك إلا بعد انصرافه عن كتابة الشعر بعدة عقود من الزمن.
ومن المؤكد أن الأشعار التي كتبها طه حسين ولم تنشر مثل تلك التي نظمها في رثاء أخيه أو تلك التي أنشأها استجابة لتكليف أستاذه الشيخ حسين المرصفي كموضوع تعبير وروى قصتها الأستاذ أحمد حسن الزيات في كلمته بحفل تكريم الدكتور طه حسين (6) الذي أقيم بمناسبة حصوله على الدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1914 قد ضاعت واندثرت مع الزمن أو هكذا نظن حتى الآن، وقد ساهم في أن يكون هذا الجزء من حياة طه حسين مجهولا أو شبه مجهول أنه أدار ظهره مبكرا لهذه الموهبة منشغلا أو قل منغمسا في البحث والدراسة والنقد والمحاضرة والنشاط الصحفي والسياسي على عكس بعض أقرانه وفي مقدمتهم الكاتب الكبير عباس محمود العقاد الذي ظل يكتب الشعر حتى سنوات قليلة قبل وفاته، ولذلك كان لا بد لمعين الموهبة في نفس طه حسين أن يغيض وينضب رغم أنه دلف إلى كل هذه العوالم الفكرية والأدبية ومجالات النشاط السياسي والصحفي التي صال فيها وجال وضرب في كل منها بسهم وافر من باب الشعر، وقد برر الدكتور طه حسين انصرافه عن كتابة الشعر بأن ما كتبه كان في حقيقة الأمر "سخفا كثيرا" كما سبق أن ذكرنا، وفي الواقع فإن بعض النقاد يشاركون الدكتور العميد رأيه السلبي فيما كتبه من شعر ومنهم الأستاذ فؤاد دوارة الذي يرى في كتابه "أيام طه حسين" (7) أن محاولات طه حسين الشعرية بالرغم من أنها "لم تكن محاولات هاو ينفس عن مشاعره الخاصة والعامة فحسب وإنما تمثل جهدا كبيرا بذل فيه كل طاقته ليتسنم أرفع مكانة بين شعراء العصر وإلا لما قرن نفسه بحافظ وشوقي في إحدى قصائده ولما قبل أن يقرنه أستاذه جاويش بحافظ في مناسبة عام" فإن تلك المحاولات "شعر تقليدي قليل القيمة .. تغلب فيه الصنعة والافتعال على الأصالة والابتكار .. ولا ينم عن شاعرية مطبوعة أو يبشر بميلاد شاعر كبير" ويعلل دوارة اهتمام بعض الكتاب بهذا الشعر على قلة قيمته الفنية بقوله: "ولو كان قائله غير طه حسين لما استحق أي اهتمام فكل قيمته مستمدة مما حققه قائله بعد ذلك في ميادين أخرى غير قول الشعر"، وفي كتابه "مع الشعر والشعراء" ( تناول الشاعر فتحي سعيد محاولات طه حسين الشعرية الباكرة بالتقييم فانتهى إلى قوله إن "طه حسين ليس بشاعر .. ولكنه في أعماقه شاعر" ويفسر التناقض الظاهري في جملته بأنه "ما من أديب أو فنان إلا بدأ شاعرا أو على الأقل عالج الشعر وجال في دروبه في التكوينات الأولى حتى يستقر على موهبته الميسرة له في فن من الفنون، وأضاف قائلا بأن طه حسين "خلع جلباب الشعر ولكنه لم يلق بريشته ولم يحطم قيثارته وإنما رسم بها وعزف على أوتارها ذلك العزف الشجي العميق الذي ميز أسلوبه وصبغه بتلك الشاعرية المرهفة الموسيقى العميقة النفاذ إلى القلوب والأسماع".
ولعل تقييم طه حسين السلبي المبكر لموهبته الشعرية ولشعره هو ما جعله لا يهتم بمواصلة كتابته ولا يهتم بجمع ما كتبه ونشره من قبل، ولكن أليس من اللافت للانتباه أن طه حسين لم يعترض أو ينكر عمل أولئك الذين فعلوا ذلك في حياته من الكتاب الذين ذكرناهم؟.
على أية حال فإن لم يكن لما كتبه طه حسين ونشره من شعر في مقتبل شبابه قيمة فنية كبيرة فهو على الأقل - بحسب تعبير الأستاذ فؤاد دوارة - "قد يساعد في إلقاء المزيد من الضوء على جوانب شخصيته وعلى الكشف عن بعض اهتماماته القديمة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* في الذكرى الثامنة والأربعين لرحيل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين
دراسة "طه حسين شاعرا" سبق نشرها مختصرة بعدد يناير 2019 من مجلة "العربي" الكويتية وسيتضمنها كتاب قيد الطبع "التحديق في الظلال .. حفريات في جوانب أدبية مهملة"،
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com