نبيل مروة – من اغتال جدّي؟

في العادةِ تُكْتَبُ رواية السيرة لتأريخ حياةِ رجل أو امرأة من المهد إلى اللحد. فتروي تفاصيل مسيرة حياته أو حياتها من نقطة البداية إلى نقطة النهاية، مستعرضة الإنجازات والتحوّلات والانعطافات والدروب التي سلكتها الشخصية.

قد يكتب صاحب السيرة سيرته بنفسه ولكن من دون أن يكون قادراً على كتابة مرحلة نهايته وموته. أمّا أن يكتب أحدهم رواية السيرة الذاتية لشخص رحل عن الدنيا، عندها قد تأتي السيرة مُكتَمِلة الدائرة من البداية/ الولادة إلى النهاية المحتومة/ الموت.

“وُلدتُ رجلاً… وأموتُ طفلاً”

وتكتسب النهاية بعداً خاصاً ومؤثراً، كلّما ابتعدت من كونها ميتةً طبيعية، واقتربت من كونها نهاية تراجيدية، فيكون الموتُ فيها عاملاً مفروضاً وقاطعاً على الحياة من استكمال دورتها.

الطبيعية في الجسد. أمّا الموتُ، اغتيالاً لجسد صاحب السيرة، فيفتح أبواباً على سِيَر متنوعة لأشخاص كثر وعلى احتمالات المشاعر الصعبة والأسئلة المُحيِّرة.

فالاغتيال السياسي في التاريخ البشري عبْرَ قتل الجسد غدراً، سعى دائماً إلى أمرين: الأول تدمير الفرد لإلغاء وجوده والثاني إحداث الصدمة لزرع الخوف في الجماعة.

يروي أحمد مروة سيرة حياة والده حسين مروة في كتاب بعنوان “وُلدت رجلاً… وأموت طفلاً”، وكتب على غلافه الأخير، نص رسالة كتبها حسين مروه بخط يده مُوَجَّهة إلى الأديب الراحل أحمد عُلبي، وفيها يُبدي أُمْنيَته العزيزة بأن يكتب سيرة حياته بنفْسِهِ قبل أن يموت.

وقبل أن يستطيع تحقيق هذه الأمنية والكثير من الرغبات المتعلقة بإنتاج الفكر، يُقتل حُسين مروة اغتيالاً في غرفة نومه برصاصة واحدة يُطلقها على رأسه شخص واحد من مسدس كاتم للصوت.

أتى هذا الاغتيال من ضمن سلسلة من اغتيالات متتالية استهدفت شخصيات سياسية وثقافية من قيادات الحزب الشيوعي اللبناني في تلك الحقبة السوداء من تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية، وفي ظل سياق سياسي وأمني محلي وإقليمي واضح المعالم والمعطيات والأهداف.

وبلا أدنى شك فقد حققت هذه السلسة من الاغتيالات وقتذاك أهدافها. إذْ ألغت دور الشيوعيين الأساس في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي كمقدمة لإلغائه كحالة سياسية وطنية عابرة للطوائف. وبثت في صفوفه حالة من الرعب تحوّلت مع الوقت إلى خوف مقيم.

يروي الابنُ سيرةَ والده بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على حادثة الاغتيال. فيسلط الضوء بغزارة في كتابهِ على أدق تفاصيل حياته الإنسانية الدافئة ويرممم بحب وعناية مسارات الذاكرة لصيرورة حسين مُروّة، على مدى 835 صفحة، يستمدُّ مصادرها من ذاكرته هو (الابن)، كما من خلال كتابات ومقالات صحافية ومقابلات للوالد اجراها مع مُثقْفين آخرين، إضافة إلى مذكّراته المدوّنة بخط يده مع رسائله الشخصية إلى زوجته وأصدقائه.

ولكن عندما تصل رواية السيرة إلى مرحلة النهاية أي إلى تاريخ حادثة الاغتيال، يُصبح الإيجاز الشديد وعدم البوح، السمتين الطاغيتين على صفحات ثلاث فقط لا غير، تسرد الخبر بصيغة حيادية باردة غير مُهتمّة بإعادة بناء مسرح الجريمة من زوايا الصراعات المتعددة وقتذاك وفي مستوياته السياسية والأمنية والعقائدية.

كتاب السيرة لحسين مروة “كما أرادها أن تُكتب” بقلم ابنِهِ أحمد مروة، يَكْتُبُ بالحِبْرِ السِريّ صفحاتٍ غير معلنة لسيرةِ الموتِ المُعلن لحزبٍ لبناني

توجّهت إلى أحمد مروة وسألته عن سبب هذا الإحجام في الخوض بموضوع حادثة الاغتيال والاكتفاء بذكر التصريحات العمومية لقيادة الحزب الشيوعي اللبناني التي تارة كانت تتهم الظلاميين والتكفريين بتنفيذ الاغتيالات، وطوراً تتهم إسرائيل وعملاءها في الداخل.

وفي كِلتا الحالين لم تكن هذه القيادة لتهتم بجمع وحفظ وأرشفة أية أدلة تتعلق بسلسلة الاغتيالات بحق أبرز قادتها ومفكريها ولا حتى برفع دعوى قضائية واحدة ضد مجهول.

وقتها شلَّ الخوف من صدمة الاغتيالات، جسد الحزب الشيوعي اللبناني في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، وأقعده كسيحاً مُقيَّداً على كرسيّ الرعب. إلى حين أمسى هذا الخوف هو الخاطف، أو للدقّة خطفه صاحب الخوف الذي أخرج الحزب من جنوب لبنان، فألغى دوره ليُصار بعد فترة وجيزة إلى حذْفِه كُلّياً من المعادلة السياسية اللبنانية التي تأسّست منذ اتفاق الطائف. ومع مرور الوقت خرجت الروح من هذا الجسد الذي ظلّ طويلاً في وضعية المخطوف بعد أن أصيب بمتلازمة “ستوكهولم” فتماهى مع خاطفه وأمسى يبرّر له سياساته ويدافع عن أعماله في الخفاء والعلن.

أجابني أحمد مروة (والدي) على سؤالي بعد برهة من التفكُّر:

“يا ابني شو بدك إنو يِرْجعوا يئذونا؟… بعدين انا مش كتير مهتم اعرف القاتل وخبّر عنو، فرداً كان أم حزباً، ومن أجل شو؟ الانتقام أو العقاب! الحقيقة قد تُكتشف عبر هذا الكتاب…!

هذا كان واجب الحزب الشيوعي بهيداك الزمن، وما قدر عمل أي شي…!

بكل الأحوال أنا فقط مُهتم بنشر وإحياء تراث والدي حسين مروة وفكره، وكل ما في الأمر أنني أحببتُ أن أحقق له أمنية كان يرغب بتحقيقها هو بنفسه، ألا وهي كتابة سيرة حياته”.

يكتب الابن سيرة حياة والده، فيرويها كما لو أن الوالد هو من كتبها بذاتهِ من دون أن يشهد على موته إغتيالاً. أو كما كأن الابن يرفض الاعتراف بمصرع والده التراجيدي. يقرأ الحفيد في كتاب سيرة جدِّهِ، فيبدو له أن عدم اكتمال السيرة يفتح الباب على سِيـَر أخرى كثيرة ومن ضمنها سيرة الخوف المُقيم في النفوس؛ نفوس رفاق حسَين مروة وأصدقائه وأنسبائه.

كتاب السيرة لحسين مروة “كما أرادها أن تُكتب” بقلم ابنِهِ أحمد مروة، يَكْتُبُ بالحِبْرِ السِريّ صفحاتٍ غير معلنة لسيرةِ الموتِ المُعلن لحزبٍ لبنانيّ، لطالما عرفه وأحبه في الماضي البعيد الجد والابن والحفيد.




نبيل مروة –
موسيقي لبناني
13122018
أعلى