د. سيد شعبان - هي والطيب صالح!

جدتي تسكن عند شجرة الكافور العملاقة، تطلب أشياء غريبة: حلوى المولد، حبات المشمش، أسماكا كبيرة، بعض العلك، لا أهمل لها طلبا؛ هذا من البر بها، تعرف أسرارا تختزنها لسبع عجاف، توصي بكلمات هذا بعضها:
إنهم يسرعون إلى الهاوية؛ حاول أن تقف أمامهم،امنعهم، أي قلب قاس داخلك، بل أي نفس هذه التي تملكتك فصرت الشيطان في أسوء حالاته، هؤلاء يوما كانوا أصدقاءك!
أعلم أنك تكره ذاتك، تتمنى لهذا العالم أن تضربه قنبلة ذكية يطلقها "كيم إيل يونج" ؛ أو يلهو "ترامب" بالزر وهو منشغل بأموال النفط!
علي أن أدع كل هذه الترهات التي لا تطعم الصغار، يأتي العيد ولا أجد لهم ثمن ثوب جديد.
كانت هذه كلمات جدتي في منامي؛ دائما ما تزورني حين أكون مصابا بالهموم؛ لست سوداويا إلى هذه الدرجة، لدي مشاعر صادقة نحو الآخرين، تؤلمني بل وتدمي قلبي قطة لا تجد كسرة خبز.
من أين أتت جدتي بكل هذه المعارف، من الذي أخبرها بالفتى " كيم" لقد ماتت منذ ربع قرن، لم تكن تعرف الكتابة حتى تطالع صحيفة الأخبار اليومية، امتلكت مذياعا بائسا كانت تضربه كل آونة لينطق، موجته بطيئة تأتي من عالم ما وراء البحار، أظنها كانت تحب "أبلة فضيلة" وبرنامج آمال العمدة: "على الناصية".
تستمع إلى صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، يبدو أن جدتي كانت تخفي سرا ما؛ مرة دخلت عليها وهي تحتسي كوبا من الشاي؛ تفرك بيديها حبوب الحمص الشهية، تضع رجلا على أخرى؛ تخفي تحت لحافها مذياعا آخر؛ تستمع إلى صوت بعيد؛ لكنه واضح، مع دقات العاشرة مساء؛ هنا لندن؛ أظنه كان بصوت الرائع " ماجد سرحان"!
ها لقد استعدت سر ما أخبرتني به الليلة الفائتة، يقال : إن الموتى يتزاورون، يطلع الأحدث وصولا إلى عالمهم من يقابله في الممرات الهلامية بكل ما ينقصه، يمده بحكايات جديدة، إنهم يحنون إلى عالمنا لكنهم لا يتمنون العودة إليه، هل تزور جدتي كل القادمات إليها؟
يبدو أنهن يتبادلن الحديث عن الأخريات اللواتي طلقن أو يتغامزن بسيرة من هجرت زوجها ومن ثم ركبت قطار الضواحي وابتلعتها مدينة بلا قلب.
أظنها الآن تمتلك خبرة لا بأس بها باللغات الأخرى؛ طالما كانت تستمع إلى إذاعة لندن، تعرف حكاية الترامب هذا، بل تعجبها إيفانكا تلك الأنثى التى سلبت أصحاب القصور سراويلهم، جعل الله كلامي خفيفا على ساكني العلب الديبلوماسية؛ حيث لا يعلم الذباب الأزرق مكان من يخفونه؛ لكن كاميرات الترامب تعرف أرقام سترات النوم الداخلية.
أنتم لا تعلمون أنني يوما كنت مجنونا بالسياسة؛ الآن أحمد الله أن نجاني من دخول تلك الأمكنة؛ لا يأمن الواحد منا على جسده، رحمك الله يا جدتي؛ تركت في مشاغبة لما تنتهي بعد!
أخمن أن جدتي تطالع ما أكتب من روايات، هل أخبركم أحد أن الموتى لا يقرأون، إنهم يمتلكون معارف كثيرة؛ يختزنون الحكمة، سواء أكانوا يحملون الشهادات العليا أم مضوا إلى العالم الآخر وهم يشاهدون وجوه الأحياء منا، أليس في عدم عودتهم حكمة لا نعلمها؟
جدتي لم تكن تبوح بأسرارها إلا إلي، من دون الأطفال أسرت بخبر لما يأت بعد، قالت لي: أزورك كل آونة؛ ليلة واحدة في الشهر القمري حين يختفي الهلال ستجدني عند شجرة الكافور العملاقة، تدثر بلحافي واحرص ألا يعلم بهذا أحد، حتى كانت هذه الليلة التى حكيت لكم ما حدث فيها.
بعضكم يقول: إنني مجنون يهرف بأشياء غريبة، ولم ﻻ أكون مجنونا، وأنا أرى العالم كما ترون، إنها حكاية تحتاج ألف "سيجموند فرويد" لتأويل هذه الأحلام.
والآخرون يقولون: مخرف يكلم نفسه، أو يلتمس شهرة في دهاليز الموتى مسكون بالعالم الآخر.
لكن حقيقتي أعلمها جيدا؛ كل هذا فعله بي الطيب صالح؛ إنه الوحيد الذي هزني، رائحة البخور الإفريقي في حجراته التي كانت مرتعا لنزوات بطله" مصطفى سعيد" موسم هجرة إلى الشقروات في حانات لندن، يا لهذا الفحل الذي قهر" آن همند" ابنة الأسياد الذين شووا ظهر آبائه بالسياط.
ماذا أقص عليكم صبيحة هذا اليوم أو حتى في مسائه حين تخلدون إلى الراحة؟
ثمة سر آخر أخبرتني به جدتي؛ إياك وأن تقارب بكلماتك عقارب الساعة، أنها ممسوسة ترسل إشارات إلى ساكن قلعة الجبل الأحمر الذي تحوطه الغيلان؛ أخشى ألا تأتي إلي في برزخي، هناك في المعامل "أحماض السانيد" يا ربي أي شيطان أخبرك بهذا؟
لن أذهب مرة ثانية إلى شجرة الكافور العملاقة، لكنه سبقني إليها أتى بآلة sow طبعا هذه كلمة ممنوع ترجمتها في لغة العرب؛ تعرفون أنني أجيد اللغة؛ لكنه محذور علي استخدامها؛ صدر قرار ملكي بمحوها من مفردات المعجم المختزن في أجهزة الحاسوب، جاءوا بممحاة وتركوا مكانها فارغا، جدتي - سامحها الله- طبعت مفردة أخرى مكونة من مادة : " ج،م،ل".
ربما اتسع المعجم لدلالات أخر، تتضخم صفحاته بغريب الأفعال مثل : نشر أو ساح أو ربما سلخ، بالتأكيد جدتي تعرب عن حزنها من خلال امتناعها عن زيارتي، إنها الآن ربما كانت ترتدي ثيابا بيضاء، رحمة الله عليها؛ غادرت عالمنا ولم تخبرني ببقية أحلامها المؤجلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى