أيمن دراوشة - الترجمة والثورة التكنولوجية

تُعبِّر الترجمة عن حالة التواصل بين الشعوب، وعبر تاريخيها كانت الترجمة في العالم العربي تعكس أوضاع الأمة من حيث النهوض الحضاري أو الخمول والكسل.

فحركة الترجمة أصبحت في وقتنا الحالي ظاهرة لغوية عالمية، ويرجع ذلك إلى التقارب الثقافي والعلمي الحاصل بفعل التقدم الهائل في تقنيات المواصلات والاتصالات.

فما هي الترجمة؟

يعرفها محمود الحبيب، بأنها: عملية نقل "من لغة أجنبية إلى ما يقابل النص أو المصطلح العلمي باللغة العربية، وهي عمل ميكانيكي يتوقف حسنه وقوته على مدى استيعاب المترجمين من اللغة المترجمة عنها إلى اللغة المترجمة إليها ثم مدى إجادته لفن الترجمة".

والترجمة لا تكون بنقل نص من لغة إلى أخرى وحسب، فالترجمة هي امتلاك الإرادة والتصميم في محاولة الوصول "بالنص الأصلي إلى نصّ جديد شبيه مطابق للنصّ الأصلي. إنها محاولة مضطرية وإشكالية، لأن مواقف وقيم المترجمين تتسرب إلى النصّ الأصلي، المترجم إلى نصّ جديد شبيه مطابق"

فالترجمة عبارة عن حوار حضاري يشمل جميع المجالات المعرفية، ويقول الدكتور عماد أبو الرب، أنها: "أداة اكتساب وأداة تعبير عن عزم الإنسان أو المجتمع على استيعاب أكبر قدر يعنيه باختياره وإرادته، من حصاد المعارف الإنسانية التي هي سلاح الإنسان في التطور والمنافسة والارتقاء" والتأثر والتأثير من أجل تعزيز الوجود الحضاري. فهي ليست تبعية ثقافية، بل هي عنصر من عناصر المثاقفة التي تؤدي إلى رفد الثقافة الوطنية والارتقاء بها.

إن الترجمة ستبقى موجودة ما دام هناك لغات عديدة في العالم، وما اقتنع الكثير من البشر أن هناك ما يمكن أن يتعلموه ويستفيدوا منه من كتابات الآخرين. فما ازدهرت العلوم والفنون في الإمبراطوريات القديمة إلا بالحوار الحضاري، كما حصل مع الحضارة العربية الإسلامية /الحضارة الإغريقية.

فالترجمة فعل ثقافي ضروري، سواء من أجل الإثراء الثقافي والأدبي أو بسبب المتعة الثقافية المتولدة عنها. فدافعها ثقافي ومعرفي وجمالي.

فهي تفتح الآفاق الواعدة نحو الغد، وهي طريقه إلى الانتساب إلى الحضارة الكونية المليئة بالتنوع، وبها نفهم الآخر ونتواصل معه، والتعرف على إنتاجاته الثقافية والحضارية.

فمن فوائدها الجلية أنها أزالت التصورات الخاطئة التي يحملها البعض عن الآخر سواء بوعي أو غير وعي، وأذابت حالة التغريب بين المجتمعات والثقافات.

فالفكر الإنساني يجب أن يكون كالهواء، مشاعا دون حواجز وعوائق سياسية أو جغرافية وغيرها. والترجمة تتيح فرصة تحطيم العوائق والاختلافات وكسر حاجز اللغة ليصبح ما ينتجه العقل الإنساني ملكا لكل البشر يستفدوا منه على اختلاف عقائدهم ولغاتهم...

أما لماذا نترجم ثقافة الآخرين؟ تقول الدكتورة غونفور ميدل : إن ذلك يعود إلى:

- الاستجابة النفعية من أجل فهم الآخر وطريقة تفكيره ومعرفة قيمه، وهذا يعود إلى الفضول والتعاطف أي الرغبة في الاقتراب أو الخوف وتأكيد مواقف سلبية ضد الآخر.

فالترجمة تعزز الفهم، إلا أنها لا تكون معزولة عن الحوارات الثقافية التي تتضمن علاقات القوة والأيديولوجيا، وهذا ما ناقشة المفكر إدوارد سعيد في مؤلفاته وخاصة "الاستشراق" و "الثقافة والإمبرالية".

كما أن الترجمة تعتبر أداة مهما لتفاعل المجتمعات مع كل جديد في مختلف العلوم والفنون، وعامل من عوامل النهوض الحضاري، وازدادت الحاجة إليها مع التقدم العلمي والتقني الكبير الذي جعل العالم قرية صغيرة. فهي تعبر عن المجتمع وتحولاته الإنسانية على مختلف الأصعدة. وتشير إلى درجة الوعي بالذات في إطار الصراع الحضاري على الوجود، والترجمة بشكل عام تدل "على موقف وهدف اجتماعي إستراتيجي، ودالة على صدق العزم ومصداقية الجهد قياسا إلى عناصر التحدي". فحسب شهادة التاريخ فأن الاهتمام بالترجمة وازدهارها رافقه النهوض الاجتماعي وتقدم المجتمعات.

تحتاج عملية الترجمة إلى المهارة وقوة الملاحظة، لذا على المترجم أن يكون متقنا للغته الأم وللغة الهدف، ولا بد أن يتعامل بصدق وأمانة مع النص المترجم.

فالترجمة غير الجيدة تعطي نصا سيئا، وبالتالي لن تثير الاهتمام، ويمكن أن تعطي انطباعًا سلبيًا عن ثقافة الآخر.

ولا يوجد قواعد ثابتة ونهائية في الترجمة، ولكن بالتأكيد أن الوعي بإستراتيجيات التعامل مع تقليل الفجوة في النقل، ونقص المساواة الثقافية سيكون إيجابيًا، فاستيعاب الإستراتيجيات والتمكن منها يمكن أن يصل إلى دقة في الترجمة، مع الاهتمام بالمعنى الدلالي والتعبيري الموجود في النص الأصلي، فإن النص يمكن اعتباره قد حقق الأفضل.

هناك عوائق وصعوبات تعترض عملية الترجمة، صعوبات تواجه المترجم نفسه من حيث امتلاكه الكفاءة اللغوية والمهارات الخاصة بالترجمة، وعوائق تتعلق باللغة المترجم إليها ومدى قدرتها على استيعاب النص المترجم، وسلاستها في التعامل معه.

ولا ريب أن ترجمة النص الأدبي بشكل خاص، لها صعوباتها ومشاكلها التي تميزها عن الترجمات الأخرى. فالنص الأدبي يمتاز بخصائص تختلف عن النصوص الأخرى.

فالعقبات نابعة بفهم دلالات النص، وقد تفطن الأوائل الذين اهتموا بالترجمة مثل الجاحظ والجرجاني وحتى النظرية التفكيكية أن الترجمة الدقيقة والأمينة تكاد تكون مستحيلة.

فالأبحاث والدراسات المتعلقة باللغة، دلت على أنَّ المفردات تخسر جزءًا من قوتها عند ترجمتها إلى لغة ثانية. فالكل لغة لون وصوت يميزها. ومهما بلغ المترجم من مهارة إتقان اللغة الأخرى، فأن المعنى الكامل والوافي لا تحمله غير اللغة الأم.

ويقول الناقد وليد أبو بكر: هناك" فصل جذري بين الكلمة والشيء في اللغة/ المنفى، لا يفقد العالم وضوحه وحسب، بل ألوانه وخطوطه وفروقه الدقيقة أيضًا، أي أن اللغة الأخرى تفقده وجوده الحقيقيّ، لأن اللغة مرتبطة بالثقافة التي يصعب أن يعبّر عنها بدقة من خلال لغة أخرى".

ومن عوائق الترجمة الحرفية الدقيقة، وجود بعض المفردات في النص التي لا يمكن قبولها في ثقافات معينة، كبعض التعابير الجنسية أو الدينية.

لا شك أن ترجمة الأعمال الأدبية هي أصعب أنواع الترجمة، فالنص الأدبي أبدعه شخص مميز، واصبغ عليه من وجدانه، وزينه بالصور والاستعارات لتحقيق وظيفته الجمالية.

وقد عدّها بعض المترجمين والنقاد أصعب من الكتابة، فالكاتب يكتب بلغته ويشكلها حسب أفكاره، وبالتالي يعبر بها بطريقة سلسة، بينما المترجم يقوم بالتعبير عن أفكار ومشاعر غيره، لذا عليه أن يلجأ إلى البحث عن مفردات وصيغ تكون متوافقة وقريبة من لغة الهدف بما تحتويه من مجاز وصور جمالية.

إن ترجمة الأعمال الأدبية، تلزم المترجم بمعرفة الثقافة التي نبع منها العمل، ومعرفة عميقة بالمجتمع المترجم عنه، "فالصور التي تتسرّب من خلاله أية لغة، والأفكار، جزء من ثقافة هذه اللغة، تشكّل أساسًا في قدرة الكاتب على التعبير بها، حتى دون أن يعي ذلك".

وفي النهاية ستظل الترجمة وسيلة لا غنى عنها في التبادل والتفاعل الحضاري، ونقل المعارف والعلوم المختلفة، وأداة للتواصل الحضاري والثقافي بين شعوب الأرض، والنافذة التي ينظر من خلالها مجتمع على المجتمعات الأخرى وعلى ثقافتها وانجازاتها الحضارية.

وسوف لا يقف في دربها عوائق جغرافية ولا سياسية، فنحن نعيش ثورة تكنولوجية تقنية تمثل الترجمة أداة أساسية فيها، أما المجتمعات التي تنكمش على ذاتها وتتقوقع على نفسها فأن مصيرها الزوال والموت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى