عرف العالم المدرسة التفكيكية عند ارتباطها بالفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في عام 1960م باعتبارها تمردًا منه على المدرسة البنيوية، غير أن من يدرسونها ينقسمون حولها بين الإعجاب الشديد بأهم ما أنتجه دريدا الذي ترك خلفه أكثر من أربعين كتابا غير ما تركه من مقالات ودراسات ومقولاتٍ وجدلا بدأ في حياته ولم يزل دائرًا حتى بعد رحيله، وهو ما يستوجب تسليط الضوء على هذه المدرسة من حيث التعريف بها، وعلاقتها بغيرها من المدارس سواء الفلسفية أو النقدية، والتعرف على أهم أفكارها، والمبادئ السارية بعدها، وأبرز أعلامها وروادها أو الشخصيات البارزة فيها سواء أولئك الذين اشتهروا في الغرب ومن تابعوها كذلك في الشرق، والمقصود بالشرق كمصطلح اتساعه للمشرق الإسلامي ومغربه معا.
والدافع لهذه المقالة: الكثير من الأسئلة التي توجه لي دوما عن التفكيكية التي يرفعها البعض إلى عنان السماء النقدي والفلسفي، ويحطُ بها البعض أسفل أنواع النقد وأخطره؛ لأنه لا علمية في المنهج التفكيكي في النقد الادبي، وأن شأنها شأن كل نص فلسفي لا تخلو من بعض التناقضات والمآزق. ورأيتُ أنه من الأوفق أن تأتي قراءتي للتفكيكية كمنهج ومدرسة ومبادئ قراءة تعريفية مجاوزة لنقدها أو الدفاع عمّن انتقدها، وأترك للقارئ حرية الاختيار في قبولها كلها، أو جلها، أو بعضها، أو رفضها على الإجمال، أو قبولها إلا قليلا.. والدافع الأكبر لي: أن الأمر يستحق الدراسة، والقراءة، والتعرف على "التفكيكية"؛ لأنها نتاج عقل فكر، ونحن أحوج للتفكير من غيرنا.
التفكيكية مدرسة فلسفية نقدية، وفي شقها النقدي بدأت كحركة متمردة على المدرسة البنيوية التي كانت تعطي للغة هيمنة كبيرة وتمركزا للعقل، غير أنها تمثل أهم مدارس النقد الأدبي في فترة ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة، وكانت مسبوقة قبل تعلقها بجاك دريدا بالشاعر الفرنسي "ستيفان مالارميه"، والفيلسوف والمؤرخ الألماني "مارتن هايدجر"، وقد جمعت حولها عدد من المفكرين في الغرب.
وعلى هذا فالتفكيكية مدرسة وفلسفة ومنهجية تناولت بالتحليل كتابات عديدة فلسفية وأدبية وصحفية، غير أن هناك من يراها على العكس من ذلك؛ فهي تطبيق وممارسة فعلية عملية، ولا يعتبرها جاك دريدا نفسه أنها منهجا، والدليل على ذلك ما تتسم به من صعوبة واختلاف عن المنهجيات الأخرى المعروفة، ولو كانت منهجية لخضعت للتنظير، ولكان لها لغتها الخاصة.
لقد رأى جاك دريدا في التفكيكية أنها حركة بنائية وغير بنائية في ذات الوقت؛ فقد قامت في الأساس لتنقض فكرة الحضور التي أسست لها الحضارة الغربية، ولتبدأ فكرة الاختلاف والتعدد معها، كما قامت على التشتت والتثوير والنقض، لذا فهذه المدرسة ضد السذاجة والبساطة وضد المعتاد والمألوف والقبول بما هو كائن، لأنها قائمة على حتمية النص وتفكيكه، وعلى الرغم من خروج هذه المدرسة من قلب البنيوية إلا أنها انقلبت عليها وكان هذا ميلادها، ويرجع الفضل في وجودها في القرن العشرين للفيلسوف وناقد الأدب فرنسي "جاك دريد" المولود في مدينة الأبيار بالجزائر، الذي أسس مقارنة للنصوص ونقدها في نفس الوقت، والتأسيس للاختلاف والبحث عن المعاني المتناقضة.
لقد نشأت المدرسة أو خرجت من قلب البنيوية لتتمرد عليها، ولهذا فغايتها تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، لكونها ضد الأفكار السائدة على المستوى السياسي، باعتبارها أيديولوجية غير ليبرالية بل راديكالية لا تعرف المهادنة، وتمثل ثورة على كافة المدارس والمناهج التي سبقتها وهضمتها واحتوتها وخبرتها، ولذا فقد ثارت على النزعة الوصفية للمنهج البنيوي فلا تعترف بالقراءة التفسيرية أو القراءة الباطنية الداخلية للنص، غير أن أهم المدارس التي لها وفيها تأثير عليها ومتعمقة في أفكارها فهي المدرسة أو الفلسفة الماركسية ذلك أن جاك دريدا من المحسوبين على التيار الماركسي الفرنسي، وهو متشبع بأفكار كارل ماركس تماما.
والمستقر عند من يتابعون المدرسة التفكيكية من كونها أنها جاءت لتزعزع المفاهيم وتخلخل ثباتها وبديهيتها، على الرغم من أن تفكيكية دريدا كانت تعني الهدم والبناء حتى مع المدارس الفلسفية والنقدية التي سبقته إلا أنه كان يدرسها ولها مكانها في خطابه النقدي والفلسفي، وهو ما يعني أن التفكيكية لم تقطع علاقتها بها وأهمها المدرسة البنيوية ونظرية العلامات اللغوية، وتهتم النظرية الكلاسيكية بنقل العلامات وتوصيلها، في حين اهتمت البنيوية بمعرفة وطريقة عمل تلك العلامات، ولذا فقد اتفقت البنيوية مع التفكيكية في العلاقة بين الدال والمدلول، أي بين الكلمة باعتبارها الدال والمعنى باعتباره المدلول، غير أن التفكيكية تختلف عنها في استراتيجية تفكيك النص باعتباره مركبا من العديد من النصوص في داخله، والمهم الكشف عن كيفية تركيبه.
إن للمدرسة التفكيكية استراتيجية في قراءة النص سواء الأدبي أو الصحفي أو الفلسفي، وقد بنت أفكارها على أنقاض البنيوية السابقة عليها، ومهمتها تفكيك النص كاستراتيجية نقدية وتقويضه لكونها ترتكز على العديد من المبادئ، منها بل أهمها: مبدأ عدم قصدية المؤلف في المعنى، وهو ما يعني فتح أبواب النص للسماح بقراءته برؤى متعددة، أو بتفتييته لنهايات لا تعرف النهايات، لأن الوصول للنهاية هدف يناقض مبادئ التفكيك، مبدأ نسف الحدود القائمة بين النصوص، ومبدأ التشكيك في القيم والثوابت، فالقيم تبعا لمبادئ هذه المدرسة لا تعرف الثبات، ولذا فهي تقبل تفكيك مفهوم التاريخ أيضا لرفضها لهيمنة الصوت الواحد على التاريخ، والدعوة إلى تاريخ جديد يقبل الشعوب المهمشة، ومبدأ تعدد اللغات والمعاني والصور والنص.
لعل من أهم افكار المدرسة التفكيكية ومقولاتها هو تصحيح مفهوم التفكيك الذي تعاملت معه الأدبيات الناقلة عنه بأنه يعني المعنى السلبي باعتباره هدما وتخريبا وتشريحا ونقضا، ولقد تأثرت التفكيكية عند جاك دريدا بالتفكيكية التي تأثر بها في الفلسفة الألمانية عند مارتن هيدجر والتي نقل عنه مفهومه حول التفكيك بشكله وأثره وتصوره الإيجابي الذي يعني إعادة البناء، وإعادة التركيب، وتصويب المفاهيم المستقرة في الأذهان كأنها يقينيات لا تعرف التحول والتغير، كما تعني تقويض المقولات المركزية، وتعرية الفكر الفلسفي الغربي الذي أسس لثوابت بعينها ونشرها وأكدها ومنه تمجيد العقل، وتمتين مفاهيم العقل والوعي والمركز والصوت الواحد.
ومن أهم مبادئ التفكيكية: تكريس الاختلاف الذي يفضي إلى قبول العديد من التفسيرات التي توحي بوجود حقائق متعددة، بينما الاتفاق يفضي إلى الاعتقاد بوجود حقيقة واحدة وتفسير واحد فقط، وهو ما يؤكد بأن المدرسة التفكيكية قطعت أواصر العلاقات بينها وبين المدارس السابقة عليها التي تفترض بل تدعم العقل والتمركز حوله وهيمنة المنطق، بينما تدعو التفكيكية إلى ضرورة غياب الدلالة المتعالية لتحضر بديلا عنها الدلالة الممكنة أو المحتملة، وهذه الاحتمالية التفكيكية تهدف إلى إمكانية تزويد المتلقي بالتنوع من التفسيرات المحتملة التي تجعله يعيش داخل النـص المقروء.
ومن مبادئها أيضا مبدأ تقويض المركزية، حيث تنقلب المدرسة التفكيكية على الفلسفة الظاهراتية لمؤسسها "أدموند هوسرل" تلك الظاهراتية التي تكرس لمفهوم الصوت وغلبة الكلام باعتباره المركزية، بينما تهاجم التفكيكية ممثلة في "جاك دريدا" هذه الفكرة لأنها تؤدي إلى الهيمنة اللغوية أو سيطرة اللوجوس وهذه من أهم أفكار المدرسة التفكيكية التي ثارت على البنيوية من أجل تقويض هذا التمركز بالنسبة لها، وقد نشأت المدرسة التفكيكية من أجل تحطيم كلّ المراكز بل وتفكيك أنظمتها وأهمها فكرة الميتافيزيقية الدينية المتمركزة في وجود إله، ويتبنى دريدا مقولة مارتن هايدجر التي تقوم على نقد الميتافيزيقيا أو "إرادة الإرادة"، وهو ما يعني إزالة المبالغات التي تهيمن على المعنى
كما أن من أشهر مبادئها: نقد الخصوصية وفكرة الهوية والخصوصية وتأصل المنبت أو الجذور، لأن تلك المدرسة ترفض التمركز حول الكلمة، وهيمنة اللوغوس ترفض أيضا مركزية العقل ومركزية الانتماء للأصل أو المنبت أو العرق، مثلما ترفض الاستعلاء بالإيمان أيا كان نوعه، والتفاخر بالأصل، أو ادعاء الخصوصية، أو ما يحمل معانى الهيمنة بذريعة التمركز.
ومن مبادئ التفكيكية تفكيك مفهوم التاريخ أو هيمنة الصوت الواحد؛ لأنه يبث اليقين ويدَّعي امتلاك الحقيقة في تفسير التاريخ وفرض رؤيته على الجميع، وهو ما يعني دعوة هذه المدرسة إلى تاريخ تتعدد فيه الرؤى النابعة من تعدد الأصوات، ودعوة لأن تدخل ضمن حيز التاريخ الجديد كافة الشعوب التي تم إقصاؤها وتهميشها، ورفض الصوت الواحد وهيمنته يعني رفض سيادة العرق الواحد وهيمنته باعتباره صوتا واحدا أيضا، فأهم ما يميز هذه المدرسة هو احترامها المفرط للتعدد.
تتبنى المدرسة التفكيكية إعلان نهاية الميتافيزيقا باعتبارها ليست مقدسا كفكرة أسست لها الحضارة الغربية بما حمتها به وأحاطتها بالتمركز المبني على المنطق واللغة وفلسفة الحضور والتمركز العقلاني، بل ترى مواجهة الميتافيزيقيا بالأسئلة التي عليها أن تجيب عليها أو تعرض عنها حتى يتبين عجزها، ومن ثم تتكشف تناقضاتها الداخلية الذي يكشف عدم مركزية الميتافيزيقيا، وهو ما يعني إمكانية الخروج من دائرتها بل وتوجيه الضربات التي تقصمها من خارجها، عيار الحقيقة والبداهة واليقين، وهو ما يعني تفكيك الأنظمة السائدة للفكر الغربي.
أهم مقولات المدرسة التفكيكية في شقها النقدي لا الفلسفي ما أطلقه جاك دريدا بأنه : (لا يوجد شئ خارج النص)، ومقصده الصحيح منها هو أنه لا توجد مرجعية ثابتة خارج النص يمكن أن يحال عليها المعنى وصولا إلى معناه الحقيقي، بحيث يترك للقارئ وحده فهم النص بتلقيه له ومعناه، وربما تعني أن المدرسة التفكيكية ترفض ما سبقها من تاريخ للأدب الكلاسيكي، حيث ترى التفكيكية أن التعامل مع الدلالات عبر تفاعلاتها وما تظهره من اختلافات هو المعادل الصحيح لعملية الكتابة، وهو ما يؤكد رفض هذه المدرسة في كل سياقاتها لهيمنة الصوت الواحد وانحيازها للتعدد الذي تراه حقا وجوبيا ممنوح لكل أهل عصر أن يعيدوا بنظرهم قراءة الماضي وتفسيره شريطة أن يكون هدفهم من وراء تفسيرهم هذا أن يرسموا طريقا نحو المستقبل، وهو ما يؤكد أن التفكيكية ليست هدما فقط بل دعوة لإعادة البناء دوما.
لقد خرجت من عباءة البنيوية أعلام المدرسة التفكيكية في أواخر القرن الماضي، غير أنهم يمثلون مجموعة من الفلاسفة ونقاد الأدب، باعتبار أن التفكيكية مذهبا فلسفيا ثم انتقلت لتكون منهجا نقديا، ولقد كان لها روادها وأعلامها في الغرب كما كان لها من تبعوها من أهل الشرق أيضا في الوطن العربي وصاروا فيه من المبرزين، ومن الغرب:
مارتن هيدجر، نيتشة، جاك دريدا، رولان بارت، جان لوك نانسي، فيليب لا كو بارث، جوليا كريستينا، هيلين سيكو، برنارد شتايكلير، لويس دي ميراندا، ريشارد روتي، افيتال رونيل، فرانسوا نول، جورج شتاينر، إيفيس سيطون، جاك إيرمان، تيودور أدورنو.
ومن أهم أعلام التفكيكية في الثقافة الأنجلو سكسونية: بول دو مان، هيليس ميلر، هارولد بلوم، وجيوفري هارتمان وهؤلاء من الذين تشكلت منهم مدرسة "ييل". كما أن من فلاسفة المدرسة التفكيكية وأعلامها: جيل دولوز، باربر جونسون، فيليكس غاطري، جاك لاكان.
غير أن دريدا هو المؤسس الحقيقي للمدرسة التفكيكية الذي ولد في عام 1930، في مدينة تدعى "بيار" الجزائرية، وقد أغرم بالمؤلفات والأعمال الأدبية والفلسفية منذ أن كان طالبا في المرحلة الثانوية؛ فقد درس في فترة مبكرة من حياته نصوص برجسون وسارتر ، ثم طرح في منتصف الستينات من القرن الماضي ورقته البحثية: "البنية، العلامة، واللعب، في خطاب العلوم الإنسانية"، فذاع صيته العلمي في الأوساط الفلسفية والنقدية في فرنسا ولفت إليه الأنظار والعقول، ولهذا فقد تكونت أدواته وظهرت في التفكيك والاختلاف من خلال مؤلفاته وأهمها "الصوت والظاهرة"، و"الكتابة والاختلاف"، وقد أتبعها بكتب أخرى منها: "مواقع"، و"هوامش الفلسفة" و"التشتيت". وهو ما يعني أن جاك دريدا وحده حالة فريدة في مصاف الفلاسفة البنائيين الفرنسيين المعاصرين؛ فقد حقق شهرة واسعة في غضون سنوات قليلة نسبيا، وقد أظهر اهتماما واسعا في قراءته لمن سبقوه من الفلاسفة والمفكرين وكتب عنهم مقالات ودراسلت لفتت إليه الانتباه لما أظهره من عمق في قراءته، وقد ترك العديد من الكتب والدراسات والمقالات والمقابلات التي مازالت محط الأنظار بما أثاره من جدل وحراك فلسفي ونقدي في العالم حوله.
أمَّا أعلام المدرسة التفكيكية في الشرق من الفلاسفة والنقاد، فينبغي القول مبدئيا أن المدرسة التفكيكية كان لها أثرها في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، فكان لزاما أن تجد لها من يقرأها فيقبلها أو يرفضها سواء في الغرب أو في الشرق، وأن يكون لها تأثيرها في الشرق حتى كانت لها أعلام عند الشرق وخاصة العرب، ومنهم: الناقد والمفكر الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية دكتور إدوارد سعيد وقد ظهر أثر التفكيكية خاصة في كتابه الشهير: "الاستشراق"، وعبد الكبير الخطيبي في العديد من كتبه، وأهمها: "النقد المزدوج"، وكتاب: "في الكتابة والتجربة، و"الاسم العربي الجريح"، كما كان من رواد التفكيكية في العرب محمد أركون الذي ظهر أثر التفكيكية في كتابه: "الفكر الإسلامي: قراءة علمية".
كما ظهر أيضا عبد السلام بنعبد العالي، ومحمد نور الدين أفاية، وفتحي التريكي، والدكتور علي حرب من لبنان، والناقد السعودي عبدالله الغذامي، والدكتور المصري مصطفى ناصف، والناقد المغربي محمد مفتاح، والدكتور عبد العزيز حمودة وكتابه: "المرايا المحدبة" وغيرهم كثير.
لقد خرجت المدرسة التفكيكية من عباءة البنيوية التتي ما لبثت أن تمردت عليها، وكان من غاياتها تفكيك الخطابات والنظم الفكرية والميتافيزيقا الغربية، ولذا فهي ضد الأفكار السائدة على المستوى السياسي، لأنها تتميز بكونها أيديولوجية غير ليبرالية بل راديكالية لا تعرف المهادنة، لكونها ثورة على كافة المدارس والمناهج التي سبقتها واحتوتها؛ فالتفكيكية مدرسة وفلسفة ومنهجية تناولت بالتحليل النصوص الفلسفية وأدبية وصحفية، كما أنها تطبيق وممارسة فعلية وعملية، أسسها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا الذي ترك أكثر من أربعين كتابا غير أن أهم ما تركه هو هذه المدرسة الفلسفية الفكرية الأدبية النقدية المثيرة للجدل كصاحبها الذي رحل.