د. نجاح إبراهيم - الغيمُ الأسود

في معظمِ ما قرأتُ من رواياتٍ وقصائدَ وقصصٍ، أو ما تابعت على "النت" من كتابات، أجدُ مواجعَ تُفضي إلى بكاء.
خيطٌ أسودَ يمشي في السّرد والشعر ، يلازمهما كالظلِّ، فلا أستطيع كبحَ جماح تأثري!
ما سرُّ ذلك؟
ما سرُّ هذا الأسى المشغول بفنية عالية من الحزن؟
انطلاقاً من نفسي؛ في كلِّ كتاباتي هناك رائحة بكاءٍ خفيٍّ . إذ لا يمكنني الكتابة وأنا فرحة، وقد ذكرتُ هذا في أكثر من لقاء صحفي. لا أعرف لم ينتابني البكاءُ كلما رأيتُ مشهداً مؤثراً، أو سمعتُ كلمة طيبة؟ أراني أبكي بصمت، وصمتٍ حارق.
في رواياتي كمٌّ كبيرٌ من البكاء ، وكذلك في قصصي وقصائدي... وهذا أجده فيما أقرأ للآخرين؟
الآن أسألُ: إلامَ يعودُ ذلك؟
هل للماضي المشبع بالأحزان والخيبات علاقة في ذلك؟
أم للضياع الذي فينا ؟ أم للأحلام التي يصعبُ علينا تحقيقها؟ خاصة الأحلام الكبرى ، التي تتجاوزنا وهي المتجذرة في دواخلنا! فمنذ عشرات السنين لم نحقق حلم الوحدة – هذا على سبيل المثال- وزوال الحدود بين الأقطار العربية ، وانتفاء البغيضة والاستعباد فيما بيننا، بل ازددنا فرقة وتشرذماً ، وامتدَّ هذا واتسع بعد حرب العراق وسوريا وليبيا واليمن ، فكبر الخوفُ والهلعُ والقهرُ، إضافة إلى ما نحملُ من قوافلَ من ماضٍ عتيدٍ ، وهذا أثرَ بشكلٍ أو بآخر على الأدب الذي ننتجه.
هذا الغيم الأسود ..
الذي عشقنا حدَّ الوله!
والذي تدفعه الرّيحُ ليجثم فوق رؤوسنا ..
هذا الماضي الذي يهزّنا بالحنين ، فنقف بكلِّ بهاءِ الحزنِ على الأطلال ، ونستذكر ما كان في الأماكن من أحبابٍ وذكرياتٍ ، فيشتعلُ الألم ، ونبدأ بالبكاء .
والسؤال المرُّ: لماذا لم يستطع الأدب العربي بشكلٍ عام ، والمبدعون بشكلٍ خاص تجاوزَ الماضي الأسود؛ من ضياع الأندلس و" ابكِ كالنساء على مُلك لم تدافع عنه كالرجال" وحتى يومنا هذا؟ ومن " قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ، إلى آخر قصائدنا وسردنا، بل ومسلسلاتنا؟ ولعل مسلسل " سقوط غرناطة " لا يبرح بكائياتنا.
السؤالُ الأكثر مرارة: إن خلا الأدبُ العربي من البكاء والندب هل يكون مؤثراً؟
إنها أزمنة من المآسي والأزمات.
يا لأزمنة الهزائم التي لا تخرج عنا! والانكسارات والخسائر العريضة التي تدورُ في أعماقنا وتتفننُ في تدويرِ نفسها فينا!
يا للأوطان الحزينة التي لا نستطيع إلاَّ أن نكون في متنها!
يا لموروثنا الشعبي المزدحم بالشجن الذي رفدنا به! ورحنا نعطي أدباً بكائياً، مأساوياً!
حتى صرنا أدباء مغايرين، نتميز بصفة الحزن، كما قال الشاعر المصري سمير الفيل: " الكاتب العربي ابن المأساة.." فهل نستطيعُ الخروج من هذه الدائرة؟
هل يمكننا النظرَ إلى المستقبل فقط دون الالتفات إلى ماضٍ واخزٍ في جانب من جوانبه ، والذي لا نرى سواه؟ وأن نقدّمَ صوراً ناصعة ، فتخلو رواياتنا – شخصيات وأمكنة وحوارات- من شيء اسمه البكاء؟
قال لي متحدثي البارحة: يستطيعُ المبدعُ العربي أن يفعلَ ذلك حين يقفز إلى الأمام كثيراً. وأن يتجاوزَ " أمتي هل لك بين الأمم
منبرٌ للسيفِ أو للقلم
أتلقاكِ وطرفي مطرقٌ
خجلاً من أمسك المنصرم
ويكادُ الدمعُ يهمي
ببقايا كبرياء الألم "
قلتُ له: مارأيك بمقولة رسول حمزاتوف :" إذا أطلقتَ نيران مسدسك على الماضي، أطلق المستقبلُ نيرانَ مدافعه عليك."؟
ردَّ: نريدُ أدباً مبشراً وعوالمَ جديدة بعيدة عن اللطم والحزن . نريد ألا نبكي.
فتساءلتُ بيني وبين نفسي: ثمّة أشياء عزيزة، غالية، ضاعت منا تجبرنا على البكاء، تماماً كما ضاعت مجوهرات الممثلة الإيطالية صوفيا لورين ، الأثيرة لديها ، فبكت بكاء مرّاً، فقال لها المخرج فيتوريو دي سيلكا :" لا تبك أبداً على شيءٍ لا يمكنه البكاء عليك."
الآن، بعد كلِّ ما ضاع مني، بعد كلِّ هذا الغيم الجاثم في أعيني، من يقنعني للكفِّ عن البكاء، فتخلو كتاباتي منه؟!.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى