هالة محمود أحمد - رؤية تحليلية في ديوان "غيمة مسك" للشاعر المصري محمد محمد الشاعر

من خلال عملي قرأت للكثير من الشعراء، منهم الجيد والممتاز ومن هم دون المستوى، لكن أحيانا يأتي تحت ناظري كلمات لشاعر فأجد تلك الكلمات بها من الجاذبية ما يفوق جذب المغناطيس للحديد، فأجد نفسي أتمهل في القراءة فيه وأحيانا كثيرة أقرأه أكثر من مرة، فأتيقن بأن هذا القلم مختلف، له سمة غير مكررة، لم أعهدها في أحد من قبل، وذلك ما حدث معي حينما بدأت القراءة في ديوان "غيمة مسك" بداية من العنوان وحتى آخر حرف فيه، إشارات قوية تقول بأننا أمام شاعر يكتب الشعر الحر بأسلوب متفرد ومفردات تخصه وحده، تختلف معهما مدخلاته ومخرجاته، فلنغص معاً في هذا الديوان الذي لن يختلف عليه اثنان من وجهة نظري ..
ولنبدأ بالعنوان:
العنوان من كلمتين، غيمة ومسك، أما الغيمة فلها في قاموس المعاني المتعارف عليه معنيان، الأول أنها قطعة من الغيم "كالسحابة"، والثانية الغيمة هي شدة العطش، فكان لابد من قراءة كل أحرف الديوان حتى أحدد أي المعنيين أقرب لمحتوى الديوان؟ وأي المعنيين قصده الشاعر؟
وبعد قراءة القصائد وجدت أن غيمة قصد بها الشاعر "شدة العطش" وجاءت نكرة والهدف من التنكير هنا كان للتوطئة، أي أن الشاعر نهج نهجا بلاغيا لتعظيم الأسلوبية بحيث يحتوي ديوانه سواء في اختيار العنوان أو كلمات القصائد على عبقرية الجمال اللفظي الموحى بدلالة يقصدها الشاعر، ولم تأتِ محض صدفة، فالغيمة خير إذا نزلت بمكان تحوله للون الأخضر، فيزيد الخير والنماء، أو عطش ناجم عن القحط، والقحط هنا ليس للأرض إنما هناك قحط في المشاعر بكل أنواعها، ومسك بكسر الميم، أيضا لها معنيان، الأول "خاتمة" كأن نقول مسك الختام، والثانية عطر طيب الرائحة يؤخذ من الغزلان. ومن خلال القصائد وجدت أن دلالة العنوان أوصلتني لمعنى أوحد لم يحد عنه الشاعر ألا وهو "كان مسك الختام عطش شديد". وجاءت الكلمات نكرة دلالة على تفرق ذلك العطش على جهات كثيرة مرت بحياته.
قصائد الديوان هي السهل الممتنع، فيها سلاسة الأدب الرصين، رغم وضوح وسهولة الألفاظ إلا أنه اعتمد على البعد البلاغي المحاط بالترميز العميق في معظم القصائد، ترميز له دلالات وجدانية وسيكولوجية واجتماعية ووطنية عميقة جدا.
اتسمت قصائد الديوان بالوجدانية الرقيقة، والترميز العميق، والمجاز العذب، والاسترسال الشعري المغلف بالحس المرهف، والعقلانية، والحكمة التي غلفت كل شيء قصده حتى الرومانسي منه.
تربى شاعرنا وعاش في الريف، فشرب حتى ارتوت كل خلاياه من نقاء الطبيعة، فكان متسع النقاء عنده له مساحة شاسعة، واتسمت قصائد أخرى على مؤثرات صوتية تصلك دون أن تتفوه بكلمة مما تقرأ، فترى السحاب وتسمع صوت الرعد، وتسمع تصفيق حاد لمن يعاتب برقي، وتسمع صفيراً حاداً لمن جار على الحق أو جار على الثوابت، أو جار على الوطن.. تسمع وترى شارات الإنذار لكل المستجدات على عاداتنا وتقاليدنا تناولها الشاعر بعمق شديد، وإيحاءات ودلالات عميقة حكيمة.
بدأ شاعرنا ديوانه بقصيدة بعنوان "امرأتان في حياتي"، قد تعتقد من الوهلة الأولى بأنه كانت هناك امرأتان في حياته لكل منهما طبع مختلف، وحينما تسترسل في القراءة تشعر بأنها امرأة واحدة بها كل المتناقضات، وأعتقد أن الشاعر قصد أن يصل الإحساس للقارئ كما يحلو له، فقال فيها:
ساعة تقرب مني
تكون اصطفتني
فتلقي عليَّ الدرر
وساعة تغضب علىَّ
احترقت بنار
يفوق لظاها سقر
ترانيم عشق فلا تنتهي
ووحدي اختصصت بهذا الخبر
فقد علّمتني رقّي المشاعر
قد درّبتني اصطياد الكلام
وكيف أصوغ قلوب البشر
برع شاعرنا الراقي محمد الشاعر في وصف العشق، في قصيدة روض العشق، وأصعب أنواع العشق هو العشق المضطر صاحبه أن يخفيه فيكون عذاب الوجد ضعفين، فقال:
مخبأة أحاسيسي
إذا بالحلم تأتيني
فيرقص قلبي منتشياً
بنبضك في
شراييني
فتنطق فيك قافيتي
بروض العشق
ترويني
يصاغ البيت لا أدري
بقلبك فيه يأويني
أما القصيدة التي كان على اسمها الديوان "تحت الظلال" التي وصف فيها الشاعر محبوبته بأنها ستظل دائما وأبدا "غيمة مسك" نعم فهي التي من بداية حبها وحتى النهاية جعلته في حالة عطش تحت مقصلة الانتظار.. فقال:
تظلين
غيمة مسك وعنبر
وحالة حب لا تتكرر
برغم امتهاني
ورغم اغترابي
ورغم وجودي
على مقصل الانتظار
المقرر..
تنوع الشاعر في ديوانه بين الرومانسي، والاجتماعي، والوطني، والكثير من الموضوعات الهامة التي تهم كل قارئ.. وهذا جعل الديوان خالياً تماما من الملل، فكأن القارئ في بستان ينتقل فيه بين الزهور المختلفة الألوان، المختلفة العطر، فهو وإن كانت القصيدة حزينة ستجده يقرأ وهو مبتسم، والإبداع الذي بين السطور هو الذي رسم على وجه القارئ تلك الابتسامة الدائمة، هي ابتسامة إعجاب بكل حرف في الديوان.. ففي قصيدة "وطن" جعل الشاعر نفسه هو الوطن، وسرد وأبدع في أفعاله بمن يعيش فيه.. ما أروعها قصيدة:
أنا وطن أطحت بكل ناسي
ونسجت من مآسيه المآسي
أبيع الوهم في التلفاز نصرًا
وتحت النار مختبئ خلاصي
فما رمت المعالي غير أني
أقدم للمنايا بالتماسي
حتى رؤيته السياسية للمشهد العالمي عامة والعربي خاصة له تناول مختلف فاختار اسم القصيدة "إيلام الرقص" ووحده الاسم يأخذ في شرحه صفحات فما بالكم بمحتوى القصيدة التي قال فيها:
إيلام الرقص
فوق الجثث العربية؟
أهو بفعل فاعل؟
أم أنه تسديد دين؟
وإلي متى؟
سنظل في أوطاننا
فهل هي حق لنا؟
ملك لنا؟
أم أننا مستأجرون؟
ولحديث النفس عنده روائع، فحين تحدث حديث النفس قال في قصيدة "حطام":
ويأتي الصوم
يا نفسي
المريضة
إذا ما أنت أذنبت
وخالفت الفريضة
فمن سيعيد أيامي
الخوالي
ومن سيرد زلاتي
البغيضة
وهوس النفس
للشيطان جار
وما بيني وبينهما
جدار
وحينما يمر بما نمر به جميعا من ملل من طول انتظار تحقيق الأمل، فيهرب النوم فقال الشاعر في قصيدة "لكي تتعلم كيف تنام":
لا تنتظر الآتي
لا داعي أن تحلم
فالحلم الماضي
أعادك في الذاكرة
تجمد فكرك من أعوام
فتأمل نفسك
كيف عكفت
على الأوهام وحيدا
كنت تشاهد
كيف تغير هذا الزمن
وضاع الحلم
هذا الديوان يحتاج إلى كتابة دراسة كاملة عنه وليس مجرد رؤية تحليلية في محتوى الديوان، اتسم الديوان كما قلت من قبل بالقصائد العميقة المرمزة والحس الشاعري المحتوى على عناصر الإبداع مثل:
1- الأسلوب المسترسل الجميل المصاحب بعمق الأفكار.
2- اختيار الشاعر للألفاظ البديعة التي تتسم بالعمق الدلالي.
3- المفردات السلسة المباشرة لفظيا ومعنويا وترميزيا.
4- عمق العلاقة الإنسانية مع المحيطين والنفس والتاريخ والطبيعة.
5- عمق تجربة الشاعر التي تجلت في كل حروف قصائده.
6- تميز ديوانه بوجود خاصية التدوير في استخدام التفعيلات مع عدم الالتزام بالقافية والتنقل السريع الشيق، كذلك ساد التناسق الغنائي معظم قصائده والانسجام بين كل ألفاظ القصائد.
7- اختياره للأحداث التي يتحدث عنها كان له تأثير على الوحدة العضوية.
8- استخدامه للرموز والإيحاءات أعطى مساحة كبيرة لاستخدام الصور الشعرية والتشبيهات التي أسهمت في التأثر بالفكرة التي يطرحها الشاعر.
الانسجام بين ألفاظ القصيدة، والأحداث والخيالات التي يصوّرها الشاعر. بساطة الألفاظ وسهولتها، والخلط بين الفصحى والعاميّة، ممّا يسهل على المستمع فهم القصيدة، والتوصل لمعانيها. استخدام الرموز والإيحاءات بكثرة في القصيدة، والتي عادةً ما تكون صعبة التحليل. الإكثار من استخدام الصور الشعرية، والتشبيهات، والتي تسهم في التأثر بالفكرة التي يطرحها الشاعر.
أتمنى أن تكون رؤيتي التحليلية بها ما أفادكم، وإن كان هناك تقصير فهو مني.. فالديوان يشتمل على روائع وإبداع حقيقي مما يصعب على الشاعر تناوله في رؤية من عدة صفحات وهو يستحق دراسة كاملة.
تحياتي لشاعر الكلمة الراقية أ. محمد محمد الشاعر، وإلى ديوان آخر إن شاء الله.



هالة محمود
رئيس مجلس إدارة
النوارس للدعاية والطباعة والنشر
عضو اتحاد كتاب مصر
ناقدة وروائية وشاعرة



  • Like
التفاعلات: مصطفى البشير فودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى