[ذكرى عميد الادب العربي طه حسين ، ومحاضرة لي عن ذكرياتي معه، في صالون المنتدى الثقافي المصري، الذي كان طه حسين، احد اهم الداعين الي تأسيسه، وذلك وسط نخبة ممتازة من رجال الفكر والاعلام بحضور السيد السفير الغمراوي، المشرف العام على هذا الصالون الأهم في الوسط الثقافي المصري ، وقد قدمني للسادة الحضور بمفدمة ضافية، واصفا اياى بأني اهم حفيد من احفاد طه حسين، وهو شرف لا ادعيه، وتهمة. لا اردها.] ،
لقد اتاح لي الحظ ذات يوم ان احضر أواخر محاضرات طه حسين في الدراسات العليا بقسم اللغة العربية وآدابها جامعة القاهرة ،والتي كأن بخصصها لفكر ابن خلدون، ونظراته الاجتماعية والعلمية والثقافية. وعندما عجز عن الحضور لظروفه الصحية، كلف أقرب الاساتذه الي قلبه وفكره اليه، وهو استاذنا المعلم العظيم د عبد العزيز الاهواني، القيام بهذه المهمة،
وكانت علاقتي بالاهواني منذ أن درس لنا شعر الموشحات في السنة الأولى علاقة ممتازة، كان في داخله هدوء نفسي عميق، سلس العبارة، ثابت الجأش، ما ان ينتهي من إنهاء محاضرته، حتى اسارع للجلوس معه بمكتبه المتواضع بالقسم. لطرح بعض الأسئلة حول صلة الفصحى بالعامية، والادب الشعبي عموما. كان يتميز بسعة الافق والصدر معا.
ثم قدم لنا في الصف الثالث مقرر ادب مصر الفاطمية، عارصا لبعض النماذج الأدبية :الشعرية والنثرية، محلا بعمق البنية العميقة الدينية والاجتماعية لهذه النماذج.
وفي السنة التمهيدبة للدراسات العليا، قدم لنا ماكان يقدمه استاذه طه حسين حول ابن خلدون وفكره التاريخي والاجتماعي. مقارنا بينه وبين بعض فلاسفة التاريخ والحضارة في الفكر الأوربي الحديث والمعاصر، من أمثال المفكر الإيطالي فيكو"G. b. Vico" صاحب كتاب العلم الجديد"1725،" وبين المؤرخ الانجليزي ارنولد توينبي صاحب كتاب "دراسة في التاريخ،""1921_1961" والمفكر الألماني:اوزوالد شبنجلر "OswaldSpengler" صاحب كتاب افول الغرب."1918" ثم عرض في موازنة بين فكر طه حسين حول ابن خلدون وبعض المفكرين العرب المعاصرين من أمثال ساطع الحصري، والمفكر اللبناني قسطنتين. زريق.
وكان من حسن حظي ان ألتقي في السنة الأولى من دراستي الجامعية باستاذ من أهم ابناء طه حسين، وهو استاذي الاجل د، شكري عياد، الذي قدم لنا مقرر البلاغة العربية في السنة الأولى، ومقرر علم مصطلح الحديث في السنة الثانية،. ثم علم العروض وموسيقى الشعر العربي في السنة التمهيدبة للماجستير، ووافق على الإشراف على خطتي الأولية لرسالة الماجستير، واشفق على من سعة التناول، فحاول ان يخفف من ثقلها قليلا. ولكن بعدما أوشكت على المناقشة سافر لضرورة قاسية معارا الي جامعة الرياض، وحول الإشراف الي استاذي النبيل د عبدالمحسن طه بدر، العائد توا من اعارته لجامعة. بيروت العربية، وكان حتما، حسب لوائح الجامعة ان امكث معه مشرفا سنتين كاملتين، ورب ضارة نافعة، فقد اعدت النظر في كثير من فصول الدراسه، بناء على ما استجد لي من مصادر ومراجع.
تكونت لجنة. المناقشة من استاذي المعلم العظيم د. عبد العزيز الاهواني، واستاذنا الناقد العملاق د. عز الدين إسماعيل. وكان على أن اقوم بتوصيل نسخة من البحث الي كل منهما.
كان د عز الدين إسماعيل عائدا للتو من إعارته من جامعة الرياض، بعد أزمة إدارية مع الطلاب المت به هناك، حكي لي كل تفاصيلها فيما بعد. استقبلني وابني الأوسط بحفاوة بالغة، في منزله بالزمالك المطل على النيل، متذكرا حضوري الدائم لندوات الجمعية الأدبية المصرية. ثم جاءت استاذتي العزيزة حرمه د نبيلة ابراهيم، مرحبا بي وبطفلي الصغير، أحسست اني في بيتي، واستاذته في ان ألقي نظره على مكتبته الضخمة الفخمة، وتركته يتصفح الرسالة.
في اليوم التالي ذهبت لمنزل استاذنا الاهواني، الكائن بالدقي بقرب نادي الصيد، جلست متاملا شقته الفسيحة، لكنني لم أجد مكتبة اوكتبا هنا أو هناك، فبادرته بالسؤال :"أين مكتبتك استاذنا، تبسم ثم نهض،
وازال عنها الستار، فإذا أرى مكتبة هائلة، بأغلب اللغات الأجنبية. سألته سؤالا اخر زاد من ابتسامته /احس ان اسم عائلة الاهواني، ليس مصريا، قال نعم، نحن عائلة تعود جذورها الي منطقة في أرض فلسطين، علقت: اذن من هنا نبع حسك القومي العروبى؟ ، قال نعم هذا صحيح. كان لديه موعدا في فندق شبرد مع بعض كبار مفكري سوريا، البيطار واخر، وعرض على أن أذهب معه للتعرف عليهما. اعتزرت، واكتفيت ان اركب معه في سيارته المرسيدس الصغيرة السوداء، حتى ميدان التحرير. ومن المعروف ان استاذنا قد شغل منصب وزير التعليم في حكومة الوحدة بين مصر وسوريا.و قد طلب مني المرور عليه بعد اسبوعين ليسلم لي موافقته على المشاركة في لجنة المناقشة
وعندما زار جامعة صنعاء المفكر المصري القومي الكبير الدكتور محمد خلف احمد الذي كان عميدا لمعهد الدراسات والبحوث العربية، قدمت له في مكتب د عبد العزيز المقالح، نسخة من الطبعة الأولى من كتابي /شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة بمصر، وقد اهديته الي استاذي الاهواني بالكلمات الآتية "الي ذكرى استاذي المعلم العظيم د عبد العزيز الاهواني، والي مجد كل مثقف شريف...." حدق في بعمق د محمد خلف احمد، وكانت عيناه، رحمه الله، ذات حدة بارزة، وقال المقالح له، للأسف لانعرف عن د. الاهواني الشئ الكثير، اعتدل د. خلف الله وبدأ يتحدث عن الاهواني باعتزاز وفخر كبيرين، قائلا انه الوحيد في قسم اللغة العربية وآدابها جامعة القاهرة، كان يمتلك حسا قوميا رفيعا، حتى أنه عندما طلبت رئاسة الجمهورية بخطاب موقع من جمال عبد الناصر، من جامعة القاهرة، ترشيح استاذ ليتولي منصب وزارة التعليم والتعليم العالي بالقطر الشمالي بسوريا لم تجد له بديلا.
اتصلت باستاذنا الاهواني، بعد المدة المحددة بينا هاتفيا، وسالته هل يمكنني الحضور لاستلام رده، قال نعم. تفضل، استقبلني بحفاوة بالغة، واثني على الرسالة كثيرا، ووجدت اهتمامه مركزا على الباب الأول،الموسوم"تطور الفكر العربي الحديت" الخاص بحركة الإصلاح الديني عند محمد عبده والافغاني
بالمقارنة بحركة الإصلاح الديني عند مارتن لوثر وكالفن في الغرب، واثرهما في تطور الفكر عموما والفكر الأدبي خصوصا."ولقدنشر المرحوم د سمير سرحان، هذا الباب في سلسلة التنوير بمكتبة الأسرة عام 1996.
. كما احتل الباب الخاص بالمنهج التاريخي المقارن، وبزوغ النزعة العقلانية في فكر طه حسين وادبه، إعجابه الشديد، وكانت المفاجأة عندما قال لي :استعد ساضرب لك موعدا مع الدكتور طه، لتقرا عليه بعضا مما كتبته عن منهجه. النقدي. كدت اطير فرحا. وشعرت ان كل أعباء العمر قد انزاحت عن كتفي، و استرجعت ذاكرتي بسرعة البرق، اليوم الذي أنهيت فيه قراءة سيرته الروائية "الايام" وانا في أواخر المرحلة الاعدادية، وكتبت تحت اسم كاتبها، د. طه حسين، اسمي مسبوقا بلقب "الدكتور"
كان استاذنا مشرفا على الهيئة المصرية العامة للمسرح، لكنه أخبرني في هذا اللقاء، انه ، قدم استقالته، لأنه بالنص، لا يريد أن يشعل البخور لاحد، وأنه مشغول الان بدراسة عن الفكر القومي عند ساطع الحصري، ستنشر بمجلة الكاتب، بمناسبة رحيله.
قابلته في الكلية بعد اللقاء الثاني بأقل من أسبوع، وقال غدا سنزور معا الدكتور طه ومعك نسخة من الرسالة. ونلتقي هنا بالقسم، ثم نتحرك سويا.بسيارتي..ما كنت أصدق نفسي. إن اصراره لهذا اللقاء ليتم، ذهبنا الي فيلا "رامتان" بشارع الهرم، وهناك التقينا بالعميد، في جلسته المهيبة، و ابتسامته الرقيقة، قدمني له استاذنا الاهواني، عارصا لجوانب الرسالة في نظره جوالة، مركزا على الباب الأول حول حركة الإصلاح الديني، والباب الخاص بالمنهج التاريخي المقارن عند طه حسين، وطلب مني أن اقدم عرضا مبسطا للعميد عن اهم ماتوصلت اليه في هذا الشأن. فوقفت عند الكلمات الثلاث :المنهج. التاريخي. المقارن. واشرت إشارات سريعة الي منهج الشك الديكارتي عند العميد، والي النزعة التاريخية التي اكتسبها في دراسته للبحث التاريخي في السربون، والي مبدأ المقارنه الذي بدا بكتاب في الشعر الجاهلي وانتهى بمخاضراته في الجامعة الأمريكية. في نهاية الثلاثينيات ، والتي ظهرت عبر كتابه"من حديث الشعر والنثر"
كنت أعلم أن العميد لا يغتفر أدنى خطأ في النحو العربي، فكنت حريصا على ذلك أشد الحرص.. وما ان أنهيت عرضي المبسط، حتى سبقي بكلمات مازالت ترن في اذني، "آلان عرفت لماذا يعتز بك استاذك الدكتور الاهواني ويفتخر، فله كل الحق في ذلك،"
كانت هذه الكلمات أعظم جائزة أدبية نلتها في حياتي، وكنت ضنين البوح بها، كأنها احدي هبات السماء، التي لا يجب الكشف عنها .
ظلت علاقتي باستاذ المعلم العظيم د الاهواني، متواصلة المودة، إلى أن رحل في أوائل الثمانينيات، فبكيت عليه، وانا خارج الوطن بكاء مرا. ولم استطع ان احاضر طلابي الا في الحديث عن حياته واعماله، ومن حسن الحظ كنت في جامعة البصرة بالعراق، حيث اعيد طبع كتابه الفريد العميق"العقم والابتكار في الشعر العربي" وطلبت من طلابي الاعتماد عليه في دراسة الادب الأندلسي..
وكانت مناقشة رسالة الدكتوراه للمرحوم الصديق مصطفي حنورة عن/الأسس النفسية للإبداع الفني للرواية. تحت إشراف العلامة. المؤسس دمصطفى سويف وعضوبة د الاهواني اخر المناسبات التي جمعتني به، وهنا اتذكر واقعة لايمكن أن تنسى، فبعد الانتهاء من المناقشة، قام د سويف بتوصيل استاذنا الي باب الكلية، حيث كانت تقف سيارته أمامه، وكأن بينهما صداقة عميقة، لاحظ اخي د حنورة ان الدكتور الاهواني، سلمني نسخته من رسالته، فغضب وقلق قلقا شديدا، وطلبها مني، على أن يمدني فيما بعد بنسخة أخرى، لكي يستفيد من ملاحظة الدكتور الاهواني ، ووقف د. سويف حائرا ولم يدر ماذا يفعل، حسم استاذي الاهواني الموقف، قال لا، انني اعطيتها له، لانه يدرس وسيناقش قريبا في موضوع مهم حول الرواية، واحببت ان يستفيد من ملاحظاتي المدونة على الهامش. عندها نهر د. سويف حنوره غاضبا :خلاص يامصطفى، و ماتزال هذه النسخة تحتل مكانة متميزة في مكتبتي. .
وظل هذا الموقف عنوان محبة وذكرى مع الصديق العزيز العلامة د مصطفي حنورة.
عندما وضعت خطة دراستي عن شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة بمصر، مع استاذي النبيل المرحوم طه بدر، ومع إشراف شبه مشترك مع استاذتنا الجليلة د سهير القلماوي، كان في ذهني تماما مجمل أعمال طه حسين، و لاسيما كتابه الثقافي/التربوي:مستقبل الثقافة في مصر وروايتيه"الايام" و"اديب" خاصة وقد استغرقت هذه الدراسة مني خمس اعام متواصلة، كان على أن اقوم بفرز الالاف من الأعمال الروائية منذ فجر القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، بما فيهم أعمال نجيب محفوظ الواقعية المبكرة.، ،
تكونت لجنه المناقشة من انجب تلاميذ طه حسين علي الإطلاق، استاذتنا الجليلة د سهير القلماوي وتلميذيها : النجيب عبد المحسن طه بدر، مشرفا، والناقد العملاق استاذنا العزيز د عز الدين إسماعيل عضوا مناقشا من الخارج"جامعة عين شمس" .
واستغرقت المناقشة خمس ساعات كاملة في المدرج الكبير بآداب القاهرة "
وبدأت المناقشة من اول سطر من الرسالة هو تعريف "المثقف" الي اخر كلمة فيها الملخص باللغة الاجنبية، وخاصة فيما يتصل بعنوان الروايات وبعض المصطلحات، التي ركزت عليها دسهير تركيزا شديدا، ولما اشفق على د عبد المحسن، خاطب استاذتنا بلطف بالغ قائلا:" اننا لم نتعود ان نناقش طلابنا في مثل هذه الأمور مناقشة علنية" فانفعلت ورد غاضبة وبحماس وصوت عال جدا،" انا اصنع ذلك معه الان، لأنه أنجز عملا ممتازا سبق به كل الذي كتبوا في هذا المجال بأكثر من عشرين عاما، بما فيهم عمل استاذه عبد المحسن طه بدر"
سادت القاعة عاصفة من التصفيق الحاد، اعقبتها لحظات صمت رهيبة، في انتظار تعقيب استاذي النبيل حقا د عبد المحسن، الذي رفع راسه مبتسما مخاطبا اياى" فلتعلم جيدا يا عبد السلام ان هذا الحكم الذي نطقت به استاذتنا الجليلة الآن، هو حكم اسعدني كثيرا، وحان الان ان تكف عن قلقك الرهيب، وتوترك العنيف، الذي صحبت فيه عملك في الماجستير والدكتوراه."
وما يزال في حوزتي حتى اليوم التسجيل الصوتي لهذه المناقشة، اعتز به اعتزازي بدرجة الدكتوراه ذاتها
وكانت هذه اللحظة من عمري العلمي، هي الجائزة الكبري الثانية، والتي جعلتني ازهد في كل الجوائز من هنا أو هناك.
ولا أملك الان الا ان ادعوا الله العلي القدير بالرحمة والمغفرة لهذا الجيل العظيم من أساتذة مصر، ثمرة ثورة الشعب المصري العظيم في عام 1919.الذي اسس لمبادئ العقل والحرية.، و لن تقوم النهضة لنا اليوم وغدا الا بإصلاح نظم التربية والتعليم، لكتابة فصل جديد من كتاب مستقبل الثقافة في الوطن العربي كله.
عبد السلام الشاذلي.
لقد اتاح لي الحظ ذات يوم ان احضر أواخر محاضرات طه حسين في الدراسات العليا بقسم اللغة العربية وآدابها جامعة القاهرة ،والتي كأن بخصصها لفكر ابن خلدون، ونظراته الاجتماعية والعلمية والثقافية. وعندما عجز عن الحضور لظروفه الصحية، كلف أقرب الاساتذه الي قلبه وفكره اليه، وهو استاذنا المعلم العظيم د عبد العزيز الاهواني، القيام بهذه المهمة،
وكانت علاقتي بالاهواني منذ أن درس لنا شعر الموشحات في السنة الأولى علاقة ممتازة، كان في داخله هدوء نفسي عميق، سلس العبارة، ثابت الجأش، ما ان ينتهي من إنهاء محاضرته، حتى اسارع للجلوس معه بمكتبه المتواضع بالقسم. لطرح بعض الأسئلة حول صلة الفصحى بالعامية، والادب الشعبي عموما. كان يتميز بسعة الافق والصدر معا.
ثم قدم لنا في الصف الثالث مقرر ادب مصر الفاطمية، عارصا لبعض النماذج الأدبية :الشعرية والنثرية، محلا بعمق البنية العميقة الدينية والاجتماعية لهذه النماذج.
وفي السنة التمهيدبة للدراسات العليا، قدم لنا ماكان يقدمه استاذه طه حسين حول ابن خلدون وفكره التاريخي والاجتماعي. مقارنا بينه وبين بعض فلاسفة التاريخ والحضارة في الفكر الأوربي الحديث والمعاصر، من أمثال المفكر الإيطالي فيكو"G. b. Vico" صاحب كتاب العلم الجديد"1725،" وبين المؤرخ الانجليزي ارنولد توينبي صاحب كتاب "دراسة في التاريخ،""1921_1961" والمفكر الألماني:اوزوالد شبنجلر "OswaldSpengler" صاحب كتاب افول الغرب."1918" ثم عرض في موازنة بين فكر طه حسين حول ابن خلدون وبعض المفكرين العرب المعاصرين من أمثال ساطع الحصري، والمفكر اللبناني قسطنتين. زريق.
وكان من حسن حظي ان ألتقي في السنة الأولى من دراستي الجامعية باستاذ من أهم ابناء طه حسين، وهو استاذي الاجل د، شكري عياد، الذي قدم لنا مقرر البلاغة العربية في السنة الأولى، ومقرر علم مصطلح الحديث في السنة الثانية،. ثم علم العروض وموسيقى الشعر العربي في السنة التمهيدبة للماجستير، ووافق على الإشراف على خطتي الأولية لرسالة الماجستير، واشفق على من سعة التناول، فحاول ان يخفف من ثقلها قليلا. ولكن بعدما أوشكت على المناقشة سافر لضرورة قاسية معارا الي جامعة الرياض، وحول الإشراف الي استاذي النبيل د عبدالمحسن طه بدر، العائد توا من اعارته لجامعة. بيروت العربية، وكان حتما، حسب لوائح الجامعة ان امكث معه مشرفا سنتين كاملتين، ورب ضارة نافعة، فقد اعدت النظر في كثير من فصول الدراسه، بناء على ما استجد لي من مصادر ومراجع.
تكونت لجنة. المناقشة من استاذي المعلم العظيم د. عبد العزيز الاهواني، واستاذنا الناقد العملاق د. عز الدين إسماعيل. وكان على أن اقوم بتوصيل نسخة من البحث الي كل منهما.
كان د عز الدين إسماعيل عائدا للتو من إعارته من جامعة الرياض، بعد أزمة إدارية مع الطلاب المت به هناك، حكي لي كل تفاصيلها فيما بعد. استقبلني وابني الأوسط بحفاوة بالغة، في منزله بالزمالك المطل على النيل، متذكرا حضوري الدائم لندوات الجمعية الأدبية المصرية. ثم جاءت استاذتي العزيزة حرمه د نبيلة ابراهيم، مرحبا بي وبطفلي الصغير، أحسست اني في بيتي، واستاذته في ان ألقي نظره على مكتبته الضخمة الفخمة، وتركته يتصفح الرسالة.
في اليوم التالي ذهبت لمنزل استاذنا الاهواني، الكائن بالدقي بقرب نادي الصيد، جلست متاملا شقته الفسيحة، لكنني لم أجد مكتبة اوكتبا هنا أو هناك، فبادرته بالسؤال :"أين مكتبتك استاذنا، تبسم ثم نهض،
وازال عنها الستار، فإذا أرى مكتبة هائلة، بأغلب اللغات الأجنبية. سألته سؤالا اخر زاد من ابتسامته /احس ان اسم عائلة الاهواني، ليس مصريا، قال نعم، نحن عائلة تعود جذورها الي منطقة في أرض فلسطين، علقت: اذن من هنا نبع حسك القومي العروبى؟ ، قال نعم هذا صحيح. كان لديه موعدا في فندق شبرد مع بعض كبار مفكري سوريا، البيطار واخر، وعرض على أن أذهب معه للتعرف عليهما. اعتزرت، واكتفيت ان اركب معه في سيارته المرسيدس الصغيرة السوداء، حتى ميدان التحرير. ومن المعروف ان استاذنا قد شغل منصب وزير التعليم في حكومة الوحدة بين مصر وسوريا.و قد طلب مني المرور عليه بعد اسبوعين ليسلم لي موافقته على المشاركة في لجنة المناقشة
وعندما زار جامعة صنعاء المفكر المصري القومي الكبير الدكتور محمد خلف احمد الذي كان عميدا لمعهد الدراسات والبحوث العربية، قدمت له في مكتب د عبد العزيز المقالح، نسخة من الطبعة الأولى من كتابي /شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة بمصر، وقد اهديته الي استاذي الاهواني بالكلمات الآتية "الي ذكرى استاذي المعلم العظيم د عبد العزيز الاهواني، والي مجد كل مثقف شريف...." حدق في بعمق د محمد خلف احمد، وكانت عيناه، رحمه الله، ذات حدة بارزة، وقال المقالح له، للأسف لانعرف عن د. الاهواني الشئ الكثير، اعتدل د. خلف الله وبدأ يتحدث عن الاهواني باعتزاز وفخر كبيرين، قائلا انه الوحيد في قسم اللغة العربية وآدابها جامعة القاهرة، كان يمتلك حسا قوميا رفيعا، حتى أنه عندما طلبت رئاسة الجمهورية بخطاب موقع من جمال عبد الناصر، من جامعة القاهرة، ترشيح استاذ ليتولي منصب وزارة التعليم والتعليم العالي بالقطر الشمالي بسوريا لم تجد له بديلا.
اتصلت باستاذنا الاهواني، بعد المدة المحددة بينا هاتفيا، وسالته هل يمكنني الحضور لاستلام رده، قال نعم. تفضل، استقبلني بحفاوة بالغة، واثني على الرسالة كثيرا، ووجدت اهتمامه مركزا على الباب الأول،الموسوم"تطور الفكر العربي الحديت" الخاص بحركة الإصلاح الديني عند محمد عبده والافغاني
بالمقارنة بحركة الإصلاح الديني عند مارتن لوثر وكالفن في الغرب، واثرهما في تطور الفكر عموما والفكر الأدبي خصوصا."ولقدنشر المرحوم د سمير سرحان، هذا الباب في سلسلة التنوير بمكتبة الأسرة عام 1996.
. كما احتل الباب الخاص بالمنهج التاريخي المقارن، وبزوغ النزعة العقلانية في فكر طه حسين وادبه، إعجابه الشديد، وكانت المفاجأة عندما قال لي :استعد ساضرب لك موعدا مع الدكتور طه، لتقرا عليه بعضا مما كتبته عن منهجه. النقدي. كدت اطير فرحا. وشعرت ان كل أعباء العمر قد انزاحت عن كتفي، و استرجعت ذاكرتي بسرعة البرق، اليوم الذي أنهيت فيه قراءة سيرته الروائية "الايام" وانا في أواخر المرحلة الاعدادية، وكتبت تحت اسم كاتبها، د. طه حسين، اسمي مسبوقا بلقب "الدكتور"
كان استاذنا مشرفا على الهيئة المصرية العامة للمسرح، لكنه أخبرني في هذا اللقاء، انه ، قدم استقالته، لأنه بالنص، لا يريد أن يشعل البخور لاحد، وأنه مشغول الان بدراسة عن الفكر القومي عند ساطع الحصري، ستنشر بمجلة الكاتب، بمناسبة رحيله.
قابلته في الكلية بعد اللقاء الثاني بأقل من أسبوع، وقال غدا سنزور معا الدكتور طه ومعك نسخة من الرسالة. ونلتقي هنا بالقسم، ثم نتحرك سويا.بسيارتي..ما كنت أصدق نفسي. إن اصراره لهذا اللقاء ليتم، ذهبنا الي فيلا "رامتان" بشارع الهرم، وهناك التقينا بالعميد، في جلسته المهيبة، و ابتسامته الرقيقة، قدمني له استاذنا الاهواني، عارصا لجوانب الرسالة في نظره جوالة، مركزا على الباب الأول حول حركة الإصلاح الديني، والباب الخاص بالمنهج التاريخي المقارن عند طه حسين، وطلب مني أن اقدم عرضا مبسطا للعميد عن اهم ماتوصلت اليه في هذا الشأن. فوقفت عند الكلمات الثلاث :المنهج. التاريخي. المقارن. واشرت إشارات سريعة الي منهج الشك الديكارتي عند العميد، والي النزعة التاريخية التي اكتسبها في دراسته للبحث التاريخي في السربون، والي مبدأ المقارنه الذي بدا بكتاب في الشعر الجاهلي وانتهى بمخاضراته في الجامعة الأمريكية. في نهاية الثلاثينيات ، والتي ظهرت عبر كتابه"من حديث الشعر والنثر"
كنت أعلم أن العميد لا يغتفر أدنى خطأ في النحو العربي، فكنت حريصا على ذلك أشد الحرص.. وما ان أنهيت عرضي المبسط، حتى سبقي بكلمات مازالت ترن في اذني، "آلان عرفت لماذا يعتز بك استاذك الدكتور الاهواني ويفتخر، فله كل الحق في ذلك،"
كانت هذه الكلمات أعظم جائزة أدبية نلتها في حياتي، وكنت ضنين البوح بها، كأنها احدي هبات السماء، التي لا يجب الكشف عنها .
ظلت علاقتي باستاذ المعلم العظيم د الاهواني، متواصلة المودة، إلى أن رحل في أوائل الثمانينيات، فبكيت عليه، وانا خارج الوطن بكاء مرا. ولم استطع ان احاضر طلابي الا في الحديث عن حياته واعماله، ومن حسن الحظ كنت في جامعة البصرة بالعراق، حيث اعيد طبع كتابه الفريد العميق"العقم والابتكار في الشعر العربي" وطلبت من طلابي الاعتماد عليه في دراسة الادب الأندلسي..
وكانت مناقشة رسالة الدكتوراه للمرحوم الصديق مصطفي حنورة عن/الأسس النفسية للإبداع الفني للرواية. تحت إشراف العلامة. المؤسس دمصطفى سويف وعضوبة د الاهواني اخر المناسبات التي جمعتني به، وهنا اتذكر واقعة لايمكن أن تنسى، فبعد الانتهاء من المناقشة، قام د سويف بتوصيل استاذنا الي باب الكلية، حيث كانت تقف سيارته أمامه، وكأن بينهما صداقة عميقة، لاحظ اخي د حنورة ان الدكتور الاهواني، سلمني نسخته من رسالته، فغضب وقلق قلقا شديدا، وطلبها مني، على أن يمدني فيما بعد بنسخة أخرى، لكي يستفيد من ملاحظة الدكتور الاهواني ، ووقف د. سويف حائرا ولم يدر ماذا يفعل، حسم استاذي الاهواني الموقف، قال لا، انني اعطيتها له، لانه يدرس وسيناقش قريبا في موضوع مهم حول الرواية، واحببت ان يستفيد من ملاحظاتي المدونة على الهامش. عندها نهر د. سويف حنوره غاضبا :خلاص يامصطفى، و ماتزال هذه النسخة تحتل مكانة متميزة في مكتبتي. .
وظل هذا الموقف عنوان محبة وذكرى مع الصديق العزيز العلامة د مصطفي حنورة.
عندما وضعت خطة دراستي عن شخصية المثقف في الرواية العربية الحديثة بمصر، مع استاذي النبيل المرحوم طه بدر، ومع إشراف شبه مشترك مع استاذتنا الجليلة د سهير القلماوي، كان في ذهني تماما مجمل أعمال طه حسين، و لاسيما كتابه الثقافي/التربوي:مستقبل الثقافة في مصر وروايتيه"الايام" و"اديب" خاصة وقد استغرقت هذه الدراسة مني خمس اعام متواصلة، كان على أن اقوم بفرز الالاف من الأعمال الروائية منذ فجر القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، بما فيهم أعمال نجيب محفوظ الواقعية المبكرة.، ،
تكونت لجنه المناقشة من انجب تلاميذ طه حسين علي الإطلاق، استاذتنا الجليلة د سهير القلماوي وتلميذيها : النجيب عبد المحسن طه بدر، مشرفا، والناقد العملاق استاذنا العزيز د عز الدين إسماعيل عضوا مناقشا من الخارج"جامعة عين شمس" .
واستغرقت المناقشة خمس ساعات كاملة في المدرج الكبير بآداب القاهرة "
وبدأت المناقشة من اول سطر من الرسالة هو تعريف "المثقف" الي اخر كلمة فيها الملخص باللغة الاجنبية، وخاصة فيما يتصل بعنوان الروايات وبعض المصطلحات، التي ركزت عليها دسهير تركيزا شديدا، ولما اشفق على د عبد المحسن، خاطب استاذتنا بلطف بالغ قائلا:" اننا لم نتعود ان نناقش طلابنا في مثل هذه الأمور مناقشة علنية" فانفعلت ورد غاضبة وبحماس وصوت عال جدا،" انا اصنع ذلك معه الان، لأنه أنجز عملا ممتازا سبق به كل الذي كتبوا في هذا المجال بأكثر من عشرين عاما، بما فيهم عمل استاذه عبد المحسن طه بدر"
سادت القاعة عاصفة من التصفيق الحاد، اعقبتها لحظات صمت رهيبة، في انتظار تعقيب استاذي النبيل حقا د عبد المحسن، الذي رفع راسه مبتسما مخاطبا اياى" فلتعلم جيدا يا عبد السلام ان هذا الحكم الذي نطقت به استاذتنا الجليلة الآن، هو حكم اسعدني كثيرا، وحان الان ان تكف عن قلقك الرهيب، وتوترك العنيف، الذي صحبت فيه عملك في الماجستير والدكتوراه."
وما يزال في حوزتي حتى اليوم التسجيل الصوتي لهذه المناقشة، اعتز به اعتزازي بدرجة الدكتوراه ذاتها
وكانت هذه اللحظة من عمري العلمي، هي الجائزة الكبري الثانية، والتي جعلتني ازهد في كل الجوائز من هنا أو هناك.
ولا أملك الان الا ان ادعوا الله العلي القدير بالرحمة والمغفرة لهذا الجيل العظيم من أساتذة مصر، ثمرة ثورة الشعب المصري العظيم في عام 1919.الذي اسس لمبادئ العقل والحرية.، و لن تقوم النهضة لنا اليوم وغدا الا بإصلاح نظم التربية والتعليم، لكتابة فصل جديد من كتاب مستقبل الثقافة في الوطن العربي كله.
عبد السلام الشاذلي.