عبد الوهاب الأسواني - ارتحال الظل .. قصة

أفزعنى احتكاك عجلات السيارة بارضية الشارع، سائقها أطل برأسه من نافذتها وهتف باسمى: حمدى

وقع بصرى على وجه (رزق) الذى كنا نطلق عليه فى القرية رزق خفيف اليد لم يتغير فيه شئ غير انتفاخ عينيه ومازال الجرح الغائر فى جبهته كما هو..

تعجبت من ركوب خفيف اليد لسيارة مرسيدس.. كان يسطو على (سندوتشات) الزملاء فى حوش مدرسة البندر، هل هى مسروقة؟

مال إلى جانبه الأيمن، فتح بابها وقال مبتهجا: اركب.

والسيارة تتحرك بنا، تذكرت ما سمعته فى زيارتى الأخيرة للبلد.. قال أحد الظرفاء إن درجة ثرائه وصلت إلى مستوى إشعال السيجارة لراقصة مشهورة بورقة مالية حمراء.

منذ متى وأنت فى القاهرة يا حمدى؟
ثلاث سنوات تقريبا.
ولا تسأل عن صاحبك رزق؟
تقصير منى، لكنك تعرف المشاغل وصعوبة المواصلات.
تنهد وقال بعد لحظة صمت:
طمئنى عن أحوالك.
فى مأزق لو أردت الحق، لا سيطرة على الأسعار، لم يبق فى جيبى أكثر من نفقة ثلاثة أيام ولا زال على أول الشهر أسبوع كامل.
أحوالى جيدة والحمد لله.
منذ ايام تذكرتك فى اجتماع لى مع الموظفين الذين يعملون عندى، حدثتهم عن طريقتك الرائعة فى الرسم، وعن مغامراتنا أيام الدراسة.
مغامرات؟.. لعل أشهرها محاولتك الفاشلة فى نشل ساعة السائحة الأمريكية قرب المعبد الفرعونى
من ينسى الأيام الجميلة.

تهادت بنا المرسيدس فى شارع الكورنيش قبل أن تقف أمام كازينو كاليفورنيا. قال:

عازمك على فنجان قهوة.

جلسنا إلى مائدة تلتصق بسور قصير يفصلنا عن النيل، مر بنا زورق بخارى على متنه أسرة ذات ملابس شعبية، أحد أبنائها يحتضن طبلة يدق عليها، يترنمون بأغنية (لولاكى).. تذكرت عبورنا النيل معا كل صباح فى المركب الشراعى والشتائم المتبادلة بينه وبين المراكبى عن الأجور المتأخرة، قال: – انت عرفت بإنى أصبحت من أكبر رجال الأعمال فى البلد؟

سمعت، ربنا يوفقك.

جاء الجرسون فقال له:

لم أذق طعاما اليوم، هات لى ثلاث سندوتشات كبدة، واثنين كلاوى، وهات مخللات وعصير برتقال، ماذا تطلب يا حمدى؟
قهوة سادة

انصرف الجارسون، قال

هل تذكر زميلنا منصور حسين الذى كان يضع مناخيره فى السماء لتفوقه فى الدراسة؟

منصور حسين والأساتذة يتنبأون له بمستقبل باهر بشرط أن يخفف من أرائه السياسية، علاقته العاطفية بأمينة ذات القوام الممشوق والابتسامة الفاتنة، محاولات (خفيف اليد) فى استمالتها، غيرته الشديدة من هذه العلاقة، المعركة التى اسفرت عن الجرح الغائر فى جبهته ، زواج الحبيبين بعد قصة غرام اسطورية.

قلت : – اذكر منصور حسين طبعا، اين هو الآن؟

موظف عندى، يدخل مكتبى ويظل واقفا أمامى لا يجرؤ على الجلوس إلا أذا أمرته.
– منصور حسين يقف أمامك أنت؟

وماذا عن أمينة؟

سلامات يا حمدى؟
الله يسلمك
أنا مشتاق لك جدا .. لا أنسى لك شهادتك حينما اتهمنى ابن ناظر المدرسة بسرقة نقوده، انت الوحيد الذى وقف معى.

لكنك لم تحدثنى عما فعل الزمان بأمينة

تهمة باطلة طبعا.

جاء الجارسون بالطعام، انهمك فى التهامه بنفس السرعة التى كان يلتهم بها سندوتشات الزملاء، قال وهو يمضغ

مكتب المدعى الاشتراكى استدعانى
خيرا؟
وضعوا أموال شريكى السابق تحت الحراسة بحجة أن ثروته جاءت عن طريق غير نظيف لكننى طلعت براءة.
الحمد لله.
طول عمرى أعمل حساب ألف سنة مقدما. حققوا معى، وقالوا موقفك القانونى سليم، لكننا على المستوى الشخصى غير مقتنعين.
وبعدها
ولا حاجة، المال الحلال لا يضيع، ثم أننى لم أضع يدى فى جيب أحد ، كل جنيه عندى جاء نتيجة تعب.

لكن ماذا عن أمينة؟ .. هل ثمة مضايقات بعد أن أصبح زوجها لا يجلس إلا إذا أمرته؟

حطت ذبابة فوق الجرح الغائر فى جبهته، هشها وهو يقول:

أهل بلدنا لم يصدقوا أن ربنا فتح عليّ بهذه السرعة، ناس مثل البهائم، لا يعرفون أن الله يعطى الحكمة لمن يشاء.

لكن ماذا عن أمينة؟.. هل مازالت تصر على أرائها السياسية كالعهد بها فى مناقشاتنا الصاخبة؟

سقطت نقطة دهن على كم بدلته الحريرية البيضاء، مسحها بورقة شفافة لكنها تركت بقعة داكنة، قال:

منذ شهر زارنى الحاج عبد الكريم الزهران، كان يجمع تبرعات لبناء مستوصف فى البلد، دفعت له خمسة الاف جنيه.
بارك الله لك
ذات مرة رفض اقراضى خمسة جنيهات، تبرعت له وحدى بما يدفعه ألف واحد من أهالى بلدنا لكى اشعره بالإذلال.

وهل تشعر أمينة بالإذلال الآن؟ .. كيف السبيل إلى معرفة أخبار صاحبة الوجه الذى سحرنا جميعا؟

قلت إن زميلنا القديم منصور حسين يتعاون معك؟

لوح بيده فى استهانة:

مجرد موظف عندى بين عشرات.
أين يسكن يا ترى؟
كان يسكن فى حىّ حقير لو ربطوا فيه القرد لقطع السلسلة وهرب، أعطيته شقة فاخرة فى إحدى عماراتى وبإيجار منخفض ودون خلو رجل

هل ضاعت أمينة؟ .. انطفأت تلك اللمعة الذكية فى العينين تنم عن اعتزاز صاحبتها بنفسها؟ .. أذلتها الحاجة ولم تعد تعارض أحدا؟.. تحولت إلى كائن ذاهل لا يفهم شيئا مما يجرى حوله؟

فيك الخير.

دفع الحساب وخرجنا.. شقت بنا السيارة شارع الكورنيش.. بُرج القاهرة بدأ ضئيلا بجانب الأبراج الزجاجية العملاقة.. ثمة صياد عجوز بجلباب باهت يلمّم شبكته فى صبر موروث.. حامت فوقه موجة من العصافير لم يحس بها – مواسير الفندق الكبير تتمطى فى الشارع لتصب فى النيل.

أين تحب أوصلك؟
ميدان التحرير.




عبد الوهاب الأسوانى – مجلة القاهرة – العدد 130 – 15 سبتمبر 1993



أعلى