يرى "إيمانويل فليكوفسكى" أن ما يحكوه عن أوديب ليس مجرد أسطورة؛ وإنما هي حقيقة حدثت في الواقع. وأن "باوسايناس" - الرحالة المعروف - يزعم أنه رأى مقابر بالقرب من بلدتيّ طيبة وكولون اليونانيتين. وأخبره الناس هناك، إنها مدافن عائلة أوديب.
لكن إيمانويل فليكوفسكى يكذب هذا – رغم إيمانه من أن أوديب شخصية حقيقية؛ وُجدت في الحياة - , لكنها كانت في عصور أبعد من ذلك بكثير. وأن أصل قصة أوديب المشهورة يستحيل العثور عليها بين طيات كتب التاريخ, وإنما تجدها في القصص الشعبي المستوحاة من أحداث وقعت وتناولها الناس في حديثهم, ثم أضافوا وبدلوا فيها. وأن أسطورة أوديب ليس من الغريب حدوثها ففرويد – عالم النفس الشهير – يرى أنها نبعت من رغبة محسوسة تكمن في الابن وتدفعه إلى الاستحواذ على أمه والإطاحة بأبيه متبعا وسيلة القتل. ففي العصر الحجري كان أبناء رجل الكهف البالغون يقتلون أباهم ليستحوذوا على زوجاته اللائى هن أمهاتهم. وأن تصرفات مرضى الأعصاب وما تحتويه أحلامهم تؤيد نظرية فرويد كما هو ثابت في تقارير حالات مرضية لا حصر لها. إن رغبة الأبناء في أمهاتهم كانت معلومة للأقدمين. ففي التلمود يرى النبي إسماعيل إنه رأى رجلا في المنام – يصب زيتا على شجرة زيتون. وأن تفسير هذا الحلم أن لدى الرجل رغبة في إنشاء علاقة جنسية مع أمه.
وتقول " جوكاست " لأوديب وهى تجهل أنه ابنها:
- لا تخشى التزوج بأمك, فغالباً ما يحلم الرجال بمثل هذه الأمور، لكن من لا يعيرها اهتماما يعش سعيدا.
وقد وردت أسطورة أوديب في أوديسة هوميروس في نشيدها الحادي عشر عندما زار أوديسيوس العالم الآخر والتقى بأم وزوجة أوديب.
ومن الضروري أن نذكر أسطورة أوديب لإمكان المقارنة بينها وبين الأحداث الحقيقية التي يدعيها " إيمانويل فيلكوفسكى":
كان " لايوس" ملكاً على مدينة طيبة فطُرد منها, ولجأ إلى ملك طنطالة. ثم عاد إلى مدينته طيبة بعد أن خطف ابن الملك الذي استضافه وأحسن إليه وأعانه في شدته, مما حدا بالابن المخطوف إلى الانتحار بعد ما فعله لايوس معه من خطيئة.
ويتزوج لايوس من " جوكاست ", ويعيش معها عيشة هنيئة منتظرا قدوم الابن الذي سيرثه في الحكم والذي تأخر مقدمه كثيرا. وعندما يسأل لايوس العراف عن ذلك, يخبره بأنه نتيجة لفعلته مع ابن ملك طنطالة؛ سيرزق بولد سيعيش ويكبر حتى يقتله ويتزوج أمه. وبالفعل يُرزق لايوس وجوكاست بطفل, فيخرقان قدميه ويربطانه منهما ويعطيانه إلى خادم لكي يلقيه في جبل " كثيرون" لتفترسه السباع هناك. لكن الخادم أشفق على الطفل فسلمه إلى راع, فأخذه إلى ملك" كورنثة " الذي أتخذه ولدا, وسماه أوديب لتورم قدميه.
بعد أن يكبر أوديب يخبره العراف بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه, فيهرب بعربته من بلدته لكي لا تتحقق النبوءة, فيقابله " لايوس" بعربته أيضا؛ خارجا من طيبة باحثا عن حل للعنة التي حلت ببلاده, إذ حل بها وحش في صورة أبو الهول. يسأل الناس لغزا، فمن لم يستطع حله؛ يقتله.
تصادمت العربتان ( عربة أوديب ولايوس). فتشاجرا, حتى قَتل أوديب والده ودخل طيبة. فقابله أبو الهول في أول المدينة, حيث يمكث, فسأله عن الشيء الذي يمشى على أربع ثم اثنتين, ثم ثلاثة. فقال أوديب : "الإنسان. حيث يمشى في طفولته على أربع. ثم اثنتين, ثم ثلاثة عندما يستعين بالعصا " فمات الوحش كمدا, فكافأه أهل طيبة بأن زوجوه من ملكة بلادهم جوكاست. ويعيش أوديب هانئا مع زوجته, وينجب منها أربعة من الأبناء: بولينكس, وتيتوكليس, وانتيجونا وأسميتا. لكن وباء كاد يهلك كل شيء في البلاد. فيذهب البعض لسؤال العرافين عن ذلك. فيخبرونهم بأن ملكهم هو سبب البلاء, لأنه تزوج أمه بعد أن قتل والده, فيفقأ أوديب عينيه, وتقتل جوكاست نفسها.(2)
**
اعتادت الأسرة الثامنة عشرة – التي ينتمي إليها إخناتون ووالده أمنحوتب الثالث – أن تستشير العرافين فيما يتعلق بالخلافة. وأن هذه العادة لم تكن متفشية بين الأسر السابقة لهم, فأدى هذا إلى زيادة نفوذ كهنة النبوءة في طيبة زيادة تفوق الوصف, فسيطروا بذلك على العرش. ولقد استشار " أمنحوتب " الثالث كهنة النبوءة في معبد الكرنك, فأخبروه بأن ابنه سيقتله ويتزوج أمه. مما حدا بالملك إلى أن يبعد ابنه عن مصر كلها, وأن يرسله مع خادم لكي يتخلص منه. لكن الخادم أشفق على الولد وأبقاه حيا, حتى وصل إلى أهل أمنحوتب الثالث – من أمه - في بلاد " متننى". فظل أمنحوتب الرابع " بعيدا عن مصر طوال فترة حكم أبيه. فلم يذكر اسمه مع نقوش والده كما حدث لباقي ملوك مصر. إذ كانوا يذكرون أولادهم – خاصة ولى العهد – في نقوشهم. فقد رُسم أمنحوتب الثالث وزوجته وبناته في أحجام ضخمة, أكبر من الحجم الطبيعي, لكن ابنه وولى عهده لم يظهر في هذه الصور أو في صور العائلة الأخرى. في حين وردت صورٌ عديدة لأمنحوتب الثالث وهو يهدى موظفيه المنح والعطايا.
وذكر علماء التاريخ إنهم لا يعلمون إن كان أمنحوتب الثالث قد مات ميتة طبيعية أم كان ضحية لمؤامرة نسجت في القصر.أو فشل في العودة حيا من إحدى رحلات الصيد. وتقلدت زوجته " تى " الحكم لبضعة أشهر أو لأسابيع وحدها, ثم ظهر ابنها أمنحوتب الرابع فجأة وتسلم مقاليد الحكم حتى ساد الاعتقاد بأنه قد اغتصب العرش من والده.
يبدأ أمنحوتب الرابع بعد فترة قصيرة من حكمه إصلاحاته الدينية. فيعزل الإله آمون, ويضع مكانه الإله آتون. ويغير اسمه إلى إخناتون. وعندما يناجى إلهه آتون يصف نفسه بأنه العائش في الحقيقة. ثم يتخذ ذلك وصفا له. ثم يجرى العديد من التعديلات في العبادة:
أصبح آتون هو الإله الأوحد – لا في مصر وحدها – وإنما في كل البلاد التابعة لمصر.
منع تقديم القرابين البشرية – التي كانت تقدم إلى الآلهة أيام والده أمنحوتب الثالث وجده تحوتمس الرابع وغيرهما – ومنع صيد الحيوانات لمجرد المتعة. ومحا أسم آمون واسم والده في حين أبقى على اسم أمنحوتب الأول رغم أنه يمتزج أيضا باسم " آمون ".
ويرى" امانويل فيلكوفسكى" أن الأمر لو كان قاصرا على مسألة الديانات والعبادات لكان أزال اسم آمون من أمنحوتب الأول أيضا, إنما العداء كان منصبا على والده الذي أبعده عن قصره وبلده وحرمه من أمه وإخوته, وكان منصبا على آمون وكهنته الذين كانوا سببا فيما حدث له لنبوءتهم الغادرة. واهتم إخناتون بكهنة هليوبوليس الذين لم يشتركوا في هذه النبوءة والذين كانوا مستضعفين طوال فترة حكم الأسرة الثامنة عشرة، ومحا إخناتون – أيضا – أخبار هذه النبوءة من كل النقوش حتى لم نجد لها أثرا فوق الآثار.
بني إخناتون عاصمة جديدة " إخناتون" ( أي المكان الذي تُشرق منه الشمس) وهى في رأى فيلكوفسكى عاصمة تعيش على الملذات. فإخناتون هو الوحيد الذي صور زوجته وبناته عرايا, بل كان يضع يده فوق صدر زوجته الجميلة نفرتيتي, وتصل أصابعه لحلمتي ثدييها.
**
وأسطورة أوديب – كما نعلم – تحكى أن لايوس قد أعطى الطفل أوديب إلى خادم لكي يتركه فوق الجبل لتفترسه السباع. فرق الخادم لحاله وسلمه إلى راع, أخذه إلى كورنثة حتى اتخذه ملكها ولدا له.
وهذا ما حدث لإخناتون. فعند اكتشاف بلدة " اخناتون ", وجدت مقابر مهداه من إخناتون إلى رجال دولته, ومنها مقبرة مهداة إلى رجل يدعى " بار نفر" ينحدر من أصل ليس بالنبيل, وصـــــــور لـــه توضح زوجته وهى تستقبله بعد أن تسلم الهبات الملكية والألقاب التي أغدقها الملك عليه. ويزعم فليوفسكى أن هذا الرجل كان خادما لدى أمنحوتب الثالث- والد إخناتون – وأنه تلقى أوامر من الملك بالقضاء على الطفل الصغير. لكن الخادم أبقى عليه وسلمه إلى ملك متني لتربيته. ويزعم المؤلف أيضا أن قدمي إخناتون – الطفل – كانتا متورمتين ومشوهتين. فالتشابه يكاد يكون كاملا في كل شيء بين إخناتون وأوديب.
ومقبرة أخرى لـ " آي" وزوجته " تاى" وهما يتسلمان الهبات من إخناتون ونفرتيتي: " إن فرعون الرخاء والحياة الصافية قد منحهما ملايين الأكداس من الذهب ووسائل الرخاء والثراء "
و" آي " هذا هو شقيق " تى " – زوجة أمنحوتب الثالث وأم إخناتون – ويقابله في الأسطورة " كريون" الذي تمتع بنفوذ كبير بعد موت لايوس ووصول أوديب وتوليه الحكم. فهو الذي وهب أخته جوكاست إلى أوديب بعد قتله الوحش. وكان يلي الملك في المكانة داخل المملكة.
**
بعد موت أمنحوتب الثالث ظلت " تى" مشرفة على حريم زوجها – كما هو مبين على النقوش فوق الآثار – فكيف يكون للزوج الميت حريم؟! ويؤكد المؤلف أن " بكتاتن" ابنة إخناتون من أمه " تى". وأن باقي بناته من نفرتيتي. ف" بكتاتن " تظهر دائما في الصور مع " تى ". بينما الأخريات يظهرن مع أمهن نفرتيتي. ويطلقون على بكتاتن – في النقوش- ابنة الملك. وعلى الأخريات بنات نفرتيتي.
لقد تولى إخناتون الحكم بعد موت والده أمنحوتب الثالث مباشرة. وعندما كانت بكتاتن في الرابعة من عمرها كان إخناتون يحكم منذ أثنتى عشر عاما تقريبا. وتظهر في اللوحة نفرتيتي وإخناتون ومعهما أربع فتيات يلوحن بمراوحهن لأبيهن الملك. وفى الجانب الآخر: " تى" ومعها بكتاتن وثلاث وصيفات. وكُتب تحت الصورة: الأميرة الوريثة كريمة في حياتها, سيدة الرشاقة, خلابة بركة حبها, تملأ جوانب القصر بجمالها، سيدة الشمال والجنوب, زوجة الملك العظمى التي يحبها ويقدسها, سيدة الأرضين"
وكُتب بجوار بكتاتن : " ابنة الملك من جسده, المحببة إلى نفسه ".
هناك شك, هل الملك الجالس على عرشه في الصورة هو أمنحوتب الثالث أم ابنه إخناتون؟ ويؤكد ايمانويل فيلكوفسكى أن النقوش على كتف الباب الأيمن – تحت الشراعة – تسرد أسماء ملك الشمال والجنوب, العائش في الحقيقة. وهى أسماء تخص إخناتون وحده. كما أن وقت هذه الصورة كان أمنحوتب الثالث قد مات منذ أكثر من عشر سنين. ويظهر في الصورة شعاع آتون يمسك برمز الحياة عند فمه. وشعاع آخر يمتد من قرص الشمس إلى فم " تى " ممسكا بعلامة مماثلة. كما أن جسم الملك – في الصورة – هو جسم إخناتون بملامحه المميزة المعروفة.
ولوحة أخرى على الحائط الشرقي من غرفة المدفن تصور إخناتون يقود " تى " من يدها وهى شبه عارية, تظهر خطوط ثدييها وبطنها وساقيها بوضوح تام. وإخناتون ينظر إليها بعاطفة جياشة, كما لو كانا عاشقين وليس ابنا وأمه. وقد كتب أمامه : " يقود الملكة العظمى, والأم الملكية لترى ظلها في الشمس"
لقد تربى إخناتون – كما يزعم المؤلف – في متني استجابة لتحذير النبوءة وهو في مرحلة الشباب. ومتني ليست في شمال سوريا كما جاء في العديد من المصادر, وإنما هي شمال العراق التي كانت مستعمرة فارسية. وقد تأثر إخناتون بمعتقداتهم التي تجعل من زواج الابن بأمه عملا مقدسا. فلا يتم تطهير حاملات الجسد ببول الماشية فقط ( البقرة المقدسة ) بل بخليط من بول رجل وامرأة كانا قد زاولا ( الكسفايتفادانا) وهو زواج الأباء بأولادهم, والأخوة بأخواتهم.
وقد أحست نفرتيتي بالغيرة من " تى " , وأن السنوات الأخيرة من حكم إخناتون لا يرد فيها ذكر نفرتيتي. فـ" تى " هي الملكة الرئيسية. بينما نفرتيتي مجرد زوجة من زوجات الملك الكثيرات. وانحطَّ شأن أطفالها فأصبحوا في مركز أطفال الحريم.
وبمرور العام الثاني عشر؛ هجرته نفرتيتي وصار الصراع دائرا بين إخناتون و" تى " من جهة، ونفرتيتي ووالدها " آي " من جهة أخرى. وبعدها اتسع نفوذ " آي" فكان يدير ماليات الدولة والقصر. واختفت " تى " من الوجود بعد فترة قصيرة؛ إذ لم تدفن بجوار أمنحوتب الثالث؛ بل لم يجدوا لها أية مقبرة.
وانتشر الوباء في البلاد وعم الفقر, فأحس الشعب بأن الآلهة غاضبة عليهم وناقمة. وقد سألوا كهنة النبوءة عن سر ذلك. فأنبئوهم بسر الخطيئة. وتزعم " آي" الحركة ضد ابن أخته إخناتون انتقاما لابنته نفرتيتي المهيضة ( وهو نفس الذي فعله كريون في أسطورة أوديب) وتغير موقف " آى ". فبعد أن كان من أشد المتحمسين للإله آتون, انقلب وانضم إلى كهنة أمون انتقاما من إخناتون.
**
" تيرسياس" هو عراف أسطورة أوديب. وقد ذكره هوميروس في الأوديسة حين ذهب أوديسيوس إلى العالم الآخر ليستشيره. وقد تحول تيرسياس إلى امرأة بعد أن قتل الحية. ثم عاد إلى رجولته. لذا؛ عندما اختلف زيوس وزوجته هيرا في مسألة: أى الجنسين يتمتع بالجنس أكثر, الرجل أم المرأة ؟ ذهبا إليه ليسألاه في ذلك على أساس أنه جرب النوعين معا. فأجاب: إن المرأة تتمتع بالجنس أكثر.
وذلك كان على غير ما تريد هيرا. فأعمته. بينما أعطاه زيوس العمر المديد وأسبغ عليه بنعمة التقديس.
وامنحوتب بن حابو؛ هو العراف الحقيقي الذي صورته الأسطورة في صورة تيرسياس. فقد أَّلهه المصريون بعد موته. وصنعــــوا لـــه تمثالا, يبدو بشعر طويل كالنساء, وقد كان عمره ثمانين عاما في العام الرابع والثلاثين من عمر أمنحوتب الثالث. وعاش إلى أن حكم إخناتون. ولم يبرح طيبة عندما برحها إخناتون إلى " اخناتون". وانحاز إلى " آي" ضد إخناتون. كما انحاز تيرسياس إلى كريون ضد أوديب.
لقد غضب آمون على مصر كلها لأنها تركت عبادته. لذا؛ فشلت المشروعات العسكرية, وتناقصت أطراف الإمبراطورية. ذلك ما قاله " توت عنخ آمون" عن ديانة إخناتون الجديدة. وانضم " سمنقرع " – الذي كان يشارك إخناتون الحكم – إلى جانب " آى " وسافر إلى طيبة لمصالحة كهنة آمون وترضيتهم. وحددت إقامة إخناتون في أحد مباني مدينة " اخناتون" وحكم سمنقرع وحده.
ذلك حدث في الأسطورة أيضا. فقد قال تيرسياس: إن الآلهة قد أدارت ظهرها لهذه الأرض. فإن تضرع إليها إنسان لطلب شئ؛ لا تقــــضيه لــــه " كما أن أوديب قد سجن – أيضا – في أحد مباني طيبة.
وفى عصرنا هذا؛ قام بعض البدو بإزالة الأتربة في " تل العمارنة " فظهر المبنى الذى كان سجنا لإخناتون. وقال البدو: إن أحد الملوك قد أخفى ابنه في ذلك المكان لكى يحميه من نبوءة تنبأ بها القدر عند ولادته.
ظلت حكاية إخناتون تتردد وتتناقل من جيل إلى جيل إلى أن وصلت إلى عصرنا هذا.
**
تقول الأسطورة إن أوديب قد أعمى نفسه بعد اكتشاف خطيئته. وهيرودوت يقول أيضا: إن فرعونا جلس على عرش مصر وهو أعمى. وأن اسم مدينته هو نفس اسمه. وإنه هرب من أعدائه إلى المستنقعات, وخلفه على عرش مصر الأثيوبيون. ثم أعاده أنصاره ثانية إلى العرش بعد أن هزموا الأثيوبيين.
ويظهر " توت عنخ آمون" في مقبرته وهو يحارب الأثيوبيين. كما أن اخناتون – مدينة آتون – مشابهة لأسم إخناتون. وأوديب في الأسطورة تم نفيه في منطقة مليئة بالكثبان الرملية. وهذا أقرب إلى أرض المستنقعات.
وبعد أن عادت عبادة آمون ثانية؛ نظم طلاب المدارس أناشيد لآمون تذكر أن ذلك الذي هاجمك يسبح في ظلام دامس، على حين يسبح العالم كله في ضوء النهار. يقصدون أن إخناتون قد عمى ويعيش في الظلام. وعادة ما يحذف اسم إخناتون وورثته من قوائم الملوك المصريين التي كتبها من خلفهم من فراعنة, كما لو كانت فترة حكمه وشخصيته وسلالته شرا مستطيرا لا يجب أن يذكر. وإذا ما اضطروا إلى ذكره. قالوا: " مجرم اخناتون".
**
تم اكتشاف مقبرة, ظنوها – أول الأمر – مقبرة " تى ". كانت الفوضى تشملها من كل جانب. مع تأكيد أن لصوص المقابر لم يقتربوا منها أو يتوصلوا إليها. كما أن المكان لا يليق بأن تدفن فيه ملكة. فخدم " تى" دفنوا في مقابر أكثر رقيا من هذه المقبرة.
كانت المقبرة عبارة عن كهف وعر نحت في الصخر, بلا رسوم تزينه. وبدا أن دافني الجثة كانوا في عجلة وعدم احتياط مما أدى إلى سقوط التابوت وكسره. هذا إذا لم يلقوا به عمدا.
ذلك المكان يؤكد أن هذه مقبرة سرية, حفرته أيدٍ غير مدربة. وعند عرض عظام المومياء على أخصائيين؛ أكدوا أن عظام الحوض لذكر لا لأنثى. ثم اعتقدوا أن الجثة لإخناتون. وأن دافنيه قد أخفوا جثته في ذلك المكان الموحش حتى لا يتوصل إليها كهنة آمون؛ فيمثلون بها انتقاما مما فعله بهم وبآتون.
لكن عند اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في نوفمبر 1922 وفحص المومياء المدفونة في المقبرة توصلوا إلى الصلة بينها وبين التعيس المدفون في المقبرة الأخرى المهملة, واتضح أنها لسمنقرع شقيق توت عنخ آمون الأكبر – ولدي إخناتون – واتضحت الحقيقة المذهلة, إن ما حدث في أسطورة أوديب بعد نفى أوديب وموته، هو ما حدث في الحقيقة بعد نفى إخناتون وموته.
اتفق سمنقرع مع أخيه توت عنخ آمون على أن يتبادلا الحكم عاما لكلا منهما. لكن " آي " – المسيطر الفعلي على الحكم – حرض توت عنخ آمون بألا يترك الحكم لأخيه. فاضطر سمنقرع أن يستعين بالأثينيين ليحاربوا طيبة بقيادة آي وتوت عنخ آمون اللذين هزما سمنقرع ومن معه من اتينيين. وقُتل الملكان في المعركة ( توت عنخ آمون، وسمنقرع ) فأعلن آى بأن سمنقرع خائن لبلاده لاستعانته بالأغراب. لذا؛ ستظل جثته في الخلاء دون دفن. ومن يجرؤ على دفنها سيعاقب بالموت. بينما أقام لتوت عنخ آمون جنازة مهيبة؛ ومقبرة غنية مملوءة بالذهب والمجوهرات بطريقة مذهلة لا تتناسب مع قدره. وقد ثبت تاريخيا أن سمنقرع وتوت عنخ آمون قد ماتا في وقت واحد.
إن ميريتاتن – أكبر بنات إخناتون وزوجة سمنقرع – هي أنتيجونا في الأسطورة. فقد تحدت " آى " ودفنت زوجها. فكان عقابها الحبس داخل ذلك الكهف الذي دفنت فيه زوجها.
وقد وجدوا في مقبرة توت عنخ آمون خصلة من شعر " تى "، والمعروف أن المجتمعات الشرقية – وبعض الغربية – تدفن جثة المنتحر خارج حدود الأرض المقدسة التي بها جبانة الجماعة. لكن هناك اعتقادات – في نفس الوقت – تدعى أن روح المنتحر تهيم أثناء الليل، وأن كل ما يتخلف عنه من ممتلكات تجلب الحظ. فقطعة من حبل الذي شنق نفسه تعتبر تعويذة لجلب الحظ. لذا؛ وضعوا خصلة من شعر " تى " المنتحرة كتعويذة تحمى مقبرة توت عنخ آمون من اللصوص.
أي أن " تى " انتحرت حزنا على ما فعلته, كما انتحرت جوكاست - في الأسطورة التى تناولها العديد من كتاب الدراما القديمة والحديثة.
الموضوع الأساسي في مسرحيات : " أوديب في كولونا وانتيجونا وسبعة ضد طيبة " هو مشكلة دفن الموتى وأهمية إكرام الميت بدفنه. فأوديب كان يبحث عن إخفاء مكان مقبرته حتى لا يعبث بها أعداؤه. والمشكلة الكبرى لدى انتيجونا, ليس موت أخيها بولينكيس. وإنما ألا تدفن جثته لكي لا يعذب في حياته الأخرى الباقية إلى الأبد. وهذه المشاكل منبعثة من البيئة المصرية فنعى انتيجونا لأخيها بولينكيس ظاهرة لا مثيل لها في الأدب اليوناني. بل ظاهرة غير موجودة سوى في مصر التي أعطت أهمية أكبر للمقابر وللعالم الآخر.
ووضع الجسد في كهف محفور في الجبال أمر جديد على اليونانيين الذين كانوا يحرقون موتاهم أو يدفنونهم في الأرض. وإنما المصريون هم الذين حفروا الجبال وصنعوا منها كهوفا لموتاهم. وذلك ما يؤكد حدوث الصراع بين سمنقرع وتوت عنخ آمون, ورفض " آي " دفن سمنقرع انتقاما وتعذيبا له.
**
هناك نقاط عديدة يتشابه فيها أوديب مع إخناتون:
• جثة إخناتون لم تحنط, ومن ثم لم يحافظ الزمن عليها كسائر ملوك مصر. ولم يدفن في مقبرة معروفة. كما رجا أوديب " تسيوس" – الذي تعاطف معه وأشفق عليه – بأن يظل مكان مقبرته مجهولا لا يعرفه أحد.
• حكم كلٌّ منهما عشرين عاما (وتشمل هذه المدة السنوات التي قضاها إخناتون في سجنه).
• تزوج " آى " من انخستاتن – أرملة توت عنخ آمون – التي تغير اسمها إلى انخستامن – لكى يدعم " آي" حقه في الجلوس على العرش. وكذلك فعل كريون (في الأسطورة ) فقد تزوج ابنة من بنات أوديب - وكان ينوى أن يزوجها ابنه - وذلك توطيدا لحقه في الجلوس على العرش.
• دمر الغزاة مقبرة " آى" بعد موته وأصبح التابوت شذرات صغيرة, ومحوا الرسوم والنقوش المحفورة على الحائط انتقاما مما فعله بهؤلاء الغزاة عندما جاءوا مع سمنقرع وحاربوا معه فهزمهم آى بالاشتراك مع توت عنخ آمون. وهذا ما حدث لكريون في مسرحية انتيجونا. إذ يتنبأ العراف " تيرسياس" بأن العار والتدنيس سيلحقانه بعد موته, وستلقى جثته خارج مقبرته لعدم دفنه بولينكيس.
**
يؤكد المؤلف إنه كانت هناك صلات حميمة بين مصر وأثينا في عصر الأسرة الثامنة عشرة فعُثر على جعران محفور عليه صورة أبو الهـــــول لـــــه أجنحة في أثينا من الجعارين التى كانت مستخدمة في هذا الوقت في مصر. وأن قصة " تى " لابد أن تكون قد وصلت إلى المتيتيين بحكم المصاهرة. إذ أن جدة إخناتون لأبيه كانت منهم. ثم وصلت القصة إلى بلاد أخرى, حتى وصلت إلى أثينا. وأن طيبة – في ذلك الوقت – كان اسمها " نوامون". أطلق اليونانيون عليها اسم طيبة, إعجابا بالمدينة المصرية. وأن ما حدث لأمنحوتب الثالث وزوجته " تى " وابنهما إخناتون؛ قد علم به التجار الذين يسافرون إلى مصر لبيع منتجاتهم, فتحدثوا به في الأسواق الفينيقية إلى أن وصلت اليونان عن طريق الفينيقيين. وهذا ما حدا بيوربيدس بأن يجعل الفينيقيات يبحن بالسر في مسرحية " الفينيقيات ".
ويذكر سوفكليس في (أوديب في كولونا) على لسان أوديب عن ولديه: " إنهما يظهران صورة صادقة لوسائل مصر وطباعها وفى روحهما وحياتهما "
ويذكرون طيبة الذاخرة بالعربات الحربية. وكانت طيبة المصرية ذاخرة – حقا – بالعربات الحربية.
وذكر " جلادسون ": " إن الكثير من هياكل الأساطير اليونانية التي ذكرها هوميروس, قد تشكلت في البلاد الشرقية, خاصة مصر ".
**
المشكلة عند ايمانويل فليوفسكى اليهودي أن فرويد اليهودي – مثله – قد أَّلف كتابا عن إخناتون وموسى ( موسى والتوحيد) جعل فيه إخناتون أستاذًا لموسى. ذلك ساءه كما ساء العديد من اليهود فسخطوا على إخناتون وتتبعوه وحاولوا التقليل من شأنه, وإلصاق العار به. فيقول فليكوفسكى في مقدمة كتابه:
ومما يدعو للسخرية أن كلا من أوديب وإخناتون كان بطلا لمؤلفات فرويد. ولم يدرك فرويد تماثلهما الوثيق حتى في تكوين الشخصية، إذ رأى في أوديب نموذجا يرمز إلى الزاني الذي يتعذب من جراء بواعث خطيئة يرضخ لها، وإن كانت هذه البواعث إنسانية إلى حد بعيد. على حين رأى في إخناتون قديسا – أول الموحدين – والذي سبق موسى المشرع .
ذلك ما أغضب ايمانويل ودفعه لأن يؤلف كتابه هذا لكي يجرد إخناتون من القدسية التي وصفه فرويد بها, ويجعل أفعاله – التي قدرها العالم واهتم بها – نتيجة لخطيئة تدعو إلى الخجل؛ لا إلى الفخر.
وهو يرى أن فرويد مجرد مريض نفسي, وأن موقفه من أبيه جعله يتخذ موقفا معاديا من دينه اليهودي أيضا.
وإنه قد ظهر في عصرنا الحديث هذا, رجل يدعى أنه قــــدر لــه أن يقود الجنس البشرى كله إلى التوبة والإخلاص. وأن الطاقة الشمسية قد جعــــلت لـــه وحده في صورة أشعة تبعث الحياة, وأن حالة ذلك المريض؛ تشبه حالة إخناتون. وأن إخناتون لو وضع تحت الفحص النفسي لأتضح أنه نرجسيا, ميالا للشذوذ الجنسي وظواهر تخنث على وشك أن تظهر فيه.
دأب اليهود على الحط من إخناتون وديانته. فيؤكد بعضهم أن تلك الديانة لم تكن وليدة تفكير إخناتون, بل هي مأخوذة من التوراة, زعما منهم بأن ديانتهم قد ظهرت قبل عصر إخناتون. واستنادا إلى التشابه بين بعض فقرات أنشودة آتون وبين الفقرات من 20 إلى 30 من المزمور 104 من العهد القديم.
ومن المعروف أن إخناتون عاش في عصر سابق لعصر ظهور المزامير. وأن المقارنة البسيطة بين نشيد إخناتون والمزمور 104 لتدل على أن النشيد هو أصل المزمور. بل أن هناك العديد من الأناشيد القديمة لآمون وغيره من الآلهة المصرية؛ قريبة من أناشيد إخناتون. والكلمات المستخدمة في النشيد والمزمور – أيضا – تؤكد مصريتها.
لم يكن إخناتون أول من نادى بعبادة آتون. ففي إحدى لوحات تحوتمس الرابع ( جد إخناتون) ظهر تحوتمس يعبد قرص الشمس ( آتون). وقد تدلى من هذا القرص شعاع ينبعث من الشمس حاملا إليه الخيرات.
ويذكر الدكتور سليم حسن في موسوعته عن مصر القديمة – الجزء الخامس، صفحة 257:
في عهد أمنحوتب الثالث خطا الميل إلى عبادة قرص الشمس خطوة ثابتة. إذ نشاهد هذا العاهل يطلق على قاربه الذي يتنزه به في بحيرته الصناعية بمدينة " هابو" اسم آتون. وسمح لابنه أمنحوتب الرابع ( إخناتون ) ببناء معبدٍ في الكرنك لآتون.
نشأ إخناتون في بيئة لديها الاستعداد لتغيير العادات والتقاليد المتوارثة والى تكبل الملوك والشعب معا, والتي فرضتها عليهما كهنة آمون. فقد أحس تحوتمس الرابع بأن كهنة آمون قد وصلوا إلى درجة لا يستطيع احتمالها من الغرور والتحكم في كل شيء؛ فانتزع منهم وظيفة رئيس كهنة القطرين, وقلدها لأحد قواده ممن يركن إليهم ويثق بهم. كما أن إخناتون سمع أمه " تى " في أكثر من مكان في القصر وفى أوقات عديدة تشكو من تحكم كهنة آمون وتدخلهم في أمور المملكة؛ خاصة أنهم حاولوا منع أمنحوتب الثالث من أن يتزوجها لأنها ليست من أصول ملكية.
وساعد على تمكن هذه الناحية المتحررة ما وصلت إليه البلاد من الثراء الواسع والجاه العريضة فاهتموا بالفنون والعمارة والتحموا بكل الحضارات الموجودة في العالم, وحطموا التقاليد التي جرى عليها أجدادهم الملوك القدماء, فتزوج تحتمس الرابع من أخت ملك متني. وتزوج أمنحوتب الثالث واحدة من عامة الشعب, كانت تذهب إلى القصر لزيارة أمها التي تعمل هناك, فأعجب بها الملك وأحبها وصمم على الزواج منها.
إن ملوك الأسرة الثامنة عشرة منذ أن تولوا الحكم دأبوا على تحطيم التقاليد المتوارثة؛ فهيئوا لإخناتون الظروف التي ساعدته للنداء بعبادة إله واحد.
أما عن الزعم من أن إخناتون لم يعد إلى مصر إلا بعد موت والده أمنحوتب الثالث, فذلك يجافى الحقيقة تماما، فالمصادر التاريخية تؤكد أنه حكم ست سنوات بالاشتراك مع والده. وما يقرب من ثلاث عشرة سنة بمفرده. ومات في سن يقارب الثلاثين من عمره. بمعنى أنه تولى الحكم صغيرا. وليس من المعقول في هذه السن المبكرة أن يقوم بأعباء ثورة عاتية وحده، متحديا أكبر قوة عرفتها مصر في ذلك الوقت؛ هى قوة كهنة آمون. إن أمَّه " تى " هي التي وجهته وساندته, خاصة بعد موت والده أمنحوتب الثالث- الذي كان حريصا على إقامة توازن بين كهنة آمون وغيرهم من كهنة الآلهة الأخرى.
أثار إخناتون جدلا عظيما منذ أن توصل إليه علم المصريات لا لأنه نادى بعبادة آتون؛ لكن لأنه نادى بعبادته وحده, ولأنه جعل العبادة لأله واحد على عموم الإمبراطورية الكبيرة جدا. فيقول آرثر ويجال عنه:
قد نعتبر إخناتون من الناحية الزمنية, وربما بالنظر إلى العبقرية أيضا، إنه أول رجل مثالي في العالم. ولا جدال في أنه قد خلق روحا جديدة في العلاقة الشخصية بين الإنسان والإله, وهى روح لم يعهدها الناس من قبل في دين. أو على الأقل لم تسجل من قبل في ترانيم أو صلوات سابقة كانت أم لاحقة.
لكن اليهود – كالعادة – ينسبون كل الأعمال العظيمة في العالم إلى أنفسهم, ويتبعهم في ذلك بعض العلماء – غير اليهود- متأثرين بدعاياتهم وأصواتهم العالية.
والغريب في الأمر أن يتبعهم بعض العلماء المصريين أيضا. فينسبون إلى إخناتون ما زعمه اليهود عنه.
إشارات:
1 – أوديب وإخناتون – تأليف ايمانويل فيلكوفسكى - ترجمة فاروق فريد.
2 – أوديب ملكا - سوفكليس.
https://www.facebook.com/profile.ph...2E7etzWYzZVK5j933N0GLeLX6DJPDK&__tn__=<,P-y-R
لكن إيمانويل فليكوفسكى يكذب هذا – رغم إيمانه من أن أوديب شخصية حقيقية؛ وُجدت في الحياة - , لكنها كانت في عصور أبعد من ذلك بكثير. وأن أصل قصة أوديب المشهورة يستحيل العثور عليها بين طيات كتب التاريخ, وإنما تجدها في القصص الشعبي المستوحاة من أحداث وقعت وتناولها الناس في حديثهم, ثم أضافوا وبدلوا فيها. وأن أسطورة أوديب ليس من الغريب حدوثها ففرويد – عالم النفس الشهير – يرى أنها نبعت من رغبة محسوسة تكمن في الابن وتدفعه إلى الاستحواذ على أمه والإطاحة بأبيه متبعا وسيلة القتل. ففي العصر الحجري كان أبناء رجل الكهف البالغون يقتلون أباهم ليستحوذوا على زوجاته اللائى هن أمهاتهم. وأن تصرفات مرضى الأعصاب وما تحتويه أحلامهم تؤيد نظرية فرويد كما هو ثابت في تقارير حالات مرضية لا حصر لها. إن رغبة الأبناء في أمهاتهم كانت معلومة للأقدمين. ففي التلمود يرى النبي إسماعيل إنه رأى رجلا في المنام – يصب زيتا على شجرة زيتون. وأن تفسير هذا الحلم أن لدى الرجل رغبة في إنشاء علاقة جنسية مع أمه.
وتقول " جوكاست " لأوديب وهى تجهل أنه ابنها:
- لا تخشى التزوج بأمك, فغالباً ما يحلم الرجال بمثل هذه الأمور، لكن من لا يعيرها اهتماما يعش سعيدا.
وقد وردت أسطورة أوديب في أوديسة هوميروس في نشيدها الحادي عشر عندما زار أوديسيوس العالم الآخر والتقى بأم وزوجة أوديب.
ومن الضروري أن نذكر أسطورة أوديب لإمكان المقارنة بينها وبين الأحداث الحقيقية التي يدعيها " إيمانويل فيلكوفسكى":
كان " لايوس" ملكاً على مدينة طيبة فطُرد منها, ولجأ إلى ملك طنطالة. ثم عاد إلى مدينته طيبة بعد أن خطف ابن الملك الذي استضافه وأحسن إليه وأعانه في شدته, مما حدا بالابن المخطوف إلى الانتحار بعد ما فعله لايوس معه من خطيئة.
ويتزوج لايوس من " جوكاست ", ويعيش معها عيشة هنيئة منتظرا قدوم الابن الذي سيرثه في الحكم والذي تأخر مقدمه كثيرا. وعندما يسأل لايوس العراف عن ذلك, يخبره بأنه نتيجة لفعلته مع ابن ملك طنطالة؛ سيرزق بولد سيعيش ويكبر حتى يقتله ويتزوج أمه. وبالفعل يُرزق لايوس وجوكاست بطفل, فيخرقان قدميه ويربطانه منهما ويعطيانه إلى خادم لكي يلقيه في جبل " كثيرون" لتفترسه السباع هناك. لكن الخادم أشفق على الطفل فسلمه إلى راع, فأخذه إلى ملك" كورنثة " الذي أتخذه ولدا, وسماه أوديب لتورم قدميه.
بعد أن يكبر أوديب يخبره العراف بأنه سيقتل أباه ويتزوج أمه, فيهرب بعربته من بلدته لكي لا تتحقق النبوءة, فيقابله " لايوس" بعربته أيضا؛ خارجا من طيبة باحثا عن حل للعنة التي حلت ببلاده, إذ حل بها وحش في صورة أبو الهول. يسأل الناس لغزا، فمن لم يستطع حله؛ يقتله.
تصادمت العربتان ( عربة أوديب ولايوس). فتشاجرا, حتى قَتل أوديب والده ودخل طيبة. فقابله أبو الهول في أول المدينة, حيث يمكث, فسأله عن الشيء الذي يمشى على أربع ثم اثنتين, ثم ثلاثة. فقال أوديب : "الإنسان. حيث يمشى في طفولته على أربع. ثم اثنتين, ثم ثلاثة عندما يستعين بالعصا " فمات الوحش كمدا, فكافأه أهل طيبة بأن زوجوه من ملكة بلادهم جوكاست. ويعيش أوديب هانئا مع زوجته, وينجب منها أربعة من الأبناء: بولينكس, وتيتوكليس, وانتيجونا وأسميتا. لكن وباء كاد يهلك كل شيء في البلاد. فيذهب البعض لسؤال العرافين عن ذلك. فيخبرونهم بأن ملكهم هو سبب البلاء, لأنه تزوج أمه بعد أن قتل والده, فيفقأ أوديب عينيه, وتقتل جوكاست نفسها.(2)
**
اعتادت الأسرة الثامنة عشرة – التي ينتمي إليها إخناتون ووالده أمنحوتب الثالث – أن تستشير العرافين فيما يتعلق بالخلافة. وأن هذه العادة لم تكن متفشية بين الأسر السابقة لهم, فأدى هذا إلى زيادة نفوذ كهنة النبوءة في طيبة زيادة تفوق الوصف, فسيطروا بذلك على العرش. ولقد استشار " أمنحوتب " الثالث كهنة النبوءة في معبد الكرنك, فأخبروه بأن ابنه سيقتله ويتزوج أمه. مما حدا بالملك إلى أن يبعد ابنه عن مصر كلها, وأن يرسله مع خادم لكي يتخلص منه. لكن الخادم أشفق على الولد وأبقاه حيا, حتى وصل إلى أهل أمنحوتب الثالث – من أمه - في بلاد " متننى". فظل أمنحوتب الرابع " بعيدا عن مصر طوال فترة حكم أبيه. فلم يذكر اسمه مع نقوش والده كما حدث لباقي ملوك مصر. إذ كانوا يذكرون أولادهم – خاصة ولى العهد – في نقوشهم. فقد رُسم أمنحوتب الثالث وزوجته وبناته في أحجام ضخمة, أكبر من الحجم الطبيعي, لكن ابنه وولى عهده لم يظهر في هذه الصور أو في صور العائلة الأخرى. في حين وردت صورٌ عديدة لأمنحوتب الثالث وهو يهدى موظفيه المنح والعطايا.
وذكر علماء التاريخ إنهم لا يعلمون إن كان أمنحوتب الثالث قد مات ميتة طبيعية أم كان ضحية لمؤامرة نسجت في القصر.أو فشل في العودة حيا من إحدى رحلات الصيد. وتقلدت زوجته " تى " الحكم لبضعة أشهر أو لأسابيع وحدها, ثم ظهر ابنها أمنحوتب الرابع فجأة وتسلم مقاليد الحكم حتى ساد الاعتقاد بأنه قد اغتصب العرش من والده.
يبدأ أمنحوتب الرابع بعد فترة قصيرة من حكمه إصلاحاته الدينية. فيعزل الإله آمون, ويضع مكانه الإله آتون. ويغير اسمه إلى إخناتون. وعندما يناجى إلهه آتون يصف نفسه بأنه العائش في الحقيقة. ثم يتخذ ذلك وصفا له. ثم يجرى العديد من التعديلات في العبادة:
أصبح آتون هو الإله الأوحد – لا في مصر وحدها – وإنما في كل البلاد التابعة لمصر.
منع تقديم القرابين البشرية – التي كانت تقدم إلى الآلهة أيام والده أمنحوتب الثالث وجده تحوتمس الرابع وغيرهما – ومنع صيد الحيوانات لمجرد المتعة. ومحا أسم آمون واسم والده في حين أبقى على اسم أمنحوتب الأول رغم أنه يمتزج أيضا باسم " آمون ".
ويرى" امانويل فيلكوفسكى" أن الأمر لو كان قاصرا على مسألة الديانات والعبادات لكان أزال اسم آمون من أمنحوتب الأول أيضا, إنما العداء كان منصبا على والده الذي أبعده عن قصره وبلده وحرمه من أمه وإخوته, وكان منصبا على آمون وكهنته الذين كانوا سببا فيما حدث له لنبوءتهم الغادرة. واهتم إخناتون بكهنة هليوبوليس الذين لم يشتركوا في هذه النبوءة والذين كانوا مستضعفين طوال فترة حكم الأسرة الثامنة عشرة، ومحا إخناتون – أيضا – أخبار هذه النبوءة من كل النقوش حتى لم نجد لها أثرا فوق الآثار.
بني إخناتون عاصمة جديدة " إخناتون" ( أي المكان الذي تُشرق منه الشمس) وهى في رأى فيلكوفسكى عاصمة تعيش على الملذات. فإخناتون هو الوحيد الذي صور زوجته وبناته عرايا, بل كان يضع يده فوق صدر زوجته الجميلة نفرتيتي, وتصل أصابعه لحلمتي ثدييها.
**
وأسطورة أوديب – كما نعلم – تحكى أن لايوس قد أعطى الطفل أوديب إلى خادم لكي يتركه فوق الجبل لتفترسه السباع. فرق الخادم لحاله وسلمه إلى راع, أخذه إلى كورنثة حتى اتخذه ملكها ولدا له.
وهذا ما حدث لإخناتون. فعند اكتشاف بلدة " اخناتون ", وجدت مقابر مهداه من إخناتون إلى رجال دولته, ومنها مقبرة مهداة إلى رجل يدعى " بار نفر" ينحدر من أصل ليس بالنبيل, وصـــــــور لـــه توضح زوجته وهى تستقبله بعد أن تسلم الهبات الملكية والألقاب التي أغدقها الملك عليه. ويزعم فليوفسكى أن هذا الرجل كان خادما لدى أمنحوتب الثالث- والد إخناتون – وأنه تلقى أوامر من الملك بالقضاء على الطفل الصغير. لكن الخادم أبقى عليه وسلمه إلى ملك متني لتربيته. ويزعم المؤلف أيضا أن قدمي إخناتون – الطفل – كانتا متورمتين ومشوهتين. فالتشابه يكاد يكون كاملا في كل شيء بين إخناتون وأوديب.
ومقبرة أخرى لـ " آي" وزوجته " تاى" وهما يتسلمان الهبات من إخناتون ونفرتيتي: " إن فرعون الرخاء والحياة الصافية قد منحهما ملايين الأكداس من الذهب ووسائل الرخاء والثراء "
و" آي " هذا هو شقيق " تى " – زوجة أمنحوتب الثالث وأم إخناتون – ويقابله في الأسطورة " كريون" الذي تمتع بنفوذ كبير بعد موت لايوس ووصول أوديب وتوليه الحكم. فهو الذي وهب أخته جوكاست إلى أوديب بعد قتله الوحش. وكان يلي الملك في المكانة داخل المملكة.
**
بعد موت أمنحوتب الثالث ظلت " تى" مشرفة على حريم زوجها – كما هو مبين على النقوش فوق الآثار – فكيف يكون للزوج الميت حريم؟! ويؤكد المؤلف أن " بكتاتن" ابنة إخناتون من أمه " تى". وأن باقي بناته من نفرتيتي. ف" بكتاتن " تظهر دائما في الصور مع " تى ". بينما الأخريات يظهرن مع أمهن نفرتيتي. ويطلقون على بكتاتن – في النقوش- ابنة الملك. وعلى الأخريات بنات نفرتيتي.
لقد تولى إخناتون الحكم بعد موت والده أمنحوتب الثالث مباشرة. وعندما كانت بكتاتن في الرابعة من عمرها كان إخناتون يحكم منذ أثنتى عشر عاما تقريبا. وتظهر في اللوحة نفرتيتي وإخناتون ومعهما أربع فتيات يلوحن بمراوحهن لأبيهن الملك. وفى الجانب الآخر: " تى" ومعها بكتاتن وثلاث وصيفات. وكُتب تحت الصورة: الأميرة الوريثة كريمة في حياتها, سيدة الرشاقة, خلابة بركة حبها, تملأ جوانب القصر بجمالها، سيدة الشمال والجنوب, زوجة الملك العظمى التي يحبها ويقدسها, سيدة الأرضين"
وكُتب بجوار بكتاتن : " ابنة الملك من جسده, المحببة إلى نفسه ".
هناك شك, هل الملك الجالس على عرشه في الصورة هو أمنحوتب الثالث أم ابنه إخناتون؟ ويؤكد ايمانويل فيلكوفسكى أن النقوش على كتف الباب الأيمن – تحت الشراعة – تسرد أسماء ملك الشمال والجنوب, العائش في الحقيقة. وهى أسماء تخص إخناتون وحده. كما أن وقت هذه الصورة كان أمنحوتب الثالث قد مات منذ أكثر من عشر سنين. ويظهر في الصورة شعاع آتون يمسك برمز الحياة عند فمه. وشعاع آخر يمتد من قرص الشمس إلى فم " تى " ممسكا بعلامة مماثلة. كما أن جسم الملك – في الصورة – هو جسم إخناتون بملامحه المميزة المعروفة.
ولوحة أخرى على الحائط الشرقي من غرفة المدفن تصور إخناتون يقود " تى " من يدها وهى شبه عارية, تظهر خطوط ثدييها وبطنها وساقيها بوضوح تام. وإخناتون ينظر إليها بعاطفة جياشة, كما لو كانا عاشقين وليس ابنا وأمه. وقد كتب أمامه : " يقود الملكة العظمى, والأم الملكية لترى ظلها في الشمس"
لقد تربى إخناتون – كما يزعم المؤلف – في متني استجابة لتحذير النبوءة وهو في مرحلة الشباب. ومتني ليست في شمال سوريا كما جاء في العديد من المصادر, وإنما هي شمال العراق التي كانت مستعمرة فارسية. وقد تأثر إخناتون بمعتقداتهم التي تجعل من زواج الابن بأمه عملا مقدسا. فلا يتم تطهير حاملات الجسد ببول الماشية فقط ( البقرة المقدسة ) بل بخليط من بول رجل وامرأة كانا قد زاولا ( الكسفايتفادانا) وهو زواج الأباء بأولادهم, والأخوة بأخواتهم.
وقد أحست نفرتيتي بالغيرة من " تى " , وأن السنوات الأخيرة من حكم إخناتون لا يرد فيها ذكر نفرتيتي. فـ" تى " هي الملكة الرئيسية. بينما نفرتيتي مجرد زوجة من زوجات الملك الكثيرات. وانحطَّ شأن أطفالها فأصبحوا في مركز أطفال الحريم.
وبمرور العام الثاني عشر؛ هجرته نفرتيتي وصار الصراع دائرا بين إخناتون و" تى " من جهة، ونفرتيتي ووالدها " آي " من جهة أخرى. وبعدها اتسع نفوذ " آي" فكان يدير ماليات الدولة والقصر. واختفت " تى " من الوجود بعد فترة قصيرة؛ إذ لم تدفن بجوار أمنحوتب الثالث؛ بل لم يجدوا لها أية مقبرة.
وانتشر الوباء في البلاد وعم الفقر, فأحس الشعب بأن الآلهة غاضبة عليهم وناقمة. وقد سألوا كهنة النبوءة عن سر ذلك. فأنبئوهم بسر الخطيئة. وتزعم " آي" الحركة ضد ابن أخته إخناتون انتقاما لابنته نفرتيتي المهيضة ( وهو نفس الذي فعله كريون في أسطورة أوديب) وتغير موقف " آى ". فبعد أن كان من أشد المتحمسين للإله آتون, انقلب وانضم إلى كهنة أمون انتقاما من إخناتون.
**
" تيرسياس" هو عراف أسطورة أوديب. وقد ذكره هوميروس في الأوديسة حين ذهب أوديسيوس إلى العالم الآخر ليستشيره. وقد تحول تيرسياس إلى امرأة بعد أن قتل الحية. ثم عاد إلى رجولته. لذا؛ عندما اختلف زيوس وزوجته هيرا في مسألة: أى الجنسين يتمتع بالجنس أكثر, الرجل أم المرأة ؟ ذهبا إليه ليسألاه في ذلك على أساس أنه جرب النوعين معا. فأجاب: إن المرأة تتمتع بالجنس أكثر.
وذلك كان على غير ما تريد هيرا. فأعمته. بينما أعطاه زيوس العمر المديد وأسبغ عليه بنعمة التقديس.
وامنحوتب بن حابو؛ هو العراف الحقيقي الذي صورته الأسطورة في صورة تيرسياس. فقد أَّلهه المصريون بعد موته. وصنعــــوا لـــه تمثالا, يبدو بشعر طويل كالنساء, وقد كان عمره ثمانين عاما في العام الرابع والثلاثين من عمر أمنحوتب الثالث. وعاش إلى أن حكم إخناتون. ولم يبرح طيبة عندما برحها إخناتون إلى " اخناتون". وانحاز إلى " آي" ضد إخناتون. كما انحاز تيرسياس إلى كريون ضد أوديب.
لقد غضب آمون على مصر كلها لأنها تركت عبادته. لذا؛ فشلت المشروعات العسكرية, وتناقصت أطراف الإمبراطورية. ذلك ما قاله " توت عنخ آمون" عن ديانة إخناتون الجديدة. وانضم " سمنقرع " – الذي كان يشارك إخناتون الحكم – إلى جانب " آى " وسافر إلى طيبة لمصالحة كهنة آمون وترضيتهم. وحددت إقامة إخناتون في أحد مباني مدينة " اخناتون" وحكم سمنقرع وحده.
ذلك حدث في الأسطورة أيضا. فقد قال تيرسياس: إن الآلهة قد أدارت ظهرها لهذه الأرض. فإن تضرع إليها إنسان لطلب شئ؛ لا تقــــضيه لــــه " كما أن أوديب قد سجن – أيضا – في أحد مباني طيبة.
وفى عصرنا هذا؛ قام بعض البدو بإزالة الأتربة في " تل العمارنة " فظهر المبنى الذى كان سجنا لإخناتون. وقال البدو: إن أحد الملوك قد أخفى ابنه في ذلك المكان لكى يحميه من نبوءة تنبأ بها القدر عند ولادته.
ظلت حكاية إخناتون تتردد وتتناقل من جيل إلى جيل إلى أن وصلت إلى عصرنا هذا.
**
تقول الأسطورة إن أوديب قد أعمى نفسه بعد اكتشاف خطيئته. وهيرودوت يقول أيضا: إن فرعونا جلس على عرش مصر وهو أعمى. وأن اسم مدينته هو نفس اسمه. وإنه هرب من أعدائه إلى المستنقعات, وخلفه على عرش مصر الأثيوبيون. ثم أعاده أنصاره ثانية إلى العرش بعد أن هزموا الأثيوبيين.
ويظهر " توت عنخ آمون" في مقبرته وهو يحارب الأثيوبيين. كما أن اخناتون – مدينة آتون – مشابهة لأسم إخناتون. وأوديب في الأسطورة تم نفيه في منطقة مليئة بالكثبان الرملية. وهذا أقرب إلى أرض المستنقعات.
وبعد أن عادت عبادة آمون ثانية؛ نظم طلاب المدارس أناشيد لآمون تذكر أن ذلك الذي هاجمك يسبح في ظلام دامس، على حين يسبح العالم كله في ضوء النهار. يقصدون أن إخناتون قد عمى ويعيش في الظلام. وعادة ما يحذف اسم إخناتون وورثته من قوائم الملوك المصريين التي كتبها من خلفهم من فراعنة, كما لو كانت فترة حكمه وشخصيته وسلالته شرا مستطيرا لا يجب أن يذكر. وإذا ما اضطروا إلى ذكره. قالوا: " مجرم اخناتون".
**
تم اكتشاف مقبرة, ظنوها – أول الأمر – مقبرة " تى ". كانت الفوضى تشملها من كل جانب. مع تأكيد أن لصوص المقابر لم يقتربوا منها أو يتوصلوا إليها. كما أن المكان لا يليق بأن تدفن فيه ملكة. فخدم " تى" دفنوا في مقابر أكثر رقيا من هذه المقبرة.
كانت المقبرة عبارة عن كهف وعر نحت في الصخر, بلا رسوم تزينه. وبدا أن دافني الجثة كانوا في عجلة وعدم احتياط مما أدى إلى سقوط التابوت وكسره. هذا إذا لم يلقوا به عمدا.
ذلك المكان يؤكد أن هذه مقبرة سرية, حفرته أيدٍ غير مدربة. وعند عرض عظام المومياء على أخصائيين؛ أكدوا أن عظام الحوض لذكر لا لأنثى. ثم اعتقدوا أن الجثة لإخناتون. وأن دافنيه قد أخفوا جثته في ذلك المكان الموحش حتى لا يتوصل إليها كهنة آمون؛ فيمثلون بها انتقاما مما فعله بهم وبآتون.
لكن عند اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في نوفمبر 1922 وفحص المومياء المدفونة في المقبرة توصلوا إلى الصلة بينها وبين التعيس المدفون في المقبرة الأخرى المهملة, واتضح أنها لسمنقرع شقيق توت عنخ آمون الأكبر – ولدي إخناتون – واتضحت الحقيقة المذهلة, إن ما حدث في أسطورة أوديب بعد نفى أوديب وموته، هو ما حدث في الحقيقة بعد نفى إخناتون وموته.
اتفق سمنقرع مع أخيه توت عنخ آمون على أن يتبادلا الحكم عاما لكلا منهما. لكن " آي " – المسيطر الفعلي على الحكم – حرض توت عنخ آمون بألا يترك الحكم لأخيه. فاضطر سمنقرع أن يستعين بالأثينيين ليحاربوا طيبة بقيادة آي وتوت عنخ آمون اللذين هزما سمنقرع ومن معه من اتينيين. وقُتل الملكان في المعركة ( توت عنخ آمون، وسمنقرع ) فأعلن آى بأن سمنقرع خائن لبلاده لاستعانته بالأغراب. لذا؛ ستظل جثته في الخلاء دون دفن. ومن يجرؤ على دفنها سيعاقب بالموت. بينما أقام لتوت عنخ آمون جنازة مهيبة؛ ومقبرة غنية مملوءة بالذهب والمجوهرات بطريقة مذهلة لا تتناسب مع قدره. وقد ثبت تاريخيا أن سمنقرع وتوت عنخ آمون قد ماتا في وقت واحد.
إن ميريتاتن – أكبر بنات إخناتون وزوجة سمنقرع – هي أنتيجونا في الأسطورة. فقد تحدت " آى " ودفنت زوجها. فكان عقابها الحبس داخل ذلك الكهف الذي دفنت فيه زوجها.
وقد وجدوا في مقبرة توت عنخ آمون خصلة من شعر " تى "، والمعروف أن المجتمعات الشرقية – وبعض الغربية – تدفن جثة المنتحر خارج حدود الأرض المقدسة التي بها جبانة الجماعة. لكن هناك اعتقادات – في نفس الوقت – تدعى أن روح المنتحر تهيم أثناء الليل، وأن كل ما يتخلف عنه من ممتلكات تجلب الحظ. فقطعة من حبل الذي شنق نفسه تعتبر تعويذة لجلب الحظ. لذا؛ وضعوا خصلة من شعر " تى " المنتحرة كتعويذة تحمى مقبرة توت عنخ آمون من اللصوص.
أي أن " تى " انتحرت حزنا على ما فعلته, كما انتحرت جوكاست - في الأسطورة التى تناولها العديد من كتاب الدراما القديمة والحديثة.
الموضوع الأساسي في مسرحيات : " أوديب في كولونا وانتيجونا وسبعة ضد طيبة " هو مشكلة دفن الموتى وأهمية إكرام الميت بدفنه. فأوديب كان يبحث عن إخفاء مكان مقبرته حتى لا يعبث بها أعداؤه. والمشكلة الكبرى لدى انتيجونا, ليس موت أخيها بولينكيس. وإنما ألا تدفن جثته لكي لا يعذب في حياته الأخرى الباقية إلى الأبد. وهذه المشاكل منبعثة من البيئة المصرية فنعى انتيجونا لأخيها بولينكيس ظاهرة لا مثيل لها في الأدب اليوناني. بل ظاهرة غير موجودة سوى في مصر التي أعطت أهمية أكبر للمقابر وللعالم الآخر.
ووضع الجسد في كهف محفور في الجبال أمر جديد على اليونانيين الذين كانوا يحرقون موتاهم أو يدفنونهم في الأرض. وإنما المصريون هم الذين حفروا الجبال وصنعوا منها كهوفا لموتاهم. وذلك ما يؤكد حدوث الصراع بين سمنقرع وتوت عنخ آمون, ورفض " آي " دفن سمنقرع انتقاما وتعذيبا له.
**
هناك نقاط عديدة يتشابه فيها أوديب مع إخناتون:
• جثة إخناتون لم تحنط, ومن ثم لم يحافظ الزمن عليها كسائر ملوك مصر. ولم يدفن في مقبرة معروفة. كما رجا أوديب " تسيوس" – الذي تعاطف معه وأشفق عليه – بأن يظل مكان مقبرته مجهولا لا يعرفه أحد.
• حكم كلٌّ منهما عشرين عاما (وتشمل هذه المدة السنوات التي قضاها إخناتون في سجنه).
• تزوج " آى " من انخستاتن – أرملة توت عنخ آمون – التي تغير اسمها إلى انخستامن – لكى يدعم " آي" حقه في الجلوس على العرش. وكذلك فعل كريون (في الأسطورة ) فقد تزوج ابنة من بنات أوديب - وكان ينوى أن يزوجها ابنه - وذلك توطيدا لحقه في الجلوس على العرش.
• دمر الغزاة مقبرة " آى" بعد موته وأصبح التابوت شذرات صغيرة, ومحوا الرسوم والنقوش المحفورة على الحائط انتقاما مما فعله بهؤلاء الغزاة عندما جاءوا مع سمنقرع وحاربوا معه فهزمهم آى بالاشتراك مع توت عنخ آمون. وهذا ما حدث لكريون في مسرحية انتيجونا. إذ يتنبأ العراف " تيرسياس" بأن العار والتدنيس سيلحقانه بعد موته, وستلقى جثته خارج مقبرته لعدم دفنه بولينكيس.
**
يؤكد المؤلف إنه كانت هناك صلات حميمة بين مصر وأثينا في عصر الأسرة الثامنة عشرة فعُثر على جعران محفور عليه صورة أبو الهـــــول لـــــه أجنحة في أثينا من الجعارين التى كانت مستخدمة في هذا الوقت في مصر. وأن قصة " تى " لابد أن تكون قد وصلت إلى المتيتيين بحكم المصاهرة. إذ أن جدة إخناتون لأبيه كانت منهم. ثم وصلت القصة إلى بلاد أخرى, حتى وصلت إلى أثينا. وأن طيبة – في ذلك الوقت – كان اسمها " نوامون". أطلق اليونانيون عليها اسم طيبة, إعجابا بالمدينة المصرية. وأن ما حدث لأمنحوتب الثالث وزوجته " تى " وابنهما إخناتون؛ قد علم به التجار الذين يسافرون إلى مصر لبيع منتجاتهم, فتحدثوا به في الأسواق الفينيقية إلى أن وصلت اليونان عن طريق الفينيقيين. وهذا ما حدا بيوربيدس بأن يجعل الفينيقيات يبحن بالسر في مسرحية " الفينيقيات ".
ويذكر سوفكليس في (أوديب في كولونا) على لسان أوديب عن ولديه: " إنهما يظهران صورة صادقة لوسائل مصر وطباعها وفى روحهما وحياتهما "
ويذكرون طيبة الذاخرة بالعربات الحربية. وكانت طيبة المصرية ذاخرة – حقا – بالعربات الحربية.
وذكر " جلادسون ": " إن الكثير من هياكل الأساطير اليونانية التي ذكرها هوميروس, قد تشكلت في البلاد الشرقية, خاصة مصر ".
**
المشكلة عند ايمانويل فليوفسكى اليهودي أن فرويد اليهودي – مثله – قد أَّلف كتابا عن إخناتون وموسى ( موسى والتوحيد) جعل فيه إخناتون أستاذًا لموسى. ذلك ساءه كما ساء العديد من اليهود فسخطوا على إخناتون وتتبعوه وحاولوا التقليل من شأنه, وإلصاق العار به. فيقول فليكوفسكى في مقدمة كتابه:
ومما يدعو للسخرية أن كلا من أوديب وإخناتون كان بطلا لمؤلفات فرويد. ولم يدرك فرويد تماثلهما الوثيق حتى في تكوين الشخصية، إذ رأى في أوديب نموذجا يرمز إلى الزاني الذي يتعذب من جراء بواعث خطيئة يرضخ لها، وإن كانت هذه البواعث إنسانية إلى حد بعيد. على حين رأى في إخناتون قديسا – أول الموحدين – والذي سبق موسى المشرع .
ذلك ما أغضب ايمانويل ودفعه لأن يؤلف كتابه هذا لكي يجرد إخناتون من القدسية التي وصفه فرويد بها, ويجعل أفعاله – التي قدرها العالم واهتم بها – نتيجة لخطيئة تدعو إلى الخجل؛ لا إلى الفخر.
وهو يرى أن فرويد مجرد مريض نفسي, وأن موقفه من أبيه جعله يتخذ موقفا معاديا من دينه اليهودي أيضا.
وإنه قد ظهر في عصرنا الحديث هذا, رجل يدعى أنه قــــدر لــه أن يقود الجنس البشرى كله إلى التوبة والإخلاص. وأن الطاقة الشمسية قد جعــــلت لـــه وحده في صورة أشعة تبعث الحياة, وأن حالة ذلك المريض؛ تشبه حالة إخناتون. وأن إخناتون لو وضع تحت الفحص النفسي لأتضح أنه نرجسيا, ميالا للشذوذ الجنسي وظواهر تخنث على وشك أن تظهر فيه.
دأب اليهود على الحط من إخناتون وديانته. فيؤكد بعضهم أن تلك الديانة لم تكن وليدة تفكير إخناتون, بل هي مأخوذة من التوراة, زعما منهم بأن ديانتهم قد ظهرت قبل عصر إخناتون. واستنادا إلى التشابه بين بعض فقرات أنشودة آتون وبين الفقرات من 20 إلى 30 من المزمور 104 من العهد القديم.
ومن المعروف أن إخناتون عاش في عصر سابق لعصر ظهور المزامير. وأن المقارنة البسيطة بين نشيد إخناتون والمزمور 104 لتدل على أن النشيد هو أصل المزمور. بل أن هناك العديد من الأناشيد القديمة لآمون وغيره من الآلهة المصرية؛ قريبة من أناشيد إخناتون. والكلمات المستخدمة في النشيد والمزمور – أيضا – تؤكد مصريتها.
لم يكن إخناتون أول من نادى بعبادة آتون. ففي إحدى لوحات تحوتمس الرابع ( جد إخناتون) ظهر تحوتمس يعبد قرص الشمس ( آتون). وقد تدلى من هذا القرص شعاع ينبعث من الشمس حاملا إليه الخيرات.
ويذكر الدكتور سليم حسن في موسوعته عن مصر القديمة – الجزء الخامس، صفحة 257:
في عهد أمنحوتب الثالث خطا الميل إلى عبادة قرص الشمس خطوة ثابتة. إذ نشاهد هذا العاهل يطلق على قاربه الذي يتنزه به في بحيرته الصناعية بمدينة " هابو" اسم آتون. وسمح لابنه أمنحوتب الرابع ( إخناتون ) ببناء معبدٍ في الكرنك لآتون.
نشأ إخناتون في بيئة لديها الاستعداد لتغيير العادات والتقاليد المتوارثة والى تكبل الملوك والشعب معا, والتي فرضتها عليهما كهنة آمون. فقد أحس تحوتمس الرابع بأن كهنة آمون قد وصلوا إلى درجة لا يستطيع احتمالها من الغرور والتحكم في كل شيء؛ فانتزع منهم وظيفة رئيس كهنة القطرين, وقلدها لأحد قواده ممن يركن إليهم ويثق بهم. كما أن إخناتون سمع أمه " تى " في أكثر من مكان في القصر وفى أوقات عديدة تشكو من تحكم كهنة آمون وتدخلهم في أمور المملكة؛ خاصة أنهم حاولوا منع أمنحوتب الثالث من أن يتزوجها لأنها ليست من أصول ملكية.
وساعد على تمكن هذه الناحية المتحررة ما وصلت إليه البلاد من الثراء الواسع والجاه العريضة فاهتموا بالفنون والعمارة والتحموا بكل الحضارات الموجودة في العالم, وحطموا التقاليد التي جرى عليها أجدادهم الملوك القدماء, فتزوج تحتمس الرابع من أخت ملك متني. وتزوج أمنحوتب الثالث واحدة من عامة الشعب, كانت تذهب إلى القصر لزيارة أمها التي تعمل هناك, فأعجب بها الملك وأحبها وصمم على الزواج منها.
إن ملوك الأسرة الثامنة عشرة منذ أن تولوا الحكم دأبوا على تحطيم التقاليد المتوارثة؛ فهيئوا لإخناتون الظروف التي ساعدته للنداء بعبادة إله واحد.
أما عن الزعم من أن إخناتون لم يعد إلى مصر إلا بعد موت والده أمنحوتب الثالث, فذلك يجافى الحقيقة تماما، فالمصادر التاريخية تؤكد أنه حكم ست سنوات بالاشتراك مع والده. وما يقرب من ثلاث عشرة سنة بمفرده. ومات في سن يقارب الثلاثين من عمره. بمعنى أنه تولى الحكم صغيرا. وليس من المعقول في هذه السن المبكرة أن يقوم بأعباء ثورة عاتية وحده، متحديا أكبر قوة عرفتها مصر في ذلك الوقت؛ هى قوة كهنة آمون. إن أمَّه " تى " هي التي وجهته وساندته, خاصة بعد موت والده أمنحوتب الثالث- الذي كان حريصا على إقامة توازن بين كهنة آمون وغيرهم من كهنة الآلهة الأخرى.
أثار إخناتون جدلا عظيما منذ أن توصل إليه علم المصريات لا لأنه نادى بعبادة آتون؛ لكن لأنه نادى بعبادته وحده, ولأنه جعل العبادة لأله واحد على عموم الإمبراطورية الكبيرة جدا. فيقول آرثر ويجال عنه:
قد نعتبر إخناتون من الناحية الزمنية, وربما بالنظر إلى العبقرية أيضا، إنه أول رجل مثالي في العالم. ولا جدال في أنه قد خلق روحا جديدة في العلاقة الشخصية بين الإنسان والإله, وهى روح لم يعهدها الناس من قبل في دين. أو على الأقل لم تسجل من قبل في ترانيم أو صلوات سابقة كانت أم لاحقة.
لكن اليهود – كالعادة – ينسبون كل الأعمال العظيمة في العالم إلى أنفسهم, ويتبعهم في ذلك بعض العلماء – غير اليهود- متأثرين بدعاياتهم وأصواتهم العالية.
والغريب في الأمر أن يتبعهم بعض العلماء المصريين أيضا. فينسبون إلى إخناتون ما زعمه اليهود عنه.
إشارات:
1 – أوديب وإخناتون – تأليف ايمانويل فيلكوفسكى - ترجمة فاروق فريد.
2 – أوديب ملكا - سوفكليس.
https://www.facebook.com/profile.ph...2E7etzWYzZVK5j933N0GLeLX6DJPDK&__tn__=<,P-y-R