محمد يحظيه ولد ابريد الليل - موريتانيا وأزواد (1- 2 - 3)

حينما كُلف كبّولاني بإخضاع موريتانيا للاستعمار الفرنسي حل بادئ ذي بدء بمنطقة أزواد. إنها استراتيجية غريبة من منظور اليوم. مع ذلك، لم يكن يدور في خلده أن يغزو موريتانيا انطلاقا من الشرق ، فلئن كان خبيثا فهو ليس بالأبله، ولاعتقاد ذلك يجب التمتع بشخصية : الأيقونة التي خلدها أدبنا الشفهي تيبه.

من المعلوم أن تلك العظيمة ذائعة الصيت التي اشتهرت في محيطها بالحكمة البالغة إلى درجة أنها أصبحت زعيمة الحي بكامله، أمرت ذات يوم بإقامة حظيرة كحظائر الحيوانات لتحبس فيها الغربان الطيارة.

عبر التاريخ الطويل والمتقلب لغرب الصحراء الكبرى كانت حركات الاجتياح المنطلقة من الشرق إلى الغرب نادرة بل نادرة جدا. لقد كانت حركة الرجال تتم دائما من الشمال إلى الجنوب، أو من الغرب باتجاه الشرق وبصورة استثنائية حصل بعض الاختراقات المنطلقة من الجنوب باتجاه الشمال : حركة المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين مؤسس مراكش التي جمعت تحت ظل امبراطورية واحدة معظم المغرب العربي والاندلس، وحركة الشيخ ماء العينين التي أعلنت قيام مملكة خاطفة في مراكش أيضا. لكن ذلك كان استجابة لنداءات الفراغ في الشمال الذي يتوجب ملؤه : كان المرابطون يسعون إلى معالجة تفتت مملكة الأدارسة وما تبعه من فوضى. وكان الشيخ ماء العينين يسعى إلى معالجة ضعف العلويين امام تقدم الفرنسيين. ولكن هيهات، فقد جاء الشيخ ماء العينين متأخرا جدا في ظرفية بات ميؤوسا منها بعد مؤتمر (الجزيرة الخضراء) حيث تم الإجماع الأوروبي وحيث رفعت ألمانيا وابريطانيا كل عقبة أو اعتراض أمام احتلال المغرب من طرف فرنسا.

لقد ولَّد خطاب القيصر كيوم الثاني، امبراطور ألمانيا، في طنجة عام 1905 حالة من الأمل في المنطقة، خاصة وأن السلطان مولاي عبد العزيز والشيخ ماء العينين كانا مؤيدين لبلاده. غير أن الألمان غير متميزين في السياسة، إنهم يستخفون أو كانوا على كل حال يستخفون بالسياسة، لقد كانت العقول المتميزة تتجه إما إلى الفلسفة أو العلوم أو الجيش. وعلى الرغم من ذلك فقد أنجبوا الداهية بسمارك والشهير ويلي ابرانت.

لم يكن باستطاعة كبّلاني أن يأتي من الشرق، فمن أية قواعد سينطلق، وبأية قوات سيؤمن خطوط مواصلاته وإمداداته الطويلة جدا، وكيف سيؤمن خطوطه الخلفية في منطقة شديدة العداوة؟ ! لم يكن باستطاعة كبّلاني المجئ إلا من حيث أتى، من السنغال، التي يتواجد فيها الفرنسيون بقوة منذ عهد اشمالز، أي منذ ما يقارب قرنا من الزمان.

غير أن الجراب الذي كان على كبّولاني أن يملآه مثقوب من جهتين : من الشرق ومن الشمال. فالجراب يكون، بصفة عامة مقفلا من الجهة التي يوجد بها البحر ومن الجهة التي يكون فيها، فيما وراء الحدود سكان آخرون. فحتى الجبل، ولو كان الهملايا، لا يمكنه غلق الجراب بل يمكنه أن يكون مصدر قلق. أما النهر فهو لا شئ ! ولن نَملَّ من تكرار ما قاله اكلاوزفيتش "إن أمثلة للنهر المحصن بما فيه الكفاية نادرة في التاريخ".

لم يكن كبّولاني يتوفر على مصادر لسبر فتحة الشمال، إنها فوهة المدفع ينظر فيها الناظر نظرة واحدة ويموت. أما بالنسبة لفتحة الشرق فقد كان مرتاحا من استطلاعها إلى حد ما. لقد جاب منطقة شبيهة من حيث الطبيعة والسكان بتلك التي يخطط لاجتياحها. وخلال تجواله كان يدخل ويخرج من وإلى أزواد والحوض، دون أن يحس باختلاف المكان أو يكدر خاطره شيء. لقد أقام بعض العلاقات وأبرم بعض الاتفاقات المبكرة وبث دعايته تحت كل الخيام وبخاصة أن فرنسا تحترم الاسلام وأنها - وهو المستغرب من كبرى بنات الكنيسة- صديقة للمسلمين. وتأكيدا لأقواله، وزع بسخاء في طريقه كمية كبيرة من كتاب المدائح والأذكار للجزولي، الكتاب المفضل لدى جداتنا "دلائل الخيرات" المعروف.

لقد كان يعتقد أنها الطريقة الموفقة للاقتراب من مجتمع مسلم جامد منذ ثلاثة عشر قرنا. غير أنه في الوجه الآخر، بدا له أن المجتمع البدوي أكثر تعقيدا. لقد اكتشف أن الجود عند هذا الأخير يمثل رأس القيم.

لم يكن كبّولاني قد استعد لمثل هذا الكرم، غير أن الأمر لم يكن إلا ظرفيا، فهو سيحرص على أن يصلح الخطأ حينما يخالط البيظان انطلاقا هذه المرة من طرفهم الآخر قادما من سان لويز.

لقد كان ذلك الاستطلاع مفيدا حيث اظهر جوانب الصعوبة أو السهولة في إقامة المشروع الذي مازال في طوره الافتراضي، والذي يراكم في سبيل بنائه بتأن ومثابرة الحجارة والطين.

كانت تلك هي طريقة كبّولاني في تهيئة موريتانيا وجعلها في "المنظور" الفرنسي من أزواد، وهذا دليل يعود عمره لأكثر من قرن على أن أيَّ سياسة تتعلق بمصير بلادنا لا يمكنها أن تتجاهل أزواد.

مع ذلك فقد أجمع قادة الدولة الموريتانية، سواء الذين حكموا عشرين سنة أو لسنوات قليلة فقط، على التجاهل المنتظم، طيلة خمسة وأربعين عاما، لهذه المنطقة، وهذا لوحده يمدنا بالمعلومات الكافية حول عقلياتهم، وقدراتهم، وبعد نظرهم.

لم يأخذ هؤلاء القادة المتمرسون في مجانبة الصواب في الحسبان عامل المجاورة الترابية القوي، ولا الوجود الحاسم لعامل التجانس الاجتماعي.

إنهم يعرفون أكثر من غيرهم ولا يطلبون الرأي من أي كان، فلأنهم رؤساء دولة فهم يعتقدون أنهم ينتقصون من قدْرهم ويفقدون اعتبارهم حين يطلبون الرأي مم تحتهم، ولسوء الحظ ليس ثمة إلا تحتهم، فليس لهم أنداد، فهم مجبرون على التعالي في أبراجهم ومساكنة صممهم السرمدي إلى حين تقصف الصاعقة !

في اليابان القديمة كانت المراسيم على درجة الصبيانية المضحكة تمنع الأمير -لأنه إله- من الاحتكاك بالعامة.

كان لا بد من انفجار الارهاب كي نستيقظ على أزواد، إننا نكتشفه كما لو أنه كان متاخما لمنغوليا، وأصبح فجأة على حدودنا ، وكأن جدارا كان يمنعنا من الرؤية ويحجب عنا الأصوات، قد انهار مع إعلان استقلال أزواد من طرف الحركة الوطنية لتحرير أزواد.

لقد اكتشفنا واقع هذا الإقليم، كلَّ ما يدور فيه، كلَّ ما هزه ويهزه على مدى خمسين عاما، اكتفشنا المآسي لتي كان مسرحا لها، والجور والقمع الذي كان ضحية له منذ نصف قرن تحت نوافذنا. إننا نكتشف كل هذا !.

إن ما يقوله ج. ديهامل على المستوى الشخصي، يمكن في هذه الحال إذن أن ينطبق على دولة : " أحيانا ، وبسبب قربها، فإن أحداثا صغيرة للغاية تحجب عني باقي الأرض، كما أن الصوت الخفيف في المطبخ يمنعني، في بعض الأيام، من سماع خطو الأمم السائرة باتجاه مصيرها".

لقد كنا لفترة طويلة ودون أن ندرك، مرضى بسبب الصحراء الغربية (الاسبانية سابقا) غير أن المسرحية المتواصلة التي كانت تلعبها الدولة كانت تمنعنا من الوعي بذلك. إن هذه المشكلة : مشكلة الصحراء ليست وماكان ينبغي لها على الخصوص أن تكون أحد فصول تلك المسرحية.

إن المجموعات الاجتماعية، أو إذا شئنا، التشكيلات الاجتماعية مستقلة عن وعي أعضائها. هناك بلا شك علاقة تفاعلية غير أنها ليست متساوية. إن التشكيلة الاجتماعية تضع غشاوات على أعين أعضائها وتسيرهم بالهراوة، ولكن خلافا لما يمكن أن نعتقد ليس إلى الأمام، وإنما بشكل لا يسمح لأحد بالتجاوز وبحيث يكون وفقا لإيقاع القاعدين والخوالف، أولئك الذين يفكرون أقل ويخشون الإقدام. إن التقليد، والامتثالية، والعادة، هي الأبناء المدللة للمجتمع والدولة التي لا تملك رؤية تقدمية.

إن الأفراد يؤثرون، غير أن تأثيرهم متباين، يمكن أن يقع بعد قرن ولا يتعلق إلا ب "أجيال مستقبلية" افتراضية، كما يمكن أن يهدف إلى إنقاذ الأحياء، وحينئذ يأخذ، لا محالة، مظاهر الجنون ومعاناة واقع من يحفر نفقا تحت جبال آدرار.

لقد كان الأوائل الذين صمموا قالب موريتانيا من الصنف الأول : كانت لهم شفقة لا حدود لها تجاه "أجيال المستقبل"، ولا مبالاة راسخة إزاء الأحياء، في عدم المساواة، وفي البؤس ، وفي الظلم، وفي التسلط، بل وفي عدم استكمال أساس بنائهم الذي يبنون، ليس بالمعنى الفرضي الاستنباطي وإنما بالمعنى المادي. غير أن النواقص التي تعتم عليها الدولة تبقى حاضرة بقوة في المجتمع، إنها لا تزول بالأرادة ويحسها المجتمع والأفراد في شكل احتقان وأمراض بلا أعراض محددة.

في مثل هذه الظروف الوبائية، لا يتم حل أي شيء، بل تتكدس الأمور ويتوقف التقدم. وعندما نقرر الحركة متأخرين دائما نلاحظ أننا في متاهة وأن جهد العودة إلى نقطة البداية أقسى وأكثر إيلاما من الهجوم نفسه. وهكذا تكون النتيجة حالة عامة من التشكك وانعدام الثقة في نجاح أي عمل وأي فكرة ، والريبة إزاء كل أولئك الذين يتشبثون بمثل أعلى أو مبدإ ، إنه ، بعبارة أخرى، الشلل التام.

وطالما لم نعالج الأمراض الأولية أو المرض الأصلي فسنبقى تائهين أو ضحايا خمول مدى الحياة. لقد أشار نابليون إلى أن معركة واترلو، التي خسرها، كانت قد خُسرت في الهند في القرن السابق من طرف الويس الخامس عشر الضعيف. ترى من سيكتشف الأصول البعيدة لمعاركنا الخاسرة؟

لقد أدرك بعضنا على قلتهم، مصيبتنا في الصحراء الغربية (الاسبانية سابقا) إبان حركة الزملة عام 1970؛ أما الدولة فقد آثرت تجاهلها ومقاربتها من حيث ما كان ينبغي لها، على انها مشكلة تصفية استعمار مجهول، كما لو أن الأمر يخص بابوازي- غينيا الجديدة.

وبالفعل فقد كان ينبغي عام 1970 شن حرب تحرير الصحراء من الاستعمار الاسباني، وحينها كان وجه المنطقة كلها سيتغير.

لو أن الألف قتيل وما يقارب ضعفي ذلك أو ثلاثة أضعافه من الجرحى كانوا من أجل تحرير الصحراء لكان حال البلاد اليوم مختلفا وأفضل بكثير، وعلى وجه الخصوص، فإن معنوياتنا لن تكون هي ذاتها اليوم. لقد أخفقنا عام 1970 في قضية الصحراء الغربية لأننا تخلينا عن واجبنا في الوقت المناسب.

في السياسة يبدو أن هناك لحظة مثلى يكون فيها الفعل ملائما تماما ومتسقا مع الهدف. إن انقضاء هذه اللحظة دون استغلالها - أو حتى الشعور بها - يجعل المصادفات الأخرى مجرد شواهد على الصغة النادرة الأصلية، وتصبح حينها الجهود المطلوبة خارجة عن القدرة مع نتائج هزيلة قد تصبح تافهة بل مضرة.

إن العمل السياسي ليس حياديا في غالبه الأعم، إنه يؤثر بطريقة أو بأخرى في الميزان، بدرجة أو بأخرى، في المدى القصير أو الطويل إما لجهة التحفيز أو التثبيط.

لقد كانت انتفاضة الزملة أول تمرد واع ضد الاستعمار الاسباني، وكانت بقيادة أول زعيم وطني صحراوي : (بَصِيري) الذ توفي بالمناسبة تحت تعذيب شرطة افرانكو. حينها لم يرتفع صوت بإدانة هذه الجريمة من طرف الدولة الموريتانية. والذين هربوا خوفا من بطش الشرطة الفرانكسيتية كانوا يخشون في ذات الوقت الرماة الاسبان والدرك الموريتاني. ولحسن الحظ فإن الجراب مثقوب من شمال، وهكذا استطاع الناجون الذوبان في السكان. وفي خضم هذه الأحداث تم تأسيس جبهة تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب بحماية من موريتانيين مجهولين، ودائما مع الخشية من أن يكتشف الأمر من طرف السلطات الموريتانية. وقد تم توجيه الرسائل الأولى التي تحمل رأسية الجبهة إلى كل الدول العربية وإلى بعض الدول الأخرى وذلك عام الزملة.

لقد قُمعت المظاهرات المؤيدة لتحرير هذه المنطقة والمنظمة بانواكشوط في يونيو 1970 وفي السنوات التالية تخليدا لانتفاضة الزملة من طرف الشرطة، بنفس الصورة التي تقمع بها المظاهرات المطالبة بتأميم ميفرما، أو ترسيم لغة البلاد المكتوبة : "العربية"، أو تلك التي كانت تخلد مذبحة عمال ازويرات.

إن أول مؤتمر للبوليزاريو تم عقده في السرية بزويرات في جو من الخوف من أن يتم تسليم المؤتمرين إلى إسبانيا افرانكو. وحين وقع التقسيم الأرعن واندلعت الحرب المقيتة في الصحراء الغربية أظهرت الدولة الموريتانية المضطربة كامل عدم تبصرها وعجزها. لقد وقعت في بركة الزفت الشهيرة التي لا يمكن الخروج منها أبدا. ومن جانب السكان الصحراويين لم تكن الدولة تحظى بأبسط تأييد. ولم تحظى به؟ لقد تجاهلتهم طيلة سبعة عشر عاما من وجودها ما بين 1958 و1975 وعملت كما لو أن الزمن سيقوم بإزالتهم.

غير أن الشعوب ذات التقاليد الطويلة في النضال والمقاومة لا تموت أبدا، وكان الأجدر أن لا تُذَكَّرَ بما تعرفه جيدا : أي الحرب، الأمر المتأصل منذ القدم في طبائعها الوراثية.

ليس الأمر سيان بين من تُـنِـيمُه أمه على إحساس الخوف من الحيوانات المفترسة، وبين من ينام مزهوا بحكايات أمه عن أبيها الذي حاصر وحده الأعداء، وعن جدها الذي مات بطلا بعد أن فتك بعشرة من الأعداء، وعن خاله الذي قضى وحده على خمسة رجال مسلحين.

كان من المفترض أن لا ننسى أبدا أن الصحراويين جزء من البيظان، وأنهم بيظان لم يخضعوا للتدجين الذي مورس منذ عام 1958.

لقد أوقفت حركة العاشر من يوليو الحرب بين الأشقاء وشلال الدم. كان ذلك أقل الواجب، غير أن المرض الأصلي الذي عمقت حرب الصحراء خطورته. بقي على حاله وسيلاحقنا، طالما لم تقض وثبة عظيمة من التآخي والإيثار في وعينا الجماعي على هذا الشعور بأننا أخفقنا بشكل خطير ومستمر في أداء واجبنا.

ومع الأسف فإننا نكتشف مع قضية أزواد أن إرث الإخفاقات في أداء الواجب تجاه الأشقاء وخور الدولة التي نشأت عام 1958 في ضوء " لا " للاستقلال و" نعم" للمجموعة الاستعمارية، أكثر اتساعا مما كنا نتصوره وكما لو أن الحائز على جائزة نوبل السويدي مارتنسون، كان يتحدث عنا حين قال : " لقد بدأنا نستشعر بأن انحرافنا أكثر عمقا مما كنا نتخيل بداية" كان بطبيعة الحال يتحدث عن أمور أخرى غير أن كلماته تنطبق على الظرفية.

من بإمكانه الاستغراب من الحالة المأساوية التي وجدنا فيها أنفسنا أكثر من مرة، ومن استيقاظنا المتكرر مذعورين في مواجهة آفاق مسدودة.

لقد سن أولئك الذين وضعوا اللبنات الأولى للدولة القاعدة التالية : إن القضايا الجدية وأحرى الخطيرة لا تناقش، فالمستقبل البعيد لا يلامس من خلال الاسقاطات والتنبؤات السياسية، فهذا المجال كله من اختصاص الأوحد (رئيس الدولة) الفريد.. وقد اعتمد خلفاء السلطة الذين ياتون دئما بصورة مفاجئة كمنقذين في ظرفية قليلة الملاءمة هذا التقليد الراسخ، فيما يكمل المعاونون السابقون الباقون دوما تلقينهم بالإيماءات أو بالصمت الرهيب الأكثر بلاغة من خطب قس بن ساعدة الأيادي.

غير أنه في السياسة لا يوجد حتى الآن، لإظهار الحقيقة أو ملامستها، أو تجنب ارتكاب الاخطاء الفادحة أو على الأقل التحوط من الأخطار الجسيمة، سوى النقاش.

إن النقاش والدراسة يشكلان مختبر السياسة، فكلما كانت المسألة عصية على الفهم وغامضة، كلما احتوت على مخاطر، وعلى القلق بشأن المستقبل البعيد، كلما كانت جديرة بالبحث والدراسة.

إنما يميز الدولة عن الأشكال الأخرى للسلطة يكمن بالدرجة الأساس في هذه الرؤية البعيدة المعروفة بالاستراتيجية، هذا الاستشراف الذي يقي من مكر المفاجآت المزعجة.

إن النقاش يتميز أو يتمتع بخاصية إظهار الحقيقة، غير أن ذلك لا يعني أن علينا دعوة أول أو آخر قادم للمساهمة في النقاش كما لو أن تجلي الحقيقة يمكن أن ينبثق من رأس أي أحد أو أية جمعية.

إن شروط النقاش المثمر هي - فضلا عن ذلك الشيء غير المحدد الذي يُظهِر على الشخص الجدية والرصانة - النزاهة الفكرية والكفاءة، وليست أية كفاءة بل الكفاءة السياسية. فالسياسة كأي حقل أخر بحاجة إلى مهنيّيها، ليس بالضرورة الذين يعيشون منها، بل لأجلها، الذين يجعلونها مألوفهم، ليس بالمعنى العسكري وإنما بالمعنى الطقسي.

إنها ميدان تبدو، بالقياس إليه، كياسة ومهارة الجراح خشنة، لأن الجرّاح يعمل على الملموس بينما السياسي يعمل أحيانا كمن يراود غيمة في الهواء، في ضوء الغسق. إن الأمر كذلك في هذه المادة المائعة التي ينبغي القبض عليها بأصابع منفرجة.

هناك بعض الآراء تتبنى ما لا يمكن تسويغه : إنها تؤكد على وجوب الحذر من السياسيّين، أو إبعاد السياسيين، ووفقا لهذا المنطق سننتهي يوما إلى القول بأن لا فائدة من الحكومة، وبأن الحشد المزركش بمطالبه الاجتماعية والاقتصادية البحتة، والذي نشاهده بين حين وآخر أمام الرئاسة، يمكنه أيضا إدارة شؤون البلاد.

كذلك القول بأنه مادام هناك أشخاص يموتون في المستشفى، فليتم إبعاد الأطباء. إن الوضع سيكون كارثيا وسيصبح المستشفى مكانا للموت، على افتراض أنه ما زال هناك مرضى يلجأون إليه.

إنها نفس المسألة تماما مع هذا الفارق فقط، وهو أن أحد النشاطين يتعامل مع الملموس المرئي للبسطاء المتشبثين بما هو جليٌ، أما الثاني فيدور في المجرد، مع خسائر أكثر فداحة لأنها أعم وتشمل المرضى والأصحاء في كافة المجالات.

إن إصدار حكم موحد على السياسيين يفترض أنهم يشكلون نوعا من المتآمرين ذوي الأهداف المشتركة المخفية، والحال أن السياسيين هم البشر الأقل اتفاقا على وجه الأرض، أكانوا عندنا أو في بلدان أخرى، فلو أنهم اتفقوا لأصبحوا محترفي سياسة، أي بمعنى الذين ينظرون إلى السياسة باعتبارها بقرة حلوبا. إن انتهازيَ السياسة مستعد لكل التفاهمات بشرط الحصول على ضرع يرضعه. أما السياسيون، ودون أن يكونوا موحدين فإن لهم مع ذلك مدونة مشتركة غير مكتوبة، ومن ينتهكها يسقط في الخانة الأخرى : فئة السلوك المعيب. وتلك عقوبة كافية.

إذا لم يكن للطبقة السياسية مدونة مهنية أو مدونة شرف تفترض حدا أدنى من المدنية والكياسة والالتزام، وتمكن من تنمية المهارات السياسية للداخلين الجدد وتحافظ على التقليد المستوحى من التجربة والعقل السليم، فإن السياسة تصبح ميدانا للتناوش البائس، وستصبح الدولة في ضوء ذلك، نوعا من برج بابل حيث يتم الاحتكاك والتنابز بالبذاءات.

وإذا لم يوضع مسار صارم للاختيار منذ البداية، والتصفية في منتصف الطريق يُمَكن من إقصاء القرَب المملوءة بالهواء ومعتوهي الحي، فسنصل إلى استبدال حوار الأفكار بصراع الأبدان. والقبضات والهراوات، وحينها لم نعد في مواجهة "الحيوان السياسي" ذي الوفاء غير المؤكد بلا شك، والذي يمتلك أكثر من حجر في جعبته والمخشيّ منه ربما، اللطيف والمحترم مع ذلك، وإنما سنكون في مواجهة ما يسمى أحيانا بـ"الحيوان غير السياسي" البدائي في كل شيء، والذي يقزز من السياسة ومن الحياة.

الذين يصرخون

على أي حال، "الكياسة هبة الطبيعة"، كما يقول باسكال. لقد كان الاعتقاد سائدا إلى وقت قريب، بأن أول واجبات رجل السياسة، معرفة ضرورة الاعتدال، وأن يرسم لنفسه حدودا فليس كل من وجد أمامه مكبرا للصوت، أو حاز مأمورية انتخابية وتمتع بحصانة قانونية، أو انعدم لديه الخوف من الإلقاء في السجن بضع سنين، كما كان يحدث في الفترات الماضية.. عليه أن يتفوه بكل مكبوتاته من الشتائم والسّباب. التهتّـك جعل البعض يصرخون في مكبرات الصوت، مع العلم أنها لم تخترع إلا لتغني عن ذلك الصراخ، إن الحجة، أي الفكرة التي تهدف إلى الإقناع، غنية عن الصراخ، لأنها موجهة للعقول لا إلى الآذان.

رجل الصراخ لا يوثق به.

من يقذف بكل ما يجيش في نفسه من جيد أو ردئ لم يخلق للسياسة.

فضلا عن ذلك هل كل ما ليس محرما هو مباح؟

كان الشيخ آمادو مؤسس امبراطورية ماسينا الفلاَّنية رجلا ورعا مستقيما، زاهدا. وكان يَسُوس دولته بواسطة مجلس علمي من ستين فقيها يحيطون به بصفة دائمة ويقررون كل شيء، كانوا متشددين حَرْفيين يقلدون نظام المدينة المنورة أيام الخلفاء الأولين. بالنسبة لهم الأمور بسيطة إما محرمة أو مباحة.

لقد قال رينيه كاييه المعروف في مجتمعنا بـ"ولد كيج" الذي جاب الساحل وعبر الصحراء، حوالي 1824-1828 "إن الفلان أشد تعصبا من البيضان".

للشيخ آمادو -إضافة إلى ما ذكرنا- ميزة أخرى هي الذكاء. كان يعرف أن الأمور ليست بالبساطة التي يراها الفقهاء. ولكي يفتح أعينهم أمر يوما بإعداد مائدة من اللحم أضاف إليها لحم الضب والجراد وحشرات أخرى. ودعاهم للأكل، فقالوا إنهم لا يأكلون مثل هذه اللحوم. فقال الشيخ إن الشرع لا يحرم أكلها !. فقالوا : نعلم ذلك ! فقال : "إذن هناك أشياء لا يحرمها الشرع ومع ذلك يتعين علينا تركها.. وهذا ماعلينا أخذه في الحسبان مستقبلا".

إن السياسة - من حيث هي رسالة - من أسمى وأجزل ما أنتجه البشر. صحيح أن الفلسفة تحوم فوقها، إلا أنهما تلتقيان عند مستوى معين. لأنه، "في السياسة، تتلخص الفلسفة" كما يقول اغرامشي. ويذهب ماركيز، أبعد من ذلك ويعكسه قائلا : " إن دور السياسة هو تحليل مضامين المفاهيم الفلسفية، للوصول إلى حقيقة غير مشوهة". إنها إنسانوية النهضة الأوروبية التي جاءت بهذا الربط الرائع، جاعلة من الإنسان قيمة عليا. أما الأيديولوجيا، فجاءت بعد ذلك بكثير، من أجل إضفاء التماسك والانسجام على المبادئ السياسية، وربط الوسائل بالغايات وجعلهما أكثر تطابقا.

كثيرا ما يوردون علم الاقتصاد إلى جانب السياسة. إن ذلك خال من المعنى. إن الاقتصاد هو خادم للنظام الاجتماعي السائد. القانون هو الآخر مجرد خادم بسيط لذلك النظام. أما السياسة، فهي ساحرة. مكانُها سماء المعارف، في تلك المجرة حيث الشعر وربما السحر، لا لقيمة الأخيرين وقدرهما، وإنما لاستقلاليتهما واستبدادهما.

أي جامعة تمنح شهادات الشعر والسحر، ستتعرض للسخرية والاستهزاء، علما بأن الشعر يُدْرَسُ ويُدَرَّسُ. ورغم ذلك يبقى من الأهمية بمكان، لمن أراد قرض الشعر، أن يصاحب نزار قباني أو أدونيس ردحا من الزمن، أو يعرف كيف يتآلف مع شعرهما، بدلا من حضور تلك الدروس.

السحر أيضا، يُدْرَسُ و يُدَرَّسُ. وقد أخذ ابن خلدون دروسا منه، وسطر شيئا من ذلك في كتاباته، دون أن يكون هو نفسه ساحرا.

إن الساحر المبتدئ يحتاج إلى كبير السحرة لإرشاده وحمايته من خطر المثل المأثور :أن "ينقلب السحر على الساحر"، أي أن يطلق أحداثا ليس هو سيد الموقف فيها ويمكن أن تودي به. فهاجسُ الخوف من مثل تلك المغامرات، ينبغي أن يكون حاضرا - أكثر من أي هاجس آخر- في أذهان الساسة الناشئين، فضلا عن الكُمَّل.

فرجل السياسة مشدود دائما بلجامين متينين : أولهما الاحتراز من المغامرة، التي هي ليست الجراءة، حسب اكلوزوفيتش الذي يرى أن "الجرأة القصوى، قد تتفق مع الحكمة القصوى أحيانا ".

أما اللجام الثاني، فهو التمسك بالأخلاقيات التي تحكم دائما السياسة الرفيعة.

لا أحد يشبه رجل السياسة عندما يتفانى في العمل، بقلبه وقالبه، كالذي يحاول استرجاع بيته الشخصي المغتصب من طرف الغير، لا يدَّخر وقتا ولا تعوقه أي منفعة شخصية، مضحيا بحياته الخاصة وأحيانا بحريته، فقط من أجل مصير أفضل لملايين البؤساء، الذين لا يعون أي حق لهم ولا يميزون، سحقهم الاحباط والاستسلام للقدر. يعرفون شيئا واحدا فقط هو : أن هناك ظلما نازلا من السماء لا مرد له، تنفذه بكل دقة ومثابرة أيادي بشرية. هذه قمة في الفضل. لحد الآن لا يوجد أعلى منها في سلم القيم الإنسانية، إنها أرفع حتى من محكوم بالإعدام يقال له أنت حر طليق.

شيء مثل هذا لا يداس بالأقدام إلا في المجتمعات التي تحتقر الفلسفة وتنكر قيمة الإنسان.

إن مجالا كهذا يتطلب كمّا من المؤهلات الذهنية، كرجاحة العقل وعمق التفكير ونعومة التصرفات، وكثيرا أيضا من القيم القلبية كالثقة في الفطرة الطيبة للإنسان وقدرته على التطور نحو الأحسن، إضافة إلى احترام الغير والزهد والتواضع ... فهل يمكن لمثل هذا المجال أن يتحول، بين أيدينا، إلى بهلوانيات تنتج رجالا بلا قيم؟. يعتقد توكفيل أنه في بعض البلدان التي احترقت بنيتها الاجتماعية "تسقط الطبقة السياسية في الهمجية في الوقت الذي يجنح فيه المجتمع المدني نحو التنوُّع".

حتى في وقت الحرب، لا يُعفى الرجال أنفسَهم من التقيد بقيمهم الرفيعة، وأساسِ وجودِهم الذي جعلهم ما هم عليه - بعبارة أخرى- منحهم شرعيتهم. إننا نتخذ مواقف ونقْدم على تصرفات، لقناعتنا بأن الآخرين يشرعون لنا ذلك. وإذا كان هذا المكسب الضمني غير موجود، أو لم يعد موجودا، أو تضرر بتصرفات قادحة، فنحن فاقدو الشرعية. ولسنا بحاجة هنا إلى اتخاذ قرار بالانسحاب من اللعبة، لأن الانسحاب يتسلل من تلقاء نفسه إلى الأذهان، وذلك أوضح وأبلغ من الإعلان الشكلي الصارخ.

في غمار الثورة العربية الكبرى التي أطلقها شريف مكة عام 1916، من أجل تحرير العرب من قبضة الترك، علم الأمير فيصل، ابن الشريف، بأن الحامية التركية بالمدينة والتي يحاصرها، تعاني من نقص فظيع في مادة التبغ. وبما أنه كان مدخنا كبيرا، لم يحتمل تلك المعاناة النفسية التي يكابدها أعداؤه، فما كان منه إلا أن أرسل لهم عدة جمال محملة بالتبغ مع الاعتذار لهم.

وذات مساء من أماسي حرب الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي المغربي ، كان أحد الضباط الفرنسيين يستقبل بعثة من الثوار الوطنيين في الجبل، وفجأة تعرض مركز القيادة الاستعمارية للهجوم من طرف مجموعة من الثوار لم تكن على علم بالمفاوضات. فطلب الضابط الفرنسي من الثوار أن يغادروا على عجل، فأجابوه بأن شرفهم لا يسمح لهم بتركه في مثل تلك الوضعية، لأنهم كانوا ضيوفا عنده. فما كان منهم إلا أن قاتلوا إخوانهم، حتى أنقذوا مركز قيادة العدو، وبعدها لحقوا برجال المقاومة.

وأثناء الحملات المتتالية التي خاضها ملك السويد اللامع، شارل الثاني عشر، ضد روسيا، كان القيصر بطرس الأكبر يحشد كل قواته في جبهة واسعة لصد هجوم خصمه المتقد. فكان هذا الأخير يلاحظ كل مرة رقة وهزال خط الدفاع الذي يواجهه، فيدفع بجيشه لإحداث ثغرة ويلتف على الجيش الروسي، وفي كل مرة يحصل تحطم تام للمُدافع.

وفي كل مرة يبعث الملك أسراه إلى بلده السويد باستثناء الجنرالات الذين يعيدهم إلى القيصر مع التهاني. لأنه يرى من غير اللائق حرمان عدوه في الحملة القادمة من قيادة بهذا المستوى من المثابرة، وبعد سلسلة من الهزائم للجيش الروسي، أوحى أحد هؤلاء الجنرالات لبطرس الأكبر بأن تتابع النكسات قد يعود إلى أسلوبهم في القتال، وإنه سيكون من المفيد استبدال مبدأ الخط المتصل بنظام نقاط المقاومة المركزة، فقبل الاقتراح.

عندها تكسر الهجوم السويدي على صخرة الدفاعات المدعمة الروسية، وأدى الهجوم المضاد للروس إلى سحق جيوش شارل الثاني عشر.

وفي هذه المرة، أقام بطرس الأكبر حفل استقبال على شرف أسراه من الجنرالات السويديين ليرفع لهم الكأس قائلا : "على شرفكم أنتم أساتذتنا في فنون الحرب".

هكذا يتم النصر والهزيمة، بكبرياء.

كلا الخصمين باعترافه بقيمة الآخر وسلوكه النبيل ارتقى إلى قمة العزة.

لم تنطو بوادر النبل هذه على أي مؤشر للصداقة، أو رغبة في السلام. لقد استطاع الرجلان- في هذا الجو من العداوة القصوى - أن يتجنبا كل ما من شأنه الحط من قيمتهما، فتفننا في البرهنة على أنهما أهل لما هما عليه من السمو.

أولاد امبارك، أيضا، أحجموا مرة فيما يقال عن مهاجمة أعداء لهم، كانوا في متناول بنادقهم. والسبب أنهم لم يكونوا أتموا لبس سراويلهم.

فما كان من أولاد امبارك إلا أن ولو ظهورهم لهؤلاء الخصوم كي يتمكنوا من لبس سراويلهم على الوجه الذي يريدون.

لقد خافوا أن تلطخ الانتهازية سمعتهم، وأن يلاحقهم ذكر سيء، يتبعهم خلفا عن سلف. من ينظر اليوم إلى سمعته بهذا البعد.

الغلو في السياسة يمكن استساغته على مستوى المبادئ، بل إنه - في بعض الظروف- فضيلة ومنقبة. هذا ما يسمى بالتطرف.

وهو غير مستحسن في الفكر باتجاه اليمين، أما يسارا فهو مقبول لأنه لا ينفك عن العقل والأخلاق. فلا أحد أشد تطرفا من تروتسكي، على مستوى المبادئ. إلا أنه قل من يماثله في الانضباط والالتزام بالأخلاقيات السياسية.

اتشي غيفارا أيضا، بإنسانيته الثورية، يعتبر مثالا حيا للتطرف اليساري. وكذلك ماركيز ونظريته النقدية الراديكالية.

في المناهج يسمى التطرف اليساري، "الصبيانية" فهو يؤدي، في الغالب، إلى كوارث أو، يقود إلى طريق مسدود. أما التطرف اليميني في العمل، فيسمى بالفاشية، وقد ترسخت دلالته القدْحية المعروفة.

أما التجاوزات اللفظية، فلا تنتمي حقيقة إلى مدرسة معينة. وإذا كان من الضروري إيجاد أصول مدرسية لها فلن يكون شيء أقرب لها من الفاشية، التي أفرطت في استعمالها عبر تاريخها. وفي المقابل، لن يكون من السهل بأي حال من الأحوال، ربط التجاوزات اللفظية بالديمقراطية الحقيقية، التي تأسست وعمت أوروبا مطلع القرن الماضي، بعد سقوط الامبراطوريات.

لأن الميزة الأساسية لتلك الديمقراطية هي الاعتدال. فبدون الاعتدال، لا يمكن الوصول إلى الديمقراطية. إننا، وبكل بساطة عالقون ما بين ديكتاتوريتين، واحدة فررنا منها وأخرى نميل لها ونسعى إليها، بدقة الصائغ وصبر أيوب.

للديمقراطية ضمانتان : الأولى، هي وجود طبقة سياسية واعية، قد راجعت نفسها وتكيفت ، وطوت نهائيا صفحة العنف اللفظي والجسدي. أما الثانية، فهي شعب مستنير، اختار وتذوق طعم الأساليب الهادئة، ويمنح ثقته نهائيا للطبقة السياسية العاملة وأطروحاتها، لأنها جديرة بذلك.

وهو أمر يختلف عن التعلق بزعيم سياسي، فالتعلق بزعيم سياسي معين لا يحسم أمرا ولا يعني ثقة الشعب في طبقته السياسية. فتعلق الجماهير وثقتها في أدولف هتلر، أيام جمهورية ويمار، لم يكن مؤشرا على ثقتها في الطبقة السياسية هناك، وإنما العكس هو الصحيح. وهذا بالذات ما أحل الدمار بتلك الجمهورية المثالية، في نصوصها وسيرها.

قد لا نصوت لزعيم ما، لكننا نثق به نثق بأنه ليس حاقدا ولا سيء النية ولا انتقاميا.

وبمعنى آخر، هو مأمون الشر، كل المشكلة هي : مأمون الشر؟ !

إن الذين يصفون أنفسهم، أو يوصفون بأنهم معارضة راديكالية، تضيع أفكارهم في سيل الكلام المفرط والتخمينات والشعارات. ولذلك، لمّا تناولوا موضوعا أساسيا في حياة الشعب، مثل برنامج مساعدة المنمين ضاع كل ما تقدموا به من الكلام الصحيح أو المفيد، وسط الزبد.

والأسوأ من ذلك، أن رحيل النظام، الذي اتخذوه شعارا أساسيا لهم، يتحركون تحت رايته، بعيد كل البعد عن الواقع.. لأنه لا تتوفر أي شروط ذاتية لتحققه. أما الشروط الموضوعية، فلا تسمح حتى بالتلميح إليه.

ولا شك هنا، أن الذين لهم دراية بالنظرية السياسية من بين هؤلاء، كانوا مهمّشين وقت صياغة هذا الشعار، أو لم يجدوا من يصغي إليهم. ففي السياسة أوقات وحالات لا تسعفنا فيها الحِرفية السياسية، وتلفيق الهواة.

إنها القصة نفسها التي تتكرر دائما، حيث الساسة الجادون - بطبعهم أو تكوينهم أو أفكارهم - يطغى عليهم صوت الآخرين, لأنه وسط الضوضاء، لا يسمع إلا صوت الذين يصرخون.

لقد رفعوا سقف المطالب عاليا. والمشكل، أنه عندما لا نحقق هدفنا، فما سيأتي بعد ذلك خطير من الناحية السياسية. فإنه يسد الباب أمام المستقبل، فحتى الأفكار الواقعية والأهداف المعقولة، لم يعد أحد يأخذها بعين الجد أو يحسبها قابلة للتطبيق. إنه لمسعى خطير على المعارضة نفسها، وهو أشبه بالحجر الذي تحدث عنه قائد الصين العصرية، ماو سي تونغ.

يقول ماو : إن القوة التي لا تتناغم مع زمانها تنكبُّ بيديها على صخرة الظلم الثقيلة، ترفعها بصعوبة فائقة وتوجب على نفسها أن تبلغ بها أقصى ارتفاع. عندما تصل مستوى الرأس يحس الساعدان بالإنهاك ويخذلانها. لم يعد لديهما من القوة ما يحفظها مرفوعة ولا ما ينزلها بأمان. الصخرة منفلتة لا محالة، ومحطمة للقدمين.

هذا هو الخطر.

إذا كان الناس قد اختاروا الديمقراطية وسعدوا بوجودها، فذلك لأنها هي الأمثل. لأنها نظام الحرية، ولأنها متلازمة مع العدالة ولأنها تسمح بحل المشاكل اليومية بطرق مرنة وفعّالة، أو لنقل : طرق آلية. فبدون هذا الوصف الأخير، لن نقترب من فهم المواطنين وتفهّمهم للديمقراطية.

لكن مع اجتماع كل هذه الأمور، وأمور أخرى مهمة، فإننا إذا دخلنا حرب عصابات سياسية وقانونية وإجرائية هدفها العرقلة والتشويش، ولم يحصل لدينا الاتفاق على الأساسيات - كالدستور والقوانين والانتخابات، والمصالح العليا للبلد، ومن هو صاحب القرار- إذا لم يبق أي شيء من هذا ولم يعد هناك شخص محترم أو مهاب، وإذا بقينا نتشبث بالشكليات وثانويات الأمور، كلما أردنا معالجة مشاكل البلد، إذا أبقينا البلد في حالة دائمة التوتر، لا موضوع لها ولا مسوّغ، إذا كانت طاقة المسؤولين الرسميين وغير الرسميين واهتماماتهم منصبة على أومور لا معنى لها ولا فائدة فيها ... فإن الديمقراطية ستثبت عدم فاعليتها بل ضررها، وأنها أسلوب للحكم غير متكيف. وعندئذ، سيهجرها الكل، ويوليها ظهره، متجها نحو النقيض.

عند ذلك ندشن مرحلة جديدة من الارتياب، غنية بالغموض. ومن الصعب الاعتقاد بأن البلد قادر على أن يتحمل - إلى الأبد- هذا التجمد والابتزاز بالخنق.

هكذا زالت جمهورية ويمار الفاضلة الجميلة، لأنها أسست على مقاس أصحاب الفكر الرفيع، فاستطاعت ثلة من الأوغاد، بصناديق الاقتراع والشارع، أن تزيحها وتبني مكانها نقيضا، وسط حماس شعب سئم المماحكات والمناكفات الفارغة، ويريد العمل الجدي.

المأساة أن طاقم ويمار، كان من ذوي الفكر الراقي، ولم يفكروا في أن تراكم التصرفات الجانبية والتسويف أمام الخطر، وعدم التصدي للإشكالات الأساسية وانعدام الوعي والمسؤولية لدى جماعة البرلمانيين "البيزنطيين"، إضافة إلى العجز عن اقتلاع وعزل أعداء الديمقراطية ... لم يدركوا أن كل هذه العوامل يمكن أن تقضي على نظام كامل، كان الشعب قد أجمع على اختياره في البداية، فأنتج له في آخر المطاف هذا الغول النازي.

كانت الديمقراطية الألمانية راسخة. فالشعب مثقف والنخبة لامعة، إلا أن الطبقة السياسية لم تكن على مستوى ذلك البلد. أما ديمقراطيتنا فقد جاءت مهداة على نقالة، لم تفرضها أي قوة ولم تطالب بها، بصفة جدية، أي جهة.

في عهد الحزب الواحد، كان هناك كم غفير من المعارضين، قدموا كل أشكال التصورات والأفكار، وكانت لهم مطالب لا حد لها، يناضلون من أجلها. غير أن الديمقراطية التعددية، لم تكن يوما ضن تلك المطالب. وكان النظام القائم آنذاك يعتبرها فكرة ومبدأ إجراميا، بنص الدستور والقوانين، وخيانة تهدف إلى شق الوحدة الوطنية للشعب الموريتاني. حتى إن نشر الفكر الماركسي والبعثي كان أقل خطرا حينئذ من الدعوة إلى الديمقراطية. والحقيقة، أن بعض الأشخاص، المعدودين على أصابع اليد، ظلوا يؤمنون بأن التعددية السياسية هي أمثل طريقة للحكم.

من بين هؤلاء، كان المرحوم حمود ولد أحمدو، الرئيس السابق للجمعية الوطنية. شيخنا ولد محمد الأغظف، وزير الخارجية الأسبق. إسماعيل ولد أعمر، مؤسس شركة اسنيم. احمد ولد سيدي باب، وزير سابق. المرحوم با ممادو صمبابولي، رئيس سابق للجمعية الوطنية بالطبع لا يوجد هنا زحام .. إنها فقط شخصيات لم تستوعب يوما مبدأ الحزب الواحد.

III- تورية الإمام

ألغى الإعلان التمهيدي لحركة العاشر من يوليو 1978 لأول مرة، تجريم مبدأ الديمقراطية التعددية -إن جاز هذا التعبير- على أمواج الإذاعة الوطنية من خلال التصريح بأن هذا المبدأ يشكل أحد أهداف التغيير. فما هو الدور الذي لعبته الشخصيات الآنف ذكرها في صياغة هذا الإعلان - ثلاثة أو أربعة منم كانوا مرتبطين بحركة 10 يوليو- وما تأثير العقلية السائدة والتي ما زالت متجذرة بقوة حتى الآن، والقاضية بأن من يريد التموقع عليه أن يبدأ بإقصاء كل ما يحرص عليه الخصم جملة وتفصيلا، ولو على مقتضى المثل : "علي وعلى أعدائي".

سواء صح هذا الاحتمال أو ذاك، أو تضافر الاثنان عبثيا لإنتاج ذلك التصريح، فإن نتيجة ذلك هامشية الآن.

الشيء الآخر الأكثر حسما، والذي لا يمكن أن يلفه النسيان، يكمن في صعوبة تصديق كون أعضاء اللجنة العسكرية كانوا مجمعين على إقامة الديمقراطية وتسليم السلطة إلى مدنيين. صعوبة التصديق ستظل قائمة أيضا، إلى أن يثبت عكسها، إزاء التعددية التي أقامها معاوية عام 1991.

وفي كل الأحوال فإن الديمقراطية لا تنشأ ولا تعيش وتستمر إلا في ظل وجود طبقة سياسية من الديمقراطيين الحقيقيين- وليس في كنف أناس يعتقدون فقط أن نتائج صناديق الاقتراع يمكن أن تكون لصالحهم- وأن يتوفر لها مناخ اقتصادي وسياسي داخلي وخارجي هادئ. والواقع أن البلاد كانت في عام 1978 أشلاء منهكة، بفعل حرب الأشقاء في الصحراء؛ وربما يتذكر مسؤولو تلك المرحلة مدى خصوبة الخيال الذي مكن من تصور تلك الألاعيب البهلوانية التي لجأوا إليها. لتسديد رواتب موظفي ووكلاء الدولة يوم 31 يوليو 1978. وفوق ذلك فقد أضحت البلاد يومئذ مجرد رهان بغنيمة يتجاذبها الجيران والقوى الأجنبية المهتمة.

كل هذا المناخ لم يكن في الحقيقة مشجعا على الديمقراطية. فالديمقراطية ينظر إليها، تقريبا، على أنها حفل مستمر. بيد أنه من غير المناسب لمن نسوا أخذ زينتهم أن يهرولوا مسرعين إلى الطبل. هذا هو الخرْق في الدرع، وقد تسترت اللجنة العسكرية خلفه وتلفعت به متراجعة تماما عن الوعد الذي قدمته في يوليو 1978، ومؤكدة بصورة رسمية، أن المواطنين بحاجة إلى التشذيب والتهذيب ليتأهلوا للديمقراطية. إنها طريقة أخرى لتبني انطباع المادام دي شاتليه، Madam Du châtelet التي لم تكن تجد أية غضاضة، كما يقول الكاتب الخاص لفولتير، في أن تخلع ملابسها أمام خدمها، معتبرة أن الدليل على أن الخدم هم من جنس الرجال غير مقنع.

كان معاوية ولد الطائع، إذن، كما ورد عرضا، من وضع حدا لهذا الترويض الذي كان يخضع له السكان ابتداء من عمر 15 سنة ولا ينتهي إلا عندما ينتزعه غسالو الأموات من المجتمع، فكيف ولماذا فاجأ معاوية بهذا القرار الذي هلل له الجميع. لم يحن الوقت بعد لإضافة رواية أخرى على الروايات المتداولة، وخاصة تلك التي تؤكد مشاركة السيد فوزل M.vauzelle الذي كان حينها رئيس لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية الفرنسية.

وفي كل الأحوال فإن التعددية ليست هي الديمقراطية : ذلك أن الديمقراطية هي عقلية وثقافة - سبقت المبالغة في الإلحاح إلى درجة الاحتجاج - تغمر الطبقة السياسية أولا، ثم تتسرب داخل السكان. أما التعددية فهي أحد إجراءات الديمقراطية التي هي لازمة ولكنها غير كافية.

لقد قيل بما فيه الكفاية؛ وعندما كان ذلك ضروريا، إن نظام 1991 مفصل على المقاس إلا أننا لن نسقط في الخطأ الشائع لدينا والمتمثل في تحميل الغائب جميع الأوزار وتبرئة الحاضرين. إذ يوشك أن يَصْدُق علينا المثل السائد في منطقة السافانا الإفريقية : إن فضلات الفيل لا تجمع إلا عندما يكون غائبا.

لم يكن معاوية ولد الطائع نموذجا للديمقراطي. هذا مفهوم فهو لم يكن أولوف بالم Olof Palme . ولكن لنتحدث عن الموريتانيين الآخرين لنتأكد أن معاوية استثناء. لسوء الحظ فالتجربة تؤكد أنه ليس استثناء. والفارق يكمن في أن معاوية كان في السلطة أما الآخرون فلا؛ يبدو أن الأمر مختزل في هذه الحقيقة المبتذلة. لقد تم الاتفاق منذ 21 عاما - وفي نشوة غامرة- على قواعد اللعبة ومع ذلك فكلما كانت النتيجة غير ملائمة يقوم طرف أو أطراف برفضها عكسا لما يقتضيه العقل. على سبيل المثال فقد حصل معاوية في انتخابات 1992 على أغلبية مريحة بغض النظر عن التدابير السياسية والإجراءات الإدارية التي استخدمها جهازه، فهل كان يستحق كل هذه الشعبية وتلك المساندة وذلك الحماس العارم؟ هذه مسألة أخرى

وحتى إبّان رئاسيات 2003 عندما كان منهكا بشكل حقيقي، فقد حصل على الأغلبية في صناديق الاقتراع، أما في الشارع فالأمر محل نقاش. فصناديق الاقتراع والشارع لا يتطابقان بسبب التصويت القروي القبلي لأن قرى القبيلة التي تشكل غالبية مكاتب التصويت لا تعبر دائما عن قناعاتها وإنما عن الخيار الذي يتوخى مصلحة القبيلة، ويراعي الحيطة والحذر خوفا من انتقام الرئيس الحالي في حال عدم فوز المترشح الذي يتعاطفون معه. تعليمات التصويت : يجب أن لا نجعل من قبيلتنا أو قريتنا هدفا للانتقام.

صحيح أن الكثير من الناس يعتقد أن معاوية لم يكن ليقبل بالهزيمة، أو بأن يضطر إلى شوط ثان، أو بأن يسلم السلطة ببساطة إثر انتخابات نزيهة، وهذه القناعة كانت تدفع الوجهاء والقبائل إلى مضاعفة الحيطة والحذر. لقد كان هو نفسه متأكدا من أنه محبوب من طرف الموريتانيين باستثناء ثلة من الحساد وقليل من المهرجين والمتطرفين اللاواقعيين. ما سمعه الرجل من مديح في مختلف أرجاء البلاد ومن الجميع تقريبا، لم يكن ليترك لديه أدنى شك في ذلك. لقد ارتُكِبَتْ في حقه هذه الفظاعة : التبس الانقياد المطلوب للرئيس بالمذلة. تابعوا فقط هذا المشهد : وجيه كان عليه أن يحل مشكلة كبيرة ترتبط بإدارات الدولة، يتقدم بطلب لمقابلة معاوية. ليس الأمر سهلا، لأن المعني لم يكن له دور سياسي بارز، ولأن الرئيس السابق لم يكن مرتاحا إليه، إلا أن البراعة وجودة العلاقات تسهلان كل صعب. فبعد أشهر من الانتظار تم استقباله في النهاية. كان معاوية عابسا، وقد ساورت الوجيه في لحظة ما مخاوف من أن يُطرَد بلا تردد ودون مجاملة، فقد كان سلامه مقتضبا وجافا- لم يكن معاوية يفتح قلبه بسهولة. إلا أن الوجيه كان قد أحكم تدبير حَيلته. وبدلا من أن يطرح عليه مشكلته ابتدره بهذا التمهيد :" السيد الرئيس- السيد الرئيس كانت تسبق كل كلمة تقريبا- لقد جئت لأسلم عليكم، فليست لدي مشكلة، وأعيش حياة طيبة لله الحمد. الشيء الوحيد الذي أرغب في معرفته هو : كيف تمكنتم - معاوية يحب أن يسمع خيرا عن نفسه وشرا عن الآخرين- من إدارة ملايين الموريتانيين، رغم تنوعهم، بسهولة ويسر وأغدقتم عليهم هذا الخير العميم، بينما أنا أدير أسرة من سبعة أو ثمانية أشخاص ومع ذلك أواجه صعوبات لا يمكن التغلب؟ ستغمرونني بنوالكم إن كشفتم لي هذا السر وحده".

تحرك الرئيس السابق إلى الأمام وأشرق وجهه بابتسامة تنم عن الارتياح ودخل في مناجاة شرح طويلة تليق بالمواعظ الاسكتلندية - التي تسببت في إصابة الفيلسوف بوكل Buckle بالفالج النصفي - تتخللها حركات تنم عن الموافقة والاستحسان يؤديها رأس الوجيه أماما وخلفا، وأحيانا يسارا ويمينا.. ليس اعتراضا - فهل يمكن أن يصاب المرء بالجنون في هذه اللحظة السحرية إلا من الفرح؟ - لأن كلمات معاوية تنزل على قلبه تَرَانيمَ تثير تلك النشوة الحماسية الاستثنائية وذلك التمايل الموقَّع اللا إرادي الذي اختبره من يتذوقون موسيقى ولد ابَّاشه.

قبل أن يسفل معاوية إلى المكانة التي تحتلها الشياطين في نفوس البدو، فقد سبق أن رفعته سخافة الناس مجانا على منصة وثن العزّى. وإذا أردنا أن نكون موضوعيين حيال كل ما ينعت به اليوم على سبيل الاستهجان فينبغي أيضا إدانة ما يبدوا أنه أصبح، لسوء الحظ، مزاجا وطنيا : مقابلة الطغيان بالذلة والهوان، ومقابلة الليونة والرفق بجموح عنترة ابن شداد وعنجهية أبي جهل ابن المغيرة.

إبان رئاسيات 2003 كانت هناك بطبيعة الحال خروقات صارخة شابت حسن سير الانتخابات، أبرزها تلك المتمثلة في اعتقال المترشح محمد خونا ولد هيدالة وإدارة حملته قبيل التصويت. وكان المسوغ الرسمي لذلك هو اكتشاف مخطط تمرد شعبي تحت الإسم الذي يرمز له Grab - يقال إنه مصطلح إنجليزي، لم يكن المترشح على علم بهذا المخطط وكانت إدارة الحملة تجهل حتى اسمه. في السجن فقط تم إعلام الجميع بجرمهم وتم إطلاعهم بشكل مفصّل، من طرف المدعي العام، على مخطط Grab هذا، لم يكن هناك من داع للجوء إلى قاض التحقيق لأنه في حالة التلبس بالجريمة فإن الإجراءات يستغنى عنها...

هكذا يلجم الفرس.

كل هذا كان مثيرا للضحك، لكن أحدا في ذلك الوقت لم يضحك، ربما باستثنا من دأبوا على هذه العادة الظريفة التي بموجبها يُجَرُّون من سجن لآخر لأغرب الأسباب. فهؤلاء سبق لهم منذ أمد بعيد أن قسموا شخصيتهم إلى شطرين؛ شخصية ضحية أو مجرمة دائما، وشخصية تحافظ على التماسك وهي مجرد متفرج على المصير المأساوي للأخرى، إن المتفرجة هي التي تضحك، من لا يضحك من نفسه لا يعرف الضحك. إنه غير متوازن.

لقد تم إعداد مخطط Grab على ما يبدو، من طرف شخص غريب على الحملة نسيت السلطة اعتقاله. إذا لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، فإن هذه الوثيقة قد تكون موجهة أصلا لإدارة الحملة، ولكن خطأ ما جعلها تهبط أولا على مكتب المدير العام للأمن الوطني. وإذا لم يكن وراء الأكمة ما وراءها فإن المخابرات كان من حقها ومن واجبها بعد فشلها في يونيو 2003 أن تضعها تحت ناظر معاوية، بغض النظر عن قناعتها الحقيقية. وبدوره فإن معاوية - ولنضع أنفسنا مكانه - وهو خارج لتوه من محاولة انقلاب مجلجلة زلزلت الأرض تحت قدميه وكادت تقوض أركان سلطته، كان يرصد كل شيء بتوجّس، ولم يكن ليهمل أية إشارة أو إشاعة، والتقليد الراسخ، والذي لم يُخِلَّ به معاوية هذه المرة، هو أن يودع في السجن أولئك الذين تدور حولهم الشائعات أو تحوم حولهم الشبهات، إلى أن تتضح الأمور، خاصة وأن المعنيين هذه المرة هم أعداء سافرون ويضمون بين صفوفهم، أكثر من ذلك، عناصر يصنّفهم علمه الناقص عن البعثية بأنهم انقلابيون بالإيديولوجيا. وقد جرت حادثة مضحكة بينه وبين بعثي سابق بهذا الخصوص.

يتناول ميشيل عفلق مؤسس البعث، ضمن نظريته، مفهوما معقدا ليس من السهل استيعابه، وأصعب من ذلك تطبيقه، يسميه "الانقلاب" ويُنطق ويُكتب تماما كما يُكتب ويُنطق الانقلاب العسكري، مع أن لا صلة لهذا المفهوم بالانقلابية العسكرية التي يوصم البعثيون بها عادة.

إن هذا الانقلاب الإيديولوجي هو الشرط الإساسي الذي يتوقف عليه قيام الثورة العربية الحقيقية.

ربما كان ميشيل عفلق هو البعثي الوحيد الذي حقق هذا الانقلاب في نفسه مع رفيقه إلياس فرح. فميشيل عفلق كان نادرة زمانه في عرب القرن العشرين، لما يتمتع به من ميزات فكرية وخلقية.

أما البعثي الموريتاني السابق فقد خرج لتوه من السجن للمرة...؟ إلى وسط مبتهج وأجواء فرح، لكنه بعد أيام قليلة وجد نفسه في مواجهة الحقيقة المرَّة، فقد تم عزله من وظيفته منذ سنوات وقد تحملت الأسرة في غيابه دينا ضخما وأمسك المتجر المجاور عن التموين بالشاي والخبز دينا. وكان عليه أن يعيل مجموعة من الأطفال تترواح أعمارهم بين سنة و12 سنة فضلا عن الوالدة العجوز التي كان بكاؤها يحطم قلب أشرس النمور كلما رأته ذاهبا إلى السجن أو عائدا منه، لم تكن لديه مدخرات مهما كانت، وقد قطع جميع صلاته منذ أمد بعيد مع الميسورين الذين يمكنهم أن يمدوا له يد العون والمساعدة. ففي ذلك الزمن كان الناس ينتمون إلى هذه المنظمات كما ينخرط الرهبان في خدمة الكنيسة الكاثوليكية أو كما يدخل مريدو الطريقة الصوفية البومديدية.. لم يكن لديه أي بديل. ضاق الأفق في وجهه حتى كاد يلامس أنفه. فكر في الهجرة وما أدراك ما الهجرة؟ هجرة محمدن الذي اختبأ داخل قعر سفينة متجهة إلى لاس بلماس هربا من الاعتقالات سنة 1982 ولم يعد أبدا. أو ممارسة الحرف الصغيرة بالنسبة لمثقف مثله : الذهاب على شاكلة ذلك الذي ذهب إلى جنوب تكانت وهو يحمل معه جراح التعذيب التي لا تندمل ليرعى الإبل، أو الذهاب كما فعل عبد الله- وهو رفيق آخر- لبيع الأغنام في سوق كيفة، أو العمل بائعا في متجر بكيهيدي دون أن يعد نفسه لذلك كما فعل آخر، أو العمل بفلاحة الأرض ليصبح مزارعا تقليديا كما فعل آخر في ناحية امبود كل ذلك مقابل ثمن بخس.

فوق ذلك هنالك هذا السؤال الوجودي الذي يؤرقه : هل يمكن إقامة مشروع عصري بآليات مجتمع يعيش في القرن الثامن عشر، ومن ثم الحصول على شعب متحرر في نهاية القرن العشرين؟ لقد تخلى ثوار ظِفار عن ذلك وفشل في تحقيقه ثوار جنوب اليمن، أما العراق الذي ما زال يتشبث به من خلال بعض الشعارات الوحدوية التي أفرغت من مضمونها الثوري فقد تخلى عنها بكل بساطة منذ العام 1979 من أجل إقامة دولة إسلامية. لم يعد مخدوعا في ذلك.

في هذه اللحظة الحادة من محنته شَخَصَ أمامه القرن الثامن عشر بلحمه ودمه أي القبيلة : عارضة تسهيلاتها شريطة الالتزام بالتنكر لآرائه السياسية والعودة إلى الصف. اقترحوا عليه "مقابلة الرئيس وقد تحل كل مشاكله" إن القبيلة لا تتعبأ أبدا من أجل المصلحة العامة. والتنكر لمبادئه يساوي عنده تجرع السم الزعاف Soute . ولكن هل هناك من خيار؟

لم يجد من خيار غير التنكر وطعمه المرير. وأخيرا أزف يوم المقابلة. حضر أمام باب الرئيس وهو يلقي نظرة خلفه للتأكد من أن ذيل ثوبه الفضفاض لا يحمل في طياته (كركارة) بعثية. دار النقاش بسرعة مع الرئيس حول خبث البعثيين وسوء طويتهم. وفجأة طرح معاوية هذا السؤال : ألا يصفون أنفسهم في كتبهم بأنهم انقلابيون؟ كاد البعثي المشلوح برغم توتر أعصابه أن ينفجر ضاحكا. وهو ما كان كفيلا بوضع نهاية لآماله، لكنه تمالك نفسه. وفي جزء من الثانية خطر بباله أن يشرح له، غير أن ذلك سيكون جهدا ضائعا بالإضافة إلى خشيته من أن يظهر كمن يبعد عن البعثيين أي نوع من الدناءة والخسة. وفي النهاية أعطى الجواب الذي يتوقعه ويريده معاوية : بلى، ولتذهب الحقيقة إلى الجحيم. وهكذا استطاع الخروج من المأزق ببراعة تقية إمام القرن الثامن، عندما سأله الخليفة بنبرة تهديد عما إذا كان القرءان مخلوقا.

يتواصل..
أعلى