1- مهادٌ نظري:
يُراد بالتزام الشاعر وجوب مشاركته بالفكر والشعور والفن في القضايا الوطنية والإنسانية، وفيما يعاني الناس من آلام وما يبنون من آمال. ويتحدد هذا الالتزام في الشعر بمدى ارتباط الشاعر بقضايا الناس في مجتمعه، وما يقدّم من حلول أو تنبيه إزاء هذه القضايا. ويتحقق - أعني الالتزام - عندما يُنتج الشاعر للآخرين أعمالا إيجابية في تأثيرها، تمس حياتهم ومشكلاتهم مسًّا مباشر؛ لأنهم لن يكونوا مهيأين للتفاعل مع قضية عامة قبل الفراغ من قضاياهم الخاصة.
والتزام الشاعر لا يعني أنه هبط بالشعر من عليائه؛ فحطّ من قيمته بمعالجة المشكلات اليومية. بل يعني أن قيمة القصيدة تتحدد بالأثر الفعّال في نفس المتلقي، أيًّا كان نوع التجربة وموضوعها.
والشاعر الحق لا يمكن أن يعيش بضميرين: ضمير مع نفسه وضمير مع الناس، وإنما يواجه الشاعر الحق نفسه ومجتمعه بضمير واحد؛ لأنه يحس أن مشكلاته لا تنفصل عن مشكلات الناس. فلا يليق به أن يستغرقه التأمل في الجمال الخالد والخير المحض في حين يعاني مجتمعه قضايا حيوية واقعية مُلحّة, ولا يليق به أن يسترسل في خيالاته ومشاعره الفردية، ووطنه يعاني، وطبقته الاجتماعية تكافح لدفع الفقر والجهل والمرض والظلم.
صحيح أن الشعر، والفن عموما، إبداع فردي. لكن هذه الفردية لا تتعارض مع العقيدة الجماعية؛ لأن الشاعر الأصيل يشعر بأنه فرد في جماعة، وأنه في تعبيره عن نفسه إنما يعبّر عن سائر الجماعة التي ينتمي إليها؛ فإذا بنا أمام فنان يتنازل عن نزوته الضيقة المحدودة في سبيل تحقيق نظرة المجتمع الكلية الشاملة التي تشرّبها حتى تصوراتهم الأولية الساذجة؛ ليؤدي دورا شموليا يكسب ثقة المجتمع لصالح الشاعر، فيرفعه مقاما علـيًّا. ويوازي ذلك أن يكون الشاعر خادما، بالفن، لجماعته؛ لا يكذبهم ولا يخونهم؛ ليكون الالتزام هو الجانب الإيجابي من علاقة متبادلة بين الفرد والمجتمع.
إن الشاعر - والحال كذلك - لا يقدم فنًا دعائيا، ولا شعارات؛ لأنه لا يعبّر من طرف واحد، طرف المجتمع، لا. الشاعر لا يتبنّى فكرة مجتمعه أو عقيدته إلا بعد التحام حميم به وتجاذب عنيف معه؛ فيكون موقفه حصيلة للتفاعل بينه وبين المجتمع، بين الابن والأب؛ فإذا أفكار المجموع صارت أفكاره هو الخاصة، وإلا انتفى (الالتزام) لصالح (الإلزام) الذي ينسف الفن نسفًا.
وليس معنى انشغال الشاعر بقضايا مجتمعه الخاصة أنه ينأى عن القضايا الإنسانية العامة؛ فإن الشاعر الجيد هو من يعالج القضايا العامة منطلقا من منظور عصره وقضايا مجتمعه الخاصة. بذلك يتقبل الجمهور إنتاجه الخاص، العام.
لقد نشأت فكرة الالتزام في العصر الحديث نتيجة لاحتكاك الأديب بالحياة التي يعيشها، وإدراكه لخطورة الدور الذي يقوم به إزاء هذه المشكلات. ومن ثم تحدد مفهوم الأدب في العصر الحديث بأنه "نقد للحياة", أو "تفسير لها". وكان ذلك معناه ضرورة احتكاك الأديب بمشكلات عصره وقضاياه؛ لكي يجعل قوة التعبير الفني وسيلة فعّالة في تنبيه النفوس وتوعيتها بواقعها ومصيرها. وقد استجاب لهذه الفكرة - فكرة الالتزام - شعراء عرب كثيرون في العصر الحديث. وللاطلاع على تجاربهم، ولمناقشة موقف (سارتر) والوجودية عموما التي تنفي الالتزام عن الشعر خاصة، نُحيل من يرغب إلى (عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، فصل: الالتزام والثورية). و(محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، فقرة: التزام الشاعر). و(إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، فصل: الموقف من المجتمع). ومن هذه الكتب الثلاثة أفدنا، ونقلنا.
هذا مهاد نظري نراه ضروريا قبل أن ننظر في قصيدة النثر السيناوية، ونرصد بعض تجليّات الالتزام فيها، من خلال ديوان (قصائدُ فرّت من الحرب) للشاعر حسونة فتحي، وهو ديوان تحت الطبع. وديوان (بدويٌّ يُشبِه توم هانكس في Cast Away) للشاعر سالم أبو شبانة، نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2020. وحسونة وسالم يُعدّان أبرز شاعرَين تفاعلَا وعالجَا قضية الحرب على الإرهاب التي شهدتها سيناء، وعانت - حقا - من أحداثها المتداخلة المعقدة.
2- قصائد فرّت من الحرب:
يبدو من عنوان الديوان أن حسونة فتحي (فرّ) من صمت الصامتين، وغادر البرج العاجي الذي ثوى فيه بعض الشعراء أمام المأساة؛ ليخلط نفسه و(يتواصل) رغم "طول انقطاع الشبكات عندنا" بأهله ومجتمعه وواقعه المرير؛ فهو يقول في قصيدة (تواصل):
مشاهد حية تُحيط بي/ فأبحث بين المصابين عن مكسوري الساق/ ومكسوري الأنف؛ لأربّت على أكتافهم/ أُحصي عدد القتلى/ أساهم في جمع الأشلاء/ وأمضي متّبعا الدرب/ دون أن يتغير حالي أو حالتي.
إنها حالة الشاعر النبيل الذي يعيش حالة المجموع متعاطفا ومشاركا ومعبرًا.
وفي قصيدة (حظر) يتحدث عن الحرب بالتزام، وجرأة يُحسد عليها:
الحرب؛ كائن همجي، شَرِهٌ وشرِس/ يغضب؛ فيُحرق الأخضر واليابس/ يرضى؛ فيتبعك إلى حجرة نومك/ وتحت ملابسك/ وينهش جلدك وأحلامك!
ومع أني لا أعرف كيف ترضى الحرب عن الضحية، إلا أنني مُعجب بهذا التصوير الدقيق للحرب التي عاينتُها أنا بنفسي وعانيتُها؛ حتى أني لأشعر بأني أنا المقصود بكاف الخطاب في الاقتباس السابق، و"الحرب؛ كائن لا يعرفه/ ولن يعرفه إلا من رآه حقا". وما الحرب إلا ما (علمنا وذقنا).
والذي يعرف تاريخ سيناء يعرف أنها بلاد حروب، يربح فريق.. يخسر فريق، وتنتصر الحرب ولا تنهزم:
قال المحارب: انتصرنا/ فصمت المهزوم طويلا/ بينما ظل الكائن الهمجي/ يجوب البلاد والمدن!
وقد صاحب الحرب في سيناء إجراءات وتدقيقات أمنية عسيرة جدا عادت بالسفر من عهد الرفاهية والسيارات إلى عصر كان فيه (السفر قطعة من العذاب). يقول حسونة في قصيدة (الطريق إلى القاهرة):
لم يعد يصلح أن نحسب الوقت بالمسافة/ الوقت رهن الإجراءات/ مرات التفتيش/ مرات إبراز بطاقة هويتك!
وهذه صورة واقعية كاشفة لمرارة الحرب؛ فالطبيعي أن يُقاس الوقت بالمسافة، لكن للحرب قوانينها الفوضوية، ولها شخصيتها الهمجية التي لا تعرف أبسط مبادئ المنطق! وفي قصيدة (صورة في معرض الكتاب) يعود حسونة إلى إبراز هذا المشهد الكئيب، يعود مدفوعا بهمّ الفرد وهموم المجموع:
لكنني قادم من بلاد الحرب/ أقطع المسافة الطويلة/ بمشية الجنازة/ فخلفي نار ودماء وجثث/ وكآبة تعتلي الوجوه/ وأمامي/ ما لا حصر له من الكمائن/ أعبرها واحدا تلو الآخر/ ببطاقة هوية في اليد/ وحقيبة سفر مُشرّعة للتفتيش!
وهو تعبير فائق الدلالة على حال الطريق، وحال البلاد التي تكاثرت وتناسلت فيها الجنائز، وفي اليد نحمل أرواحنا كئيبة، مُشرّعة كمشروع لجنازة جديدة.
وفي القصيدة نفسها - الطريق إلى القاهرة - نقدٌ لاذع للمفتشين على الطريق، وعدم قدرتهم على التمييز، فهم لا يتصفون بأدنى درجات الفراسة أو الحدس الطفولي البسيط؛ فالجميع أمامهم متهم:
تسيئني نظرة الاتهام هذه!/ تبحث عن وظيفتي؟!/ وظيفتي تافهة يا سيدي/ ووظيفتك أيضا تافهة/ تعتمد فراسة أصابها العطب/ الأطفال يعرفون يا سيدي عين الخائن/ عين الكاذب/ وعين العدو وعين الصديق وعين المحب/ استعينوا بالأطفال يا سيدي/ أو عودوا لبراءة طفولتكم؛/ فتعرفوا!
والحرب - كالشوق - لا يعرفها إلا من يكابدها، وكالصبابة لا يعرفها إلا من يعانيها؛ ولذلك هي مجرد حديث يسعى الآخرون للاستماع إليه؛ رغبة في الاستكشاف ربما، أو للتسلية وإزجاء الوقت، أو لأنه حديث يرونه ممتعا كإشعال السيجارة! من قصيدة (ممر الطابق الرابع) يقول حسونة:
هنا؛ تحديدا في آخر ممر الطابق الرابع/ من بناية المستشفى الجامعي بالإسماعيلية/ صادفت الكثيرين/ يجتمعون حولي كلما جئت لأشعل سيجارة/ فأحدثهم عن الحرب/ وما يفعل السفهاء منا/ وما يفعلون بنا، ليكونوا، مثلي، على الحياد/ لا يقهرهم الحزن/ لمشهد أسرة تتسلم جثة من المشرحة!
إن موقف المتحدث عن الحرب مغاير لموقف مستمع "في الطابق الرابع لتدخين سيجارة بلا فزع". الحرب عند المتحدث نقد واستهجان لأفعال السفهاء منا، وصبر وحياد لا يهزمهما حزنٌ ساعة الموت!
ولكن، رغم الحزن: "ففي بلاد الحرب/ لا تُظهر العيونُ في الليل/ سوى حزن النهار"! ورغم الحظر: "بانقضاء اليوم الأول/ بعد الألفين/ من أيام الحظر.. والحجر/ تكون قد اعتدت تماما/ أن تلزم بيتك"! ورغم النار والدماء والجثث، رغم الكآبة، رغم هذا كله، يأخذ الشاعر - الإنسان، النبيل - بيد مجتمعه نحو الحياة والأمل والضياء، يرسم لهم الطريق الأمثل الذي سار فيه أهله الأولون الذين عرفوا الحياة وأحبوها وصدَقوها وصادقوها، الذين عمّروا المدائن ونشروا فيها مظاهر البهجة والنماء والرخاء، لا يترك الشاعر أهله تكسو وجوههم الكآبة، بل يأوي بهم إلى رصيد زاخر من الاستمساك والاعتصام بالحياة شهية بهية، فتية تستعصي على الفناء. يقول في قصيدة (الطريق إلى العريش):
رغم ذلك يخشانا الموت/ وتؤمن بنا الحياة/ ونعلم جيدا دون أن نجوب العالم/ أن قلعتنا هي الأعز/ وأن نساءنا هن الأجمل!
3- بدويٌّ يُشبِه توم هانكس:
الخوف قرين الحرب الذي لا يفارقها، ومنذ البداية يقتبس الشاعر سالم أبو شبانة من (سوفوكليس): "بالنسبة إلى الخائف، كل شيء يُصدر حفيفا". ثم يرسم سالم للخوف مشهدا مُعبّرًا فعلا، وعميقا بعمق الصدق، مُرًّا مرارةَ الحقيقة - مشهد الخائف من أن يضيع بين فريقين متحاربين، كلاهما يحمل السلاح القاتل؛ فهذا قد يقتله اعتقادا أنه نصير ذاك، وذاك قد يقتله اعتقادا أنه نصير هذا، وبين هذا وذاك لا يجد الشاعر يقينا يحميه!
وإيمانِ المؤمنين/ أنا خائف/ نعم أنا خائف/ فلستُ نصيرًا لأحد/ وبلا اعتقاد قاطع يحرسني!
إن سالم، الشاعر الملتزم، لا يكتفي بأن يشارك مجتمعه قضيته، ولا يقنع بمجرد التعبير عنها، وإنما يدفعه اهتمامه وهمومه إلى التفكير الطويل العميق في جذور القضية وأبعادها الثقافية والاجتماعية، وصولا إلى تفسيرها وتقديم وصفة للإصلاح والسلم الاجتماعي. إن هذا البدوي المتفرّد المنفرد الذي لم يلق من يساعده ويأخذ بيده، قد وقع فريسة للمُخادعين، سقط في حبائلهم؛ لأنهم أوهموه بالخلاص من سخرية الآخرين ومن احتقارهم. ننظر كيف رسم سالم مشهد الداء والدواء لمن يتأمل ويعقل، في قصيدة (أقول لكم عن الحرب):
ثقلُ الرجال الغاضبين، مرعوبا من آلاتهم، من جدرانهم العالية، ومتاهة الأبواب، سخروا من رطانتي، ونعتوني بالقرد البدوي!
جائعا صعدتُ الجبل، أزرع البانجو وأشحذ حقدي. مرّت من تحتي: التويوتا، الأفكار، الحداثيون، عصابات المافيا، التوراتيون، والمتاجرون مع الله.
نادوا عليّ: تعال. قلتُ: الجبل يعصمني. أيام طويلة، أتقدّس في صمت وغضب. يبشرونني بعسل، ولبن، ونساء جميلات شِبقات، وكان جوعا وخوفا. فأمي بعيدة وأخواتي جائعات خائفات.
رأيت: الرجال الخشِنين، اللزجين الغاضبين، من يتكلمون لهجة غريبة عني، والساخرين من وجهي البدوي؛ فملئتُ حقدا وغضبا حتى اسوّد دمي.
خطوتُ هادئا واثقا؛ فالجنة أقرب من الحزام الناسف حول خصري النحيل!
لقد تحدث سالم بلسان البدوي المهمّش الذي استدرجه اللئام مستغلين حقده على الساخرين منه، مستثمرين فقره وجوعه وخوفه على نفسه، وعلى أمه وأخواته الجائعات الخائفات. تحدث سالم وأوضح، لولا أن هذا المُغرّر به لا يعرف "الحداثيون"، ولا يعرف أن أولئك اسمهم "التوراتيون"، وإنما هو الشاعر فرض شخصيته على شخصية المتحدَّث عنه.
لقد أرّقت الحرب الشاعر حقا، ولأنه مثقّف مفكّر متأمل، ولأنه مهموم مشغول بالتفسير، لأنه كذلك، عرف سرّ هذه الحرب البغيضة، إنها (حتمية التاريخ) التي جاءت عنوانا لقصيدة:
أنتِ مريضة، ومرتبكة/ لا بد أن تعرفي القليل: عن حتمية التاريخ/ وصراع الأفكار الكونية/ والاقتصاد السياسي/ وروايات (كونديرا)/ لتفهمي أن العالم ليس أُحاديا/ وأن التراكتور الضخم سيمرّ من هنا حتما/ لا تحزني، الحمّى تأخذ وقتا قليلا/ ليعبرَ الجنود بثقة/ ما دخلي أنا بكل هذا التعقيد؟!/ أريد أن أبوسكِ، كعادتنا في الصخب!
في معظم قصائد الديوان، أفاض سالم في وصف مشاهد الحرب، مُصوّرا موقفه من بشاعتها، وهو موقف مجتمعه كله الذي عانى نوازلها، فلم يتركه سالم حتى سجّل له أمارات البشرى وآيات التحدي والصبور والصمود؛ لتنتصر الحياة على الموت. في (القصيدة) يقول عن حبيبته (سيناء):
الجنود مشدودون، وحبيبتي تبتكر أكاذيب، لتخدع الحرب، تهتف:
أحبك. تبوسني بشغف، والحرب خزيانة تنظر!
جسد حبيبتي حديقة، جسدها شجرة وحيدة
جسد حبيبتي حقل حِنطة، جسدها سنبلة وحيدة
جسد حبيبتي شجرة مثمرة، جسدها تفاحة وحيدة
جسد حبيبتي حياة، والرصاصة ترجف في فم البندقية!
4- كلمة ختام، ولسوف نعود:
هكذا كان الشاعران هما لسانَي المجتمع، التزمَا بقضاياه التي هي قضاياهما أيضا. فهل جار الالتزام على الفن في الديوانين الجميلين؟ اعتقادي أن لا. وفي هذا تفصيل نرجو أن نعود إليه قريبا؛ لتبيان كيف توازى (الفن) مع المشكلات اليومية الواقعية، دون أن يجور محور على محور.
يُراد بالتزام الشاعر وجوب مشاركته بالفكر والشعور والفن في القضايا الوطنية والإنسانية، وفيما يعاني الناس من آلام وما يبنون من آمال. ويتحدد هذا الالتزام في الشعر بمدى ارتباط الشاعر بقضايا الناس في مجتمعه، وما يقدّم من حلول أو تنبيه إزاء هذه القضايا. ويتحقق - أعني الالتزام - عندما يُنتج الشاعر للآخرين أعمالا إيجابية في تأثيرها، تمس حياتهم ومشكلاتهم مسًّا مباشر؛ لأنهم لن يكونوا مهيأين للتفاعل مع قضية عامة قبل الفراغ من قضاياهم الخاصة.
والتزام الشاعر لا يعني أنه هبط بالشعر من عليائه؛ فحطّ من قيمته بمعالجة المشكلات اليومية. بل يعني أن قيمة القصيدة تتحدد بالأثر الفعّال في نفس المتلقي، أيًّا كان نوع التجربة وموضوعها.
والشاعر الحق لا يمكن أن يعيش بضميرين: ضمير مع نفسه وضمير مع الناس، وإنما يواجه الشاعر الحق نفسه ومجتمعه بضمير واحد؛ لأنه يحس أن مشكلاته لا تنفصل عن مشكلات الناس. فلا يليق به أن يستغرقه التأمل في الجمال الخالد والخير المحض في حين يعاني مجتمعه قضايا حيوية واقعية مُلحّة, ولا يليق به أن يسترسل في خيالاته ومشاعره الفردية، ووطنه يعاني، وطبقته الاجتماعية تكافح لدفع الفقر والجهل والمرض والظلم.
صحيح أن الشعر، والفن عموما، إبداع فردي. لكن هذه الفردية لا تتعارض مع العقيدة الجماعية؛ لأن الشاعر الأصيل يشعر بأنه فرد في جماعة، وأنه في تعبيره عن نفسه إنما يعبّر عن سائر الجماعة التي ينتمي إليها؛ فإذا بنا أمام فنان يتنازل عن نزوته الضيقة المحدودة في سبيل تحقيق نظرة المجتمع الكلية الشاملة التي تشرّبها حتى تصوراتهم الأولية الساذجة؛ ليؤدي دورا شموليا يكسب ثقة المجتمع لصالح الشاعر، فيرفعه مقاما علـيًّا. ويوازي ذلك أن يكون الشاعر خادما، بالفن، لجماعته؛ لا يكذبهم ولا يخونهم؛ ليكون الالتزام هو الجانب الإيجابي من علاقة متبادلة بين الفرد والمجتمع.
إن الشاعر - والحال كذلك - لا يقدم فنًا دعائيا، ولا شعارات؛ لأنه لا يعبّر من طرف واحد، طرف المجتمع، لا. الشاعر لا يتبنّى فكرة مجتمعه أو عقيدته إلا بعد التحام حميم به وتجاذب عنيف معه؛ فيكون موقفه حصيلة للتفاعل بينه وبين المجتمع، بين الابن والأب؛ فإذا أفكار المجموع صارت أفكاره هو الخاصة، وإلا انتفى (الالتزام) لصالح (الإلزام) الذي ينسف الفن نسفًا.
وليس معنى انشغال الشاعر بقضايا مجتمعه الخاصة أنه ينأى عن القضايا الإنسانية العامة؛ فإن الشاعر الجيد هو من يعالج القضايا العامة منطلقا من منظور عصره وقضايا مجتمعه الخاصة. بذلك يتقبل الجمهور إنتاجه الخاص، العام.
لقد نشأت فكرة الالتزام في العصر الحديث نتيجة لاحتكاك الأديب بالحياة التي يعيشها، وإدراكه لخطورة الدور الذي يقوم به إزاء هذه المشكلات. ومن ثم تحدد مفهوم الأدب في العصر الحديث بأنه "نقد للحياة", أو "تفسير لها". وكان ذلك معناه ضرورة احتكاك الأديب بمشكلات عصره وقضاياه؛ لكي يجعل قوة التعبير الفني وسيلة فعّالة في تنبيه النفوس وتوعيتها بواقعها ومصيرها. وقد استجاب لهذه الفكرة - فكرة الالتزام - شعراء عرب كثيرون في العصر الحديث. وللاطلاع على تجاربهم، ولمناقشة موقف (سارتر) والوجودية عموما التي تنفي الالتزام عن الشعر خاصة، نُحيل من يرغب إلى (عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر، فصل: الالتزام والثورية). و(محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، فقرة: التزام الشاعر). و(إحسان عباس، اتجاهات الشعر العربي المعاصر، فصل: الموقف من المجتمع). ومن هذه الكتب الثلاثة أفدنا، ونقلنا.
هذا مهاد نظري نراه ضروريا قبل أن ننظر في قصيدة النثر السيناوية، ونرصد بعض تجليّات الالتزام فيها، من خلال ديوان (قصائدُ فرّت من الحرب) للشاعر حسونة فتحي، وهو ديوان تحت الطبع. وديوان (بدويٌّ يُشبِه توم هانكس في Cast Away) للشاعر سالم أبو شبانة، نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2020. وحسونة وسالم يُعدّان أبرز شاعرَين تفاعلَا وعالجَا قضية الحرب على الإرهاب التي شهدتها سيناء، وعانت - حقا - من أحداثها المتداخلة المعقدة.
2- قصائد فرّت من الحرب:
يبدو من عنوان الديوان أن حسونة فتحي (فرّ) من صمت الصامتين، وغادر البرج العاجي الذي ثوى فيه بعض الشعراء أمام المأساة؛ ليخلط نفسه و(يتواصل) رغم "طول انقطاع الشبكات عندنا" بأهله ومجتمعه وواقعه المرير؛ فهو يقول في قصيدة (تواصل):
مشاهد حية تُحيط بي/ فأبحث بين المصابين عن مكسوري الساق/ ومكسوري الأنف؛ لأربّت على أكتافهم/ أُحصي عدد القتلى/ أساهم في جمع الأشلاء/ وأمضي متّبعا الدرب/ دون أن يتغير حالي أو حالتي.
إنها حالة الشاعر النبيل الذي يعيش حالة المجموع متعاطفا ومشاركا ومعبرًا.
وفي قصيدة (حظر) يتحدث عن الحرب بالتزام، وجرأة يُحسد عليها:
الحرب؛ كائن همجي، شَرِهٌ وشرِس/ يغضب؛ فيُحرق الأخضر واليابس/ يرضى؛ فيتبعك إلى حجرة نومك/ وتحت ملابسك/ وينهش جلدك وأحلامك!
ومع أني لا أعرف كيف ترضى الحرب عن الضحية، إلا أنني مُعجب بهذا التصوير الدقيق للحرب التي عاينتُها أنا بنفسي وعانيتُها؛ حتى أني لأشعر بأني أنا المقصود بكاف الخطاب في الاقتباس السابق، و"الحرب؛ كائن لا يعرفه/ ولن يعرفه إلا من رآه حقا". وما الحرب إلا ما (علمنا وذقنا).
والذي يعرف تاريخ سيناء يعرف أنها بلاد حروب، يربح فريق.. يخسر فريق، وتنتصر الحرب ولا تنهزم:
قال المحارب: انتصرنا/ فصمت المهزوم طويلا/ بينما ظل الكائن الهمجي/ يجوب البلاد والمدن!
وقد صاحب الحرب في سيناء إجراءات وتدقيقات أمنية عسيرة جدا عادت بالسفر من عهد الرفاهية والسيارات إلى عصر كان فيه (السفر قطعة من العذاب). يقول حسونة في قصيدة (الطريق إلى القاهرة):
لم يعد يصلح أن نحسب الوقت بالمسافة/ الوقت رهن الإجراءات/ مرات التفتيش/ مرات إبراز بطاقة هويتك!
وهذه صورة واقعية كاشفة لمرارة الحرب؛ فالطبيعي أن يُقاس الوقت بالمسافة، لكن للحرب قوانينها الفوضوية، ولها شخصيتها الهمجية التي لا تعرف أبسط مبادئ المنطق! وفي قصيدة (صورة في معرض الكتاب) يعود حسونة إلى إبراز هذا المشهد الكئيب، يعود مدفوعا بهمّ الفرد وهموم المجموع:
لكنني قادم من بلاد الحرب/ أقطع المسافة الطويلة/ بمشية الجنازة/ فخلفي نار ودماء وجثث/ وكآبة تعتلي الوجوه/ وأمامي/ ما لا حصر له من الكمائن/ أعبرها واحدا تلو الآخر/ ببطاقة هوية في اليد/ وحقيبة سفر مُشرّعة للتفتيش!
وهو تعبير فائق الدلالة على حال الطريق، وحال البلاد التي تكاثرت وتناسلت فيها الجنائز، وفي اليد نحمل أرواحنا كئيبة، مُشرّعة كمشروع لجنازة جديدة.
وفي القصيدة نفسها - الطريق إلى القاهرة - نقدٌ لاذع للمفتشين على الطريق، وعدم قدرتهم على التمييز، فهم لا يتصفون بأدنى درجات الفراسة أو الحدس الطفولي البسيط؛ فالجميع أمامهم متهم:
تسيئني نظرة الاتهام هذه!/ تبحث عن وظيفتي؟!/ وظيفتي تافهة يا سيدي/ ووظيفتك أيضا تافهة/ تعتمد فراسة أصابها العطب/ الأطفال يعرفون يا سيدي عين الخائن/ عين الكاذب/ وعين العدو وعين الصديق وعين المحب/ استعينوا بالأطفال يا سيدي/ أو عودوا لبراءة طفولتكم؛/ فتعرفوا!
والحرب - كالشوق - لا يعرفها إلا من يكابدها، وكالصبابة لا يعرفها إلا من يعانيها؛ ولذلك هي مجرد حديث يسعى الآخرون للاستماع إليه؛ رغبة في الاستكشاف ربما، أو للتسلية وإزجاء الوقت، أو لأنه حديث يرونه ممتعا كإشعال السيجارة! من قصيدة (ممر الطابق الرابع) يقول حسونة:
هنا؛ تحديدا في آخر ممر الطابق الرابع/ من بناية المستشفى الجامعي بالإسماعيلية/ صادفت الكثيرين/ يجتمعون حولي كلما جئت لأشعل سيجارة/ فأحدثهم عن الحرب/ وما يفعل السفهاء منا/ وما يفعلون بنا، ليكونوا، مثلي، على الحياد/ لا يقهرهم الحزن/ لمشهد أسرة تتسلم جثة من المشرحة!
إن موقف المتحدث عن الحرب مغاير لموقف مستمع "في الطابق الرابع لتدخين سيجارة بلا فزع". الحرب عند المتحدث نقد واستهجان لأفعال السفهاء منا، وصبر وحياد لا يهزمهما حزنٌ ساعة الموت!
ولكن، رغم الحزن: "ففي بلاد الحرب/ لا تُظهر العيونُ في الليل/ سوى حزن النهار"! ورغم الحظر: "بانقضاء اليوم الأول/ بعد الألفين/ من أيام الحظر.. والحجر/ تكون قد اعتدت تماما/ أن تلزم بيتك"! ورغم النار والدماء والجثث، رغم الكآبة، رغم هذا كله، يأخذ الشاعر - الإنسان، النبيل - بيد مجتمعه نحو الحياة والأمل والضياء، يرسم لهم الطريق الأمثل الذي سار فيه أهله الأولون الذين عرفوا الحياة وأحبوها وصدَقوها وصادقوها، الذين عمّروا المدائن ونشروا فيها مظاهر البهجة والنماء والرخاء، لا يترك الشاعر أهله تكسو وجوههم الكآبة، بل يأوي بهم إلى رصيد زاخر من الاستمساك والاعتصام بالحياة شهية بهية، فتية تستعصي على الفناء. يقول في قصيدة (الطريق إلى العريش):
رغم ذلك يخشانا الموت/ وتؤمن بنا الحياة/ ونعلم جيدا دون أن نجوب العالم/ أن قلعتنا هي الأعز/ وأن نساءنا هن الأجمل!
3- بدويٌّ يُشبِه توم هانكس:
الخوف قرين الحرب الذي لا يفارقها، ومنذ البداية يقتبس الشاعر سالم أبو شبانة من (سوفوكليس): "بالنسبة إلى الخائف، كل شيء يُصدر حفيفا". ثم يرسم سالم للخوف مشهدا مُعبّرًا فعلا، وعميقا بعمق الصدق، مُرًّا مرارةَ الحقيقة - مشهد الخائف من أن يضيع بين فريقين متحاربين، كلاهما يحمل السلاح القاتل؛ فهذا قد يقتله اعتقادا أنه نصير ذاك، وذاك قد يقتله اعتقادا أنه نصير هذا، وبين هذا وذاك لا يجد الشاعر يقينا يحميه!
وإيمانِ المؤمنين/ أنا خائف/ نعم أنا خائف/ فلستُ نصيرًا لأحد/ وبلا اعتقاد قاطع يحرسني!
إن سالم، الشاعر الملتزم، لا يكتفي بأن يشارك مجتمعه قضيته، ولا يقنع بمجرد التعبير عنها، وإنما يدفعه اهتمامه وهمومه إلى التفكير الطويل العميق في جذور القضية وأبعادها الثقافية والاجتماعية، وصولا إلى تفسيرها وتقديم وصفة للإصلاح والسلم الاجتماعي. إن هذا البدوي المتفرّد المنفرد الذي لم يلق من يساعده ويأخذ بيده، قد وقع فريسة للمُخادعين، سقط في حبائلهم؛ لأنهم أوهموه بالخلاص من سخرية الآخرين ومن احتقارهم. ننظر كيف رسم سالم مشهد الداء والدواء لمن يتأمل ويعقل، في قصيدة (أقول لكم عن الحرب):
ثقلُ الرجال الغاضبين، مرعوبا من آلاتهم، من جدرانهم العالية، ومتاهة الأبواب، سخروا من رطانتي، ونعتوني بالقرد البدوي!
جائعا صعدتُ الجبل، أزرع البانجو وأشحذ حقدي. مرّت من تحتي: التويوتا، الأفكار، الحداثيون، عصابات المافيا، التوراتيون، والمتاجرون مع الله.
نادوا عليّ: تعال. قلتُ: الجبل يعصمني. أيام طويلة، أتقدّس في صمت وغضب. يبشرونني بعسل، ولبن، ونساء جميلات شِبقات، وكان جوعا وخوفا. فأمي بعيدة وأخواتي جائعات خائفات.
رأيت: الرجال الخشِنين، اللزجين الغاضبين، من يتكلمون لهجة غريبة عني، والساخرين من وجهي البدوي؛ فملئتُ حقدا وغضبا حتى اسوّد دمي.
خطوتُ هادئا واثقا؛ فالجنة أقرب من الحزام الناسف حول خصري النحيل!
لقد تحدث سالم بلسان البدوي المهمّش الذي استدرجه اللئام مستغلين حقده على الساخرين منه، مستثمرين فقره وجوعه وخوفه على نفسه، وعلى أمه وأخواته الجائعات الخائفات. تحدث سالم وأوضح، لولا أن هذا المُغرّر به لا يعرف "الحداثيون"، ولا يعرف أن أولئك اسمهم "التوراتيون"، وإنما هو الشاعر فرض شخصيته على شخصية المتحدَّث عنه.
لقد أرّقت الحرب الشاعر حقا، ولأنه مثقّف مفكّر متأمل، ولأنه مهموم مشغول بالتفسير، لأنه كذلك، عرف سرّ هذه الحرب البغيضة، إنها (حتمية التاريخ) التي جاءت عنوانا لقصيدة:
أنتِ مريضة، ومرتبكة/ لا بد أن تعرفي القليل: عن حتمية التاريخ/ وصراع الأفكار الكونية/ والاقتصاد السياسي/ وروايات (كونديرا)/ لتفهمي أن العالم ليس أُحاديا/ وأن التراكتور الضخم سيمرّ من هنا حتما/ لا تحزني، الحمّى تأخذ وقتا قليلا/ ليعبرَ الجنود بثقة/ ما دخلي أنا بكل هذا التعقيد؟!/ أريد أن أبوسكِ، كعادتنا في الصخب!
في معظم قصائد الديوان، أفاض سالم في وصف مشاهد الحرب، مُصوّرا موقفه من بشاعتها، وهو موقف مجتمعه كله الذي عانى نوازلها، فلم يتركه سالم حتى سجّل له أمارات البشرى وآيات التحدي والصبور والصمود؛ لتنتصر الحياة على الموت. في (القصيدة) يقول عن حبيبته (سيناء):
الجنود مشدودون، وحبيبتي تبتكر أكاذيب، لتخدع الحرب، تهتف:
أحبك. تبوسني بشغف، والحرب خزيانة تنظر!
جسد حبيبتي حديقة، جسدها شجرة وحيدة
جسد حبيبتي حقل حِنطة، جسدها سنبلة وحيدة
جسد حبيبتي شجرة مثمرة، جسدها تفاحة وحيدة
جسد حبيبتي حياة، والرصاصة ترجف في فم البندقية!
4- كلمة ختام، ولسوف نعود:
هكذا كان الشاعران هما لسانَي المجتمع، التزمَا بقضاياه التي هي قضاياهما أيضا. فهل جار الالتزام على الفن في الديوانين الجميلين؟ اعتقادي أن لا. وفي هذا تفصيل نرجو أن نعود إليه قريبا؛ لتبيان كيف توازى (الفن) مع المشكلات اليومية الواقعية، دون أن يجور محور على محور.
