"رسائل الى ميلينا" للكاتب التشيكي فرانز كافكا هو كتاب صدر عن «دار الأهلية» للنشر في عمان، وقامت بترجمته هبة حمدان وراجعه ودقّقه محمد حنون
الكتاب يعرض لرسائل الكاتب التشيكي فرانز كافكا إلى حبيبته الصحافية والمترجمة ميلينا جيسينسكا حيث كتب كافكا ما يقرب من 149 رسالة وبطاقة بريدية ، 140 رسالة منها كتبت خلال فترة لا تزيد عن 10 أشهر، من مارس/آذار إلى ديسمبر/كانون الأول من العام 1920، بمعدل يصل أحيانًا إلى أكثر من رسالة في اليوم الواحد.
فرانز كافكا(3 يوليو 1883 - 3 يونيو 1924) كاتب تشيكي كتب بالألمانية، وهو رائد الكتابة الكابوسية ، ويعد أحد أفضل أدباء الألمانية في فن الرواية والقصة القصيرة
تعلم كافكا الكيمياء والحقوق والأدب في الجامعة الألمانية في براغ (1901)
في 18 يوليو 1906 حصل على درجة الدكتوراة، في القانون وعمل موظفا في شركة تأمين حوادث العمل ، أمضى وقت فراغه في الكتابة الأدبية التي رأى فيها هدف وجوهر حياته و القليل من كتاباته، نشرت خلال حياته، معظمها يشمل رواياته العظمى (الحكم) و(الغائب) التي لم ينهها و نشرت بعد موته، على يد صديقه المقرب ماكس برود، الذي لم يستجب لطلب كافكا بإبادة كل كتاباته.
الصحافية والمترجمة ميلينا جيسينسكا ، هى مترجمة وكاتبة تشيكية شابة ولدت في “براغ” في أغسطس 1896 ، وكان والدها جراح أسنان معروف وأستاذ في جامعة براغوز شارلي، وتوفت والدتها وهي في عمر 13 عاما ، كانت تعمل مترجمة لكتابات “كافكا” للغة التشيكية ، وكان عملها هذا هو السبب الرئيسي لتبادل الرسائل بينهما عام 1920، وقد كانت مقاومة للاحتلال النازي لبلادها ، وقام النازيون بإلحاقها بمخيم للمعتقلين الذين ساعدوا اليهود ، وتوفت في 1944 عن عمر يناهز الخمسين عام .
في مقدمة الكتاب يذّكر الدكتور محمد حنون بأن ناشر كتاب الطبعة الأولى من كتاب “رسائل إلى ميلينا” ويلي هاس وصف ميلينا في شبابها بالتالي: كان يخيل لمرافقيها، وكأنها امرأة نبيلة من القرن السادس عشر، أو السابع عشر، تضفي على اللحظة طابعاً إيطالياً قديماً، وكأنها تعيش في رواية قديمة مع دوق جسور مقدام، ذكي، لكن طبيعتها المتهورة، كانت تطفو عندما يسوقها قلبها ولطالما هذا ما حدث في شبابها، كانت غامضة وطيبة إلى حد الخيال، تأسر القلوب بغموض عجيب
كانت ميلينا في الرابعة والعشرين من عمرها ،عندما قامت بترجمة كتاب "الفحام" لفرانز كافكا الى اللغة التشيكية وكان كافكا ، قد التقى بميلينا للمرة الأولى في بداية الخريف في شهر سبتمبر من عام 1919 في أحد مقاهي براغ، حيث اقترحت عليه ميلينا يزينسكا، أن تترجم أعماله من الألمانية التي كان يكتب بها إلى اللغة التشيكية
و خلال عملها على ترجمة كتابه، بدأت المراسلات بينهما في عام1920 م وكان فرانز كافكا في الثامنة والثلاثين من عمره، فشل في مشاريع زواجه حيث انتهت خطوبتين سابقتين له لم تتوجا بالزواج ، وربما لذلك وجد في مراسلاته لميلينا البراح للحديث عن نفسه وحياته وعن كتاباته بأريحية وصفاء وعراء نفسى تام .
في مراسلات كاتب الروايات الكابوسية الغرائبية، يكتشف القارئ الوجه الحساس للروائي الّذى يكتب تفاصيل يومية، كثيرة في رسائله فهو لا يغفل أي حدث يمر به في يومه دون أن يسرده ، بأسلوب سردي قصصي جميل تنهمر فيه يومياته الحياتية ويذكر في رسائله تفاصيل معاناته من مرض السل، الذى كان يعانى منه منذ عام 1917 م ونزيف الرئة الذى ينتابه من حين لأخر، ويبدى خوفه من الوعكة الصحية التي تلم به من حين لأخر والرسائل في اغلبها تحوى أفكار ونقاشات عن كتبه ورواياته وقصصه، وروايات دستوفسكى، وغيره من الأدباء .
في بداية المراسلات بينهما يبدو كافكا، راغبا بمعرفة كل شئ عن تفاصيل حياتها وتفاصيل أيامها، وعن علاقتها بأهلها، وكذلك يحدثها عن علاقته بأهله وأخته حيث يبدو واضحا أنه يجد ارتياح وسعادة ،في البوح لها بمكامن نفسه فالعلاقة بينهما لم تكن علاقة حب فقط بل أيضا علاقة صداقة فكرية يبدو فيها واضحا الانسجام والارتياح بين كافكا وميلينا ،لذلك يروى لها كل هواجسه وأفكاره ويحدثها عن علاقته بوالده وخطيباته السابقات وأسباب فشل خطوبتاه السابقتين.
في إحدى رسائله يصف ببراعة لعب طفلتان من بنات الجار الودود معه في لوحة قصصية رشيقة ثم في رسالة أخرى ،يتابع ما ترسله له ميلينا من ترجمات قصصه إلى اللغة التشيكية ويقوم ببعض التعديلات ، كذلك يبدى رأيه بمقالاتها التي تنشرها في الصحافة التشيكية ، ويبدى اعجابه بقوة قلمها ورشاقته ويناقشها في أفكار مقالاتها بحرص ، ولا يستنكف أن يعترف لها بمرضه بقوله : أنا مريض روحي وأن مرض الرئة ـليس إلا امتداد لمرضى الروحي ويمضى في رسائله مندلقا ،في بوح شفاف عن هواجسه وأفكاره ورؤيته لمعنى وجودها بحياته ،بأسلوب قصصي جميل و يصف علاقته بها كما يقول في هذا المقطع "بأنه يشعر كما لو أنه في مكان خطير وهى واقفة بثبات بجانب الشجرة، شابة جميلة لمعان عينيها يبدد آلام العالم وها أنا أجر نفسى من شجرة إلى شجرة وأنت تناديني لتنبهيني من الأخطار وتمديني بالشجاعة اللازمة".
تلفحك حرارة وقوة رسائل كافكا ، ودفق مشاعر كاتبها، ووصفه الإبداعي وأسلوبه القصصي في سرد يومياته ورسمه للتفاصيل الدقيقة في يومه التي يكتبها ويرسلها لها بشكل يومي
ولكن رسائل كافكا لا تسير في وتيرة واحدة من البوح، وإنما تعلو فيها أحيانا لغة الغضب والتبرم، وردة الفعل العنيفة ، ويحدث ذلك كرد فعل على عبارة لم تعجبه من كلامها برسائلها إليه ، ولكن سرعان ما تهدأ ثورته وغضبه، ويطلب منها الصفح ويمضي في سرد تفاصيل طفولته وماحدث فيها من تفاصيل أثرت على شخصيته التي تبدو من خلال حديثه رسائله خصبة بالعاطفة والاحاسيس و يبوح لها قائلا:
فأنتِ تنتمين إليّ، حتى ولو قُدّر ليّ ألا أراكِ ثانيةً على الإطلاق
وفى مقطع عذب جميل ثرى بالصور يكتب لها:
لماذا، بالمناسبة، أكون كائنًا بشريًا في الوقت الذي أتحمل فيه كل عذابات هذا الوضع بالغ الاضطراب؟ لماذا لا أكون مثلًا ذلك الدولاب السعيد في حجرتك، ذلك الدولاب الذي يتطلع إليك مباشرة عندما تجلسين إلى مكتبك، أو عندما تستلقين، أو تأوين إلى النوم لماذا لا أكون أنا ذلك الدولاب ؟
في رسائل كافكا نكتشف الروح الهشة لكافكا ، الروح الممتلئة حب ووجد ورقة وعشق الممتزجة بروحه ا لقلقة، التي لا تهدأ أبدا والتي تتكشف عبر رسائله إلى ملينا فهو يكتب بشكل يومي رسائل مطولة ،عن أفكاره وهواجسه وتخطيطاته لما يكتبه ومواعيد اسفاره ، وحتى عندما يسافر لا تنقطع رسائله إليها لأنها استوطنت عقله وفكره.
في رسائله يمضى كافكا في بحر أسئلته ودوامة، أفكاره وشكوكه حول العالم وهو يسرد لها خبايا نفسه مدركا للحجم الفرق بين عمرهما، فهو في الثامنة والثلاثين من عمره بينما هي كانت في الرابعة والعشرين، من عمرها تعيش حياة زوجية مضطربة مع زوجها الذى لم تنسجم معهـ وانجذبت ،لكافكا وأغرمت بكتاباته ولكن كافكا يصارحها، بالقول برسائله بأنها واهمة، حين تعتقد بأنها تعرفه فقراءة بضعة قصص وروايات له لاتسوغ، لها معرفتها به كما أن كافكا يشعر بحاجز يهوديته وديانتها المسيحية ،وكثيرا ما يصب جام غضبه على يهوديته التي تجعله قلقا دائم الشعور بالخوف من المجهول ، وربما كما قال في أحد رسائله لها بأن كلاهما يتشارك في صفات غريبة مثل القلق والخوف، ولعل ذلك هو ماجذبهما إلى بعض وجعلها تشغل حيز تفكيره طوال اليوم ،في بيته الّذى يعيش فيه وحيدا مع كتاباته وخيال ميلينا التي تشغل فكره ويكتب لها الرسائل الطويلة يوميا و التي أحيانا يقضى الليل بكامله يسطر فيها رسالة لها .
الروح القلقة الممتلئة بالأسئلة والشكوك تنضح من رسائل كافكا ولكن هناك شذرات في الرسائل تعبر عن روح كافكا الشفافة ، التي تنشد المشاركة من خلال الحب وذلك حين يقول لها: أرغب بالبكاء على كتفيك كفتى صفير ،ثم أنت تودين البكاء على كتقى كفتاة صغيرة، ثم احيانا وعشرات المرات وآلاف المرات ، اريد ان اكون معك "
يكتب كافكا لميلينا عن يومياته وأحلامه ومشاعره، ورغبته بقربها التي يبدو أنها أقربإلى الحلم المستحيل نتيجة صعوبة العلاقة وتعقيدها ، لأنها امرأة متزوجة وترفض ترك زوجها والارتباط به رغم مشاعر الحب التي تكنها له والتي تتضح من خلال رسائله لها
في أخر رسالة له يبدو كافكا محبطا، ويظهر احساسه بالحزن لإدراكه بأنه لن يجمعهما بيت ذات يوم كما يقول : أشياء قليلة متأكد منها :أننا لن نعيش يوما معا، فى شقة واحدة ،جسدا لجسد، نتشارك طاولة واحدة، ولا حتى في نفس المدينة
بعد ذلك تتوقف الرسائل التي استمرت طيلة عام 1920م ، ثم نجد رسالة مؤرخة في مارس 1922م تظهر كفره بكل الرسائل التي كتبها لميلينا ، بكلام مؤثر وتحليل فلسفى ومنطقي لعلاقة الحب التي تقوم على الرسائل فقط دون اللقاء حيث يكتب قائلا: “أن السهولة في كتابة الرسائل فد جلبت الدمار إلى ارواح الناس ،كتابة الرسائل هي لحظات من تلاقى الأشباح فهي استحضار لشبح المتلقي وشبح المرسل ليتجسدا فى كلمات الرسالة ، وأحيانا في سرب من الرسائل ، تتداخل سرا في كلمات الرسالة التي نكتبها لتكون شاهدة على ما جاء فيها
كيف استطاع أحد أن يتصور انه سيتواصل مع أحد عن طريق الرسالة ؟
يستطيع الفرد أن يفكر بأحد من بعيد ، ولكن لا يمكنه إلا أن يتمسك إلا بمن هو قريب منه وماغير ذلك فهو فوق طاقة البشر.
وبعد ذلك تتواتر بعض البطاقات البريدية القصيرة المقتضبة ،التي تعطى ملمح عن ذبول العلاقة لنقرأ في أخر رسالة له بالكتاب ، حديث لكافكا عن فكرة الزواج ورفضه له باعتباره مجرد وهم لأن الإنسان، لا يمكن أن يتحد مع انسان أخر مهما توهم وتصور ذلك كما يقول : "فما الغرض من الزواج إن كان هربا من اليأس؟ إن دمجنا وحدة شخص مع وحدة شخص أخر، لن يكون الناتج وفاق ، وأنما ستكون سجنا فكل منها ستعكس وحدتها على الأخرى حتى في أشد الليالي ظلمة".
وبهذه الرسالة ينهى كاتب الروايات الكابوسية، رسائله وذلك في أواخر عام 1923 وتوفي كافكا بعد ذلك بأقل من عام في يونيو 1924
"رسائل إلى ميلينا" هو كتاب جميل ضمن أدب الرسائل، كشف الوجه المحب العاشق لكاتب من أعظم كتاب القرن العشرين ،الذى اكتوى بنار الحب وعذابه ولكن الموانع والعوائق والسدود جعلته حب مستحيل ، هو أقرب للحب العذرى المحترق في لهب نار عذاب البعد ،دون الارتباط بالحبيبة التي كان يكتب لها فيوض روحه وفكره وعقله يوميا، في حالة عراء نفسى عظيم فلا احساس بحواجز بينها وبينه رغم أنه شخصية انعزالية الصعب ،أن يتألف مع الناس لحساسيته، ككاتب وأديب من طراز رفيع جسد في رواياته الكابوسية أعقد المشاعر الإنسانية ،وقام بتعرية قبح العالم عبر رموز كتاباته، لكنه وجد في حب ميلينا العزاء الكبير والحضن الشاسع الذى احتمل كل تقلبات فكره ومزاجه الصعب ، وفكره الغرائبي الذى هو في حقيقة الأمر انعكاس لروحه الرقيقة الهشة، التي لم تحتمل قسوة العالم وقبحه فكتب أعظم الروايات وأكثرها عمق في كشف قبح النفوس البشرية وقسوة العالم.
الكتاب يعرض لرسائل الكاتب التشيكي فرانز كافكا إلى حبيبته الصحافية والمترجمة ميلينا جيسينسكا حيث كتب كافكا ما يقرب من 149 رسالة وبطاقة بريدية ، 140 رسالة منها كتبت خلال فترة لا تزيد عن 10 أشهر، من مارس/آذار إلى ديسمبر/كانون الأول من العام 1920، بمعدل يصل أحيانًا إلى أكثر من رسالة في اليوم الواحد.
فرانز كافكا(3 يوليو 1883 - 3 يونيو 1924) كاتب تشيكي كتب بالألمانية، وهو رائد الكتابة الكابوسية ، ويعد أحد أفضل أدباء الألمانية في فن الرواية والقصة القصيرة
تعلم كافكا الكيمياء والحقوق والأدب في الجامعة الألمانية في براغ (1901)
في 18 يوليو 1906 حصل على درجة الدكتوراة، في القانون وعمل موظفا في شركة تأمين حوادث العمل ، أمضى وقت فراغه في الكتابة الأدبية التي رأى فيها هدف وجوهر حياته و القليل من كتاباته، نشرت خلال حياته، معظمها يشمل رواياته العظمى (الحكم) و(الغائب) التي لم ينهها و نشرت بعد موته، على يد صديقه المقرب ماكس برود، الذي لم يستجب لطلب كافكا بإبادة كل كتاباته.
الصحافية والمترجمة ميلينا جيسينسكا ، هى مترجمة وكاتبة تشيكية شابة ولدت في “براغ” في أغسطس 1896 ، وكان والدها جراح أسنان معروف وأستاذ في جامعة براغوز شارلي، وتوفت والدتها وهي في عمر 13 عاما ، كانت تعمل مترجمة لكتابات “كافكا” للغة التشيكية ، وكان عملها هذا هو السبب الرئيسي لتبادل الرسائل بينهما عام 1920، وقد كانت مقاومة للاحتلال النازي لبلادها ، وقام النازيون بإلحاقها بمخيم للمعتقلين الذين ساعدوا اليهود ، وتوفت في 1944 عن عمر يناهز الخمسين عام .
في مقدمة الكتاب يذّكر الدكتور محمد حنون بأن ناشر كتاب الطبعة الأولى من كتاب “رسائل إلى ميلينا” ويلي هاس وصف ميلينا في شبابها بالتالي: كان يخيل لمرافقيها، وكأنها امرأة نبيلة من القرن السادس عشر، أو السابع عشر، تضفي على اللحظة طابعاً إيطالياً قديماً، وكأنها تعيش في رواية قديمة مع دوق جسور مقدام، ذكي، لكن طبيعتها المتهورة، كانت تطفو عندما يسوقها قلبها ولطالما هذا ما حدث في شبابها، كانت غامضة وطيبة إلى حد الخيال، تأسر القلوب بغموض عجيب
كانت ميلينا في الرابعة والعشرين من عمرها ،عندما قامت بترجمة كتاب "الفحام" لفرانز كافكا الى اللغة التشيكية وكان كافكا ، قد التقى بميلينا للمرة الأولى في بداية الخريف في شهر سبتمبر من عام 1919 في أحد مقاهي براغ، حيث اقترحت عليه ميلينا يزينسكا، أن تترجم أعماله من الألمانية التي كان يكتب بها إلى اللغة التشيكية
و خلال عملها على ترجمة كتابه، بدأت المراسلات بينهما في عام1920 م وكان فرانز كافكا في الثامنة والثلاثين من عمره، فشل في مشاريع زواجه حيث انتهت خطوبتين سابقتين له لم تتوجا بالزواج ، وربما لذلك وجد في مراسلاته لميلينا البراح للحديث عن نفسه وحياته وعن كتاباته بأريحية وصفاء وعراء نفسى تام .
في مراسلات كاتب الروايات الكابوسية الغرائبية، يكتشف القارئ الوجه الحساس للروائي الّذى يكتب تفاصيل يومية، كثيرة في رسائله فهو لا يغفل أي حدث يمر به في يومه دون أن يسرده ، بأسلوب سردي قصصي جميل تنهمر فيه يومياته الحياتية ويذكر في رسائله تفاصيل معاناته من مرض السل، الذى كان يعانى منه منذ عام 1917 م ونزيف الرئة الذى ينتابه من حين لأخر، ويبدى خوفه من الوعكة الصحية التي تلم به من حين لأخر والرسائل في اغلبها تحوى أفكار ونقاشات عن كتبه ورواياته وقصصه، وروايات دستوفسكى، وغيره من الأدباء .
في بداية المراسلات بينهما يبدو كافكا، راغبا بمعرفة كل شئ عن تفاصيل حياتها وتفاصيل أيامها، وعن علاقتها بأهلها، وكذلك يحدثها عن علاقته بأهله وأخته حيث يبدو واضحا أنه يجد ارتياح وسعادة ،في البوح لها بمكامن نفسه فالعلاقة بينهما لم تكن علاقة حب فقط بل أيضا علاقة صداقة فكرية يبدو فيها واضحا الانسجام والارتياح بين كافكا وميلينا ،لذلك يروى لها كل هواجسه وأفكاره ويحدثها عن علاقته بوالده وخطيباته السابقات وأسباب فشل خطوبتاه السابقتين.
في إحدى رسائله يصف ببراعة لعب طفلتان من بنات الجار الودود معه في لوحة قصصية رشيقة ثم في رسالة أخرى ،يتابع ما ترسله له ميلينا من ترجمات قصصه إلى اللغة التشيكية ويقوم ببعض التعديلات ، كذلك يبدى رأيه بمقالاتها التي تنشرها في الصحافة التشيكية ، ويبدى اعجابه بقوة قلمها ورشاقته ويناقشها في أفكار مقالاتها بحرص ، ولا يستنكف أن يعترف لها بمرضه بقوله : أنا مريض روحي وأن مرض الرئة ـليس إلا امتداد لمرضى الروحي ويمضى في رسائله مندلقا ،في بوح شفاف عن هواجسه وأفكاره ورؤيته لمعنى وجودها بحياته ،بأسلوب قصصي جميل و يصف علاقته بها كما يقول في هذا المقطع "بأنه يشعر كما لو أنه في مكان خطير وهى واقفة بثبات بجانب الشجرة، شابة جميلة لمعان عينيها يبدد آلام العالم وها أنا أجر نفسى من شجرة إلى شجرة وأنت تناديني لتنبهيني من الأخطار وتمديني بالشجاعة اللازمة".
تلفحك حرارة وقوة رسائل كافكا ، ودفق مشاعر كاتبها، ووصفه الإبداعي وأسلوبه القصصي في سرد يومياته ورسمه للتفاصيل الدقيقة في يومه التي يكتبها ويرسلها لها بشكل يومي
ولكن رسائل كافكا لا تسير في وتيرة واحدة من البوح، وإنما تعلو فيها أحيانا لغة الغضب والتبرم، وردة الفعل العنيفة ، ويحدث ذلك كرد فعل على عبارة لم تعجبه من كلامها برسائلها إليه ، ولكن سرعان ما تهدأ ثورته وغضبه، ويطلب منها الصفح ويمضي في سرد تفاصيل طفولته وماحدث فيها من تفاصيل أثرت على شخصيته التي تبدو من خلال حديثه رسائله خصبة بالعاطفة والاحاسيس و يبوح لها قائلا:
فأنتِ تنتمين إليّ، حتى ولو قُدّر ليّ ألا أراكِ ثانيةً على الإطلاق
وفى مقطع عذب جميل ثرى بالصور يكتب لها:
لماذا، بالمناسبة، أكون كائنًا بشريًا في الوقت الذي أتحمل فيه كل عذابات هذا الوضع بالغ الاضطراب؟ لماذا لا أكون مثلًا ذلك الدولاب السعيد في حجرتك، ذلك الدولاب الذي يتطلع إليك مباشرة عندما تجلسين إلى مكتبك، أو عندما تستلقين، أو تأوين إلى النوم لماذا لا أكون أنا ذلك الدولاب ؟
في رسائل كافكا نكتشف الروح الهشة لكافكا ، الروح الممتلئة حب ووجد ورقة وعشق الممتزجة بروحه ا لقلقة، التي لا تهدأ أبدا والتي تتكشف عبر رسائله إلى ملينا فهو يكتب بشكل يومي رسائل مطولة ،عن أفكاره وهواجسه وتخطيطاته لما يكتبه ومواعيد اسفاره ، وحتى عندما يسافر لا تنقطع رسائله إليها لأنها استوطنت عقله وفكره.
في رسائله يمضى كافكا في بحر أسئلته ودوامة، أفكاره وشكوكه حول العالم وهو يسرد لها خبايا نفسه مدركا للحجم الفرق بين عمرهما، فهو في الثامنة والثلاثين من عمره بينما هي كانت في الرابعة والعشرين، من عمرها تعيش حياة زوجية مضطربة مع زوجها الذى لم تنسجم معهـ وانجذبت ،لكافكا وأغرمت بكتاباته ولكن كافكا يصارحها، بالقول برسائله بأنها واهمة، حين تعتقد بأنها تعرفه فقراءة بضعة قصص وروايات له لاتسوغ، لها معرفتها به كما أن كافكا يشعر بحاجز يهوديته وديانتها المسيحية ،وكثيرا ما يصب جام غضبه على يهوديته التي تجعله قلقا دائم الشعور بالخوف من المجهول ، وربما كما قال في أحد رسائله لها بأن كلاهما يتشارك في صفات غريبة مثل القلق والخوف، ولعل ذلك هو ماجذبهما إلى بعض وجعلها تشغل حيز تفكيره طوال اليوم ،في بيته الّذى يعيش فيه وحيدا مع كتاباته وخيال ميلينا التي تشغل فكره ويكتب لها الرسائل الطويلة يوميا و التي أحيانا يقضى الليل بكامله يسطر فيها رسالة لها .
الروح القلقة الممتلئة بالأسئلة والشكوك تنضح من رسائل كافكا ولكن هناك شذرات في الرسائل تعبر عن روح كافكا الشفافة ، التي تنشد المشاركة من خلال الحب وذلك حين يقول لها: أرغب بالبكاء على كتفيك كفتى صفير ،ثم أنت تودين البكاء على كتقى كفتاة صغيرة، ثم احيانا وعشرات المرات وآلاف المرات ، اريد ان اكون معك "
يكتب كافكا لميلينا عن يومياته وأحلامه ومشاعره، ورغبته بقربها التي يبدو أنها أقربإلى الحلم المستحيل نتيجة صعوبة العلاقة وتعقيدها ، لأنها امرأة متزوجة وترفض ترك زوجها والارتباط به رغم مشاعر الحب التي تكنها له والتي تتضح من خلال رسائله لها
في أخر رسالة له يبدو كافكا محبطا، ويظهر احساسه بالحزن لإدراكه بأنه لن يجمعهما بيت ذات يوم كما يقول : أشياء قليلة متأكد منها :أننا لن نعيش يوما معا، فى شقة واحدة ،جسدا لجسد، نتشارك طاولة واحدة، ولا حتى في نفس المدينة
بعد ذلك تتوقف الرسائل التي استمرت طيلة عام 1920م ، ثم نجد رسالة مؤرخة في مارس 1922م تظهر كفره بكل الرسائل التي كتبها لميلينا ، بكلام مؤثر وتحليل فلسفى ومنطقي لعلاقة الحب التي تقوم على الرسائل فقط دون اللقاء حيث يكتب قائلا: “أن السهولة في كتابة الرسائل فد جلبت الدمار إلى ارواح الناس ،كتابة الرسائل هي لحظات من تلاقى الأشباح فهي استحضار لشبح المتلقي وشبح المرسل ليتجسدا فى كلمات الرسالة ، وأحيانا في سرب من الرسائل ، تتداخل سرا في كلمات الرسالة التي نكتبها لتكون شاهدة على ما جاء فيها
كيف استطاع أحد أن يتصور انه سيتواصل مع أحد عن طريق الرسالة ؟
يستطيع الفرد أن يفكر بأحد من بعيد ، ولكن لا يمكنه إلا أن يتمسك إلا بمن هو قريب منه وماغير ذلك فهو فوق طاقة البشر.
وبعد ذلك تتواتر بعض البطاقات البريدية القصيرة المقتضبة ،التي تعطى ملمح عن ذبول العلاقة لنقرأ في أخر رسالة له بالكتاب ، حديث لكافكا عن فكرة الزواج ورفضه له باعتباره مجرد وهم لأن الإنسان، لا يمكن أن يتحد مع انسان أخر مهما توهم وتصور ذلك كما يقول : "فما الغرض من الزواج إن كان هربا من اليأس؟ إن دمجنا وحدة شخص مع وحدة شخص أخر، لن يكون الناتج وفاق ، وأنما ستكون سجنا فكل منها ستعكس وحدتها على الأخرى حتى في أشد الليالي ظلمة".
وبهذه الرسالة ينهى كاتب الروايات الكابوسية، رسائله وذلك في أواخر عام 1923 وتوفي كافكا بعد ذلك بأقل من عام في يونيو 1924
"رسائل إلى ميلينا" هو كتاب جميل ضمن أدب الرسائل، كشف الوجه المحب العاشق لكاتب من أعظم كتاب القرن العشرين ،الذى اكتوى بنار الحب وعذابه ولكن الموانع والعوائق والسدود جعلته حب مستحيل ، هو أقرب للحب العذرى المحترق في لهب نار عذاب البعد ،دون الارتباط بالحبيبة التي كان يكتب لها فيوض روحه وفكره وعقله يوميا، في حالة عراء نفسى عظيم فلا احساس بحواجز بينها وبينه رغم أنه شخصية انعزالية الصعب ،أن يتألف مع الناس لحساسيته، ككاتب وأديب من طراز رفيع جسد في رواياته الكابوسية أعقد المشاعر الإنسانية ،وقام بتعرية قبح العالم عبر رموز كتاباته، لكنه وجد في حب ميلينا العزاء الكبير والحضن الشاسع الذى احتمل كل تقلبات فكره ومزاجه الصعب ، وفكره الغرائبي الذى هو في حقيقة الأمر انعكاس لروحه الرقيقة الهشة، التي لم تحتمل قسوة العالم وقبحه فكتب أعظم الروايات وأكثرها عمق في كشف قبح النفوس البشرية وقسوة العالم.