مصطفى مرار - جدار الصبر

قطوفها دانية.

وهي كانت كذلك، يوم تسلم صك تملّكها، أقطعها، له، لص متمرّس، كان منح نفسه لقب "القيّم على أملاك العدوّ" هو كل من اغتصبت أرضه، وأجليَ عن وطنه.

"الخواجا بنيامين" يقضي نهاره، يتحسس ثمارها، ويتلمظ. حتى إذا غلبته نفسه الأمّارة بِـ..القطف، فإنه يصفع تلك النفس، فتأمر الجسد الناحل، فينثني مبتعدًا عن الثمار الذهبية. ثم ينحني، ويلتقط ثمرة، مما ألقت به الريح "تحت أمه".

يبتسم للثمرة الذابلة، يدغدغها، وهو يقول... لنفسه، مبررًا لها شُحُ... نفسه:

هذا برتقال، والذي يتدلى على شجرة برتقال. وكما يقول عمالنا البدو: "كله عند العرب قُطّين".. والثمر المليح ينباع، وهذا ما ينباع!".

ويمتد موسم النضج والقطف أربعة أشهر، وأكثر، وينظر "الخواجا بنيامين" بعينيه، ويقطع قلبه، حين بعض العمال البيض الأفندية من بني جلدته، يشلخ الأغصان، ليجعلها تركع عند قدميه، فيكون أسهل عليه مرط ثمارها . وإذا أراد هذا الأفندي الأبيض أن يأكل، فإنه يفغم فمه من الحبة، ثم يلقي بها أشلاء! فلا يجد "بنيامين" من يرشق في وجهه سم الغيظ غير ذلك العامل الغزي، الذي ربما كان حرصه على سلامة الثمر، وجماله والشجر، أشدُ من حرص "بنيامين" نفسه، فالغزي يتشبث بمكان عمله، إلى حين، ولا يريد الاحتكاك بذلك "النمرود الأبيض" لما يعلمه من استعداده، وزمرته، للتحرش، ولإيقاع الأذى، كلما سنحت لهم الفرصة، حتى إنهم ليفتعلون "الفرص" للتنفيس عن حقد، أرضِعوه أطفالاً. ومالهم لا يفعلون، والفرص في عصر الحجارة لا يحدّها زمان ولا مكان!

ويريد "النمرود الأبيض"، الذي أرسل للعمل في البيارات بحكم "قانون البطالة" أن يثبت بأن هذا "العمل الأسود" لا يلائمه، وأنه من اختصاص عمال "الشطحيم" دون غيرهم.

إن من "حق" هذا الجندي المسرّح أن يكون آمرًا وسيّدًا، لا يمدّ يده لتناول قشة. بل يقضي نهاره على شاطئ البحر، ويسهر ليلـه في الملاهي، فهو،الضمان الوحيد الباقي للحفاظ على ما تحقق من "الحلم القومي" ، ومن ثم المضي في إتمام ما بدأه "الآباء، البناة الأولون".

وقبل هذا وذاك، فإن "الغزي" حين هو يتعامل مع أشجار البيارة وأثمارها، فإنه يتمثل صورة صاحبها "أبو إبراهيم" الذي انتزعت منه، وانتزع منها، ولما يَطعَم بواكير ثمارها.

وهي، البيارة، ما زالت على مدى عشرين عامًا، تؤتي أُكُلها ذهبًا وعسلاً . بينما اليد التي حرثت، وزرعت، وتعهدت، ترقد هامدة إلى جوار الجسد المسجّي فوق الحصير، في كوخ متهدم، عند أطراف المخيم. وليس ما يشير إلى وجود الحياة في الجسد الهامد، سوى عينين جاحظتين.

بعد صلاة الفجر، وحين العامل الغزي "حميدي" يغادر كوخه، نادته "أم إبراهيم" من فوق الجدار الذي يفصل بين الكوخين:

- حميدي! حميدي، يا ولدي!!

- لبيك، أم إبراهيم! خير إن شاء الله؟!

توقف "حميدي" وكرّ عائدًا... لم ينتظر حتى تفتح له "أم إبراهيم" فهو دفع الباب، وهتف في قلق:

- خير إن شاء الله! كيف حال أبي إبراهيم؟!

- هو بخير يا ولدي. تفضل ادخل. إنه يدعوك إليه، لن يؤخرك كثيرًا.

اقترب "حميدي" من فراش الرجل الذي كان يومًا بطل القفز على النبّوت، وسيد من ضرب "المورة" والذي كان يقعر، في اليوم الواحد، خمسين "جورة" .

ركع إلى جوار الفراش، واحتضن اليد الهامدة:

- لبيك، يا أبا إبراهيم. تفضل، ومرني بما تريد.

- معذرة، يا ولدي.. لا أريد أن أطيل عليك، حميدي، يا ولدي.. أوصيك، بالبيارة، خيرًا.. إلى أن أعود إليها، ولا بد يومًا أن أعود.. فإنني أتمنى عليك أن تأتيني بحبتين من ثمارها كل يوم، حبة من كل شجرة، إلى أن ينتهي الموسم، فأكون قد طعمت كل ثمارها، أنا وهذه المرأة الصابرة.. لا تبك، يا ولدي.. لا تبك يا حميدي.. الدموع تخيفني.. لأنها سلاح العاجز.. بل إنها ليست سلاحًا على الإطلاق، ولسنا بعاجزين.. انظر! انظر!! إنني، أنا.. أنا لا ابكي!

وأدار الرجل القوي وجهه إلى الحائط..

قبّل "حميدي" اليد الميتة، وسجّاها إلى جوار الجسد الهامد.. وقبل أن يبلغ الباب، بلغه صوت أبي إبراهيم واضحًا، واثقًا، قويًا.. ولعله كان مدويًا، فقد خيل إلى "حميدي" أن صدى ذلك الصوت يطبق عليه ، بل يخرج عليه من الأزقة، فيحمله إلى هنالك، إلى البيارة:

"حميدي، يا ولدي! ابدأ بالشجرات عند جدار الصّبر ، تلك البقعة التي كانت مصلاّي ومرقدي، يوم كانت الأرض مخضرة بالمقاثي.. لا تبطئ في العودة!".

"الخواجا بنيامين" ينفجر في وجه العمال الغزي، كلما لمس تمردًا من النمرود الأبيض، الجندي المسرّح:

"خميدي!" انت خمور . لماذا لم تلقن ذلك الشاب الأشقر أصول الشغل؟

ويتساءل "حميدي":

- ولكن يا "خواجا بنيامين" هذا جندي. ومن أنا حتى أصدر الأوامر إلى الجنود؟

- أنت "معلم قطيف".

- أخشى أن قلت له "اقطع". أن يقطع رقبتي!

- ولماذا؟

- وهل يفعل غير ذلك؟! اليوم يا "معلمي" كانت يدي تطبق على حبة برتقال صغيرة، فأوقفني وصرخ: "وجهك إلى الحائط! ماذا تخبئ في يدك؟!". وفتحت يدي، فسقطت الثمرة.. قد خالها الجندي الهمام حجرًا!

هزّ "بنيامين" رأسه:

- اسكت عزّاتي ! أنا لازم بقرا جريده!

وسكت "العزاتي" حميدي. وتوجه إلى الشجرات عند "جدار الصبر" - تلك البقعة التي كانت قبل زراعتها بأشجار البرتقال، مصلى أبي إبراهيم ومرقده، يوم كانت الأرض مخضرّة بالمقاثي.

وقف أمام البقعة المباركة مشدوهًا حائرًا.

الأشجار، كلها، مثقلة بالثمار الذهبية. وكل برتقاله تغار من أختها. وكلها تدعوه أن يقطفها، ويحملها إلى المخيم، إلى جاره أبي إبراهيم. و"حميدي" يحب البيارة كلها، ولا يطيق أن تزعل منه واحدة من أشجارها، فهو اخترق البقعة المباركة، حتى إذا توسطها، أغمض عينيه، وراح يدور بين الأشجار على غير "هدى"، ثم مد يده فقطف حبة عن يمينه، وأخرى عن شماله. وفتح عينيه، وعرف الشجرتين، فجعل لكل منهما علامة على جذعها، قال وكأنه يخاطب كافة الأشجار:

"في المرة القادمة، لن تكون قُرعة".

وأسكن الحبتين جيبه الكبير، بلطف وحنان، كي يسلمها إلى صاحبهما، دون خدوش أو رضوض.

وفي عودته إلى التخشيبة، كان "الخواجا" ما زال ينظر في الجريدة. وإذ أحسّ اقتراب "حميدي" ناداه:

- هالو "عزّاتي"!

- نعم، يا معلم.

- تعال بِشوف.. تعال اقرأ!

هرول "العزاتي" لـِ "يشوف" ، لكنه توقف قبل أن يبلغ مجلس "الخواجا"، فقد ذكر أنه لا يعرف لغة "المعلم"، فبادره هذا:

- اقترب... انظر!

انحنى "حميدي" :

- نعم.

رفع "الخواجا" رأسه، ونظر في وجه "حميدي" بعينين حالت زرقتهما إلى لون الرماد:

- عَمَى، يعمي قلبك! اقرأ.. أنت مش بشوف؟!

- يا معلمي، أنا ما بعرف عبراني.

نفخ "الخواجا" في الهواء.. وقال ساخرًا:

- يا سلام! عشرون عامًا، نعلمكم، ونشغّلكم، ونطعمكم وما بتعرفوا عبراني؟! صحيح، زي ما بقولوا: "عربيم، أين سيخل ".

وقف "حميدي" لحظة يتفجر.

كانت يده ما زالت تقبض على المقص الذي قطف الحبتين.. ضغطت عليه.. عصرَته...

كان "الخواجا" قد عاد إلى صحيفته.

رفع "حميدي" مقصه إلى ما فوق رأسه.. وقبل أن يهوي به على عنق الرجل، ذكر أبا إبراهيم، الذي ينتظر الثمرتين الذهبيتين..

أعاد المقص إلى حزامه، ومضى نحو التخشيبة..

"الخواجا" يطوي الصحيفة. وهو ذا يتابع تحرّك "حميدي" حين هو يتجه إلى التخشيبة.

كان طرف معطفه متهدلاً، يشده ثقل البرتقالتين، فصرخ "الخواجا":

- "عزّاتي"! ما هذا الذي يثقل جيبك؟

توقف "حميدي" ولم يستدر، وقال في تحدّ:

- هذا برتقال.. أحسن حبتين، عن أحسن شجرتين في البيارة!

- أنت خرامي!

صرخ "الخواجا".. فانثنى "حميدي" وخطا نحوه خطوتين... لكنه، مرة أخرى، تذكر أبا إبراهيم، فتوقف، وتساءل من بين أسنانه:

من فينا الحرامي، يا أولاد الحرامي؟! ملعون أبوكم، على أبو شغلكم، على اللي كان سببكم.. خُذ!

وألقى إليه بالمقص، وحقيبة القطف، ومفتاح التخشيبة. وهتف وهو يُخرج الحبّتين من جيبه، ويرفعهما في وجه "بنيامين":

- أما هذه، فلا! وطُقّ وافقع.. إن صاحبها أحقّ منك بها.

وإذ بلغ "حميدي" المدخل الوحيد للمخيم، فإن الدنيا لم تكن تَسَعه من الفرح، لم يصدق أنه اجتاز "محسوم إيرز " لكنه لم يكد يخطو داخل زقاق المؤدي إلى كوخه، حتى توقف، وكأن عشرة من الجنود يتعلقون بحذائه، كان هناك عند باب أبي إبراهيم، جمع من أهالي المخيم.. مدّ يده إلى جيبه.. إلى حيث ترقد البرتقالتين. واندفع، حتى بلغ الباب، فاخترق الجمع، ودخل على أبي إبراهيم..

كانوا قد فرغوا من تجهيزه، وينتظرون بقية الأهل والجيران.. انحنى على الجثمان المسافر، دسّ يده داخل الكفن، ووضع في الكف الدافئة إحدى الحبتين، وأعاد الكفن إلى حاله. ثم رفع رأسه إلى أم إبراهيم، ومدّ إليها يده بالحبة الثانية، وهو يقول:"وهذه لك يا أم إبراهيم.." فاختطفها منها أحد أحفادها.. ابتسم له "حميدي" وقال:

"هي لك، يا ولدي. والبيارة إن شاء الله.. إنها من بيارتكم.. وهي أحسن الثمار.. والله، لكأني بجدك هذا، يفضل برتقاله، التي في يده، على كل ثمار الجنة".
أعلى