كانت يدي، تلك التي رسمتُها أول مرة، لا، لستُ رسّامة بارعة، ولم أفكّر حينها في لوحة خلق آدم لمايكل أنجلو لأشرع في خلق يدٍ على ورقة! إنها مجرد يدٍ حطّت على ورقة بيضاء أحسَنَت غواية قلم رصاصٍ يتمدّد باستسلام إلى جانبها. انتهيتُ إلى رسم يدٍ أطلقَت أصابعها في الفراغ كأنها تتسوّل حكاية، أو توشكُ أن تطيرَ بعد أن شرِبَت وارتوت من عناقٍ خاطفhttps://alantologia.com/#_edn1.كيف امتلأتْ أوراقي بكل تلك الأيادي التي لا تكفُّ عن الثرثرة! آه، لا أدري! لستُ ابنة قارئ كفٍّ لأفسر ذلك التعلّق المَرَضي بالأصابع، الأصابع التي تتنقلُ برشاقةِ راقصة باليه في الهواء، ثم تنسحبُ لتضمّ بعضها بعضا كعرضِ بحيرة البجع[ii]، قبل أن تنحنيَ لتحية الجمهور المُنبهر.. جمهورها الوحيد، أنا! إنها أصابع تثرثر، عَجِزَ الناس عن إسكاتها، بل ربما فاتهم ذلك في غمرة انشغالهم باختيار أقنعةٍ مناسبةٍ لوجوههم، وصبغات ملائمةٍ لكلماتهم. الأصابعُ لا تكذب، لا تسكت، لا تنام. جرّب أن تنصتَ إليها، راقصها، عانقها، وستفهم.
ملونة.. وسعيدة
بإمكان أصابع الأطفال أن تدهِشك، بمجرّد أن تغطسَ تلك الأكفّ الصغيرة في بحيرةِ الألوان وتلتصقَ بالحائط وسطَ هرجٍ ومرج، تطبعُ قبلة الحياة المحلاة بقوس قزح. أيادٍ قيل لهم إنها شهية، غضّة، تُحسِن شفاء القلوب التي نهشها التعب والمرض. أما يدكِ أنت، أصابعك.. فلا أحدَ يبحث فيها إلا عن لونين: أزرقَ وأحمر، الأول لتعترفَي بخطاياك أو تُبرّئي منها، والثاني لتختاري عندما يصبح للاختيار طعم الحرية المُرّة. ماذا عن الحناء؟! الحناء التي تجعل يد العروس مباركة وفاتنة أينما استقرت، وكفّ العريس دالّة نصرٍ واتحاد! إنها كذبةٌ أخرى نقنعُ بها أنفسنا بأننا أجمل، مُخلِصون، وسَحرة. ماذا عن طلاء الأظافر! عن استعارتها لنطيلَ تعذيبَ أصابعنا؟ أوه، تلك الخناجر المُرزكشة، الرّماح المُجَهّزة للانقضاض على فرائسها، امرأة شوّهَتْ طفولة أصابعها الأولى ولم تعد تجِدُ غير اللّحم الحَيّ لتحفرَ عليه لوحَتها، تَدهَنَ مُطرّيات اليَدين، وتُعير أذنيها لكلّ من يُبعِدُ عنها شبح تجاعيدٍ بغيضة تشي بتجربتها الكاذبة. ولكن، ماذا عن الوَشوات المُتَسرّبة خطوطا على الكَفّ؟ ماذا عن الحكايةِ بالأبيضِ والأسود؟ ماذا عن.....؟ لا شيء، إنها يدٌ عارية من الدهشة، موسومة بالعبودية، لها مهمات محددة سلفا، وأي تجاوز لها سينتهي بها إلى البتر. كيف لي أن أرسم يدا كهذه! يدا باردة تبكي بمجرد ملامستها لخشونة القدر.
لغةٌ ليدٍ حبيبة
ليديكِ حكايةُ
أميرةٍ أو ابنةِ خباز
لا فرقَ يا حبيبتي
فأنا معتادٌ على الترحال
لا تُضَيّعُني خطوطُ الكَفِّ
أو الأظافرُ المُشَذَّبَة
أتبعُ اسمَكِ
تحتَ الجِلد
أشُمُّ أحرُفَهُ
حرفاً حرفاً
وأنسجُ في مخيلتي
النهاية.
***
كنت أرى الحبيبين متعانقين، يدا بيد في الأفلام؛ تقول أمي إن اجتماع يدين معا يساقط الذنوب ويدخلنا الجنة، ويقول أخي إن منظرا كهذا ينتهي بالاثنين إلى قعر جهنم، صدّقت أمي لأن يدها ناعمة، تمررها على رأسي كل مساء وهي تدعو لي بالستر، وكذّبت يد أخي الخشنة التي تزور خدّي كلما عنّ لها ذلك. رسمتُ ليدي عدة أوضاع: يدٌ تحب، أخرى تكره، ثالثة تغنج، رابعة تتمنع، خامسة تثور، سادسة تنتهك، سابعة تنتصر، ثامنة...، تاسعة..، عاشرة.. كل يدٍ رسمتها كان لها اسم، كان لها مصير. هكذا قيلَ لي، يمكنني أنْ أغيّرَ مَصيري بإحراقِ كفّي، بمشرط كهربائي يَحرقها أو بالليزر، فعل اليابانيون ذلك، وقلدهم الكوريون[iii]، فما الذي يوقفني! لعلني أستعيدني، أو أرجِعَ لأرضي، في أسوأ الأحوال، سأحظى بميتةٍ لائقة! كيف أستوعبُ أنّ حياتي رهنَ خُطوطٍ تتمَشى في كَفّي؟ تنبتُ قبل ولادتي[iv]، تقرّرُ لي أحوالي وذكائي وأمراضي وخطواتي، بل وفوق كل ذلك.. أرى فيها نهايتي[v]، خطٌ للحياة، وآخرُ للحب، وثالثٌ للقدر، ورابعٌ للصحة، وخامسٌ للحظ، وسادس، وسابع، وثامن.... إنها خطوط تشبه ما رسمت، لكن مع فارق وحيد: لم أرسمها أنا! إنها طلاسم القدر، أما أنا، فلي لغتي، وسأقرأ بها كفي.
أطلِقها
إن استعصت عليكِ يدٌ، فأطلقيها، اصنعي لها جناحين، وعلّميها الطيران. يدٌ دون إبهام لا تطير، ودون سبابة لا تشهد، ودون وسطى لا تعنيكِ شيئا، أتفهمين؟ قال لي أبي ذلك ورحل، أما أنا فلم أفهم! قضيت عمرا لأفهم.. لأرى كيف تقطعُ يدٌ سَرقتْ رغيفَ خبزٍ حافٍ، وتُصَفِّقَ يدٌ لأخرى نَهَبَتْ بلدًا وهَجّرَت شعبا. رأيتُ يدا بحجاب، وأخرى سافرة، أيادٍ بالأكداس مُنعَت من السفر، واقتيدت إلى السجون، وأخرى تهزّ الكأس وتطربُ وتسكرُ وتبيعُ وتنتهك. صَفّدتُ بالقيد يَدي، وأغمضتُ عيني.. زهدتُ الرسم، ومَزّقتُ لوحاتي. كان وهمي أنني أحببتُ يدا واحدة، في مقابل آلاف الأيادي التي لم أرسمها؛ لأنني لم أجدها! يدٌ واحدة لا تصفق، لا تحضن، لا تشعِرُكَ بالدفء، يدٌ واحدة هي يدٌ يتيمة، وهذا بالضبط ما كانت عليه يدي الأولى التي رسمتها: يدٌ تستجدي الحب، الحرية، السلام! قيل لي إن يدي ستدفن مع أيادي الشهداء، أيادٍ حملت حجارة فاجتثت من الكتف، لا، لم تكن مهزومة ليقطعوا إبهامها[vi]، بل انتصرت وبترت كاملة، بترت أحٍلام مدنٍ وقرى وشعب برمته، وعندما حاولت رسم ظلّ يد، رسمتُ جناحا، وحينها فقط، فهمتُ ما حدثني به أبي، كانت اليد الدافئة، اليد الصغيرة التي لا تكذب[vii]، اليد التي لا تليق بها إلا السماء، كانت يدا، تشبه يد أمي التي أدخلتني الجنة، بل تكاد تكون هي.
شربة ماء أخيرة
رسمتُ مرةً يدا تمسك قلما، وأخرى تمسك الهواء، كلتاهما كانتا تكتبان. انتظرتُ على أمل، متخيلة ولادةَ نصٍّ يشبهني، أنا بطلته الوحيدة، كيَدِ آدم الذي أعياهُ انتظار الرب ليخلقه في ذلك الفضاء الفسيح، فأسندَ مرفقه على ركبته منتظراً الخلاص! أو لعلها كانت مجرد هلوسات فارغة بذرتها في عقلي[viii]: ماذا عن يد حواء؟ حواء المغوية التي أطعمته التفاحة.. فهبطا من الجنة ببذرتها التي نبتت وتفرعت أغصانها لتذكرني على الدوام بمن أكون: مجموع أصابع أولئك الذين أشاروا إلى الخطيئة، فلم ألتفت إليهم، وفضلّتُ شربة ماء، عببتها عبا، ولمْ أغرفها بيدي، أنا.. الخاسرة الوحيدة، اليد الدنسة التي لن يرسمها أحد، بل سيشيرون إليها بأصابعهم النظيفة.
[HR][/HR]
https://alantologia.com/#_ednref1 "يدك التي حطت على كتفي.. كحمامة نزلت لكي تشرب"، قصيدة "يدك" لنزار قباني، غناها كاظم الساهر عام 2002 في ألبومه قصة حبيبين.
[ii] بحيرة البجع: هي إحدى روائع الموسيقى الرومانسية للروسي بيتر إليتش تشايكوفسكي، وتتضمن بحيرة البجع أربعة فصول استعراضية موسيقية راقصة في باليه درامي من أربعة فصول، ما زالت تعرض إلى يومنا هذا.
[iii] انتشرت في اليابان عيادات تغيّر خطوط اليد عبر جراحة تجميلية للكف، إيمانا من مرضاها بأن هذه الجراحة سوف تغيّر حظوظهم التعيسة التي تنبأ لهم بها قارئ كف أو عراف، ثم انتقلت إلى كوريا أيضا.
[iv] تتكون الخطوط في يد الجنين في الأسبوع الثاني عشر من الحمل. وتبيّن كتب تحليل خطوط الكف بأن الخطوط الرئيسية يمكن أن تتغير كل سبع سنوات، بينما الخطوط الفرعية أو العلامات فتتغير كل بضعة أشهر.
[v] وفقا لتحليل محللي خطوط اليد، فإن خطوط اليد اليمنى تشير إلى المستقبل، واليسرى إلى الماضي.
[vi] كان الرومان في العصور الوسطى يقطعون إبهام الفارس إذا أخفق في مهمته دلالةً على خسارته وإذلاله.
[vii] "اليد الدافئة"، رواية ليحيى يخلف، "اليد الصغيرة لا تكذب"، رواية لعبد الحميد الجلاصي، الأولى تتحدث عن فلسطين تحت الاحتلال، والثانية عن حياة الأسرى في تونس.
[viii][viii] يفسر النقاد لوحة "خلق آدم" لمايكل أنجلو بأن يد الرب كانت ممدودة من علٍ دلالة القوة والتحكم، بينما كانت يد آدم متعبة مستندة على ركبته، دلالة على الضعف وقلة الحيلة، بينما يرى آخرون أن فكرة الإله كلها عبارة عن تخيلات لا أساس لها من الصحة، بجعل الرب وملائكته يبدون في غلالة تحيط بهم على شكل مخ بشري، بجعل مكمن هذا التصور في عقل الإنسان لا أكثر، وهو ما يبدو سخرية فاضحة – إن صدق – لمايكل أنجلو من فكرة الخلق كونه رسم هذه اللوحة الشهيرة في كنيسة سيستين.