سائق الأجرة مرجع معرفة مهم
د. محمد عبدالله القواسمة
يُتاح لسائق تاكسي الأجرة، كما هو معروف، أن يتنقل كثيرًا بين الأمكنة، وفي أثناء تنقله يتعرف الشوارع والساحات والأحياء بما تحتويه من مؤسسات رسمية، وبنايات أثرية، ومدارس وجامعات، إنه مرجع مهم لمعرفة الأمكنة، ولم تستطع التكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها الذكية مثل GBS، إلى الآن، أن تعزله عن أداء هذه المهمة.
لا تقتصر معرفة سائق التاكسي بالأماكن والمواقع العامة، خاصة بعد أن مارس المهنة بعض حاملي الشهادات العالية، بل تعدى ذلك إلى أن يُقدّم لك معلومات عن أسعار الفواكه والخضار، وأسعار الذهب والعملة، ومعلومات عن أحوال البورصة، ونسب البطالة في المجتمع. وقد يصف لك عادات المجتمع وتقاليده، ويكشف لك عما يعاني من أمراض نفسية بسبب الكوارث الطبيعية والظروف الاقتصادية الصعبة. إنه لا يكتفي بتقديم المعلومات في هذه الشؤون، بل يُقدّم التحليلات والحلول والتوقعات لما يمكن أن تكون عليه في المستقبل القريب. ولعل بعض السائقين يقدمون من التحليلات السياسية ما يعجز بعض المسؤولين عن الاتيان بمثلها عمقًا وإحاطة.
في بعض الأحيان، يسمح طول الرحلة ووجود أكثر من راكب في سيارة التاكسي أن تدور، بإدارة السائق، نقاشات وحوارات بين الجميع في مختلف القضايا. وتمتاز هذه الحوارات والنقاشات غالبًا بالحرية التي قلما نجدها في التجمعات الأخرى؛ فهؤلاء لا يعرف بعضهم بعضًا، لقد التقوا فجأة وسيفترقون بعد وقت قصير، ويذهب كل منهم في طريق، ولن تتوافر لهم الفرصة في إبداء رأيهم بكل تلك الحرية في مكان آخر.
يُدرك بعض الكتاب أهمية سائق التاكسي في فهم المجتمع ومعرفة أسراره؛ فيوظفون في أعمالهم الأدبية ما يستمعون منه من معلومات وقصص وحكايات وأحداث. وتستحضرني هنا كتابات الدكتور عادل الأسطة؛ إذ يوظف ما يسمعه من أخبار وحكايات وقصص، وما يدور من كلام بينه وبين سائق التاكسي وغيره من الركاب في المقالات التي يكتبها في موقعه على الفيسبوك تحت عنوان "خربشات"، كما لا شك يوحي له كلام السائق بأفكار ومواضيع لأعماله النقدية والإبداعية الأخرى.
من الكتاب الآخرين الذين استفادوا في كتاباتهم من أحاديثهم مع سائق التاكسي أثناء تنقلاتهم اليومية الكاتب والإعلامي والمخرج المصري خالد الخميسي، فوضع كتابه "تاكسي.. حواديث المشاوير" لينقل إلينا معاناة سائقي التاكسي، وليعرض بعض أفكارهم وأقوالهم، ويسجل بعض القصص والحكايات التي جرت معهم في أثناء عملهم. ويرى الخميسي في مقدمة كتابه أن سائق التاكسي تيرموميتر الشارع؛ فهو يقضي وقتًا طويلًا في التنقل من شارع إلى آخر، ويتجمع لديه وجهات نظر تعبر عما يمور في المجتمع من مشاكل وأحداث. وامتدح الكِتابَ كثيرون من النقاد ورجال الصحافة والإعلام، من بينهم المفكر والكاتب عبد الوهاب المسيري الذي قال عنه إنه "عمل إبداعي أصيل ومتعة فكرية حقيقية."
ومن الأعمال القصصية والدرامية التي انتبهت إلى سائق التاكسي وأهميته في المجتمع، وإلى ما يتميز به من ذاكرة قوية في معرفة الأماكن، وما يتصف به من مشاعر إنسانية، وحرص على سلامة المجتمع فيلم "سائق التاكسي" Taxi Driver الذي صدر عام 1976م. يتحدث الفيلم عن سائق تاكسي في أثناء حرب فيتنام، يحاول إزالة الفساد من مدينة نيويورك والقضاء على من رأى أنهم السبب في ذلك. وكان لبطل الفيلم، أي لسائق التاكسي تأثير كبير في ذلك الرجل جون هينكلي جونيور الذي حاول اغتيال الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عام 1981م.
في النهاية نستطيع القول إنه رغم ما يعانيه سائق التاكسي من صعوبات في عمله إلا أنه بما يتمتع به من الحرية في التنقل والسماع إلى الناس؛ ومخالطته جميع فئات المجتمع: الغني والفقير، والأديب والفنان، والمسؤول والغفير- كنز مهم من الأخبار والمعلومات عن الأمكنة والحياة والناس. وهو مرجع للأدباء والباحثين والمفكرين وخاصة الأدباء من مبدعي الروايات والمقالات؛ لهذا يحسن بنا أن نعمق من احترامنا لشخصية سائق التاكسي، ونقدر مهنته التي لا غنى عنها حتى وسط طغيان التكنولوجيا وت
د. محمد عبدالله القواسمة
يُتاح لسائق تاكسي الأجرة، كما هو معروف، أن يتنقل كثيرًا بين الأمكنة، وفي أثناء تنقله يتعرف الشوارع والساحات والأحياء بما تحتويه من مؤسسات رسمية، وبنايات أثرية، ومدارس وجامعات، إنه مرجع مهم لمعرفة الأمكنة، ولم تستطع التكنولوجيا الرقمية وتطبيقاتها الذكية مثل GBS، إلى الآن، أن تعزله عن أداء هذه المهمة.
لا تقتصر معرفة سائق التاكسي بالأماكن والمواقع العامة، خاصة بعد أن مارس المهنة بعض حاملي الشهادات العالية، بل تعدى ذلك إلى أن يُقدّم لك معلومات عن أسعار الفواكه والخضار، وأسعار الذهب والعملة، ومعلومات عن أحوال البورصة، ونسب البطالة في المجتمع. وقد يصف لك عادات المجتمع وتقاليده، ويكشف لك عما يعاني من أمراض نفسية بسبب الكوارث الطبيعية والظروف الاقتصادية الصعبة. إنه لا يكتفي بتقديم المعلومات في هذه الشؤون، بل يُقدّم التحليلات والحلول والتوقعات لما يمكن أن تكون عليه في المستقبل القريب. ولعل بعض السائقين يقدمون من التحليلات السياسية ما يعجز بعض المسؤولين عن الاتيان بمثلها عمقًا وإحاطة.
في بعض الأحيان، يسمح طول الرحلة ووجود أكثر من راكب في سيارة التاكسي أن تدور، بإدارة السائق، نقاشات وحوارات بين الجميع في مختلف القضايا. وتمتاز هذه الحوارات والنقاشات غالبًا بالحرية التي قلما نجدها في التجمعات الأخرى؛ فهؤلاء لا يعرف بعضهم بعضًا، لقد التقوا فجأة وسيفترقون بعد وقت قصير، ويذهب كل منهم في طريق، ولن تتوافر لهم الفرصة في إبداء رأيهم بكل تلك الحرية في مكان آخر.
يُدرك بعض الكتاب أهمية سائق التاكسي في فهم المجتمع ومعرفة أسراره؛ فيوظفون في أعمالهم الأدبية ما يستمعون منه من معلومات وقصص وحكايات وأحداث. وتستحضرني هنا كتابات الدكتور عادل الأسطة؛ إذ يوظف ما يسمعه من أخبار وحكايات وقصص، وما يدور من كلام بينه وبين سائق التاكسي وغيره من الركاب في المقالات التي يكتبها في موقعه على الفيسبوك تحت عنوان "خربشات"، كما لا شك يوحي له كلام السائق بأفكار ومواضيع لأعماله النقدية والإبداعية الأخرى.
من الكتاب الآخرين الذين استفادوا في كتاباتهم من أحاديثهم مع سائق التاكسي أثناء تنقلاتهم اليومية الكاتب والإعلامي والمخرج المصري خالد الخميسي، فوضع كتابه "تاكسي.. حواديث المشاوير" لينقل إلينا معاناة سائقي التاكسي، وليعرض بعض أفكارهم وأقوالهم، ويسجل بعض القصص والحكايات التي جرت معهم في أثناء عملهم. ويرى الخميسي في مقدمة كتابه أن سائق التاكسي تيرموميتر الشارع؛ فهو يقضي وقتًا طويلًا في التنقل من شارع إلى آخر، ويتجمع لديه وجهات نظر تعبر عما يمور في المجتمع من مشاكل وأحداث. وامتدح الكِتابَ كثيرون من النقاد ورجال الصحافة والإعلام، من بينهم المفكر والكاتب عبد الوهاب المسيري الذي قال عنه إنه "عمل إبداعي أصيل ومتعة فكرية حقيقية."
ومن الأعمال القصصية والدرامية التي انتبهت إلى سائق التاكسي وأهميته في المجتمع، وإلى ما يتميز به من ذاكرة قوية في معرفة الأماكن، وما يتصف به من مشاعر إنسانية، وحرص على سلامة المجتمع فيلم "سائق التاكسي" Taxi Driver الذي صدر عام 1976م. يتحدث الفيلم عن سائق تاكسي في أثناء حرب فيتنام، يحاول إزالة الفساد من مدينة نيويورك والقضاء على من رأى أنهم السبب في ذلك. وكان لبطل الفيلم، أي لسائق التاكسي تأثير كبير في ذلك الرجل جون هينكلي جونيور الذي حاول اغتيال الرئيس الأمريكي رونالد ريغان عام 1981م.
في النهاية نستطيع القول إنه رغم ما يعانيه سائق التاكسي من صعوبات في عمله إلا أنه بما يتمتع به من الحرية في التنقل والسماع إلى الناس؛ ومخالطته جميع فئات المجتمع: الغني والفقير، والأديب والفنان، والمسؤول والغفير- كنز مهم من الأخبار والمعلومات عن الأمكنة والحياة والناس. وهو مرجع للأدباء والباحثين والمفكرين وخاصة الأدباء من مبدعي الروايات والمقالات؛ لهذا يحسن بنا أن نعمق من احترامنا لشخصية سائق التاكسي، ونقدر مهنته التي لا غنى عنها حتى وسط طغيان التكنولوجيا وت